آراء
سعاد الراعي: نرجسية الأديب والناقد

الوجه الخفي للتسلط في الحقل الثقافي
كنت قد قرأتُ في صحيفة المثقف الغراء ... موضوعًا حواريًا رائعًا بعنوان "جمال الهنداوي يحاور الروائي المغترب د. قصي الشيخ عسكر"، المنشور بتاريخ 03 تموز/يوليو 2025، مع ما تبعه من مداخلات تفاعلية بين الناقد صالح الرزوق والروائي قصي الشيخ عسكر، محورها ما واجههما من تهميش ومواقف سلبية من قبل بعض النقاد والمؤسسات، وقد أثّر بي هذا الحوار التفاعلي على نحوٍ لا يمكن تجاوزه. لم يكن مجرد حوار بين أديب وناقد، بل كان مرآةً لجدلية عميقة تلامس قضايا أكثر جوهرية تتعلق بطبيعة العلاقة بين الإبداع والنقد، وسلطة النقد وحريته، والذات والآخر. هذا الأثر هو ما دفعني لإثارة ظاهرة ثقافية خطيرة ومسكوت عنها كثيرًا، وهي: نرجسية الأديب والناقد، لا كحكم مسبق، بل كدعوة للتفكير، وربما أيضًا، باعثًا للبحث والتفاعل.
ففي المشهد الثقافي العربي، حيث تتشابك الهويات الإبداعية مع الهالات الرمزية، تطفو على السطح ظاهرة مقلقة لا تقل خطورة عن التهميش المؤسساتي أو الرقابة الفكرية، إنها ظاهرة نرجسية الأديب والناقد. قد لا تكون جديدة في أصلها، لكنها في السنوات الأخيرة أصبحت أكثر وضوحًا، بل أكثر تغوّلًا، في ظل فضاءات افتراضية تمنح الشهرة لمن يرفع الصوت أكثر لا لمن يعمّق الرؤية.
ان العودة الى الجذور النرجسية؛ من خلال تلمس أسبابها المتعددة والتي قد تفسر نشوء هذه النرجسية في شخصية الأديب أو الناقد تعتبر من الضرورات البديهية. فلو اخذناها من الجانب النفسي فقد تعود إلى شعور داخلي بالنقص، أو إلى رغبة دفينة في التعويض عن هشاشة سابقة. أما ثقافيًا، فإن بيئة لا تقوم على مؤسسات عادلة للنقد والتقييم، بل على الولاءات والمحاباة، ستخلق تلقائيًا حالة من الانغلاق حول "الأنا" الإبداعية، وتحويلها إلى سلطة فوق المساءلة.
ويشير بعض الدارسين، من أمثال بيير بورديو عالم الاجتماع الفرنسي، إلى أن "الحقل الأدبي نفسه يحتوي على "لعبة قوى" (Champ de force) يتصارع فيها الفاعلون الثقافيون على الرأسمال الرمزي، مما يدفع بالبعض إلى حماية هذا الرأسمال عبر نرجسية مقنعة".
اما السمات النرجسية في الفعل الثقافي، فيمكن ان نجدها بكل وضوح إذا تأملنا السلوك الثقافي لبعض الأدباء والنقاد، والتي من خلالها يمكن ان نرصد عددًا من الصفات التي تكشف عن هذه النرجسية:
* الفوقية الفكرية: حيث يتم تقديم الذات كمرجعية مطلقة للحكم والتقييم.
* الأنانية الإبداعية: حيث لا يُذكر اسم إلا إذا كان ممهورًا بإطراء للذات أو ربط بها.
* الغرور: الذي يتجلى في رفض أي نقد، أو في تقديم كل نقد كتحامل.
* الغيرة والخوف من المنافسة: فيتم تجاهل المبدعين الجدد، أو تحجيمهم وأقصائهم.
* الأنا العدائية: التي تتصرف مع الساحة الأدبية كأنها ميدان صراع لا حوار.
الا ان المهم هنا التأكيد على انه مهما حاول البعض التستر على هذه النرجسية بإظهار التواضع أو الانفتاح، فإن نصوصهم تفضحهم، فتراهم يتحدثون عن أنفسهم بمبالغة ملحوظة، أكثر مما يناقشون الآخرين، أو يختارون فقط النصوص التي تصب في تكريس أسطورتهم. وتنعكس هذه النزعة حتى في انتقائهم للأعمال التي يريدون من الاخرين الكتابة عنها، أو في "الحاشية" التي يدورون بها من كُتّاب وصحفيين وإعلاميين.
لا شك أن النرجسية يمكن قراءتها نفسيًا كاضطراب في صورة الذات، لكن الأخطر من ذلك هو تشكلها كسلوك ثقافي مَرَضي، تدعمه بيئة تغيب فيها آليات المحاسبة والتمحيص، وتُمنح فيها الأسماء سلطة دون مساءلة، لمجرد شهرتها أو قربها من مراكز نفوذ الوسط الثقافي.
ولعل أخطر تجليات هذا السلوك هو تأثيره على المتلقين، إذ يتحول اسم الأديب أو الناقد إلى ما يشبه "ماركة ثقافية"، يتم التعامل معها بمزيج من الخضوع والانبهار، دون أن يُقرأ فعليًا ما ينتجه.
ان البعض ممن أصابتهم هذه النرجسية لا يكتفي بتكريس ذاته، بل يسعى إلى تجنيد الأقلام من حوله. فتراهم يكتبون عنه، يروّجون لأفكاره، بل أحيانًا يهاجمون خصومه نيابة عنه، بينما هو لا يرد التفاعل والتحية بمثلها، بل يكتفي بأن يدور الجميع في فلكه، وكأنه مركز الكون، دون حوار متكافئ أو علاقة ندّية.
في الواقع أن أكثر من يدفع ثمن هذه النرجسية هم الكتّاب الجدد، إذ يُقابل طموحهم إلى الكتابة والنشر والتعبير عن آرائهم بإقصاء، أو سخرية، أو نقد جاف خالٍ من أية نية بنّاءة. بعضهم لم يحتمل تلك الضغوط، فيتراجع أو ينكفأ، بل وربما يعتزل الكتابة. إننا بحاجة ماسة إلى بيئة ثقافية تعرف الفرق بين النقد والبتر، بين التوجيه والتحطيم.
كما أن غياب أدوات المجابهة لدى هؤلاء الكتّاب، من شبكة دعم، أو خبرة، أو صوت مسموع، يجعلهم هدفًا سهلاً لنقد نرجسي لا يبتغي إصلاحًا بل إلغاءً.
لذا يجب القول نعم للنقد، لا لتجريد الإنسان من إنسانيته؛ فالنقد الحقيقي لا يهادن، لكنه أيضًا لا يُقصي ولا يحتقر. فالنقد بلا إنسانية يتحول إلى سلطة، والإبداع بلا تعاطف يتحول إلى استعلاء. الكاتب أو الناقد الذي ينسى أنه إنسان أولًا، وأن المتلقي أو المبدع الآخر هو إنسان أيضًا، يفقد روح الأدب، بل رسالته كلها.
في مقابل هذه العينات المتعجرفة، يبرز اسم الناقد جمعة عبد الله كنموذج حي ومضيء وفعال وضروري في الساحة النقدية. فهو ناقد عُرف بأسلوبه الإنساني والبنّاء، يتبنى الأصوات الجديدة، ويقرأها بعمق وصدق، لا بانحياز أو ترفّع. نقده لا يتوسل سلطة بل يستند إلى معرفة، ولا يُقصي بل يفتح أفقًا جديدة. إنه من القلائل الذين فهموا أن النقد فعل حب قبل أن يكون فعل حكم (وانا بصدد الكتابة عن تجربة الناقد جمعة عبد الله الاستثنائية).
ولإرساء بيئة ثقافية قائمة على التعددية والنقد الإنساني، لا بد من التأكيد على أن نرجسية الأديب أو الناقد ليست مجرد نزعة شخصية معزولة، بل تمثل تجليًا لبنية ثقافية مختلّة تعاني من قصور عميق في فهم الذات والآخر.
المطلوب اليوم ليس إسقاط رموز أو تحجيم أسماء، بل خلق مناخ يُكرّس القيمة لا الشهرة، ويدعم التعدد لا التمركز. فالإبداع الحق لا يزدهر إلا في ظل الحرية، والحوار، والاحترام المتبادل، حيث يكون الناقد داعمًا لا خصمًا، والكاتب منفتحًا لا متعاليًا، والإنسانية هي المعيار الأول، والأخير في كل ما نكتب.
**
سعاد الراعي