آراء
إبراهيم برسي: غسان كنفاني.. هشاشة الاسم والمنفى المؤجّل

في زمنٍ لا يتذكّر إلا ما يمكن أرشفته، يغدو غسان كنفاني احتمالًا معطّلًا في ذاكرة تتذكّر اسمه أكثر مما تقرأه، وتردّد صورته أكثر مما تصغي إلى رجفته الأولى.
لا أحد يعرف يقينًا من أين بدأ الحريق، لكن الدخان الذي لا يزال يعلو من جثّة الفكرة، يشير إلى أن شيئًا ما احترق في مكانٍ ما بين اللغة والرصاصة، بين الكتابة والمقصلة، بين أن يكون المرء “غسانًا” أو يُستدعى بوصفه كذلك.
هشاشة الاسم لا تعني ضعف الرمزية، بل إنها علامتها القصوى: حين يُعاد إنتاج الاسم خارج سياقه، وحين يُنزَع عن صاحبه ليُلبَس لغيره، يصبح الاسم نفسه منفى آخر، مؤجّلٌ، معطّل، ومرهق من كثرة الاستخدام.
غسان لم يكن يكتب عن فلسطين كما تُكتب الخُطب أو البيانات. لم تكن فلسطين عنده ساحة، بل سؤال. لم تكن شعبًا، بل صورة ناقصة عن الإنسان في لحظة انكشاف. في البدء لم تكن هناك خرائط، بل وجع. وجع فادح يشبه ما يسميه فوكو بـ”المعرفة الجريحة”، تلك التي لا تأتي من التنظير بل من الحفرة، من الجسد الملقى خارج كل مؤسسات المعنى. وفي هذا البدء، لا يقف غسان كشاهد، بل كمُتّهم يشهر نصّه في وجه محكمة بلا عدالة. لم يكن منفيًا فحسب، بل صار المنفى نفسه. كائنًا مشطورًا بين طفولة مسروقة وأحلام لاجئة، بين بيت يرفض أن يتذكره، ومخيم لا يتوقف عن التكرار.
أن تكتب عن غسان يعني أن تعترف بأنك تأخّرت. أن كل محاولة للكتابة عنه اليوم، تجيء محمّلة بإرث من التأجيل، ووعي متأخر بجرح لم يُختم. لا أحد يكتب عن غسان، بل يحاول أن يكتب تحت وطأة ما تركه غسان في الكلمات. أن تكتب عنه هو أن تكتب من مكان لا تستحقه تمامًا، أن تدخل مساحة خُلقت لتُقفل بعد رحيله. لكن لا بأس. فالكتابة، كما تعلّمنا منه، ليست امتيازًا ولا شرفًا، بل هي اضطرار أخلاقي، فعل قلق لا يهدأ، ومرآة مشروخة نعيد فيها النظر إلى وجوهنا لا لنُصلحها، بل لنفهم لماذا تكسّرت هكذا.
في عالم ما بعد النكبة، كانت اللغة آخر ما بقي للفلسطيني. كل شيء صادرته السلطة: الأرض، والحدود، والجغرافيا، وحتى الحق في الغضب. وحدها اللغة تسللت من بين البنادق، لتقول ما لا يستطيع الإعلام أن يموّله.
هنا تحديدًا كتب غسان. لا بصفته رجل تنظيم، ولا بصفته مناضلًا مؤطرًا، بل بوصفه شظيّة لغة، مقاومة في بنية الجملة، وتمردًا في صيغة الحكاية. لم يكن الطفل في “عائد إلى حيفا” عائدًا، بل هو قطيعة بين زمنين، لا يعترف أحدهما بالآخر. لم تكن المرأة في “أرض البرتقال الحزين” محض أمٍ، بل كانت مجازًا لخراب أنثوي نازف في ذاكرة لم تعد تخص أحدًا.
لقد أدرك غسان مبكرًا أن الكارثة لم تكن في ما فعله العدو فقط، بل في ما فعله أبناء البيت حين صدّقوا خطاب المالك. حين صارت القضية إدارة، وصار الحلم ورقة، وصارت اللغة نشرة حزبية. قالها ذات مرة: “الخيانة ليست دائمًا خيانة القضية، أحيانًا هي خيانة الفكرة داخل القضية.” وهذا، في جوهره، أخطر ما فعله. لم يكن عدوًا واضحًا لأحد، لكنه كان خطرًا على الجميع. لأنه لم يهادن، ولم ينتظر التوقيت المناسب. كتب قبل أن تُراجع الفكرة، وتكلم قبل أن يُسمَح له بالكلام. ولهذا ظلّت الجبهة تنظر إليه ككائن يجب احتواؤه، أو التخلص منه.
غسان لا يُستعاد. من يستعيده يزوّره. لا يُحتفَى به، بل يُقرأ بحذر. لأن نصه لا يُطرب، بل يُفزع. لا يُطمئن، بل يهز. لا يعرض حلاً، بل يفضح من ينتج الحلول الجاهزة. من يحاول تحويل غسان إلى جدارية، يشارك في اغتياله مرة أخرى. ومن يكرّمه بصيغة المؤسّسة، يجهّز له تابوتًا لغويًا لا يليق به.
المنفى، كما كان يراه، ليس غياب الوطن، بل حضور زائد للسلطة. هو اللحظة التي تنسى فيها صوتك، وتبدأ في تكرار جمل الآخرين. هو أن تحضر في المكان، لكنك مغيّب عن الزمن. أن تكون في الجغرافيا، لكن بلا تاريخ خاص بك. وأن تحيا كما يقول أغامبين بـ”الحياة العارية”، تلك التي لا تملك فيها حق أن تكون أكثر من مجرد أداة في يد المراقب.
في عالم عربي يصر على التواطؤ مع النسيان، يصبح استدعاء غسان فعل مقاومة. لا لأننا نحتاج إلى رمز، بل لأننا نحتاج إلى لحظة صدق. والصدق ليس في إعادة تدوير مقولاته، بل في خيانة الموروث البليد، في مساءلة اللغة التي أصبحت صنمًا، وفي تمزيق الصورة التي صارت شعارًا بلا روح. أن نقرأ غسان اليوم يعني أن نقرأ أنفسنا في مراياه المهشّمة، أن نعيد طرح الأسئلة التي سُكِت عنها طويلاً: من سرق الوطن؟ من استبدل الثورة باللجنة؟ من تواطأ على اللغة؟ ومن رضي بالانتظار؟
غسان، في النهاية، لم يمت لأنه كتب عن فلسطين. مات لأنه كتبها بطريقة لا تصلح للبيع. لأنه لم يقدّمها كبطاقة، بل كسؤال.
لم يروّج لها كماركة، بل كشظية. لأنه لم يمنح السلطة مخرجًا، ولم يعطِ الاحتلال فرصة للرد.
مات لأنه لم يكن صالحًا لأن يكون جزءًا من العرض.
ولأننا لم نغادر المنفى، فإن غسان لم يغادرنا. لا بوصفه نبيًا، بل كجرحٍ مفتوح في خاصرة اللغة. هشاشة اسمه لا تعني نسيانه، بل تعني أنه لا يزال يوجع. وأن من يحملون اسمه اليوم لا يفهمونه، بل يعيدون قتله كل يوم. وفي هذا، ليس المنفى ما نتعرّى منه، بل ما نكتشف أننا نرتديه كلما ظننا أننا عدنا.
***
إبراهيم برسي - السودان