آراء

أحمد السنوسي: من جامعة بوسطن إلى كلية الآداب بمنوبة.. محاولة للفهم وإثارة الأسئلة

تعيش الجامعات الأمريكية منذ أيام حراكا طلابيا واسعا مساندا للقضية الفلسطينية ومناهضا للمجازر والمذابح التي ترتكبها العصابات الصهيونية في حق أهلنا في غزة، ولم تقتصر الاحتجاجات على الولايات المتحدة الأمريكية بل سرعان ما امتدت لباريس وكندا وغيرها من الدول خاصة بعد اقتحام الشرطة الأمريكية للحرم الجامعي واستخدام الخيول ومسدسات الصعق الكهربائي والغاز المسيل للدموع بغاية قمع هذه التحركات عبر اعتقال مئات من الطلبة والأساتذة والاعتداء عليهم أمام عدسات كاميرات الصحافة المحلية والعالمية . إن هذه التحركات تؤسس لانتقال نوعي في مستقبل القضية الفلسطينية إذ أن هذا الجيل من الشباب الطلابي شهد على جرائم الإحتلال وتواطئ سلطات بلدانهم في التعتيم عليها وتدوير الزوايا لتبريرها إضافة إلى اهتزاز السردية التي كانت سائدة طوال عقود والتي شكلت الوعي الغربي إذ لطالما تم اعتبار اسرائيل كضحية للإرهاب الفلسطيني مقابل استعدادها للسلام وإيمانها بالحق الفلسطيني.

تعكس الاحتجاجات والتحركات الأخيرة وعيا جديدا يتشكل انطلاقا من مفاهيم واصطلاحات صاغها طوفان الأقصى على أنقاض أجندات ومشاريع وأطماع وسرديات نراها تتهاوى كأعمدة الدخان يوما بعد يوم. إن هذا الجيل الطلابي يقدم تمثلا حقيقيا للقيم الكونية التي جاء بها كبار الفلاسفة والعلماء إذ أن شباب الجامعات متحرر من ثقافة القصور والنخب السياسية التي تحكمه - والتي اختارت أن تتمثل قيم الحداثة إنطلاقا من تعريف محدد للإنسان يعكس تمركزا حول الذات وعنصرية تجاه الآخر - واختار أن يتمثل قيمه التي يؤمن بها كما يراها من منظور كوني وإنساني واسع متخفف من وطأة الثقافة الإستعمارية التي لازالت تحكم الفعل السياسي والقرار الاستراتيجي الغربي الأطلسي إلى الآن.

إن هذا الانتقال في الوعي والاستعداد للاشتباك دفاعا عن المبدأ والفكرة هو أهم ما يمكن رصده في هذه التحركات، إذ أن الجامعات التي تمثل طليعة هذه " الإنتفاضة الطلابية " هي التي تخرّج الأطر والكوادر ليتصدروا بعد ذلك قوائم النخب الفكرية والأكاديمية التي تُعنى بسياسات الدولة من تخطيط وتنفيذ وبتسييرالشركات والمؤسسات الكبرى  إضافة إلى الرصيد الرمزي الذي سيُضاف إلى تاريخ هذه الصروح العلمية على أن طلبتها وجزء كبير من أساتذتها ينحازون للقضايا الإنسانية بكل مبدئية وشجاعة ويناضلون من أجل ذلك. وأمام هذه الديناميكية الواسعة وجدنا أنفسنا أمام سؤال لا يخلو من الحيرة : أين هي الجامعات التونسية من كل هذا ومن القضايا الكبرى عموما؟ ونحن نشهد فتورا في  حركتها وتأثيرها وقد انقسم الرأي إلى فسطاطين، فئة تتحسر على أيام الجامعة في سبعينات وثمانينيات القرن الماضي وفئة تدافع عن نموذج فعل طلابي منته منذ عقود وتحاول إحيائه دون جدوى.

وعودا على ما سبق، فقد تعددت الإجابات والتعريفات حول السؤال الآنف طرحه، بين أول متحسر على أيام الجامعة في سبعينات وثمانينيات القرن الماضي وثان مدافع عن نموذج فعل طلابي منته منذ عقود ويحاول إحيائه دون جدوى.، وثالث داع للنظر والفهم والتشخيص وهو موضوع ما أطرحه في هذه الورقة، إذ ليس القصد جرد ادعاءات وحجج كل توجه على حدة، بقدر ما هو تفكيك للأفكار علها تفتح نقاشا جديا عن حاضر ومآلات الجامعة التونسية . ولمّا كان التشخيص الدقيق بوابة للإجابة عن السؤال الملح، وحتى نظل بمنأى عن المماحكات السياسوية وحتى لا نقع في فخ التعويم والتعمية فان أسئلة أراها جوهرية  تفرض نفسها في هذا السياق لندخل بذلك المدخل الطبيعي الذي يفرضه التفكير النقدي :

هل نموذج الجامعة في السبعينات والثمانينيات يمكن الإستعانة به الآن للقياس أو حتى الاستحثاث ؟ هل تمثل الجامعة في ذلك الوقت نموذجا مرجعيا ؟ هل الجامعة هي الفضاء الوحيد الذي يمكن أن يتحرك فيه الطلبة ؟

ألا يمكن أن تكون سنوات الركود داخل الجامعة جعلت الطلبة يصنعون فضاءات بديلة ؟ لماذا فقدت اتحادات الطلبة تأثيرها وجماهيريتها ؟ هل فعلا طلبة الجامعات في حالة قعود سلبي أم أنهم يتحركون في دوائر أخرى استطاعت أن تستوعبهم وتلبي حاجاتهم النفسية والمادية؟

جامعة الثمانينات والتسعينات : حالة متجسدة في زمانها وشبح يجوب الجامعة عشية الثورة

عاشت الجامعة التونسية  منذ أواسط  السبعينات من القرن العشرين حالة نضالية وحركية كبيرة تنافس فيها مختلف التيارات الفكرية من إسلاميين ويساريين وقويميين ورافقتها ظروف صاغت ملامحها وحددت مزاج الفاعلين فيها أهمها الاستبداد السياسي وغياب التعددية واضطرار كل الاحزاب والتنظيمات للعمل في السرية بعيدا عن أعين الدولة ومراقبيها من أعوان الحزب الحاكم ساعية بذلك لممارسة شكلا من أشكال السلطة في فضاء غير فضاء الدولة واتخذت ساحة نضالها الجامعة والمعاهد إذ كان الرصيد البشري لأهم التنظيمات السياسية مرتكزا على الشباب التلمذي والطلابي. خلقت هذه السياقات حالة من التكثيف والتركز المادي والرمزي داخل الجامعة التونسية وأصبحت هي الفضاء الوحيد للعمل السياسي وللضغط على السلطة أمام انسداد كل الفضاءات الأخرى الممكنة للتنافس السياسي وسطوة الحزب الواحد / الرجل الأوحد. ولم تكن تلك الحالة مقتصرة على الصراع بين السلطة والمعارضة بل كانت أيضا مجالا للصراع بين مكونات المعارضة المتنافرين ايديولوجيا والمشحونين نفسيا نتيجة " الطقس السياسي " الحار واختزال العالم في ثنائيات الحق والباطل والخير والشر والتوهم بحيازة الحقيقة المطلقة. سادت هذه الحالة طيلة عقدين من الزمن أو أكثر وانتهت بحملة أمنية واسعة قادتها السلطة الحاكمة في تونس ضد الجامعة فساقت الآلاف للسجون وأحبرتهم على قضاء  الخدمة الوطنية بالصحراء بل واغتالت العشرات من الطلبة داخل حرم الجامعات وأخضعت البقية بالترهيب والترغيب.

عاشت الجامعة التونسية بعد هذه الأحداث حالة من التدجين ووأد كل حركة ممكنة من شأنها أن تزعج السلطة أو تهددها إلى أن بدأت ملامح ارتخاء قبضة النظام وانتعاش الحركة الديمقراطية في تونس أول الألفينات وصولا إلى تشكيل جبهة 18 أكتوبر 2005 التي جمعت كل القوى المعارضة ضد نظام بن علي ومثلت انتقالا نوعيا في مسار النضال ضد الاستبداد في تونس وانعكس هذا على الجامعة فبرز مجموعة "الطلبة المستقلون"  المعارضة للنظام إضافة إلى الإتحاد العام لطلبة تونس (المحسوب على التيار اليساري) والذي استعاد ألقه ونجح في احتضان أبناء مختلف العائلات السياسية. بقي العمل الطلابي في تلك السنوات التي مرت بها الجامعة حكرا على الطلبة المهتمين بالسياسة والمعارضين تحديدا والمستعدين لدفع ضريبة مواجهتهم للنظام في حين أن المشهد الطلابي في عمومه كان فاقدا للعرض الإدماجي القادر على الفعل والتغيير. إن هذا الفراغ داخل الفضاء الجامعي فتح مجالا لثقافة النوادي الجامعية كملجأ للطلبة يتحركون ضمنه دون تهديد أمني يلحقهم أو ضغط يسلط عليهم، حيث مثلت ثقافة النوادي تغييرا جوهريا في علاقة الطالب بالمؤسسة الجامعية وبتمثله لدوره في فضاء بديل يعبر فيه عن ذاته، وتوسعت هذه الثقافة لتأخد معنى آخر بعد الثورة تحت مسمى جمعيات المجتمع المدني والتي نجحت في إدماج واستيعاب عدد هائل من الطلبة والتلاميذ بل إنهم مثلوا قوام هذه الجمعيات. في المقابل، رافق السنوات الأولى للثورة محاولة لاستعادة صورة متخيلة عن "جامعة الحقبة البورقيبية والنوفمبرية"، تلك الجامعة التي توقف نضالها بسفك الدماء والضحايا هم اليوم قادة سياسيون يأثثون المشهد السياسي عشية " ثورة شعبية ". خيم شبح تلك الصورة على " جامعة  الثورة " وأعيد إنتاج مربعات الايديولجيا من جديد وشحنها وتكرار صراعات قديمة بأيادي الأبناء، لم تكتمل المعركة لذلك وجب إكمالها ولو بأيادي أبناءنا وعلى حسابهم ! تلوثت الجامعة بالمعارك الهووية الصفرية وشهدت حالة جارفة من العنف بين تعبيرات نقابية طلابية مشحونة بالايديولوجيا وبمعارك الآباء فأعيد إنتاج الخلافات القديمة بعناوينها المفوّتة وإهدار فرصة تاريخية كان من الممكن أن تجعل الجامعة التونسية جامعة مواطنية ترافق ثورتها ولا تقع في حبائل العمى الايديولوجي والثارات القديمة. بعد مرور السنوات الأولى للثورة، بدأ هذا المشهد في الفتور متأثرا بالصراع في الساحة السياسية أولا إذ دخلت تونس " مرحلة التوافق السياسي " وتحول مع ذلك العمل الطلابي إلى فرصة للترقي الاجتماعي ولتحسين الظروف المادية للطلبة مما صنع شبكة من الانتهازيين والوصوليين الساعين للإستفادة ولتحسين شروط العيش.

الفضاءات البديلة : الطلبة يتحركون بعيدا عن مربعات الشحن النفسي والايديولوجي

إن حالة الانفتاح السياسي بعد الثورة ونشوء المجتمع المدني خلقت فضاءات بديلة للفعل والتأثير إستمالت عددا كبيرا من الطلبة الذين أصبحوا فاعلين ومسؤولين في هذا الجسم التنظيمي الممتد والمتنوع. لم تعد المنظمات النقابية الطلابية هي العرض الوحيد للطلبة بل شكلت النوادي الجامعية بمختلف اختصاصاتها (ثقافية واجتماعية ومؤسساتية وعلمية) عرضا جديدا ذو مقبولية لدى عموم الطلبة يلبي شعور الانتماء عندهم ويستجيب لشكل جديد من الفعل مؤسس على الصورة والمهارات الذاتية soft skills والقدرات التواصلية إضافة لكونه يمثل فضاءا هادئا خال من التوترات والشحنات النفسية والتنافر الأيديولوجي. في المقابل بقي عدد قليل من المؤسسات الجامعية يحافظ على الصراعات المفوّتة بحكم الخلفية التاريخية الخاصة بتلك المؤسسات (أكبر المحطات التاريخية في الحركة الطلابية كانت ضمن هذه المؤسسات) إضافة إلى مساهمة جزء من الأساتذة في تغذيتها واستعمالها كورقة ضغط للحفاظ على قلاع الأكاديميا التي يعتبرونها مجال نفوذهم دون غيرهم.

لقد أفقدت السنوات الأخيرة كل المنظمات النقابية الطلابية جماهريتها وحدت من تأثيرها بشكل كبير بل وصنعت لها سقف فعل مقتصر على تلبية حاجاتهم ومطالبهم على غرار تعديل روزنامة الامتحانات والتأجيل، استخراج وثائق من الإدارة، وساطة بين الطالب ودواوين الخدمات الجامعية لنقل المعلومة… ليصبح الفعل الطلابي مستغرقا في التفاصيل المطلبية ونضال تمديد آجال الترسيم وإصدار البيانات لرفع الحرج بعيدا عن كل قدرة لمرافقة المجتمع في قضاياه الاجتماعية والاضطلاع بدور طلائعي في مناقشة مضامين إصلاح منظومة التعليم العالي كقوة اقتراح وترجيح مضموني أمام محاولات إصلاح ترقيعي لا يعالج منظومة إنما يحاصر نتائجها ويقلل من خسائرها. لقد مثلت حالة الفراغ الفكري والضعف المضموني داخل المنظمات النقابية أحد أهم أسباب تراجع تأثيرها وألقها بل دفعها لمجاراة ثقافة النوادي في طبيعة الأنشطة بهدف استقطاب الطلبة وزيادة عدد المنخرطين.

أمام هذا المشهد، غاب العرض الطلابي الذي سيجمع الطلبة ويذكرهم بدورهم ومسؤوليتهم تجاه أنفسهم أولا ثم المجتمع ثانيا إذ غابت العناوين التي من شأنها أن تكون منسجمة مع سياق تعاني فيه البلاد تبعية سياسية واقتصادية تغيب فيها الرؤية الوطنية والمشروع الوطني بما يعنيه من أشواق تحرر وانعتاق وطاقة فعل وتغيير، فالحركة الطلابية من المفترض أن تصوغ مطلبيتها بمضامين التحرر الاقتصادي والدفاع عن السيادة الوطنية بما تعنيه من تماسك داخلي وفعل سياسي واع ومسؤول، هكذا يكون دورها كقوة دفع ومرافقة لمرحلة مهمة في تاريخ بلادنا. لكن هذا العجز عن إنتاج تعبيرة طلابية تترجم هذه المعاني جعل جزءا كبيرا من طلبة الجامعات يتمثله بأشكال مختلفة:

- القيام بأعمال خيرية ضمن جمعيات طلابية أو مدنية ( زيارات للأرياف وتقديم مساعدات للمعوزين، أغلب المسؤولين في الهلال الأحمر التونسي في الفروع الجهوية والمحلية هم من الطلبة ).

- جمعية الأطباء الشبان في تونس تتنقل للأرياف في شكل قوافل طبية وتقدم الخدمات الطبية مجانا لكل من يحتاجها وتنقل المرضى إلى المستشفيات وتشرف على رعايتهم وقوام هذه الجمعية هم طلبة الطب.

- في فترة وباء كورونا أغلب المساهمين في تقديم الخدمات في دور إيواء المرضى والحجر الصحي هم من الطلبة.

- أكبر تحرك جماهيري داعم للقضية الفلسطينية من حيث العدد والمدة كان تلمذيا طلابيا دام يوما كاملا بأعداد لم يقدر على جمعها أي طرف سياسي أو نقابي في البلاد.

- التسويق لحملات المقاطعة والتعريف بالقضية الفلسطينية وتاريخها بالكتابة والصورة والفيديو هو من إنتاج أو تقديم الطلبة.

- أغلب المسابقات العلمية في اختصاصات مختلفة (من العلاقات الدولية إلى الروبوتيك والذكاء الاصطناعي) سواء أن كانت وطنية أو عالمية يشارك فيها الطلبة بشكل واسع.

إن الأشكال المذكورة آنفا هي جزء من الأدوار التي يقوم بها الطلبة للتعبير عن التزامهم تجاه مجتمعهم ضمن تمثل معين لقيم التحرر والعدالة والتي تعبر عن جينات ثقافية أصيلة مكتنزة بالخير والصلاح تحتاج من يتلقفها ويشتغل عليها لتترشد وتتحول إلى حركة وعي وفكر ذات فاعلية أكبر وتأثير أوسع.

إضاءات من أجل المستقبل: عن جامعة مواطنية ترافق التأسيس لمشروع وطني

على عكس كثيرين، فإني أرى أن الحالة التي تعيشها الجامعة التونسية هي أكثر حالة متناسبة مع منطق اللحظة الذي تمر به بلادنا وهي ليست حالة ركود بقدر ماهي حالة ترقب واستعداد في آن واحد لاستيعاب المبادرات العقلانية والمسؤولة التي تفتح لنا آفاقا للمستقبل. لا أعتبر "الحركة " الدائمة علامة صحية في كل السياقات بل هناك لحظات تتطلب منا وقوفا للفهم والتفكير وهضم أحداث سابقة بتعقيداتها وصوابها وخطئها لنستفيد منها كتجربة معاشة شكلت واقعنا في مرحلة ما وتساعد على إيجاد إمكانيات جديدة للفعل والنظر.

إن الجامعة كقطب هـام في الهيكـل التعليمي تمثل الرصيد الاستراتيجي الذي سيضخ إطارات بمهارات فكرية ٕوإمكانيات علمية وبحثية وعملية من شأنها قيادة حركة التنويروالتجديد في المجتمع من خلال تكوين الكفاءات القادرة على قيادة دواليب الدولة في الاقتصاد والتجارة والتقنية والأكاديميا، من هذا المنطلق يكون لزاما البدء بقياس هذه الوظيفة على واقعنا ومحاولة رصد مدى التطابق بين ما يجب أن يكون وما هو كائن، فالشجاعة في التشخيص ومساءلة المنظومة بكل مكوناتها كفيلان بتجاوز كثير من المحاولات التي ترغب في معالجة جزئية لحقيقة عنيدة ومتشعبة ولا تستقيم معها الحلول الاختزالية.

إن ما يجب أن ننتبه إليه أن حالة الفراغ هي فرصة للبناء لمن يتلقفها ويتعامل معها جيدا فكما يمكن أن تكون فرصة في اتجاه الأفضل يمكن أن تشكل انتكاسة تزيد الأمر تعقيدا ورسوخا في آن واحد وتصعب آنذاك المعالجة. لذلك من الضروري النظر لمشروع التأسيس لجامعة مواطنية كمدخل لبناء المشروع الوطني والتفكير فيه والذي من شأنه أن يعيد الأمل للناس أولا ويحيي فيهم قدرتهم على الحلم ببلادهم وفيها وهي في واقع أفضل يتوفر على شروط التغيير والارتقاء. يمكن للجامعة التونسية أن تستعيد ألقها وتضطلع بدور مركزي في تأطير الجهود وتوجيهها كأحد مجالات السلطة المهمة في إنتاج المعرفة وإبداع الأفكار ومسائلة المشكلات والقضايا التي تواجه المجتمع وبذل الجهد للإجابة عنها والمساعدة في هندسة حلولها. من هذا المنطلق وبهذا الملمح ستنتج الجامعة حراكها الطلابي الذي يليق بها ويستجيب لحاجياتها وحاجيات مجتمعه التي يعايشها فكرا ومعنى داخل الجامعة ويرصدها في محيطه الاجتماعي ودوائر فعله خارجها. في هذه الحالة من الممكن أن يصبح الفضاء الجامعي متكاملا ومنسجما مع بقية فضاءات الفعل المجتمعي التي يقدم عليها الطلبة وتكون أحد روافد التأسيس للوعي المواطني الذي ينقض فكرة "الإنسان النصف" الذي يعرف حقوقه ولا يعرف واجباته ويؤسس للمواطن الذي يرعى حقوقه ويقوم بواجباته كضمانة ونضال دائم لاستمرار تمتعه بحقوقه.

ختاما، إن الواقع البائس الذي يخيّم على بلادنا حد كثيرا من مساحات الأمل على حساب مساحات اليأس والخوف من مستقبل غائم وإذا اتضحت معالمه بدا معدوما لذلك مبتدأ ترميم الثقة هو بناء سردية وطنية يكون فيها للعمل والجهد معنى وللحلم جدوى. لا يمكن تحسين واقع الناس بشكل آني لكن كل ما يحتاجونه في هذه اللحظة شيء من الأمل وكثير من الثقة والصدق لذلك لا يمكن الحديث عن مشروع وطني قبل الحديث عن سردية وطنية هي أشبه ما تكون ب" الحلمة الجماعية " تُستدعى فيها الثقافة والتاريخ وكل ما يشكل ذاكرتنا الجماعية وخيالنا كعوامل اعتزاز وشعور بالذات من جهة وتنوع وتعدد من جهة أخرى ليستعيد المجتمع ثقته في قدرته على التغيير والبناء إضافة إلى بسط مشاكلنا بكل صدق ودون تلبيس والإعتراف بكل الأخطاء السابقة مع تقديم أسس للإنطلاق في المعالجة والإصلاح والتحلي بالصبر الاستراتيجي في سبيل ذلك. إن هذه المعاني على كثافتها يمكن أن تكون منطلقنا نحو مستقبل نرغب فيه جميعا ونكون فيه شركاء مشروع. يجب أن نفكر معا وبشجاعة، هذا كل ما نحتاجه.

***

أحمد السنوسي

 

في المثقف اليوم