آراء

علاء اللامي: مسلسل "الحشاشين": هل اخترع الاسماعيليون الاغتيال السياسي؟ (2- 3)

الاغتيالات السياسية قديماً

لا يمكن إنكار العنف الدموي الذي مارسته الحركات والفرق المعارضة في التاريخ الإسلامي ومنها الحركة الإسماعيلية بشتى فرقها، وقبلها الخوارج بكل فرقهم فبلغ هذا العنف مستويات مذهلة حيث أباحت إحدى فرق الخوارج وهي فرقة "الأزارقة" قتل أطفال أعدائها. ولكنه عنفٌ ظل محكوماً بسقف القتال بالأسلحة البيضاء، ولم يكن يفوق عنف جيوش الدول والإمارات. ويبقى عدم إنكار الظاهرة وتحليلها داخل سياقها مشروعاً، أما استعمالها بشكل انتقائي للتبشيع والشيطنة ثم اسقاطها على حالات وأطراف معاصرة وخارج السياق فأمر غير مشروع بحثياً وأخلاقيا، ولا علاقة له بعلوم التأريخ والآداب والفنون.

إن تركيز مسلسل "الحشاشين" على أسلوب الاغتيال السياسي الذي مارسه مقاتلو هذه الفرقة، يوحي بأنهم اخترعوه ولم يسبقهم إليه أحد، وليس ممارسة شائعة تحفل بها أمهات الكتب التراثية ومن ذلك مثلا؛ في صدر الإسلام نسجل اغتيال كعب بن الأشرف وسلام بن أبي حُقيق وابن سنينة وعصماء بنت مروان، وفشلت خطة لاغتيال معاوية بن أبي سفيان. وفي العهد الراشدي اغتيل سعد بن عُبادة والخلفاء عمر وعثمان وعلي. وفي العهد الأموي اغتيل الحسن بن علي وعامل مصر مالك بن الأشتر بأمر من معاوية.  وهناك شبهة قوية في اغتيال الخليفة عمر بن عبد العزيز وكان أربعينياً بأتم صحته وذروة نشاطه المناوئ لأسرته الأموية.

في العصر العباسي سجلنا انفراد المأمون بالخلافة بمقتل أخيه الأمين، واغتال المأمون وزيره الفضل بن سهل بالسم. ويرجح مؤرخون مقتل الخليفة المتوكل بتدبير من ابنه المنتصر وحاشيته التركية. واغتيل المقتدر من قبل جنود بربر مغاربة يقودهم المملوك اليوناني مؤنس الخادم.

أما الاغتيالات التي نُسبت إلى فرق المعارضة المسلحة فكثيرة واستهدفت خلفاء ووزراء وقادة عسكريين ورجال دين وحتى قادة معارضين منهم أبو سعيد الجنابي زعيم القرامطة (المعتبر إسماعيليا) بالبحرين. واغتالت النزارية الخليفة الفاطمي العاشر الآمر بأحكام الله سنة 1130م وهو أول من أطلق عليهم اسم "الحشيشية" لأنهم انشقوا على والده المستعلي بالله. حيث ذكر المقريزي أن قتلته من "النزارية نقموا عليه لما كان من شقاق ما بين أبيه المستعلي بالله وعمه نزار على عرش الفاطميين بمصر". نلاحظ أن المؤرخ المصري السني الشافعي تقي الدين المقريزي (1364 -  1442م) يسميهم النزارية كغالبية المؤرخين العرب المسلمين وليس "الحشاشين"!

وكان للنساء حصتهن في ذلك، فزمرد خاتون السلجوقية زوجة السلطان أرسلان، فحين تولى ابنها الأكبر تتش الحكم بعد والده ولم يعجبها قتلته ونصبت ابنها الآخر بوري، فلم يعجبها هو الآخر فاغتالته ونصبت مكانه ابنه شهاب الدين!

والخلاصة هي أن فرقة حسن الصباح لم تخترع العجلة حين مارست الاغتيال، وهذا ليس تبريراً لاغتيالاتها الدموية ولكننا لسنا في محكمة لنصدر أحكاماً قضائية مبرمة على أحداث وقعت قبل أكثر من ألف عام بل نحاول فهمها وتفسيرها داخل سياقها الاجتماسي التأريخي الحقيقي وليس الأيديولوجي المتخيَّل والإسقاطي.

اغتيالات واتهامات وشكوك

وممن وصل إليهم فدائيو حسن الصباح، أو اتهموا باغتيالهم إلى جانب مُتَهَمين آخرين ذكرت المصادر التأريخية:

- اغتيال الوزير السلجوقي نظام المُلك، وابنه فخر المُلك بعده. ولكن ابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان" يشكك في قتلهم نظام الملك ويقول "وقد قيل إنَّ السلطان ملكشاه قد دسَّ عليه مَنْ قتله حسداً له واستكثاراً لما بيده من الإقطاعات ج2/ص 130". وهذه الرواية - إنْ صحَّت-  تبرئ النزارية من قتله، وتفتح باب الشكوك على العديد من الاغتيالات التي نُسبت إليهم ممن استغلوا اشتهارهم بالاغتيالات.

- واغتيال مفتي أصفهان ووالي بيهق ورئيس الكرمية وهي جماعة دينية متشددة تحرض ضد الإسماعيلية بنشاط.

- واتُهمت النزارية باغتيال السلطان السلجوقي ملكشاه بالسم في حملته على بغداد لطرد الخليفة العباسي المقتدي منها. وهذه هي الرواية التي تلقفها مسلسل "الحشاشين"، ولكن ابن خلكان حين روى موت السلطان وأورد ما قيل عن سم وضع له أورد معه خبر خلافه مع الخليفة فقال: "وكان الخليفة قد بايع لولده المستظهر بالله بولاية العهد من بعده، فألزم السلطانُ ملكشاه الخليفةَ أن يخلعه، فشقَّ ذلك على الخليفة، وجعل يصوم ويطوي، وإذا أفطر جلس على الرماد للإفطار، وهو يدعو الله سبحانه وتعالى على السلطان ملكشاه، فمرض السلطان في تلك الأيام ومات، وكُفي الخليفة أمره - ج 5 ص 289". والأكيد أن ملكشاه لم يمت من دعاء المقتدي عليه فقط، بل الأرجح أنه مات في مؤامرة نفذها قصر الخلافة.

- كما اغتالت النزارية السلطان السلجوقي داود بتبريز عام 1143م.

- واغتالوا حاكم الري الأمير عباس سنة 1146م، وكان متعصباً ضدهم "قتل منهم خلقاً كثيراً، وبنى من جماجمهم منارة بالري، وحصر قلعة آلموت، ودخل إلى قرية من قراهم فأحرق كل من فيها من رجل وامرأة وصبي وغير ذلك/ الكامل لابن الأثير"، وقد قتلوه ببغداد أثناء زيارته للخليفة العباسي القائم ثأراً لجماعتهم، ولكن ابن الأثير ذكر أن السلطان مسعود بن محمد بن ملكشاه وكان ببغداد آنذاك هو من أمر بقتله هو وعبد الرحمن طغايرك.

وتزايدت هجمات النزارية بعد وصول الداعية العراقي رشاد الدين سنان إلى قيادتهم بقلاع الشام، فاغتالوا حاكم الموصل السلجوقي مودود بن ألتونكتين سنة 1113م بدمشق.

-  واغتالوا الكونت الإفرنجي الصليبي ريموند الثاني عام 1152م بطرابلس.

- وقاموا بمحاولتين لاغتيال صلاح الدين الأيوبي؛ كانت الأولى تحذيرية، وأصيب في الثانية بجروح طفيفة فشن حملة تأديبية ضد قلاعهم الشامية.

اغتيال ملك بيت المقدس الصليبي

في 1192م تمكن النزاريون من اغتيال ملك بيت المقدس كونراد مونفيرات. وذهب بعض المؤرخين إلى أن صلاح الدين تعاون معهم في هذا الاغتيال، بل أن ابن الأثير قال إن الأيوبي هو الذي طلب من سنان قائد النزاريين اغتيال مونفيرات ورتشارد معا/ الكامل مج 2 ص51. وما يُصعِّب تصديق هذه المعلومة اختلاف المؤرخين حول نتيجة حملة الأيوبي ضد قلاعهم بجبال الساحل الشامي. أما أوروبيا فإن اغتيال مونفيرات لم يسلم هو الآخر من التشكيكات والاتهامات الفرعية والأوروبية خصوصا حيث اتهمت أوساط فرنسية الملك ريتشارد قلب الأسد ملك إنكلترا بأنه كان وراء اغتياله لأنه حاقد عليه وفي خصام معه آنذاك كما ينقل فرهاد دفتري في كتابه "خرافات الحشاشين وأساطير النزاريين ص118"، عن جوزيف ميشو في كتابه "تاريخ الصليبيين/ مج 3 ص434".

شيطنة الشخصيات التأريخية لأغراض سياسية

إن القول بشيطنة شخصية تأريخية "حقيقية" كحسن الصباح لا يعني بالضرورة أنه ملاك مسالم، مثلما لا تعني إنه وحش فريد بين سرب من الملائكة في هيئة سلاطين ووزراء وقادة جيوش وحركات معارضة مسلحة في ذلك العصر المائج بالعنف والحروب والثورات والغزوات والمذابح المتبادلة. ففي معركة واحدة دامت بضع ساعات قُتل من النزاريين أكثر من 300 مقاتل إثر خديعة اندساس وكمين خطط له حاكم رامهرمز سنة 1100م؛ وكثيرة هي المجازر التي تعرضوا لها في بلاد فارس والشام وسنوثق بعضها لاحقا، بل يعني أن شخصية الصباح قد أُخرِجَت عنوة ولأغراض أيديولوجية وسياسوية معاصرة من سياقها الحقيقي، سياق قائد فرقة مسلحة عقائدية معارضة إلى جانب غيرها لتكون نموذجاً فريداً وملعوناً بباحة الرجم والتكفير والتشهير. ومعها نقلت الحالة النزارية إلى سياق آخر لتتماهى مع حالات معاصرة كالإخوان المسلمين والقاعدة وداعش، ومن النقاد مَن اتهم صناع المسلسل صراحةً بمحاولة تبرئة الوهابية من تبعات جرائم داعش والقاعدة وإغراءاتهم لمقاتليهم بالعديد من حور العين "الحلقة 17" والقول بأن جذر هذه التنظيمات التكفيرية المعاصرة موجود في الإسماعيلية النزارية الباطنية وليس في الوهابية! وهذه فكرة لا يمكن استبعادها في ضوء الترحيب السعودي بهذا المسلسل بلسان مستشار ولي العهد ورئيس الهيئة العامة للترفيه تركي آل الشيخ الذي اعتبره عملا مهما وخطوة على طريق العالمية.

وفي سياق المجازر التي ارتكبت بحق الإسماعيليين النزاريين في بلاد الشام يمكن التذكير بمجزرة حلب سنة 1113م حيث قُتل منهم المئات إعداما وفي مجازر دموية على يد حاكمها السلجوقي إبراهيم بن رضوان تتش بتحريض من حاكم فارس السلجوقي بعد أن كان والده قد سالمَ النزارية وعاشوا في عهده بسلام في حصونهم، ثم حرض - حاكم حلب -  الجمهور السني والشيعي الإمامي ضدهم في المدينة التي كانت مختلطة آنذاك، فقتل المئات منهم وبينهم زعيم النزارية أبو طاهر إعداما أو تقتيلا في الشوارع والبيوت. وكان النزارية آنذاك منهكين يقاتلون الصليبيين ممثلين بحاكم أنطاكية تانكر وقد خسروا أمامه لتوهم حصنهم المهم أفاميا وحصون أخرى أقل أهمية. فرهاد دفتري ص 105 وما بعدها، أي أن النزارية كانوا يقاتلون ويقتلون على أكثر من جبهة وقد توحد ضدهم السنة والشيعة والفرنجة وهذه هي المرة الأولى التي تحوز فرقة مسلحة معارضة هذا العداء متناقض المكونات.

وعلى ذكر الباطنية، فالمؤلف عبد الرحيم كمال يقدم على لسان الوزير نظام الملك تعريفا عجيبا للباطنية بما يعني أن أتباعها منافقون يظهرون خلاف ما يبطنون أي يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، وهذا تعريف خاطئ علميا وتشنيعي هو الآخر أستغرب كيف  يصدر عن شخص عارف بالإسلاميات وينسب نفسه إلى التصوف الإسلامي والتصوف غالبا باطني لا ظاهريا، فالباطنية في تعريفها الأكاديمي في السردية الإسلامية (هو وصف يطلق على فئات او طوائف من المسلمين تقول: "إن النصوص الدينية لها معنيان: أحدهما ظاهر يفهمه الناس بواسطة اللغة، وبمعرفة أساليب الكلام، والثاني باطن لا يدركه إلا الذين اختصهم الله بهذه المعرفة، وهم يَصلُون إلى إدراك هذه المعاني المحجوبة عن عامة الناس بتعليم الله لهم مباشرة/ الموسوعة الإسلامية الميسرة  ج3 ص483 / محمود عكام"!

وربما عبَّر الكاتب الأردني خالد عياصرة عن فكرة الإسقاط الأيديولوجي القريب من هذا المعنى ولكن بشيء من المبالغة التي لا تخلو من قبس من الحقيقة حين كتب "لكنَّ المخرجَين الاثنين اجتمعا في اسقاط المسلسلين على الواقع مع العبث بالفكرة، إياد الخزوز (مخرج سمرقند) الذي جاء مع بدايات الربيع العربي وجعل من المَدَّين التركي والفارسي الإيراني المهدد الحقيقي للمنطقة من جهة وداعش ومثيلاتها من جهة ثانية، فيما اعتبر بيتر ميمي (مخرج الحشاشين) الإخوان المسلمين المهدد لاستقرار المنطقة باعتبارهم "الحشاشين الجدد/ مدونة الكاتب".

يتبع في الجزء الثالث والأخير.

***

علاء اللامي

في المثقف اليوم