قضايا

منذ عام 2003، خضعت ساعات الدوام في الكليات العراقية لتغيرات جذرية، بدافع الاوضاع الامنية المضطربة، حيث تم تقليصها لعدة ساعات وانتهائا في افضل الاحوال بالساعة الثانية ظهرا. مثلت هذه التغيرات تتويجا لتدهور أوضاع التعليم العالي الذي بدأ بتسيس التعليم في السبعينيات وبلغ ذروته بالانهيار في التسعينات. نتيجة لذلك، فقدت ساعات الدراسة مرونتها، وباتت الجامعات تعاني من قيود كبيرة في إدارة العملية التعليمية.

مع مرور الوقت، ساد تيار بما يعرف بالدراسات المسائية، وتم تخصيص نفس مرافق الدراسة الصباحية لها، مما ادى الى تحويل الجامعات الى نموذج يشبه المدارس الابتدائية والثانوية المزدوجة او الدوام الجزئي. فباتت الدراسات المسائية تشارك نفس المباني مع الدراسات الصباحية وتدرس نفس الاختصاصات وتمنح نفس الشهادات، وتبدا في الساعة 2 ظهرا بدلا من السادسة مساء كما كانت عليه سابقا، لتنتهي في الساعة 5 او 6 مساء. مع ملاحظة انه حديثا تم تغيير موعد بداية الدراسات المسائية الى الساعة الرابعة لربما لمنح وقت اطول للدراسات الصباحية.

وبالرغم من اننا ناقشنا هذا الموضوع واعترضنا على نظام الدوام المزدوج في عدد من الكتابات واللقاءات منذ 2003 الا انه لم يحضى بالاهتمام اللازم بسبب الضغوط السياسية والامنية ولتفضيل التدريسيين والموظفين لساعات العمل القصيرة، بالرغم من كونه يحمل في طياته مخاطر جمة، خاصة على صعيد جودة التعليم، حيث يعد من اهم واخطر المشاكل التي تواجه هذا القطاع، ويتعارض مع متطلبات الجودة والاعتماد. كما ان تأثيراته السلبية تمتد الى الدراسات العليا والتي تتطلب قضاء اوقات طويلة في المختبر والمكتبة وهو ما دفع كثير من الطلبة الى شراء خدمات المختبرات والمكاتب الاهلية. 

ويزيد من الطين بله صدور قرار مجلس الوزراء ببدء دوام الكليات في الساعة 10 صباحا حيث انه من المؤكد انه سيفاقم المشكلة، وسيوسع الفجوة بين الجامعات العراقية ونظيراتها العالمية، ويؤثر سلبا على مستوى التعليم العالي في البلاد خصوصا بعد تحديد نهاية الدوام بالساعة الرابعة.

يعتبر عدد ساعات الدوام الدراسي في الجامعات العراقية منخفضا للغاية مقارنة بالجامعات العالمية. بدون ادنى شك تمنع قصر هذه المدة الطلاب من فترات الدراسة اللاصفية داخل الجامعة، وتشكل عائقاً رئيسياً أمام تحقيق التميز على المستوى العالمي، حيث لا يتيح للطلاب الحصول على المعرفة والمهارات اللازمة للمنافسة في سوق العمل.

ولعلّ الحل الامثل لمواجهة هذه التحديات، يكمن في اعادة ساعات فتح الجامعات الى ما كانت عليه سابقا، اي من 8 صباحا الى 6 او الى 9 مساء، وهو ما سيمنح الدراسات الاكاديمية خصوصا العلمية مزيدا من المرونة في جدولة ساعات التدريس والتدريب، بما يتناسب مع خيارات الاقسام والاساتذة ومحتوى المنهج من ساعات نظرية وعملية ومكتبية ومشاريع تطبيقية بالاضافة الى النشاطات اللاصفية والتي لا يتضمنها المنهج.

ولكن تطبيق هذا الحل يتطلب اتخاذ خطوات حاسمة، اهمها التوقف عن اعتماد نظام الشهادات المزدوجة، وعودة اوقات الدراسة الى حالتها الطبيعية، واعادة النظر في نظام الدراسات المسائية، اما من خلال عودتها الى ما بعد الساعة السادسة مساءً، او استخدامها لمباني اخرى، او حتى فصلها تماما وتأسيس جامعات مسائية مستقلة.

من خلال هذه الاجراءات، ستتمكن الجامعات من تحقيق الاستفادة القصوى من مرافقها، وتقديم المزيد من الخيارات للطلاب، وتحسين جودة التعليم العالي في العراق، ليواكب التطورات العالمية في هذا المجال.

***

ا. د. محمد الربيعي

 

أكتب هذه السطورَ تأييداً لرؤية د. رضوان السيد، في مقاله المنشور بهذه الصحيفة نهاية الأسبوع الماضي. كان د. رضوان يعقّبُ على نقاشات «المؤتمر الدولي: بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية» الذي استضافته مكة المكرمة في الأسبوع المنصرم. وزبدة رأيِه أنَّ على الهيئات الدينية ورجالِ الدين، أن يتبنُّوا مفهوماً محدداً لتجديد الفكر الديني، محوره فهم «المعروف في إطار عالمي». وينادي د.رضوان بإطلاق مبادرات مشتركة تجمعُ النخبَ الدينية الإسلامية مع نظرائها في المجتمعات الأخرى، هدفُها تعزيزُ المفاهيمِ والأعمال التي يتَّفق فيها أهلُ الأديان وتخدم البشرية بشكل عام. ويضرب مثالاً على هذا بالمبادراتِ الرامية إلى إغناءِ الحياة الروحية، وحياة الأسرة وتطوير التعليم، وحقوق المرأة والطفل.

على السطح تبدو هذه المهمة سهلة المنال، فهي طموحٌ مشتركٌ لجميع محبّي الخير في العالم، من أتباع الأديان وغيرهم. لكنَّ الشيطانَ يكمن في التفاصيل كما يقول الإنجليز. التعاون يحتاج –كما نعلم– إلى تعارف، يتلوه اعترافٌ متبادلٌ بحقّ كلِّ طرفٍ في اختيار طريقة عيشه في الدنيا وسبيلِ نجاته في الآخرة. هذا يعني بصورة محددة القبولَ العلني بتعددية الفهم الديني، أو –على وجه الدقة– الفصل بين المصدر الأصلي للدين، أي القرآن الكريم، وبين المعارفِ والشروحِ والتفسيرات التي قامت حوله، والتي نسمّيها معارفَ دينية أو تراثاً دينياً.

نعلم أنه لا خلافَ على القرآن ولا مكانته. لكنْ ثمة خلافٌ عريضٌ حول ما يأتي من بعده، لا سيما المعارف التي أنتجها العلماءُ طوالَ القرون السالفة، حتى اليوم. وشهدتِ السنواتُ الأخيرة جدلاً حول مكانة السنة النبوية، لا سيما كونها حاكمة على فهمنا للقرآن، وكونها مصدراً مستقلاً للتشريع، عابراً للزمان والمكان. وهو نقاش له مبرراته ما دام بقي في الإطار المدرسي- العلمي البحت. وأشير هنا إلى أنَّ المعارضين لاعتبار السنة وحياً ثانياً، كما عند الإمام الشافعي، يستندون إلى مبررات علمية متينة. والعام الماضي تابعتُ حلقة دراسية تجاوزت مدتها 40 ساعة، حول هذا الموضوع بالذات، فوجدتُ أنَّ أدلة هذا الفريق ليست هيّنة.

ما سبق بيانُه يتعلَّق بتعددية المعرفة الدينية والتفسير، أي تعددية الاجتهاد في إطار الشريعة الإسلامية. وقبوله يعني –بالضرورة– قبول تعدد المذاهب والآراء مهما بعدت عن قناعاتنا الراهنة. لكنّ دعوة د.رضوان تذهب مسافة أبعدَ مما ذكرنا. فهي تعني –إنْ أردنا تفسيرها– تحريرَ «الخير» من الهوية الدينية – المذهبية، وجعله مشتركاً إنسانياً، يشارك فيه المؤمنُ انطلاقاً من إيمانه، من دون أن يحصرَ ثمارَ عملِه في إطار الجماعة التي تحمل هُويتَه وتشاركُه قناعاتِه.

أعتقد أنَّ تطوراً كهذا سوف يعيد هيكلة الفهم الديني، ليس على مستوى العلاقة مع غير المسلمين فقط، بل حتى على المستوى النظري، أي فهم النص الديني والاجتهاد في إطار الشريعة. وفي أوقاتٍ سابقة، تحدَّثَ عددٌ من كبار الفقهاء والمفكرين عمَّا عدّوه انفصالاً بين الفكر الديني والواقع الحياتي الذي يعيشه الإنسان المعاصر، سواء في المجتمعات المسلمة أو خارجها. وأرى أنَّ أوضحَ وجوهِ الانفصالِ المدَّعَى هو رفض «مبدأ الحسن والقبح العقليين». وفقاً لهذا المبدأ فإنَّ كلَّ فعلٍ بشري ينطوي –في جوهره– على حسنٍ أو قُبح، يدركه عامة العقلاء، بغضّ النَّظرِ عن أديانهم، وأنَّ قدرة العقل على إدراك حسنِ الفعل وقبحِه كافية لتحديد قيمته الأخلاقية، أي اعتبار الحسنِ موجباً لمدح فاعله واعتبار القبحِ موجباً لذمّه، سواء ورد فيه نصٌّ ديني أم لا.

أمَّا الوجهُ الثاني الذي يكشف الانفصالَ بين الشريعة والواقع، فهو الفصل التعسفي بين الأحكام الشرعية ومقاصدها، أو تحديد المقاصد فيما ذكره الأسلاف، من دون الأخذ بعينِ الاعتبار حقيقة كونِها اجتهادية وأنها قابلة للانكماش والتوسعِ أو حتى الاستبدال.

هذه إذن لمحة سريعة، وجدتها ضرورية لوضع رؤية د.رضوان في السياق الذي أراه مناسباً، وأحسب أنّي قد أوضحت الفكرة بما لا يحتاج إلى مزيدِ بيان.

***

د. توفيق السيف – كاتب وباحث سعودي

 

نوعية الأسئلة التي يطرحها العقل الجمعي تُخبرك أين نقف، وإلى أين نسير؟ في أعقاب إقدام أحد الشباب المصري على الانتحار من أعلى بُرج القاهرة، لم يكن السؤال المطروح: كيف تحوّل "الانتحار" إلى ظاهرة اجتماعية، تحتل مصر فيها المرتبة الأولى بين الدول العربية، والمرتبة السادسة عشرة عالمياً حيث تمّ تسجيل ٤٢٥٠ حالة انتحار العام الماضي؟

فتركنا سؤال الحاضر، وهو كيف نُواجه تلك الظاهرة؟ وعدنا إلى أسئلة الماضي التي نتجادل حولها منذ أكثر من ألف عام، فسيطر على وسائل التواصل الاجتماعي جدل حول: ما حكم مرتكب الكبيرة؟ هل المنتحر مُخلّد في النار لارتكابه كبيرة "قتل النفس" أم في منزلة بين المنزلتين أم مُعذّب إلى أجلٍ؟ هل هو كافر أم أمره إلى الله تعالى؟ متجاهلين أنّ تكليف الله تعالى للإنسان منوط بالعقل، فمتى اختلت السلامة العقلية بما في ذلك النفسية تعطّل التكليف المستوجب للحساب الذي هو في حقيقته عملية غيبية تتم من الله تعالى للمُكلَّف، ولا يملك إنسان أو ملاك أو شيطان أن يحسم هل ستخضع عملية المحاسبة لقواعد العدل أم لعوامل العفو الإلهي، أضف إلى ذلك أنّه ليس في مقدورنا أن نقطع بتحقق العقوبة الأخروية على ذنب مهما كانت بشاعته؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يأتيه الوحي قالها بوضوح: "أمره إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه".

وسورة "البروج" تحكي لنا جريمة بشعة في حقّ أطفال ونساء وشيوخ أُلقوا أحياء في حفرة طولية (أخدود) من النيران، ورغم أنّ الله تعالى توعّد الجُناة بالعذاب إلا أنّه استثنى منهم التائبين بقوله عزّ وجلّ: "إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا، فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ"، والأخبار في ذلك كثيرة. فإذا كان ما بعد الموت منطقة غيبية نعجز عن القطع بمصائر الراحلين إليها، فلماذا تأخذ هذا الحيز الجدلي في حياتنا!

انشغلنا بمحاكمة الموتى عن مساءلة الواقع، واكتفينا في تناول الظاهرة بالخطب والكلمات الرنانة، وانتظرنا من الفكر الديني بنبرته الوعظية وصوته المرتفع أن يقوم بمهمة البحث العلمي في قضايا ذات طبيعة اجتماعية نفسية معقّدة، تحتاج إلى عقلانية هادئة، وبحوث ميدانية تتعاطي من خلال بيانات ومؤشّرات إحصائية مع العوامل الواقعية التي تقف خلف الظاهرة. فإيجاد مشروع حضاري متوازن ومتكامل يحتاج إلى هياكل جادة للبحث العلمي في مختلف مجالات الدراسات الإنسانية، تحْظى بتمويل وتشجيع حكومي، والتزام مؤسسي بالعمل بنتائجها وتوصياتها؛ لإيجاد حلول ناجعة للمشاكل والهموم الاجتماعية.

لن نخترع العجلة من جديد؛ فالأعمال السوسيولوجيّة المتراكمة والمتتابعة تُمثّل مدخلاً نظرياً ومنهجياً مهماً في دراسة تلك الظاهرة التي شغلت عدداً من الباحثين بداية من "موريس هالبواش" ومروراً بـ "إميل دوركايم" صاحب كتاب "الانتحار"، وصولاً إلى الباحث المصري "مكرم سمعان" صاحب كتاب "مشكلة الانتحار" وغيرهم من الباحثين الذين رأوا الانتحار آفة تفتك بالأفراد، وتنخر في المجتمعات.

ويُعرف الانتحار بأنّه كلّ فعل يحدث بواسطة الضحية نفسها ويُؤدي إلى الموت بصفة مباشرة، مثل الارتماء تحت عجلات المترو، أو بصفة غير مباشرة مثل أن يُهمل الإنسان حالته الصحيّة، ويتعمد عدم معالجة مرض خطير يُؤدي تطوّره إلى الموت.

وقد استبعدت الدراسات المعاصرة أن يكون العامل الوراثي والأصل العنصري مسؤولاً عن تفسير تلك الظاهرة، فـ"الانتحار لا يُورث، ولا يتبع الخصائص الجينية للإنسان، وإنما ما يُورّث أو يُورَث هو بعض حالات الأمراض العقلية، وهي لا تُؤدي بالضرورة إلى الانتحار".

فالانتحار كغيره من الظواهر الاجتماعية تفسّره مجموعة من الأسباب النفسية والاجتماعية والمعطيات الثقافية المتداخلة، ففي دراسة مكرم سمعان الميدانية على الانتحار في المجتمع المصري، انتهى بعد قياس معدلات الظاهرة ومقارنة الإحصائيات إلى أنّ هناك عدّة عوامل تتدرج في مدى تأثيرها، وتُسهم في حدوث الانتحار، أولها، ويكاد أن يكون القاسم المشترك في حالات الانتحار والشروع فيها، "الشعور بالعزلة والاغتراب"، فهو العامل الأساسي الذي يعمل على تنمية الدوافع والميول الانتحارية، لما لهذا الشعور من آثار على اختلال الأنا وتدهور الشخصية بكاملها، والدخول في اضطرابات نفسية وعقلية، وهو ما أطلق عليه "دوركايم" اسم "الانتحار الأناني"، فنسب الانتحار ترتفع لدى الأفراد الذين لهم نزعة فردية مفرطة، مثل مَن تضعهم الظروف الاجتماعية في حالة انفصام للرابطة الأسرية بالطلاق أو الترمّل، فالمتزوجون من منظور "دوركايم" أقلّ انتحاراً من العزّاب، والأسرة التي فيها أبناء أقل انتحاراً من الأسرة التي لم تُنجب.. والأسرة الأكبر والأكثر عدداً أقلّ انتحاراً من غيرها الأصغر والأقل عدداً.

ويأتي في المرتبة الثانية بفارق طفيف الصراعات الاجتماعية التي منها الصراع بين الزوجين أو مع الرؤساء أو مع الوالدين، وما يُصاحب ذلك من توبيخ شديد، وشعور أحياناً بالدونية، وفي المرتبة الثالثة جاءت الصعوبات المعيشية بسبب البطالة وتراكم الديون بكثرة، وتدهور الدّخل بصورة عامة، وهذا النوع من الانتحار يُسميه "دوركايم" باللامعياري، ويرتبط بالأزمات الاقتصادية حيث ينعدم التوازن بين الطموحات والإمكانيات، فالإنسان لا يستطيع العيش والبقاء على قيد الحياة بشكل سليم ومقبول إلا عندما يكون هناك توافق بين الضرورات أو الحاجيات من ناحية والإمكانيات أو الوسائل من ناحية أخرى.

وانتهى سمعان في دراسته إلى أنّ العلاج النافع الواقي من ارتفاع نسب الانتحار في المجتمعات المعاصرة يأتي من خلال دمج الأفراد في العمل والجماعات المهنية، فالاندماج في الحياة الاجتماعية من العوامل الأساسية التي تحمى الأفراد من الأمراض الاجتماعية والأزمات، كما أنّه يُساهم في إرساء تماسك وترابط اجتماعي مبني على الأخلاق والقيم الجماعية، فانخراط الفرد في جماعة العمل المهنية يُحقق ذاته، ويقوّى شعوره بالانتماء، ويدعم ويوسع روابطه الاجتماعية؛ فالانعزال أو ضعف الاندماج في الجماعة يجعل الفرد ضعيفاً، وغير قادر على التّغلب بمفرده على المشاكل التي قد تعترضه أثناء مباشرته لتكاليف ومشاغل الحياة.

أخيراً الحياة السويّة قائمة على الانتظام والانخراط في الجماعات المجتمعية من أسرة وجامعة وجماعة العمل وحراك مجتمعي مع مختلف المؤسسات التي تعمل في إطار المجتمع المدني كالجمعيات العلمية منها والحقوقية والإنسانية والخيرية والثقافية والأدبية.. فإضعاف الدولة لدور تلك المؤسسات الاجتماعية وتهميشها من جانب، وخوف الأسر على أبنائها من الاندماج في المجتمع الخارجي والعمل على عزله، وخوْض غمار الحياة نيابةً عنه، من جانب آخر، هو المسؤولٌ عن الضعف النفسي والاجتماعي الذي يعيشه البعض والذي قد يُؤدي بهم إلى الانتحار.

***

د. عبد الباسط هيكل – مصر

بقلم: ألكسندر تي إنجلرت

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

كان عالم المنطق العبقرى كورت جودل يؤمن بالحياة الآخرة. وفي أربع رسائل صادقة إلى والدته شرح السبب، باعتباره أعظم منطقي في القرن العشرين، يشتهر كورت جودل* بمبرهنتيّ عدم الاكتمال ومساهماته في نظرية المجموعات، التي غيرت منشوراته مسار الرياضيات والمنطق وعلوم الكمبيوتر. عندما حصل على جائزة ألبرت أينشتاين تقديرًا لهذه الإنجازات في عام 1951، ألقى عالم الرياضيات جون فون نيومان خطابًا وصف فيه إنجازات جودل في المنطق والرياضيات بأنها مهمة للغاية لدرجة أنها"ستظل مرئية بعيدًا في المكان والزمان". وعلى النقيض من ذلك، تظل وجهات نظره الفلسفية والدينية مخفية عن الأنظار. كان جودل يتحدث عن هذه الأمور بشكل خاص، ولم ينشر شيئًا عن هذا الموضوع خلال حياته. وبينما كان العلماء يتصارعون مع دليله الوجودي على وجود الله، والذي وزعه بين أصدقائه في نهاية حياته، فإن المبادئ الأخرى لنظام معتقداته لم تحظ بأي نقاش مهم. أحد هذه الاعتقادات هو اعتقاد جودل بأننا ننجو من الموت.

لماذا كان يؤمن بالحياة الآخرة؟ ما هي الحجة التي وجدها مقنعة؟ اتضح أن الإجابة الكاملة تقريبا على هذه الأسئلة مدفونة في أربع رسائل طويلة كتبها إلى والدته، ماريان جودل، في عام 1961، والتي ذكر لها أنه من المقدر لهما أن يلتقيا مرة أخرى في الحياة الآخرة.3609 كورت

كورت وماريان جودل في الصورة معًا عام 1964. حقوق الصورة لمكتبة مدينة فيينا.

قبل استكشاف آراء جودل حول الحياة الآخرة، أريد أن أتعرف على والدته باعتبارها البطلة الصامتة في القصة. على الرغم من أن معظم رسائل جودل متاحة للجمهور عبر الأرشيف الرقمي لـ Wienbibliothek im Rathaus (مكتبة مدينة فيينا)،، إلا أنه من غير المعروف أن أيًا من رسائل والدته قد بقيت. ولا نملك سوى طرف حواره من محادثتهما، ومن ثم لم يبق لنا سوى استنتاج ما قالته من ردوده. وهذا يخلق غموضًا عند قراءة رسائله، كما لو أن المرء قد حصل على حوار أفلاطوني مع إزالة جميع السطور، باستثناء تلك التي نطق بها سقراط.على الرغم من أننا نفتقر إلى كلماتها الخاصة، إلا أننا ندين بالامتنان لماريان جودل. لأنه لولا فضولها واستقلاليتها في الفكر، لكان لدينا مورد واحد قليل وضعيف لفهم فلسفة ابنها الشهير.

بفضل سؤال ماريان المباشر حول إيمان جودل بالحياة الآخرة، حصلنا على وجهات نظره الناضجة حول هذه المسألة. طلبت منه ذلك في عام 1961، عندما كان في أعلى مستوياته الفكرية ويفكر بشكل موسع في الموضوعات الفلسفية في معهد الدراسات المتقدمة (IAS) في برينستون، نيوجيرسي، حيث كان أستاذًا متفرغًا منذ عام 1953 وعضو دائم منذ عام 1946. لقد أجبرت طبيعة التبادل جودل على تقديم وجهات نظره بالتفصيل بطريقة شاملة وسهلة المنال. ونتيجة لذلك، أصبح لدينا (مع بعض المكملات) ما يعادل حجة جودل الكاملة للإيمان بالحياة الآخرة، والتي تهدف عمدا إلى الإجابة بشكل شامل على أسئلة والدته، والتي تظهر في سلسلة الرسائل إلى ماريان من يوليو إلى أكتوبر 1961. في حين أن دفاتر ملاحظات جودل الفلسفية غير المنشورة تمثل مساحة قام فيها بتطوير وجهات نظره واختبارها من خلال الأمثال والتعليقات المختصرة في كثير من الأحيان، أراد جودل أن تكون هذه الرسائل مفهومة وتوفر إجابة محددة للبحث الجاد. ولأن المراسلات كانت خاصة، فإنه لم يشعر بالحاجة إلى إخفاء آرائه الحقيقية، وهو ما كان من الممكن أن يفعله في الأوساط الأكاديمية رسمية وبين زملائه في الأكاديمية الدولية للعلوم.3610 كورت

تم تصوير ألبرت أينشتاين وكورت جودل في IAS من قبل الاقتصادي أوسكار مورجنسترن في عام 1948.

وروى مورجنسترن كيف أسر أينشتاين بأن «عمله الخاص لم يعد يعني الكثير، وأنه جاء إلى المعهد فقط... ليحظى بشرف العودة إلى المنزل مع جودل». الصورة مقدمة من مركز أرشيفات شيلبي وايت وليون ليفي، IAS، برينستون، نيوجيرسي، الولايات المتحدة الأمريكية.

في رسالة بتاريخ 23 يوليو 1961، كتب جودل: "في رسالتك السابقة، طرحت السؤال الصعب حول ما إذا كنت أؤمن بـ Wiedersehen". كلمة Wiedersehen تعني "أن أرى مرة أخرى". وبدلاً من المصطلحات الرسمية الفلسفية مثل «الخلود» أو «الحياة الآخرة»، يضفي هذا المصطلح على التبادل صفة حميمة. بعد هجرته من النمسا إلى الولايات المتحدة في عام 1940، لم يعد جودل أبدًا إلى أوروبا، مما اضطر والدته وشقيقه إلى أخذ زمام المبادرة لزيارته، وهو ما فعلاه لأول مرة في عام 1958. ونتيجة لذلك، يمكن للمرء أن يشعر هنا بما كان يجب أن يكون شوقًا عميقًا إلى لم شمل دائم من جانب والدته، ويتساءل عما إذا كانت ستقضي قدرًا كبيرًا من الوقت مع ابنها مرة أخرى. وكانت إجابة جودل على سؤالها إيجابية بشكل لا يتزعزع. وحجته في الإيمان بالآخرة هي:

إذا كان العالم منظمًا بشكل عقلاني ومنطقي، فيجب أن يكون كذلك. لأنه ما هو المعنى الذي قد ينشأ من ولادة كائن (الإنسان) يتمتع بهذا المجال الواسع من إمكانيات التطوير الشخصي والعلاقات مع الآخرين، عندها فقط نسمح له بتحقيق ما لا يقل عن 1/1000 منها؟

ويعمق السؤال البلاغي في النهاية باستعارة من يضع حجر الأساس لبيت ثم يبتعد عن المشروع ويضيعه. يعتقد جودل أن مثل هذا التبذير مستحيل لأن العالم، كما يصر، يعطينا سببًا وجيهًا لاعتباره منظمًا وذا معنى. ومن ثم، فإن الإنسان الذي لا يستطيع تحقيق سوى إنجاز جزئي في حياته، يجب أن يسعى إلى التحقق العقلاني من هذا النقص في عالم المستقبل، عالم تتجلى فيه إمكاناتنا.

آراؤه مستنيرة وانتقادية، وإن كانت مشبعة بالتفاؤل.

قبل المضي قدمًا، من الجيد أن نتوقف مؤقتًا ونلخص حجة جودل باختصار. بافتراض أن العالم منظم بشكل عقلاني، فإن الحياة البشرية – كما هي جزء لا يتجزأ من العالم – يجب أن تمتلك نفس البنية العقلانية. لدينا أسباب لافتراض أن العالم منظم بشكل عقلاني. ومع ذلك، فإن حياة الإنسان منظمة بشكل غير عقلاني. إنها مكونة من إمكانات كبيرة ولكنها لا تعبر أبدًا عن هذه الإمكانات بشكل كامل في الحياة. ومن ثم، يجب على كل واحد منا أن يحقق إمكاناته الكاملة في عالم المستقبل. السبب يتطلب ذلك.

دعونا نتوقف أولاً عند الفرضية الأساسية للحجة، وهي الادعاء بأن العالم والحياة البشرية، كجزء منه، يُظهران نظامًا عقلانيًا. على الرغم من أنه ليس موقفًا غير معتاد في تاريخ الفلسفة، إلا أنه قد يبدو من الصعب في كثير من الأحيان التوافق مع ما نلاحظه. وحتى لو كنا كائنات عقلانية، فإن التاريخ البشري كثيرًا ما يُكذب هذه الحقيقة. كان النصف الأول من عام 1961 - الذي تخلل خلفية وعي جودل - مليئًا بتوترات الحرب الباردة المتزايدة، والعنف الذي استهدف المتظاهرين السلميين خلال حركة الحقوق المدنية،والمعاناة من أحداث عشوائية مثل فقدان فريق التزلج على الجليد الأمريكي بأكمله في حادث تحطم طائرة. ويبدو أن الحماقة واللاعقلانية في الشؤون الإنسانية هي القاعدة التاريخية وليست الاستثناءوكما يقول الملك لير فى مسرحية شكسبير لجلوسيستر عندما يشرح "كيف يسير هذا العالم"، يبدو أن الاستنتاج هو: "عندما نولد، نبكي لأننا وصلنا إلى هذه المرحلة العظيمة من الحمقى".

ومع ذلك، سيكون من الخطأ الاعتقاد بأن جودل كان ساذجًا في إصراره على أن العالم عقلاني. وفي نهاية رسالة مؤرخة في 16 يناير 1956، أكد أن "هذا عالم غريب". وتظهر مناقشاته في مراسلاته مع والدته أنه كان على اطلاع دائم بالموضوعات السياسية والأحداث العالمية. في رسائله، كانت آراؤه مستنيرة ونقدية، وإن ظلت مشبعة بالتفاؤل.

الأمر المثير، وربما الفريد، في حجته بشأن الحياة الآخرة هو حقيقة أنها تعتمد في الواقع على اللاعقلانية الحتمية للحياة البشرية في عالم مشبع بالعقل. إن انتشار المعاناة الإنسانية في كل مكان وإخفاقاتنا الحتمية هو على وجه التحديد هو ما أعطى جودل يقينه بأن هذا العالم لا يمكن أن يكون نهايتنا. كما لخص بدقة في الرسالة الرابعة إلى والدته:

ما أسميه رؤية لاهوتية للعالم هو وجهة النظر القائلة بأن العالم وكل شيء فيه له معنى وعقل، وهو في الواقع معنى جيد لا يقبل الشك. ويترتب على ذلك على الفور أن وجودنا الأرضي – بما أن له في حد ذاته معنى مشكوكًا فيه على الأكثر – يمكن أن يكون وسيلة لتحقيق غاية لوجود آخر.

ولأن حياتنا على وجه التحديد تتكون من إمكانات غير غير محققة أو متساهلة، فهو مقتنع بأن هذه الحياة ليست سوى مرحلة لأشياء قادمة. لكن مرة أخرى، لن يكون هذا ممكنًا إلا إذا تم تنظيم العالم بشكل عقلاني.

إذا كانت البشرية وتاريخها لا يظهران نظامًا عقلانيًا، فلماذا نعتقد أن العالم عقلاني؟ تُظهر الأسباب التي قدمها لوالدته في الرسائل ميوله العقلانية واعتقاده بأن العلوم الطبيعية تفترض مسبقًا أن الوضوح أمر أساسي للواقع. كما كتب في رسالته المؤرخة في 23 يوليو 1961:

هل لدى المرء سبب للاعتقاد بأن العالم منظم بشكل عقلاني؟ أعتقد ذلك. لأنه ليس فوضويًا واعتباطيًا على الإطلاق، بل – كما يوضح العلم الطبيعي – يسود في كل شيء أعظم قدر من الانتظام والنظام. النظام هو في الواقع شكل من أشكال العقلانية.

يعتقد جودل أن العقلانية واضحة في العالم من خلال البنية العميقة للواقع. يوضح العلم كمنهج ذلك من خلال افتراضه المصدق بأن النظام الواضح يمكن اكتشافه في العالم، ويمكن التحقق من الحقائق من خلال تجارب قابلة للتكرار، ويتم الحصول على النظريات في مجالاتها الخاصة بغض النظر عن مكان وزمان اختبارها.

هذه هي النتيجة التي هزت المجتمع الرياضي في جوهره

في الرسالة المؤرخة في 6 أكتوبر 1961، يشرح جودل موقفه: "إن فكرة أن كل شيء في العالم له معنى هي بالمناسبة التماثل الدقيق للمبدأ القائل بأن كل شيء له سبب يرتكز عليه العلم بأكمله." كان جودل - تمامًا مثل جوتفريد فيلهلم لايبنتز، الذي كان يقدسه - يعتقد أن كل شيء في العالم له سبب لكونه كذلك وليس غير ذلك. (في المصطلحات الفلسفية: يتوافق مع مبدأ العقل الكافي). وكما عبر عن ذلك لايبنتز شعرياً في كتابه مبادئ الطبيعة والنعمة، استناداً إلى العقل (1714): الحاضر حامل بالمستقبل؛ يمكن قراءة المستقبل في الماضي؛ يتم التعبير عن البعيد بالقريب. » من خلال البحث عن المعنى نجد أن العالم قابل للقراءة بالنسبة لنا. ومن خلال الاهتمام نجد أنماطًا من الانتظام تسمح لنا بالتنبؤ بالمستقبل. بالنسبة لجودل، كان العقل واضحًا في العالم لأن هذا النظام قابل للاكتشاف.

على الرغم من عدم ذكره، إلا أن إيمانه بالحياة الآخرة متشابك أيضًا مع نتائج نظريات عدم الاكتمال والأفكار ذات الصلة بأسس الرياضيات. اعتقد جودل أن البنية العميقة والعقلانية للعالم ووجود الروح بعد الوفاة يعتمدان على زيف المادية، وجهة النظر الفلسفية القائلة بأن كل الحقيقة تتحدد بالضرورة من خلال الحقائق المادية. في ورقة بحثية غير منشورة تعود إلى عام 1961 تقريبًا، أكد جودل أن "المادية تميل إلى اعتبار العالم كومة من الذرات غير منظمة، وبالتالي لا معنى لها". ويترتب على ذلك أيضًا من المادية أن أي شيء لا يرتكز على الحقائق الفيزيائية يجب أن يكون بلا معنى وواقع. ومن ثم، فإن الروح غير المادية لا يمكن اعتبارها تمتلك أي معنى حقيقي. يتابع جودل: "بالإضافة إلى ذلك، يبدو الموت بالنسبة [للمادية] بمثابة الفناء النهائي والكامل." لذا فإن المادية تتناقض مع حقيقة أن الواقع يتكون من نظام شامل للمعنى، بالإضافة إلى وجود روح غير قابلة للاختزال في المادة المادية. على الرغم من العيش في العصر المادي، كان جودل مقتنعًا بأن المادية زائفة، واعتقد كذلك أن نظرياته حول عدم الاكتمال أظهرت أنها غير محتملة إلى حد كبير.

أثبتت نظريات عدم الاكتمال (بشكل عام) أنه بالنسبة لأي نظام رسمي ثابت (على سبيل المثال، رياضي ومنطقي)، ستكون هناك حقائق لا يمكن إثباتها داخل النظام من خلال البديهيات وقواعد الاستدلال الخاصة به ومن ثم فإن أي نظام ثابت سيكون حتماً غير مكتمل. سوف تكون هناك دائماً حقائق معينة في النظام والتي تتطلب، على حد تعبير جودل، "بعض أساليب الإثبات التي تتجاوز النظام". ومن خلال برهانه، أثبت بمعايير رياضية لا تقبل الشك أن الرياضيات في حد ذاتها لا حصر لها وأن الاكتشافات الجديدة ستكون ممكنة دائماً. . هذه هي النتيجة التي هزت المجتمع الرياضي في جوهره.

وبضربة واحدة، أنهى هذا الهدف هدفًا رئيسيًا للعديد من علماء الرياضيات في القرن العشرين، مستلهمين ديفيد هيلبرت، الذي سعى إلى إثبات اتساق كل حقيقة رياضية من خلال نظام محدود من الإثبات. أظهر جودل أنه لا يوجد نظام رياضي رسمي يمكنه أن يفعل ذلك أو يثبت بشكل قاطع بمعاييره الخاصة أنه خالٍ من التناقض. والرؤى حول هذه الأنظمة - على سبيل المثال، أن بعض المشاكل فيها غير قابلة للاكتشاف حقًا - تصبح واضحة لنا من خلال التفكير المنطقي. ومن هذا المنطلق، استنتج جودل أن العقل البشري يتجاوز أي نظام رسمي محدود من البديهيات وقواعد الاستدلال.

فيما يتعلق بالآثار الفلسفية لنظريات عدم الاكتمال، اعتقد جودل أن النتائج تمثل معضلة إما/أو (تم توضيحها في محاضرة جيبس عام 1951). إما أن يقبل أحدهما أن "العقل البشري (حتى في عالم الرياضيات البحتة) يتفوق بلا حدود على قوى أي آلة محدودة"، ويترتب على ذلك أن العقل البشري غير قابل للاختزال في الدماغ، الذي "يبدو في كل المظاهر آلة محدودة". مع عدد محدود من الأجزاء، وهي الخلايا العصبية واتصالاتها. أو يفترض المرء أن هناك مشكلات رياضية معينة من النوع المستخدم في نظرياته، وهي "غير قابلة للحل على الإطلاق". إذا كان الأمر كذلك، فمن الممكن "دحض وجهة النظر القائلة بأن الرياضيات هي من صنعنا فقط. وبالتالي، فإن الأشياء الرياضية لها واقع موضوعي خاص بها، مستقل عن عالم الحقائق الفيزيائية، “التي لا يمكننا خلقها أو تغييرها، ولكننا فقط ندركها ونصفها”. وهذا ما يسمى الأفلاطونية حول حقيقة الحقائق الرياضية. ومما يثير استياء الماديين أن كلا التبعات المترتبة على المعضلة "تتعارض تمامًا مع الفلسفة المادية". والأسوأ من ذلك بالنسبة للمادي هو أن جودل يشير إلى أن الانفصال ليس حاسما . ومن الممكن أن تكون كلتا النتيجتين صحيحين في ذات الوقت .

كيف يرتبط هذا بوجهة نظر جودل بأن العالم عقلاني وأن الروح تنجو من الموت؟ إن نظريات عدم الاكتمال ومضامينها الفلسفية لا تثبت أو تبين بأي حال من الأحوال أن النفس تنجو من الموت مباشرة. ومع ذلك، اعتقد جودل أن نتائج النظرية وجهت ضربة قوية للنظرة المادية للعالم. إذا كان العقل غير قابل للاختزال إلى الأجزاء المادية من الدماغ، والرياضيات تكشف عن بنية يمكن الوصول إليها عقلانيا تتجاوز الظواهر الفيزيائية، فلابد من البحث عن رؤية عالمية بديلة أكثر عقلانية وانفتاحا على الحقائق التي لا يمكن تجربتها بالحواس. مثل هذا المنظور يمكن أن يدعم عالمًا منظمًا عقلانيًا ويكون منفتحًا على إمكانية الحياة بعد الموت.

لنفترض أننا - المتشائمون والجميع كذلك- نقبل أن العالم، بهذا المعنى العميق، عقلاني. لماذا نفترض أن البشر يستحقون أي شيء يتجاوز ما يحصلون عليه في هذه الحياة؟يمكننا أن نخمن أن شيئًا مشابهًا أزعج والدته. يقول جودل في الجزء اللاهوتي من رسالته التالية: "عندما تكتبين أنك تصلين إلى الخليقة، فربما تقصدين أن العالم جميل في كل مكان حيث لا يستطيع البشر الوصول إليه، وما إلى ذلك." هنا،ربما تكون ماريان قد وافقت هنا على أن الكثير في الخليقة يبدو منظمًا، لكنها تحدت الافتراض القائل بأن الواقع برمته منظم على هذا النحو، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالبشر. هل يجب على العالم كله أن يكون عقلانيا؟ أو ربما يكون البشر مجرد انحرافات غير عقلانية عن نظام عقلاني آخر؟

يكشف رد جودل عن فروق دقيقة إضافية في موقفه. في رسالته الأولى، أشار جودل بشكل فضفاض إلى "مجال واسع من الإمكانيات" الذي كان لا يزال غير متطور ولكنه يحتاج إلى الكمال. وفي رسائله اللاحقة يشرح بالتفصيل ما الذي يتطلب استمرار وجود الإنسانية، أي ما هو ضروري للإنسانية.

من المهم أولًا أن نشرح ما يعنيه جودل بخاصية «جوهرية». لدينا، بالطبع، العديد من الخصائص. لدي القدرة، على سبيل المثال،أن أحدد هويتى (أنا لست أنت)، وأن أكون مواطنًا أمريكيًا، وأن أستمتع بنوع الرعب. على الرغم من عدم وجود إجماع حول كيفية فهم استخدام جودل لكلمة "جوهري"، إلا أن برهانه الوجودي لوجود الله يتضمن تعريفًا لما يعنيه بخاصية جوهرية. ووفقا لهذا التعريف، تكون الخاصية ضرورية لشيء ما إذا كانت مرتبطة بالضرورة ببقية خصائصه، بحيث إذا امتلك الشخص هذه الخاصية، فإنه بالضرورة يمتلك جميع خصائصه الأخرى. ويترتب على ذلك أن كل فرد لديه جوهر متفرد، أو كما يشير جودل في مسودة الإثبات المكتوبة بخط اليد: "أي جوهرين لـ X لا يمكن تحديدهما". [كذا] مكافئ.‘ اعتقد جودل، مثل لايبنتز، أن كل فرد يمتلك جوهرًا فريدًا يمكن تحديده.

إنها قدرة الإنسان على التعلم من أخطائه بطريقة تعطي للحياة معنى أكبر

في الوقت نفسه، حتى لو تم تعريف الجوهر في الدليل على أنه خاص بالفرد، فهناك دليل على أن جودل يعتقد أن الجواهر يمكن أيضًا أن تكون خاصة بالنوع. كان يعتقد أن جميع البشر مقدر لهم الحياة الآخرة لأنهم جميعًا يشتركون في الخصائص بحكم كونهم بشرًا. هناك مجموعات من الخصائص الضرورية التي ترتبط ببعضها البعض وتعتمد على بعضها البعض، بحيث أن امتلاك هذه المجموعة يعني أن شيئًا ما هو نوع الشيء الذي هو عليه. في برهانه الوجودي، على سبيل المثال، يعرّف الكائن "الشبيه بالله" بأنه كائن يجب أن يمتلك كل خاصية إيجابية. أما بالنسبة للبشر، فأنا إنسان بحكم امتلاكي مجموعة محددة من الخصائص التي يمتلكها جميع البشر بالضرورة، والتي على الأقل بعضها فريد تمامًا بالنسبة لنا (تمامًا كما أن كائنًا شبيهًا بالله هو وحده الذي يمكن أن يمتلك خاصية امتلاك كل خاصية إيجابية).

في رسالة جودل بتاريخ 12 أغسطس 1961، يشير إلى السؤال الحاسم، الذي غالبًا ما يتم التغاضي عنه: "نحن لا نعرف فقط من أين ولماذا نحن هنا، ولكننا أيضًا لا نعرف من نحن (أي في الجوهر وكيف نرى من الداخل) ثم يشير جودل إلى أنه إذا كنا قادرين على التمييز باستخدام «الطرق العلمية للملاحظة الذاتية»، فسوف نكتشف أن كل واحد منا لديه «خصائص محددة تمامًا». يشير جودل مازحًا في نفس الرسالة إلى أن معظم الأفراد يعتقدون عكس ذلك: "وفقًا للمفهوم الشائع، سيتم الرد على سؤال "من أنا" بحيث أكون شيئًا ليس له أي خصائص على الإطلاق في حد ذاته، شيء على غرار رف المعاطف الذي يمكن للمرء أن يعلق عليه أي شيء يريده." أي أن معظم الناس يفترضون أنه لا يوجد شيء أساسي في الإنسان، وأنه يمكن للمرء أن ينسب إلى الإنسانية أي صفة اعتباطية. ومع ذلك، بالنسبة لجودل، فإن مثل هذا المفهوم يقدم صورة مشوهة للواقع - لأنه إذا لم تكن لدينا خصائص أساسية محددة للنوع، فعلى أي أساس يمكن أن يبدأ تصنيف وتحديد شيء ما باعتباره شيئًا؟

إذن، ما هي الخاصية الإنسانية التي تشير بشكل أساسي إلى مصير يتجاوز هذا العالم؟ إجابة جودل: قدرة الإنسان على التعلم، وعلى وجه التحديد القدرة على التعلم من أخطائنا بطريقة تعطي للحياة معنى أكبر. بالنسبة لجودل، هذه الخاصية ترتبط بالضرورة مع خاصية العقلانية. وبينما يعترف بأن الحيوانات والنباتات يمكن أن تتعلم من خلال التجربة والخطأ لاكتشاف وسائل أفضل لتحقيق غاية ما، إلا أن هناك فرقًا نوعيًا بين الحيوانات والبشر الذين يمكن للتعلم بالنسبة لهم أن يرفع المرء إلى مستوى أعلى من الفهم. هذا هو جوهر منطق جودل في نسبة الخلود إلى البشر. في رسالة 14 أغسطس 1961، كتب جودل:

الإنسان وحده هو الذي يمكنه الوصول إلى حياة أفضل من خلال التعلم، أي إعطاء حياته معنى أكبر.إن الطريقة الوحيدة للتعلم، وغالبًا ما تكون الطريقة الوحيدة، هي القيام بشيء خاطئ في المرة الأولى. وبالطبع يحدث ذلك بكثرة في هذا العالم.

إن حماقة البشر المذكورة أعلاه تتوافق تمامًا مع الإيمان بعقلانية العالم. في الواقع، يوفر حماقة العالم المزعومة بيئة مثالية لتعلم وتطوير عقلنا من خلال التأمل في عيوبنا، ولحظات معاناتنا،وميلنا البشري الشديد إلى الاستسلام لميولنا الأكثر دناءة. إن التعلم وفق مفهوم جودل لا يتعلق بقدرتنا على تحسين الوسائل التقنية لتحقيق غايات معينة. بل إن هذا المفهوم المميز للتعلم هو قدرة البشرية على أن تصبح أكثر حكمة. ربما أتعلم، على سبيل المثال، أن أكون صديقًا أفضل بعد خسارة صديق ما بسبب سلوك أناني، وقد أتعلم تقنيات التفكير الإبداعي في النهج النظري بعد نكسات تجريبية متعددة. وبعبارة أخرى، فإن السمة الأساسية لكوننا بشرًا هي أننا نميل إلى تطوير عقولنا من خلال التعلم المناسب. نحن لا نتعلم طرقًا جديدة للقيام بالأشياء فحسب، بل نكتسب المزيد من المعنى لحياتنا في نفس الوقت من خلال التفكير في دروس أعمق تم اكتشافها عبر ارتكاب الأخطاء.

كل هذا قد يقود المرء إلى استنتاج أن جودل يؤمن بتناسخ الأرواح. لكن هذا سيكون أمرا متسرعا، على الأقل وفقا لمفاهيم معيارية معينة عنه. إحدى السمات المثيرة للاهتمام في رؤية جودل اللاهوتية للعالم هي اعتقاده بأن نمونا إلى كائنات عقلانية تمامًا لا يحدث كتجسيدات جديدة في هذا العالم، بل في عالم مستقبلي متميز:

على وجه الخصوص، يجب على المرء أن يتخيل أن "التعلم" يحدث في جزء كبير منه أولاً في العالم الالآتى، أي أننا نتذكر تجاربنا من هذا العالم ونتوصل إلى فهمها حقًا لأول مرة، بحيث تكون تجاربنا الدنيوية هي – إذا جاز التعبير – فقط المادة الخام للتعلم.

ويشرح أكثر:

علاوة على ذلك، يجب على المرء بالطبع أن يفترض أن فهمنا سيكون أفضل بكثير هناك منه هنا، حتى نتمكن من التعرف على أي شيء مهم بنفس اليقين المعصوم من الخطأ مثل 2 × 2 = 4، حيث يكون الخداع مستحيلًا موضوعيًا.

ولذلك يجب أن يكون العالم الآتي هو الذي يحررنا من حدودنا الأرضية الحالية. بدلًا من العودة إلى جسد أرضي آخر، يجب أن نصبح كائنات لديها القدرة على التعلم من الذكريات التي نحملها معنا سرًا إلى مستقبلنا، إلى حالة أعلى من الوجود.

إن الاعتقاد بأن جوهرنا هو أن نصبح شيئًا أكثر مما نحن عليه هنا يفسر سبب انجذاب جودل إلى فقرة معينة في رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل كورنثوس، والتي اكتشفتها عندما كنت أتصفح مكتبته الشخصية في أرشيفات الجمعية الدولية للعلوم.في طبعة لاتينية بحجم الجيب للعهد الجديد، كتب جودل في أعلى صفحة العنوان بقلم رصاص خفيف: "ص. 374. بعد هذه الإشارة، ننتقل إلى الفصل 15 من رسالة القديس بولس حيث وضع جودل الآيات من 33 إلى 49 بين قوسين مربعين ورسم سهمًا إلى آية واحدة على وجه الخصوص. في الآيات التي بين قوسين يصف القديس بولس قيامتنا الجسدية. باستخدام استعارة المحاصيل،، يقول القديس بولس أنه يجب تدمير البذور المزروعة لكي تنمو لتصبح النباتات التي من طبيعتها أن تصبح نباتات. ويشير إلى أن الأمر سيكون هو نفسه معنا.إن حياتنا وأجسادنا في هذه الحياة ليست سوى بذور، تنتظر تدميرها، وبعد ذلك سننمو إلى حالتنا النهائية من الوجود. رسم جودل سهمًا يشير إلى الآية 44 لتسليط الضوء عليها: "يُزرع في الضعف ويُقام في القوة". "يُزرع جسدًا ماديًا، ويُقام جسدًا روحانيًا." بالنسبة لجودل، من الواضح أن القديس بولس قد وصل إلى النتيجة الصحيحة، وإن كان ذلك من خلال الرؤية النبوية بدلاً من التفكير العقلاني.

لقد تركنا إلى حد كبير لنتساءل عن رد فعل ماريان على آراء ابنها حول الآخرة، رغم أنه من المؤكد أنها كانت في حيرة. في الرسالة المؤرخة في 12 سبتمبر 1961، أكد جودل لوالدته أن ارتباكها بشأن منصبه لا علاقة له بعمرها بل يتعلق أكثر بتفسيراته الموجزة. وفي الرسالة الأخيرة، بتاريخ 6 أكتوبر 1961، اعترض جودل على الادعاء بأن آرائه تشبه "السحر والتنجيم". فهو يصر، على العكس من ذلك، على أن وجهات نظره لا علاقة لها بأولئك الذين يستشهدون فقط بالقديس بولس أو يستمدون الرسائل مباشرة من الملائكة. وهو يعترف بالطبع بأن وجهات نظره قد تبدو "غير محتملة" للوهلة الأولى، لكنه يصر على أنها "ممكنة وعقلانية" للغاية. في الواقع، لقد وصل إلى موقفه من خلال الاستدلال وحده، ويعتقد أن قناعاته ستظهر في النهاية أنها "متوافقة تمامًا مع جميع الحقائق المعروفة".وفي هذا السياق يقدم أيضًا دفاعًا عن الدين، معترفًا بالجوهر العقلاني له، والذي يدعي أنه كثيرًا ما يسيء إليه الفلاسفة وتقوضه المؤسسات الدينية السيئة:

ملحوظة: لا يساعد منهج الفلسفة الحالي كثيرًا في فهم مثل هذه الأسئلة حيث أن 90% من الفلاسفة المعاصرين يرون أن هدفهم الأساسي هو إخراج الدين من رؤوس الناس، وبالتالي يعملون مثل الكنائس السيئة.

سواء أقنع هذا ماريان أم لا، لا يسعنا إلا أن نخمن.

بالنسبة لأولئك منا الذين ما زالوا على قيد الحياة في هذا العالم، فإن حجة جودل تعطينا رؤية رائعة حول السبب الذي قد يجعلنا نستمر في الوجود بعد التخلص من هذا الملف الفاني. وفي الواقع، فإن خطابه يتوهج بالتفاؤل بأن حياتنا المستقبلية، إذا أردنا إرضاء العقل، يجب أن تكون حياة نعظم فيها بعض الصفات الإنسانية الأساسية التي لا تزال في حالة هشة هنا. سيكون مستقبلنا أكثر ذكاءً وقدرة بطريقة أو بأخرى على فهم المادة الخام للمعاناة التي نعيشها في هذه الحياة. هل يمكننا أن نفترض أن كورت وماريان قد تم لم شملهما الآن؟ لنأمل ذلك.

(انتهى)

***

...........................

* ألكسندر تي إنجلرت/ Alexander T. Englert: باحث مشارك في معهد الدراسات المتقدمة في برينستون، نيوجيرسي. وهو يبحث في كانط وهيجل والتقاليد المثالية الألمانية، وكذلك الأخلاق ونظرية المعرفة والدين.

* كورت جودل: (28 أبريل 1906 - 14 يناير 1978) منطقي ورياضياتي وفيلسوف. ولد في برون في مورافيا في ما كان يعرف باسم نمسا-المجر. بعد تفكُك تلك المملكة أصبح غودل تشيكيا في عمر 12، ثم أصبح نمساوياً في عمر 23 وبدخول هتلر إلى النمسا وضمها إلى ألمانيا أصبح غودل مواطِناً ألمانيا في عمر 32. بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، سافر غودل إلى الولايات المتحدة حيث أصبح مواطِناً أمريكياً وعمرهُ اثنان وأربعون عاماً. من أهم إنجازاته مبرهنات عدم الاكتمال.

سألني أحد طلبة الإعلام يوماً: هل يمكنكَ مساعدتي على كتابة مقال صحفي؟ فأجبته بلطف معتذراً لن أتمكن من ذلك!. والحق أنني لم أكن أقصد القساوة في رده، أو البخل في تعليمه، أو بث اليأس في نفسه، إنما هذه هي الحقيقة التي اردت من خلالها أفهامه أن فن المقال لا يشبه بقية الفنون الصحفية التي تتحصل بالتعليم النظري والتطبيق العملي، ذلك لأنه مرتبط بالموهبة أولاً، وبثقافة الكاتب المتأتية من قراءاته المتنوعة ومطالعاته في شتى أنواع المعارف والعلوم والآداب ثانياً، والأهم من ذلك كله المثابرة التي تحافظ على الموهبة وتنميها، والصبر على طول التجارب حتى يتبلور الأسلوب الذي يمنح كل كاتب ملامحه وبصمته وهويته.

حكى لي أحد الزملاء ممن ترأسوا قسماً للإعلام في احدى الكليات الأهلية، أنه أراد أن يختبر طلبته في أولى محاضراته، وأن يتعرف على مستوياتهم الثقافية التي دفعتهم للتقديم إلى هذا القسم دون غيره، قياساً على ما كان عليه هو وأقرانه من الطلبة قبل خمسين عاماً، فسألهم عن دوستويفسكي هل سمعوا به؟ فلم يجبه أحداً منهم، فتنازل قليلاً، ليسألهم من هو نجيب محفوظ ؟، فحاروا جواباً، ثم تنازل أكثر ليسألهم، ماذا تعرفون عن جواد سليم؟ فتلاقت الأعين بالأعين والآذان بالآذان بحثاً عن الجواب المفقود!. كان هذا الزميل يقيس الأمور على مقاييس زمانه، يوم كان المتقدم لدراسة الإعلام مؤهلاً للخضوع إلى اختبار معلوماتي وثقافي يفتح له باب القبول في هذا التخصص الذي من أولى متطلباته أن يكون المتقدم له قد قرأ كثيراً وطالع مطالعات خارجية في المرحلتين المتوسطة والإعدادية وربما حتى في الإبتدائية، وعندما تقدم هو لدراسة الإعلام كان قد ختم القرآن الكريم مرات عديدة فتمكن من اللغة والبلاغة وحسن التعبير، واكتسب خيالاً واسعاً من قراءة القصص والروايات العربية والعالمية، وتعرف على خبايا الخير والشر في النفس البشرية من شخصيات الروائيين الروس العظام أمثال نيكولاي غوغول وتورجينيف وتولستوي ودوستويفسكي وشولوخوف، وعرف اعمال سارتر وكامو، وعاش مع رعب كافكا في صرصاره وقلعته، ومع فيكتور هيجو في أحدب نوتردام، ومع همنغواي في الشيخ والبحر، ولمن تقرع الأجراس، وقرأ  أيام طه حسين، وعبقريات العقاد، وحمير توفيق الحكيم، وتماهى مع شخصيات نجيب محفوظ في ثرثرة على النيل، والكرنك، وأولاد حارتنا، وسي السيد في ثلاثية بين القصرين وقصر الشوق والسكرية، وقرأ كلاً أو بعضاً من أشعار الرصافي والجواهري والسياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وحسب الشيخ جعفر، وقصص وروايات فؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان وموسى كريدي وعبد الرحمن مجيد الربيعي. وبمثل هذه العدة الثقافية، تقدم هو وغيره من أبناء زمانه للدراسة الجامعية، ولدراسة الإعلام على وجه التحديد الذي قد يُعلِم صناعة الخبر والتقرير الخبري والريبورتاج واللقاء والتحقيق الاستقصائي، لكنه لا يُعلِم كتابة المقال الصحفي، إلا للموهوبين الذين اكتشفوا مبكراً مواهبهم في كتابة مادة الإنشاء أو التعبير خلال مراحلهم الدراسية الأولية، فعززوها بالقراءة وسعة المعرفة والثقافة الموسوعية التي تمكنهم من كتابة المقال الصحفي بأساليبهم المتعددة في الكتابة، وبمعلوماتهم وثقافتهم التي تمنح المقال قيمة وجوهراً وغاية.

أذكر أنني حضرت قبل مدة مدعواً مع عددٍ من الزملاء الصحفيين إلى مهرجان إعلامي طلابي بصفتنا مُحَّكمِين على نتاجات الطلبة، ومنها نتاجاتهم في المقالات الصحفية، وعندما عُرضت علينا بعض المقالات، فوجئنا بأسلوبها وحرفيتها، فساورنا الشك فيها، بالأخص وأنها تبدو ليست جديدة على ذاكرتنا، فعدنا إلى محرك البحث في الإنترنت لنكتشف أن كل ما عمله الطلبة أنهم اقتطعوها ولصقوها " كوبي بيست" وحذفوا إسم الكُتّاب المعروفين، ووضعوا أسمائهم عليها بغية الحصول على جائزة المقال الصحفي!. قد لا يكون الطالب مسؤولاً مسؤولية كاملة عن هذه "السرقة" الصحفية، إذ انه قد يتوهم بأن المطلوب أن يختار مقالاً صحفياً من الإنترنت ويضع عليه اسمه، نعم قد يكون بعض الطلبة بمثل هذا المستوى من الإدراك والفهم، لكن الذي يتحمل المسؤولية الأكبر هو التدريسي الذي يُفترض أن لا تمر عليه مثل هذه المقالات المسروقة، مثلما يُفترض أن يوجه الطلبة توجيهاً صحيحاً بالاعتماد على أنفسهم، وعلى مواهبهم في الكتابة إن وجدت، وأن يعمل على تنميتها وتحفيزها وتشجيعها في المسابقات والجوائز والدعم المعنوي.

***

د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي

يُعامل الإنسان الساهي بمرونة في العديد من الحالات لأن السهو لا يعتبر جريمة. ومع ذلك، نجد في القرآن آيات تتوعد الساهين عن صلاتهم بـ"الويل"، وهي كلمة تشير إلى شدة العقاب. هذا يثير الدهشة لدى البعض.

في الحقيقة الوعيد بالويل للساهين عن صلاتهم لم يأت في آية واحدة، بل آية تتوعد المصلين بالويل واخرى تذكر انهم ساهون عن صلاتهم، فالموضوع جاء في آيتين مجتمعتين مع اضافة صغيرة ولكنها هي المهمة هنا. فالنص هو: "فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)" بما أن الجملة تبدأ بحرف "فاء"، فهي بذلك ترتبط بما سبقها، مما يتطلب الرجوع إلى النص السابق لفهم السياق الكامل. عند التدبّر في الآيات ككل، نجد أن السورة تشكل وحدة متكاملة تناولت مجموعة معينة من الأشخاص. وهي كما يلي: (سورة الماعون) "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُون(7)"

حرف الفاء في كلمة "فويل" يُستخدم كفاء عطف، وهو يعمل على التعقيب والربط بين الأحداث أو الأوامر والتوجيهات المذكورة في الآيات. بالتالي، هذا الاستخدام لحرف الفاء يسهم في توضيح العواقب أو النتائج التي تنجم عن سلوكيات أو حالات محددة، معززًا الصلة المعنوية والسببية بين الأفعال وتبعاتها ضمن النص القرآني. الآيات الثلاث الأولى والثلاث الأخيرة تصف صفات وسلوكيات فئة من الناس و هم الذين: يكذّبون بالدين، يدعّون اليتيم، لا يحضّون على طعام المسكين، ساهون عن الصلاة، مراءون ويمنعون تقديم اي معونة. الآية الوسطى تبين عقابهم المتمثل في "الويل". فالمصلي المذكور في هذا السياق هو نفسه المذكور بالصفات السلبية الستة الاخرى. 

عند التمعّن في وصف الأفعال، نجد أنها تتوافق بشكل واضح مع سلوك المنافقين أكثر من أي فئة أخرى. الاستخدام المتعمد لحرف "الفاء" يهدف إلى ربط أفعال الشخص المذكورة بالويل - الذي يرمز إلى الهلاك أو الشقاء الشديد - إشارة إلى أن الويل هو جزاء لمجموعة من الصفات والأفعال المذكورة، وليس للسهو عن الصلاة فقط. والمقصود بالسهو هنا ليس مجرد إغفال وقت الصلاة كما تشير إليه اغلب التفاسير، بل الإغفال عن جوهر العبادة ومعنى الصلاة نفسها. وقد ورد عن ابن عباس (رضوان الله تعالى عليه) في شأن نزولها: "هم المنافقون، يتركون الصلاة في السر و يصلون في العلانية" (وردت بصيغ مختلفة لكن بمضمون واحد). إذًا، الصلاة بالنسبة لهؤلاء تمثل أداة من أدوات النفاق. لذا، الويل موجه للمصلين الذين يؤدون صلاتهم برياء ونفاق، ساهون عن جوهرها وحقيقتها.

اضافة لأمر الرياء والنفاق، قضية إطعام المسكين مرتبطة بالايمان والصلاة ومن مقتضياتهما في القرآن. نرى أنّ آية عدم الحضّ على طعام المسكين، جاءت في سورة الحاقّة ايضا. حيث يقول النص: "إِنَّهُۥ كَانَ لَا يُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ ٱلۡعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلۡمِسۡكِينِ (34)" فمرّة يذكره بأنه يكذّب بيوم الدين واخرى يصفه "لا يؤمن بالله" وهذا يدل على خطورة وأهمية هذا الفعل من المنظور القرآني.

الصلاة كما وردت في القرآن، تتضمن بعدًا اجتماعيًا، خاصةً عندما تُؤدى جماعيًا. كما أنها ترتبط بفعل الإنفاق في سبيل الله كوسيلة لتهذيب النفس وترويضها. لذلك، في بداية سورة البقرة، نقرأ: "الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)"، التي تذكر خصال المتقين: الإيمان بالرسالات والآخرة والغيب، إقامة الصلاة، والإنفاق من الرزق. إن الإنفاق في سبيل الله، خصوصًا على اليتيم والمسكين، يعتبر من مقتضيات الصلاة، وعدم السهو عن الصلاة يتطلب عدم السهو عن مقتضياتها. فمن ترك مقتضياتها في الحقيقة لم يقمها.

بعض المفسرين المعاصرين سعوا للتمييز بين مفهومي الصلاة كذكر عام لله وإقامة الصلاة كعبادة محددة، لكن في هذا السياق، لا تبدو هناك حاجة لمثل هذا التفكيك؛ الأمر واضح بما فيه الكفاية. كذلك، أشار أحد المستشرقين إلى أن العبارة الأصلية كانت "فويل للمضلّين" ولكنها تحولت بسبب سقوط نقطة، مما يثير تساؤلاً: إذا كان الأمر كذلك، فكيف لم ينتبه لهذا الخطأ أي من القرّاء و رواتهم، خاصة وأن هذا الشأن كان موضوع تساؤل واستفسار منذ العصور الأولى للإسلام، حتى إن الصحابي ابن عباس نفسه سُئل عن هذه الآية. فكيف لم يخطر ببال أحد من الصحابة أو التابعين أو القراء في احتمال سقوط نقطة، خاصة وأن الكتابة في ذلك الوقت غالبًا ما كانت بدون تنقيط (وان كان التنقيط موجودا من قبل الاسلام)، وكان من الممكن أن تُقرأ على أنها "ص" أو "ض" لأنها في الغالب تكتب بنفس الصورة. مع ذلك، الجميع قرأها "فويل للمصلين"، وهذا يدل على أنهم سمعوها بهذه القراءة.

***

مشتاق عبد مناف الحلو

هذه القاعدة تعد من كبريات القواعد الفقهية، لارتباطها بأبواب مهمة في الفقه، كالقضاء والحدود، ومعنى القاعدة: أن الأصل في ذمم الناس فراغها، لأن المرء يولد دون أن يكون محملاً بالتزام، وأن ما يتحمله من التزامات، ويتعلق به من مسؤوليات، إنما هى أمور طارئة»، «فيستصحب الأصل المتيقن به وهو فراغ الذمة، إلى أن يثبت العكس». أي «تستمر هذه البراءة لذمة الإنسانية طالما لم يطرأ ما يزيل هذه البراءة، ويشغلها بحق للغير بناء على بينة أو إقرار أو يمين».

فإذا ادعى شخص على آخر بقرض والمدعى عليه أنكر ذلك القرض، «فالقول للمدعي عليه مع اليمين والمدعي مكلّف بإثبات خلاف الأصل، أي إثبات شغل ذمة المدعى عليه، فإذا أقام المدعي البينة، فيكون قد وجد دليلاً على خلاف الأصل، فيحكم حيئنذ بالبينة»، وبعبارة أخرى، «إذا ادعى أحد شيئاً في ذمة آخر، وجب عليه إثباته، لأن المدعي عليه يعتبر بريء الذمة في الأصل، ومنها إذا أتلف رجل مال آخر واختلفا في مقداره، يكون القول للمتلف، والبينة على صاحب المال لإثبات الزيادة»، ويتفرع عن هذه القاعدة قاعدة أخرى وهي: «الذمة إذا عمرت بيقين فلا تبرأ إلا بيقين»، كمن شك في أداء دينه فإن انشغال الذمة به متيقن، ولن يكون في حِل منه بمجرد الشك، بل لا بد من برد اليقين. وقاعدة «الأصل براءة الذمة» تقررها النظم الجنائية الحديثة، التي تجعل «الأصل في الإنسان البراءة» وذلك باعتبار الجريمة صورة من صور السلوك الشاذ الخارج عن المألوف، ومن ثم يجب الاحتياط في نسبتها إلى شخص معين، وذلك بافتراض براءته حتى يثبت بدليل قاطع عكس ذلك.

ومن أمثلة الدساتير التي تنص على هذا المبدأ: الدستور السوداني الصادر في سنة 1973، حيث تنص المادة 69على أن «أي شخص يلقى القبض عليه متهماً في جريمة ما، يجب ألا تفترض إدانته، ولا يجب أن يطلب منه الدليل على براءة نفسه، بل المتهم بريء إلي أن تثبت إدانته دونما شك معقول»، وكذلك القانون المصري الصادر سنة 1971م الذي قضت مادته 67 بأن «المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه» ومن المواثيق ذات الصبغة الدولية التي حفلت بالنص على مبدأ افتراض براءة المتهم إعلان حقوق الإنسان والمواطن، الصادر غداة الثورة الفرنسية سنة 1789 والذي نص في مادته التاسعة على أن الأصل في الإنسان البراءة حتى تتقرر إدانته.

وإذا كان المجال الذي تعمل فيه قاعدة افتراض البراءة في النظم القانونية المعاصرة هو المجال الجنائي فحسب، حفاظاً على حريات الأفراد من أن يتهددها التعسف الإجرائي، أو يعصف بها الظلم الموضوعي، فإن قاعدة «الأصل براءة الذمة» المقررة في الفقه الإسلامي تعمل في نطاق أوسع من النطاق الجنائي، إذ نجد الفقه الإسلامي يعمل هذه القاعدة في كل فروع القانون، بل في كل صور الواجبات والتكليفات حتى الدينية البحتة، أو التعبدية المحضة، وإذا كانت القاعدة الفقهية الإسلامية أوسع نطاقاً في تطبيقها من القاعدة القانونية، إلا أنهما تلتقيان في المجال الجنائي، حيث تفترضان أو تتطلبان إدانة المتهم على دليل جازم يثبت التهمة، ويرفع ما ثبت له أصلاً في افتراض البراءة، ومتى افتقرت الدعوى الجنائية إلى مثل هذا الدليل فإنه يتعين الحكم بتبرئة المتهم».

***

د.الطيب النقر

 

حدَّثنا (ذو القُروح) في المساق السابق عن (مغالطة رجُل القَشِّ)، أو ما يُسمَّى بلهجتنا الدارجة (التَّهْيابَة)، وهو ما يُسمَّى في استعمالات أخرى (الفزَّاعة). ومن ذلك تَهْيابَة الأعراب للمسلمين حين اتَّهموهم بالحَسَد لمنعهم إيَّاهم من اتِّباعهم في القتال: «سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ، إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا: ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ، يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ، قُلْ: لَن تَتَّبِعُونَا. كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِن قَبْلُ. فَسَيَقُولُونَ: بَلْ تَحْسُدُونَنَا. بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا.»‏ غير أنَّهم سيُدعَون إلى قتال قومٍ آخَرين، وهم: «أُولو بَأْسٍ شَدِيدٍ»، وليسوا بمسالمين، أو غير معتَدِين. بمعنى آخَر: هم عدوٌّ، وهم عُدوانيُّون. ومقتضى «ستُدعَون» أنَّ هناك داعيًا للقتال، وليست بدعوةٍ مجَّانيَّة، رغبةً في القتال أو المغانم التي يسعى إليها أولئك المخلَّفون من الأعراب. وداعي القتال معروفٌ في «القرآن»، ليس بداعي العُدوان، بل بداعي الدِّفاع؛ لقوله تعالى: «وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ، وَلَا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِين.» فالقتال في سبيل الله، لا في سبيل المغانم. والعُدوان ممنوع، حتى ضِدَّ من يقاتلونكم. ولم يقل: «تُقَاتِلُونَهُمْ حتى يُسْلِمُوا»، أو «تُقَاتِلُونَهُمْ، فإمَّا أن تُفنوهم، أَوْ يُسْلِمُوا»، بل قال: «تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُون». من حيث هي ليست بثنائيَّة خياريَّة: الموت أو الإسلام؛ فهذا فهمٌ ساذج، ومتعارض مع الآيات الأخرى.

- لماذا لا يلتفت هؤلاء، هاهنا بالذات، إلى التعارض؟

- لأنه يبطل دعواهم. وإنَّما «تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُون» خيارٌ واحد؛ ذلك أنهم إنْ أسلموا، عصموا دماءهم، وإنْ استسلموا، انتهى الموضوع، وإنْ لم يُسلِموا ولم يستسلموا، وظلُّوا أُولي بأسٍ شديدٍ على المسلمين، فالقتال لا بُدَّ أن يستمرَّ بالضرورة.

- كيف؟

- ليس الهدف من القتال إرغامهم على الإسلام؛ لأنَّ الآية الأخرى تقول: «لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً، وَلَكِن لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ». فلا إكراه في الدِّين، والآيات بيِّنةٌ في النهي عن إجبار الناس عليه: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا؛ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين؟!» لكنَّ هؤلاء، من مدَّعي التناقض، تناقضهم في رؤوسهم. وهم «الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِين»، أي مجزَّءًا، ليقولوا ما يشاؤون. متعاملين مع النصوص بانتقائيَّة، بعضهم عن جهل، ومعظمهم ينتقون عن مغالطاتٍ، ولأغراض لا تخفى.

- لذا، إذن، لا يسوقون النصوص، كما هي، بتمامها دون اجتزاء أو قفز؟

- نعم. لأنهم لو فعلوا، فعرضوا الآيات بتمامها، لبارت سلعتهم، ولسقطت مصاديقهم، ولخسروا حُججهم؛ لأنه سيتبيَّن أنَّ قتل نفسٍ بغير نفس، أو الفساد في الأرض، هو كقتل الناس جميعًا. والقتال لا يكون إلَّا في سبيل الله، وفي سبيل الحق، لا في سبيل الغزو، ولا المال، ولا المغانم، ولا السبي، ولا السلب، ولا النهب، ولا احتلال الأوطان؛ فليس ذلك كله من سبيل الله في شيء، بل في سبيل الشيطان. وسيتبيَّن، ثانيًا، أنه قتالٌ «للذين يقاتلونكم»، أي دفاعًا. وسيتبيَّن أنَّ الأمر الشديد، والتحذير من الخروج عن محبَّة الله، والسقوط في سخطه، يتمثَّل في الآية: «وَلَا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِين.»

- ومن طرائف هؤلاء أن يقولوا بتناقض آخَر، في الآية القرآنية: «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ، فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ.» قائلين: كيف يأمر بما لا يحب؟!

- الإشكال هنا من أربعة أوجه:

1- حديث من لا يعرف اللُّغة أصلًا في نصوص اللُّغة.

2- حديث من لا يفقه أساليب البلاغة في البلاغة.

3- النظر إلى لغة القرن السادس الميلادي حسب الدارج من لغة القرن الحادي والعشرين الإعلاميَّة، أو حتى العاميَّة.

4- وقبل ذلك وبعده: المكابرة. فترى أحد هؤلاء يتلوَّى لا بحثًا عن الإجابات، ولا عن الحق، ولكن بحثًا عما يؤيِّد توجَّهه الرغبوي. ومثل هذا لا جدوى في محاجَّته. بأن يقال مثلًا: العدوان: لفظ مشتق من العَدْو. عَدَا الرجل والفرسُ وغيرهما يعدو عدْوًا، وعُدُوًّا، وعَدَوانًا، وتَعْداءً. ويقال في الظُّلْم كذلك: قد عَدَا فلان عَدْوًا، وعُدُوًّا، وعُدْوانًا، وعَدَاءً. ومن هذه المادة جاء عَدَا فلان على فلان عَدْوًا، وعَدَاءً، وعُدُوًّا، وعُدْوانًا، وعِدْوانًا، وتَعَدَّى، واعْتَدَى. فالمهاجمة والمدافعة كلاهما وسيلتهما العَدْو، بصورةٍ أو بأخرى. فمن هاجم آخَر فقد عدا عليه واعتدى، ومن ردَّ ذلك الاعتداء، فسيردُّه باعتداءٍ مقابل. حتى إنَّ العامَّة يدركون هذا، فيقولون في مثل هذه الحال: «البادئ أظلم.»

أمَّا الجانب البلاغي في هذا التعبير، فمشهورٌ في سياق التعبيرات المجازيَّة. وأمثلة هذا كثيرةٌ في العَرَبيَّة وغير العَرَبيَّة. ألم يقل (عمرو بن كلثوم) في معلَّقته:

أَلا لا يَجهَلَن أَحَدٌ عَلَينا ::: فَنَجهَلَ فَوقَ جَهلِ الجاهِلينا

فقوله «فنجهل فوق جهل الجاهلين» إنَّما هو مجازٌ مُرْسَل- كما يقول البلاغيُّون- لعلاقة السببيَّة بين الفعل وردِّ الفعل؛ فالجهل الأوَّل حقيقيٌّ والآخَر مجازي. وقد جاء مثلًا، في الآية: «وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا». مع أنَّ الجزاء ليس بسيِّئة. وهكذا سَمَّى ردَّ الاعتداء اعتداءً، مع أنَّه ليس باعتداءٍ على الحقيقة. كما قال: «إِن تَسْخَرُوا مِنَّا، فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ.» وعليه قول (أبي تمَّام):

لا تَسقِني ماءَ المَلامِ فَإِنَّني ::: صَبٌّ قَد استَعذَبتُ ماءَ بُكائي

وهكذا، فكم بين (الحقيقة) و(المَجاز)، بخاصَّة، وبينها و(اللُّغة الوظيفيَّة)، بعامَّة، من مَزالق دلاليَّةٍ على غير البصير بأساليب التعبير؛ فتراه متخبِّطًا في دماء الكلام، أو آخِذًا إيَّاه على ظاهر معناه! ومن جانبٍ آخَر، فقد تأتي في الأسلوب المَجازيِّ- من حيث عِلم البديع المعنوي- (مشاكلةٌ) لفظيَّة، وهو فنٌّ أسلوبيٌّ معروفٌ في بلاغة العَرَب. ومن شواهد البلاغيِّين عليه قول (ابن الرقعمق الأنطاكي، -399هـ= 1009م)(1):

قالوا: اقتَرِحْ شيئًا نُجِدْ لكَ طَبْخَهُ ::: قُلتُ: اطبَخوا لي جُبَّةً وقَميصا

أفكان الرَّجُل مجنونًا ليقترح عليهم أن «يَطبخوا له جُبَّةً وقَميصًا»؟! كلَّا، بَيْدَ أنَّ مَن لا يعرف البلاغة- التي تعتمد فنون المَجاز، لا الحقيقة، وأساليب اللُّغة الوظيفيَّة، لا اللُّغة المعجميَّة، وطرائق التصوير والتخييل والبديع، لا نَقْل الواقع كما هو، لوضْع الألفاظ في مواضعها الأصليَّة- مَن لا يعرف ذٰلك كلَّه سيَعُدُّ أساليب البلاغة كَذِبًا، أو جنونًا.

- هم سيحتجُّون عليك أيضًا بحكاية المَكِّي والمَدَني، في (مَكَّة) كانت المسالمة وفي (المدينة) المحاربة!

- وهنا- مجاراةً لمغالطات الثنائيَّة (مَكِّي-مَدَني)- نكرِّر القول: إن الآيات المتعلِّقة باختلاف البشر، وكراهة العدوان عليهم، وأنَّ الله لا يُحِبُّ المعتدين، واردةٌ في سورتَين مدنيَّتين لا مكِّيَّتين، هما: (سُورة البقرة)، و(سُورة المائدة). وفي الأخيرة، إلى ذلك، الآية: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، وَالَّذِينَ هَادُوا، وَالصَّابِئُونَ، وَالنَّصَارَى، مَنْ آمَنَ باللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا: فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.» فأيُّ مَكِيٍّ وأيُّ مَدَنيٍّ تَباينَ فيه الخِطاب القرآني في هذا الشأن؟!

- ومن هؤلاء جهلاء من المسلمين أيضًا. وبمثل هذا يبرِّرون الإرهاب، أو «الغزو» كما يُسمُّونه.

- وهم يجدون الذرائع لدَى حمقَى الغرب، في المقابل. فالحقُّ أنَّ (الولايات المتَّحدة الأميركيَّة)، مثلًا، تبدو، في سياستها، كولاية تابعة لحكومةٍ مركزيةٍ عاصمتها في (تَلِّ عفيف/ تل أبيب). ولذلك تجد اهتمام الإدارة الأميركيَّة الأكبر والدائم بالمواطن الصهيوني في الكيان المحتل، أكثر بكثير من اهتمامها بالمواطن الأميركي المحتل في بلاد الهنود الحمر. وحرصها على إرضاء المحتلِّ في الشرق الأوسط يسبق حرصها على إرضاء المحتلِّ في مستعمرات العم سام. هذا لا ينكره إلَّا عميل أو منافق. بل إنه ليضجُّ منه بعض عقلاء الأميركان أنفسهم وعُدَلائهم. أمَّا القول: إذن، كما يعتدي علينا هؤلاء فلنعتد عليهم، بمثل ما اعتدوا علينا، بالجُملة أو بالمفرَّق، فاستدلالٌ تُرتكَب به حماقتان استدلاليتان: الأولى، أنَّ قائليه يبترون النصَّ من سياقه؛ لأنَّ سياقه لا يخدم غرضهم: «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ، فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم»، ويقفون! لا يكملون الآية، ولا يوردون ما قبلها، حيث: «فَإِنِ انتَهَوْا، فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِين»، الدالَّة على أنَّه قتالٌ لدفع صائل، وقتالٌ للظالم نفسه، المحارب، لا للأبرياء، والمدنيِّين الآمنين، وإنْ كانوا من ذوي الظالم؛ فلا تَزِرُ وازِرةٌ وِزْرَ أخرى. أمَّا الحماقة الثانية، فبلاغيَّة؛ من حيث هم- كما سبق- لا يفهمون شيئًا اسمه «مشاكَلة» في الأسلوب، ولا «مجاز مُرسَل»؛ «فاعتَدُوا» لديهم يعني: «اعتَدُوا»، بالفعل، وبكلِّ ما يعنيه العُدوان من معنى! فهَيَّا بنا إلى التفخيخ على هذا التفسير!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

............................

(1) هو: (أبو حامد أحمد بن محمَّد الأنطاكي). وبعض المراجع يكنِّيه بـ(أبي الرقعمق). وإليه نُسِب البيت في بعض كتب التراث. على حين نَسَبَه بعضها إلى (جَحْظة الأنطاكي، -324هـ= 935م).

 

بقلم: إنريكو جناولاتي

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

يتطلب الحفاظ على علاقة طويلة وسعيدة مجموعة مهارات محددة. تعلم الضحك على نفسك ومعًا هو الحل

من منظور تطوري، نحن غير مجهزين للتعامل مع نوع العلاقات الحميمة طويلة الأمد للغاية التي يطمح إليها الكثير من الناس اليوم.

في الوقت الحاضر، يبلغ متوسط سن الزواج الأول في العديد من دول العالم حوالي 20 عامًا. بافتراض أن هؤلاء المتزوجين الجدد يعيشون إلى السبعينيات أو الثمانينات من العمر (بفضل التقدم في الطب الحديث) ويرغبون في التزام مدى الحياة، فإن هذا من شأنه أن يضع مدة زواجهما المقدرة في نطاق 60 عامًا - وهي أطول بكثير من العلاقات التي عاشها غالبية البشر عبر التاريخ.

وقد عبرت الممثلة الكوميدية واندا سايكس/ Wanda Sykes  عن الأمر بطريقة أقل أكاديمية:

حتى يفرقكم الموت. تلك هي أوقات الكتاب المقدس. كتب موسى ذلك. هذا هو العهد القديم. لم تكن لديهم مشكلة في قول "حتى يفرقنا الموت" في ذلك الوقت لأنهم لم يعيشوا طويلاً. لقد كانت لديهم أوبئة جيدة. بمجرد أن يثير أعصابك هذا الرجل، يأتي بعض الكركند ليأكل مؤخرته من أجلك.

في أيامنا هذه، لكي يتعايش الأزواج المتحابون تحت سقف واحد لمثل هذه الفترات الطويلة، يتعين عليهم ــ بين ضغوط أخرى ــ أن يخضعوا لعملية تدجين صعبة: معرفة ما إذا كان ينبغي ترك مقعد المرحاض لأعلى أو لأسفل؛ البريد المتبقي معلقًا أو مفتوحًا على الفور؛وضع رقائق الألومنيوم في سلة المهملات  الخاصة أو سلة المهملات العادية؛ الأطباق المتسخة التي تُركت في الحوض طوال الليل، أو تم تنظيفها وتكديسها في غسالة الأطباق قبل النوم؛ استخدام أو عدم استخدام الترجمات أثناء البث التلفزيوني. القائمة لا نهاية لها. وبالنسبة للعديد من العلاقات، هذا يكفي لقلبها رأسًا على عقب.

يعد الملل العلائقي تحديًا آخر - يحدث هذا عندما تمر الحالة الزوجية أو المعاشرة لشخص ما بمراحل أطول من المتوقع حيث تكون غير مثيرة ورتيبة، بينما تبدو أيضًا غير مريحة للغاية ومرهقة حتى تنتهي. إن مقاومة الخوف من الضياع، والهروب، والتفكير المهووس في إعادة اختراع الذات، والذهاب في رحلة طويلة للعثور على رفيقة الروح الحقيقية هي طرق كلاسيكية يستجيب بها الأشخاص الضعفاء للملل العلائقي العادي. بقطع النظر عن الأشخاص ذوي التفكير الواقعي، وذوي الضمير الحي، والمحبين لا يتنازلون بشكل متهور عن روابطهم الحميمة. من الضروري أن يكون لدينا أدوات نفسية لإيجاد طريقة لقبول الجوانب الرتيبة للحياة المنزلية مع الآخرين والتكيف معها.

عندما لا يتمكن شقيق زوجى من العثور على أدوات المطبخ حيث تركها، سيقول أشياء مثل: "لو كنت ملعقة، أين ستكون؟"

ما الأداة الأكثر أهمية في هذا الصندوق؟ غالبًا ما يتجاهل علماء الزواج الفكاهة والسخرية وتقدير العبثية باعتبارها عقليات تؤدي إلى النجاح في الحب. ومع ذلك، أعتقد أنها توفر أفضل طريقة للأزواج الحميمين للتكيف مع جميع المتاعب الدنيوية التي تأتي مع الزواج والعلاقات الرومانسية الطويلة للغاية .

بالنسبة للمبتدئين، يعد الاستخدام السلس للفكاهة طريقة ممتازة لتفادي ملاحظة مزعجة، وعدم أخذ النبرة القاسية لشخص عزيز على محمل شخصي، وتجنب الجدال. وعلى هذا المنوال، أخبرتني إحدى العميلات مؤخرًا قصة عن تفاعلها مع زوجها، الذي يميل إلى التشكيك في عادات الإنفاق الخاصة بها. اشترت بعض السلال الكبيرة للفناء الخلفي. وبلهجة انتقادية، سألها عن الاستخدامات التي يمكن أن تقدمها لهما. ردت بلهجة مازحة، واقترحت بسخافة أن تجلس فيها، وتظاهرت بذلك. كلاهما انفجرا بالضحك وكانت تلك نهاية الأمر.

يمكن أيضًا التعامل مع الإزعاجات البسيطة ببراعة وخفة قلب. عندما لا يتمكن شقيق زوجى من العثور على أدوات المطبخ حيث تركها آخر مرة، فإنه يحب أن يقول لأخت زوجي أشياء مثل: "لو كنت ملعقة، أين ستكون؟" عتادت زوجة أحد أصدقائي المقربين أن تخاطب فضوله بتعليقات مثل: "هل تقصد ترك الموقد مشتعلاً؟"عادةً ما يطعم الصديق الذي يكثر الحديث تعبيراته الطويلة بتعليقات مضحكة مثل: "لجعل القصة الطويلة أطول..." وهو يستهل مازحًا طرح أفكاره الجديدة بعبارة تبدو جريئة، ولكن ليس بسبب لهجته المبهجة - "العودة إليّ" - والتي تجعل الاستماع إليه لفترة أطول أسهل بكثير.

ثم هناك "الثناء كنقد" - وهو شكل شائع من السخرية، والذي عند استخدامه بطريقة لطيفة، يمكن أن يكون طريقة ذكية ودقيقة للإشارة بأدب إلى الشريك أن الحياة ستكون أسهل للجميع، إذا تخلى للتو عن ذلك. في ما يتعلق بهذا، أتذكر بوضوح تعليقًا أدلى به أحد الجيران في إشارة إلى صديقه: "جوليان لديه دائمًا طعام على وجهه". بخلاف ذلك، فهو مثالي!

وفقًا للعلماء، تنقسم هذه الأشكال المختلفة من الفكاهة إلى فئتين: المتعاطفة/ affiliative وتعزيز الذات/ self-enhancing ، وكلاهما يمكن أن يساهم في إطالة عمر العلاقة. الأولى تتضمن الترفيه عن الآخرين لإبقاء الأمور إيجابية وحيوية بطريقة تحافظ على الروابط العلائقية وتثريها. أما الثانية فتعكس  القدرة على السخرية من نفسه بطريقة جيدة أو رؤية الفكاهة في أحداث الحياة غير المواتية. وفقا لدراسة بلجيكية، قارنت بين العشرات من الرجال والنساء المتزوجين والمطلقين، فإن الطريقة المؤكدة للشعور بالرضا في علاقتك وتقليل خطر الطلاق هي الانغماس بسخاء في الميل إلى استخدام الفكاهة المتعاطفة والمعززة للذات.

يعتمد الأزواج الأكبر سنًا - المتزوجون منذ 35 عامًا على الأقل - بشكل أكبر على الفكاهة للتعبير عن الحنان وتقليل الاحتكاك

يعد الكثير من الضحك المشترك بمثابة مؤشر على مدى تشابه الشركاء ومدى قربهم من بعضهم البعض. وفي تلخيص بعض نتائج الأبحاث حول هذا الموضوع، خلصت سارة ألغوي / Sara Algoe من جامعة نورث كارولينا في تشابل هيل إلى أن: "الأشخاص الذين أمضوا وقتًا أطول في الضحك مع شركائهم شعروا أنهم أكثر شبهاً بشريكهم". "كان لديهم هذا الشعور المتداخل بالذات مع الشخص الآخر. "كان بحث ألغو، مع لورا كورتز، مقتصرًا على الأشخاص في العشرينات والثلاثينات من العمر الذين ارتبطوا عاطفيًا لمدة تزيد قليلاً عن أربع سنوات في المتوسط، لكنني أتخيل أن نفس القاعدة  تنطبق على الأزواج الأكبر سنا في علاقات أطول. وتشهد دراسات أخرى أجريت على الأزواج الأصغر سنا على أهمية الفكاهة والضحك لنجاح العلاقة. فقد وجد استطلاع أجرته شبكة سي بي إس نيوز عام 2010 أن الفكاهة كانت أكثر أهمية بخمس مرات من الجنس عندما يتعلق الأمر ببناء زواج ناجح. وجدت دراسة أجريت عام 2018 من رومانيا، والتي شملت شبابًا مرتبطين عاطفيًا لمدة تتراوح بين سنة وخمس سنوات، أن حس الفكاهة يتفوق على الجاذبية الجسدية والطموح وإمكانات الكسب والشخصية المثيرة عند تقييم الشريك.

على مدى فترة طويلة من العلاقة، تكتسب التبادلات الفكاهية والضحك المشترك أهمية إضافية. وقد تبين أنه، مقارنة بالأزواج في منتصف العمر الذين تزوجوا لمدة لا تقل عن 15 عاما، فإن الأزواج الأكبر سنا - المتزوجين لمدة 35 عاما على الأقل - يعتمدون بشكل أكبر على الفكاهة للتعبير عن الحنان وتقليل الاحتكاك. دفع هذا الأمر إلى نشر مقال في Science Daily  فى عام 2018 لتشجيع الأزواج على مواصلة المسار:

هل انتهى شهر العسل منذ فترة طويلة؟ أصبر. أظهرت دراسة جديدة من جامعة كاليفورنيا، بيركلي، أن الخلافات الشائكة التي يمكن أن تميز السنوات الأولى والمتوسطة من الزواج تهدأ مع تقدم العمر، حيث يفسح الصراع المجال للفكاهة والقبول.

مع تقدم الأزواج في السن، غالبًا ما يحل الضحك محل الجدال والمشاحنة في الشراكة لجعل سنوات المرء المتضائلة أقل احتكاكًا وأكثر متعة.

وهذا صحيح بالتأكيد، في زواجي. في أحد الأيام أثناء تناول الإفطار، ذكرت زوجتي جانيت بحذر أنها لم تنم جيدًا أثناء الليل بسبب شخيري. وأنها باتت مستيقظة ومنزعجة للغاية، وقد سجلت شخيري على هاتفها الذكي كدليل لا يقبل الجدل. وأنا أستمع إليها معًا على مائدة الإفطار، قلت مازحًا: "واو، هذا موسيقى للغاية.  كيف يمكننا أن نعرف بأي قدر من اليقين أن هذا أنا؟" عند ذلك  تبادلنا الضحك وتحدثت جانيت بلطف وطلبت مني أن أعود للشطف بمحلول ملحي قبل النوم للحد من الشخير. قبل عقد من الزمن، كانت محادثة كهذه ستسير بشكل آخر، حيث كنت سأشير بشكل دفاعي إلى شخيرها.

كان الممثل الكوميدي سندباد أقل تفاؤلاً في مسرحيته الهزلية عن الشخير. أثناء مزاحه مع امرأة من الجمهور اشتكت من شخير زوجها (الذي أصرّت أنه لم يكن موجوداً قبل زواجهما)، انطلق سندباد في خطبة صاخبة: "لقد امتصت حياته منه. ليس لديه هواء... إنه يحاول فقط البقاء على قيد الحياة طوال الليل. إنه لا يشخر، إنه يموت. قليلا قيلا كل ليلة.. أنتم جميعا تسمونه انقطاع التنفس أثناء النوم، ونحن نسميه الزواج " .

من أجل البقاء على قيد الحياة في الزواج أو أي شراكة تمتد لعقود من الزمن، من الضروري أن يتكيف كل عضو في الزوجين مع ما يمكن الحصول عليه بشكل واقعي من الآخر. عندها فقط يمكن أن تزدهر رابطة المحبة مع مرور الوقت. وكما يقول أندريه، إحدى شخصيات رواية تاياري جونز "زواج أمريكي" (2018): "عليك أيضًا أن تعمل مع الحب الذي يُمنح لك، مع كل التعقيدات التي تتدلى خلفه مثل علب الصفيح المربوطة بسيارة سيدان لحفلات الزفاف". عندما تلبي العلاقة احتياجاتنا الأساسية بكثرة وتكون جيدة في الغالب، فإن ما يجعلها متواصلة، بدلاً من الاستمرار في الانهيار، هو عقلية القبول المرح  لسمات الشريك السلبية. يجب أن تكون منفتحًا على التجاهل الفكاهي لعدد لا يحصى من المصادر التي لا مفر منها للتهيج المحتمل والتي تشكل جزءًا من مشاركة الحياة مع إنسان غير كامل. عليك أن تجد منفذا للضحك، لا للجدال.

(تمت)

***

.........................

الكاتب: إنريكو جناولاتي/Enrico Gnaulati: عالم نفس إكلينيكي مقيم في باسادينا، كاليفورنيا، وأستاذ منتسب في علم النفس بجامعة سياتل. وهو مصلح إنساني لممارسات وسياسات الصحة العقلية، وقد ألف أربعة كتب بالإضافة إلى العديد من المقالات في المجلات الأكاديمية والمجلات الشعبية، مثل The Atlantic وSalon. أحدث كتاب له هو الحب المزدهر: دليل علماني للعلاقات الحميمة الدائمة (2023).

رابط المقال على سايكى / PSYCHE بتاريخ 16 يناير 2024 :

https://psyche.co/ideas/why-it-takes-humour-to-sustain-a-long-term-relationship

بسط العدل وإقراره هو أهم الدعائم الأساسية التي يقوم عليها صرح الدين الإسلامي، فالعدل أساس الحكم، والنبي الخاتم عليه الصلاة والسلام تحرى القسط والسويَّة في كل معاملاته، وفي شتى ضروب حياته، وبتتبع سيرته الزاخرة بالعظا والعطاء نجده قد دعا إلي العدل في الحكومة، وحَسَم مادة الخصومة، وآثر الإنصاف، ولزم حلسه، ونزع الخلاف، واتقى الجور والشطط، والعدل هو قاعدة من قواعد الشريعة الإسلامية فالله سبحانه وتعالى يقول: ( َقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ). الحديد:20. وقال عز من قائل ِ: (إنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). النمل:9.

والعقوبة هى «عبارة عن ردة فعل المجتمع تجاه العدوان الذي وقع عليه أو وقع على بعض أفراده، بدون وجه حق، والعدوان في مواجهة العدوان يعتبر عدلاً، لأنه قضاء على أسباب هذا العدوان ومنع انتشاره في ربوع المجتمع وإنقاذ سفينته من أن تهوي في أعماق البحار».فالعقوبة إذن من شأنها أن تعيد العدل والحق إلي نصابه كقيمة ثابتة يفنى المجتمع ويتناحر دونها، ويعتدي القوى منهم على الضعيف المهيض الجناح، وتجعل قانون الغاب هو السائد على ظهر البسيطة، وإضافة إلي ذلك فإن الجريمة «تثير شعور هذه الانفعالات الجماعية بإنزال العقاب على كل من يعتدي على قيم المجتمع، وإلا اتخذت هذه الانفعالات الجماعية شكل الانتقام من الجاني أو ذويه».

ومن شعائر العدل المساواة في الشريعة الإسلامية أنها عامة تشمل جميع شرائح المجتمع شريفهم ووضيعهم، أميرهم وخادمهم، دون النظر إلي شرف المذنب الأثيل، ومجده الأصيل، أو علمه الغزير، بل نجدها تطبق على كل من اجترح ذنباً، أو اكتسب إثماً، ضاربة بهيبته ومكانته الاجتماعية عرض الحائط »، حتى إن الدية المقدرة في الشريعة الإسلامية حقاً للمجني عليه أو ولي دمه في جرائم القتل والجروح، وإتلاف الأطراف تساوي بين الناس أياً كان المركز الاجتماعي للمجني عليه، فهي لا تزيد ولا تنقص بزيادة أو نقص قدره».

ومبدأ المساواة في العقوبة لم يكن في شريعة الإسلام مجرد نظريات تحفل بها طيات الكتب، وثنايا الفكر، وخطفات الأحاديث، بل كان واقعاً ملموساً عاشته البشرية على أوسع نطاق في عهود الإسلام الزاهرة، فالسيرة العطرة لخير البرية عليه أزكى الصلاة وأفضل التسليم، وخلفائه البررة الميامين، وصحابته الأجلاء عليهم رضوان الله ورحمته، تخبرنا عن أبواب الجور التى كانت موصدة، ونيران الحيف التى كانت خامدة، وسيول العسف التى كانت هامدة، تلك الحمم والنيران التي لم تستعر وتفدح كاهل الأنام في شتى أرجاء المعمورة بالمؤن المجحفة، والأجعال الثقيلة، والعدوان الموبق، إلا بعد أن طوى الزمان خيرة القرون الثلاثة،  فهناك الكثير من الأحداث والوقائع التي سجلها التاريخ بكل فخر وإعزاز، تروي عظمة هذا الدين وسعيه الدؤوب لتطبيق دعائم العدل والإنصاف، ويكفي أن القرآن الكريم ذلك الكتاب المحكم السبك، الدقيق العبارة، الذي يأخذ بعضه برقاب بعض، قد حوى بين دفتيه على أعظم برهان يدعو للعدل ويطبقه بتجرد ضارباً بالسخائم والأحقاد عرض الحائط، يتجلى فى قوله تعالى: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). المائدة:8.

أما السنة فهي حافلة بالأمثلة التى تدعو إلي نهج الهدى وسواء السبيل  «فعن عائشة رضى الله عنها أنّ قريشاً أهَمّهُمْ شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله،  فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتشفع في حد من حدود الله؟) ثم قام فاختطب فقال: (إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايْمُ الله لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها). وفى رواية: (فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أتشفع فى حد من حدود الله؟) قال أسامة: استغفر لي يارسول الله، قال: ثم أمر بتلك المرأة، فقُطِعت يدها). وأيضاً قوله عليه الصلاة والسلام فى حجة الوداع: (يا أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ولا فضل لعربى على عجمي، ولا عجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم، ألا هل بلغت؟ فليبلغ الشاهد الغائب)، إن هذا المبدأ السامى الذي وضعه نبى الإسلام هو الذى جعل وفود الناس تترى طائعة مختارة لحمى الدين الخاتم، لائذة به من مرائر العنت والجور، ففي ذلك العهد مات ضمير الإنسان، وتأسنت روحه وسادت معالم الظلم والشطط على قيم العدالة والإخاء، في تلك الحقبة تغول الجبابرة ووجهاء القوم على مهيضي الجناح ممن لم يرزقوا منعة القبيلة، أو عزوة الحسب والمال، فسلبوهم حريتهم وسخروهم لإرضاء نزواتهم وشهواتهم، وقيض الله لهم الحرية على يد هذا الدين العظيم الذي أبان فيه نبيه المعصوم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم أن أساس التفاضل ليس النسب الرفيع أو المال الوفير، أو نفوذ القبيلة وسطوتها بين القبائل، وإنما أساس التفاضل قيمة سامية هي التي تحدد مكانة الشخص ورتبته عند الخالق عزوجل وعند عباده، فالتقوى والورع هو الذي يقود العبد إلي مقامات رفعية، وفضاءات لا يحلق معها جاه عريض، أو شرف تليد.

والمساواة هي أهم عامل جذب أولئك القوم لاعتناق الإسلام، والذود عن حياضه، بعد أن لاح لهم أن الناس كافة شريفهم ووضيعهم أمام الشرع سواء، وأن الدين الخاتم لا يكترث لتلك التقاليد الممجوجة التي كانت سائدة قبل فترة وجيزة فيفضل عرقًا على عرق، ويعضد لونًا على لون، بل الناس جميعهم باختلاف مشاربهم وسحناتهم سواء، «لا فضل لعربى على عجمي إلا بالتقوى» ففي هذا الحديث نستشف حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على توطيد مبدأ المساواة، ومحاربة عادات تغلغت في الصدور، ورسخت فى الأفهام، وصارت سجية يزاولها الناس دون اكتراث أو استهجان، وهي قضية التباهي بالأنساب وتصنيف الخلق إلي طائفتين الأولى ذات شرف باذخ، وعزوة تناطح النجوم، وتزاحم موكب الجوزاء، وأخرى وضيعة النسب، موصومة الحسب، ينظر لها ذوو السيادة ومن ينزعون إلي عرق كريم، كما ينظر الرجل إلى قلامة ظفره، لقد كانت هذه الفوارق غائرة في أعماق المجتمعات، ولعلها ما زالت و لا يحطمها إلا تقرير هذا المبدأ السامى الذى يرد الناس جميعهم باختلاف مشاربهم وسحناتهم إلي رب ذرأهم من عدم، وأنشأهم من فراغ، ولهذه الأحاديث صور تفوق الإحصاء.

ولقد سعت التشريعات الحديثة أن تقتفى أثر الإسلام في هذا التطبيق من حيث المبدأ، لكنها «لم تبلغ ما بلغه الإسلام من الكمال في التطبيق حتى في أرقى الدول المتقدمة وأشدها حرصاً على الديمقراطية، فالتعويض عن المجنى عليه يتفاوت بتفاوت الوضع الاجتماعى للمجنى عليه، وللعقوبة حد أدنى وأعلى كما للقاضى سلطة تقديرية فى أن يختار منها مايراه تبعاً لمصلحة الجانى أو مراعاة الصالح العام».

إن الحكم الإسلامى يلزم الراعي والرعية على حد سواء بحقوق وواجبات، يخضع لها الأقوياء فضلاً عن الضعفاء، وتسرى أطرها على الناس قاطبة تدفع عنهم شراً، وتورد عليهم سروراً بقدر متساو، ولا تكون حكرًا على عرق دون عرق، ولا على طائفة دون أخرى، فالجميع أمام شرع الله سواء.

ومن أوجه العدالة، في عقوبات الحدود والقصاص والتعازير، أن العقوبة تتناسب مع الجريمة تناسبًا تاماً، فلم يشرع سبحانه وتعالى كما يقول ابن قيم الجوزية في «الكذب قطع اللسان ولا القتل، ولا في الزنا الخصاء، ولا فى السرقة اعدام النفس، وأن ما شرع لهم فى ذلك ما هو موجب أسمائه وصفاته من حكمته ورحمته ولطفه واحسانه وعدله، ومن المعلوم أن النظرة المحرمة لا يصلح الحاقها فى العقوبة بعقوبة مرتكب الفاحشة، ولا الخدشة بالعود بالضربة بالسيف، ولا الشتم الخفيف بالزنا والقدح فى الأنساب، ولا سرقة اللقمة والفلس بسرقة المال الخطير العظيم».

وينبغي أن نلاحظ أن الشريعة الإسلامية الغراء لم تكفل العدالة للمعتدى عليه فحسب، بل شملت المتهم والجاني أيضاً، فلقد وضعت ضوابط ومعايير حتى لا يعاقب الشخص بدون جريرة أو دليل دامغ، فالأصل براءة الذمة والحدود تُدرأ بالشبهات، كما وضعت أحكاماً خاصة فى طرق إثبات الجناية.

***

د. الطيب النقر

 

بقلم: شايلا لاف

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

هل يمكن أن تكون تلك الرعشة في أسفل العمود الفقري وسيلة لإعادة اكتشاف المرح؟

في بحث جديد، بحث العلماء في الفوائد المحتملة لمنح الأشخاص المصابين بالاكتئاب قشعريرة جمالية.

في إعلان تلفزيوني تايلاندي من عام 2013، يُقبض على صبي صغير وهو يسرق الدواء لأمه المريضة. يتدخل بائع حساء محلي ليدفع للصبي وجبة مجانية من حساء الخضار. بعد سنوات، عندما يمرض بائع الحساء وتتلقى ابنته فاتورة طبية كبيرة، ثم تكتشف أن الطبيب الذي يعالجه قد تنازل عن الرسوم: لقد كبر الصبي، وهو يرد لطف والدها. وفي التعليقات المنشورة على الفيديو، يصف الأشخاص كيف أثارت القصة مشاعر قوية. كتب أحدهم: "هل يشعر أحد بقشعريرة؟"

في الواقع، من المعروف أن هذا الفيديو يسبب البرد بشكل خاص: فهو واحد من 10 إدخالات في ChillsDB، وهي قاعدة بيانات للمحتوى الذي يرسل الرعشات إلى أسفل العمود الفقري للأشخاص أو يمنحهم صرخة الرعب/ goosebumps. تُعرف أيضًا باسم الارتعاشات أو هزات الجماع الجلدية أو القشعريرة الجمالية، فهي تثير إحساسًا مشابهًا جسديًا عندما نكون باردين جسديًا، ولكنها تحدث استجابةً لمواجهة مقطوعة موسيقية أو فيلم أو فن أو خطاب ملفت للنظر.

بشكل عام، عندما يختبر الناس هذا النوع من القشعريرة الجمالية، يكون الأمر ممتعًا ذاتيًا، بل ومبهجًا أيضًا. ماذا لو كان من الممكن تحفيزها عمدًا، على سبيل المثال لأغراض علاجية؟ هذا ما بحثه فيليكس شولر من معهد دراسات الوعي المتقدم وزملاؤه في دراستهم الأخيرة في مجلة BMC* للطب النفسي.

ركزت الكثير من الأبحاث السابقة حول القشعريرة الجمالية على القشعريرة التي تسببها الموسيقى. لكن شولر كان يعمل في صناعة السينما، وكان يعلم جيدًا أن الأفلام والفيديو يمكن أن تسبب القشعريرة أيضًا. أنشأ مع معاونيه قاعدة بيانات القشعريرة في عام 2023. وهي تحتوي على 204 مقاطع فيديو تحفز القشعريرة من YouTube وReddit، تم جمعها بواسطة خوارزمية قامت بفرز آلاف التعليقات بحثًا عن الأشخاص الذين يقولون إنهم شعروا بالقشعريرة أو الأحاسيس الجسدية المشابهة، مثل الرعشات وصرخة الهلع.

في دراستهم الجديدة، عرض الفريق اثنين من مقاطع الفيديو الحقيقية الموثقة للغاية التي تسبب البرد لـ 96 شخصًا تم تشخيص إصابتهم باضطراب اكتئابي كبير: الإعلان التايلاندي أو مجموعة فيديو من الخطب التحفيزية لأشخاص مثل ليس براون وإريك توماس وويل سميث، مصاحبة   بالموسيقى الملهمة.

تعد القشعريرة هدية للجميع، ولكنها قد تكون مفيدة بشكل خاص للأشخاص الذين فقدوا القدرة على الوصول إلى هذا الشعور.

بشكل عام، قال 50 من المشاركين إنهم عانوا من القشعريرة (31 منهم بعد مشاهدة الفيديو التايلاندي، و19 بعد مشاهدة الخطابات المتنوعة). سجل هؤلاء المشاركون الذين أصيبوا بالقشعريرة أيضًا درجات أعلى في استبيان الاختراق العاطفي (EBI) الذي أكملوه بعد ذلك، وهو مقياس يطرح أسئلة حول قدرة الشخص على استكشاف المشاعر الصعبة، أو تجربة "التحرر العاطفي" و"حل الصراع". وفي دراسات أخرى، تم استخدام مؤشر EBI لتقييم شعور الناس بعد تناول العقاقير المخدرة، مثل السيلوسيبين، وارتبطت الدرجات الأعلى بزيادة في الرفاهية.

يبدو أيضًا أن القشعريرة تساعد الأشخاص الذين يعانون من أعراض الاكتئاب على التفكير بشكل أقل سلبية تجاه أنفسهم. بعد مشاهدة الخطب التحفيزية التي ركزت على موضوع الفشل الشخصي، وافق المشاركون الذين عانوا من القشعريرة بقوة أكبر على بنود الاستبيان مثل "أنا أستحق الحب والاهتمام والاحترام من الآخرين" و"أنا عادة أثق في الآخرين". سوف يعاملني الناس بشكل عادل مقارنة بالمشاركين الذين لم يصابوا بالقشعريرة.

ومع نهاية الدراسة، كان لدى الأشخاص الذين شعروا بالقشعريرة ردود فعل عاطفية أقوى تجاه مقاطع الفيديو، وانتهى بهم الأمر بمستويات أعلى من قبول الذات، وخجل أقل، مقارنة بالأشخاص الذين لم يشعروا بالقشعريرة. يقول شولر: "يبدو أن القشعريرة جزء مهم من القصة".

بالطبع، تسلط الدراسة الضوء أيضًا على أحد قيود استخدام القشعريرة علاجيًا، حيث لم يتعرض لها العديد من المشاركين. وهذا يتناسب مع الأبحاث السابقة؛ على الرغم من أن القشعريرة تبدو محسوسة عالميًا في جميع الثقافات، إلا أنه لا يشعر الجميع بالقشعريرة في كثير من الأحيان، أو استجابة لنفس المحتوى. يقول شولر:"يشعر الجميع بالقشعريرة، ولكن لا يصاب الجميع بالقشعريرة من نفس المحتوى، أو في نفس الحالة، أو في نفس اللحظة". لاستخدام القشعريرة كتدخل علاجي، من الأفضل أن يكون الشخص متناغمًا مع الموسيقى أو الفن الذي يمنحه قشعريرة.

لا يعتقد شولر أن القشعريرة ستحل محل العلاجات الأخرى، ومن غير المعروف إلى متى قد تستمر هذه التأثيرات، أو مدى عمق التأثير الذي يمكن أن تحدثه على الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب الشديد. لكنه يرى أن القشعريرة هي أداة يمكن أن يستخدمها المعالجون في المستقبل كوسيلة للتحفيز. قد يبدو هذا كأنك تعرض مقاطع فيديو للأشخاص أو تجعلهم يستمعون إلى الموسيقى في الجلسات، أو في المنزل بمفردهم. يقول شولر إن ذلك يمكن أن يساعد الناس على "العثور على الطاقة للقيام بالأشياء والاستيقاظ في الصباح". ومقارنة بإحداث اختراقات عاطفية من خلال مواد مثل السيلوسيبين، فإن إعطاء شخص ما قشعريرة أمر ميسور التكلفة وخال من المخاطر بشكل أساسي.

لقد شعرت بالقشعريرة مؤخرًا أثناء الاستماع إلى كونشيرتو البيانو لأحد الأصدقاء في قاعة كارنيجي. في جزء من الأداء، مد يده إلى البيانو وأمسك بالأوتار - مما أحدث صوتًا مكتومًا ومؤرقًا، كما لو أن اللحن كان يحاول الهروب من قوة غاشمة تعيقه. عندما انتهت الأغنية، شعرت بموجة من الخفة والعجب (ورعشة في العمود الفقري).

تعتبر القشعريرة هدية لأي شخص، لكنها قد تكون مفيدة بشكل خاص للأشخاص الذين فقدوا القدرة على الوصول إلى هذا الشعو. يقول شولر: " لدينا أداة لمنح (المصابين بالاكتئاب) إحساسًا بما تشعر به عند تجربة المتعة مرة أخرى.ومن هنا يمكن أن تبدأ دوامة إيجابية نحو التفاعل مع البيئة ونهاية العزلة الاجتماعية وإمكانية العثور على المتعة والأمل من جديد ".

***

.....................

* BMC Psychiatry  مجلة علمية واسعة الانتشار وتغطي مجموعة واسعة من المواضيع، بما في ذلك علم الأدوية النفسية والعلاج النفسي والأساليب النفسية الاجتماعية للاضطرابات النفسية، بالإضافة إلى أبحاث علم الوراثة والفيزيولوجيا المرضية وعلم الأوبئة. ترحب المجلة بالمقالات العلمية الأساسية والتطبيقية، والأبحاث التي تستكشف العلاجات المبتكرة، وطرق تقديم الخدمات، والطب النفسي الاجتماعي.

المؤلفة: شايلا لاف/ Shayla Love كاتبة في Psyche. وقد ظهرت مقالاتها الصحفية العلمية في مجلات Vice وThe New York Times وWired وغيرها. تعيش في بروكلين، نيويورك.

 

الإبداعُ الفَنِّي يَرتبط بالبُنيةِ الأخلاقية الفَرْدِيَّة والجَمَاعِيَّة، ولُغَةُ العملِ الأدبي تَرتبط بِنَبْضِ الواقعِ اليَوْمِي، والمشاعرُ الإنسانية نابعةٌ مِن تفاصيل الحياة ظاهريًّا وباطنيًّا، والتَّعَمُّقُ في الطاقةِ الرمزية اللغوية إنَّما هو _ في الحقيقة _ تَعَمُّقٌ في مَكنوناتِ النَّفْسِ البشرية، لأنَّ اللغةَ والإنسانَ هُمَا الحاملان للأدبِ والفَنِّ والفِكْرِ والمَعرفةِ، ورُوحُ اللغةِ ورُوحُ الإنسانِ هُمَا القاعدتان اللتان تَقُوم عليهما العمليةُ الإبداعيةُ نَصًّا ومَعْنى.

والأدبُ هُوَ الابنُ الشَّرْعِيُّ للأخلاقِ، واللغةُ هي الوريثةُ الشرعيةُ للحُلْمِ الإنساني. وإذا حَصَلَ صِرَاعٌ بَين الأدبِ والأخلاقِ، فإنَّ الإبداعَ سَيُصبحُ شَبَحًا باهتًا بِلا سُلطةٍ ولا هُوِيَّة، وإذا حَدَثَ صِدَامٌ بَيْن الفَنِّ والشُّعُورِ فَإنَّ اللغة سَتُصبحُ صَدى مَبحوحًا لا صَوْتًا هادرًا.

ولا يَخفَى أنَّ الشِّعْرَ هُوَ الفَنُّ الأكثرُ التصاقًا باللغةِ، لأنَّه قائمٌ على التَّكثيفِ والنَّقَاءِ والصَّفَاءِ والصُّوَرِ الجَمَالِيَّةِ المُدْهِشَةِ، والشُّعُورِ الإنساني النَّبيل، وإعادةِ تَشكيلِ الأشياءِ العاديَّة لِتُصبح مُبْهِرَةً، وتَكثيرِ زَوايا الرُّؤية لتفاصيل الحياة لِتُصبح عوالم سِحْرِيَّة مِن الأحلامِ المُحَلِّقَةِ والذكرياتِ المُلَوَّنَةِ. وإذا خَسِرَ الشاعرُ لُغَتَه خَسِرَ هُوِيَّتَه، وإذا فَقَدَ الشاعرُ شُعُورَه فَقَدَ إنسانيته.

ومِن أسوأ التناقضات بَين الحَالةِ الإبداعيَّةِ والمَوْقِفِ الأخلاقيِّ، التناقضُ الصارخُ في حياة الشاعر الأمريكي عِزرا باوند (1885_1972) الذي يُعْتَبَر أحد أهَمِّ شخصيات حركة شِعْر الحداثة في الأدب العالمي في النِّصْفِ الأوَّلِ مِن القَرْنِ العِشرين، حتى إنَّ الشاعر الإنجليزي مِن أصلِ أمريكي تي إس إليوت أهدى إلَيه قصيدته " الأرض الخراب" (أشهر قصيدة في القرن العِشرين) باعتباره مُعَلِّمًا له، وأبًا للحداثة الشِّعْرية الغربية، حيث قال: (إلى عِزرا باوند الصانع الأمهر).

وُلِدَ عِزرا باوند في ولاية آيداهو في المنطقة الشمالية الغربية من الولايات المتحدة. وكان طِفلاً وحيدًا لعائلته، وكان والده يَعمل مُسَجِّلًا في مكتب الأراضي العامة.

دَرَسَ الأدبَ المُقَارَن في جامعة بِنسلفانيا في الفترة (1900_ 1905)، ولكنَّه غادرَ أمريكا إلى أوروبا عام 1908، لأنَّه كان عاجزًا عن التأقلم معَ المجتمع الأمريكي.

تزوَّجَ عِزرا باوند مِن دورثي شكسبير ابنة العشيقة السابقة للشاعر الأيرلندي وليام بتلر ييتس (1865 _ 1939) الفائز بجائزة نوبل للآداب (1923). وقد أسهمَ ييتس وباوند في بدايات الحداثة الإنجليزية، وانخرطا في حركات عديدة أثَّرَتْ في مُستقبَل الشِّعْر الإنجليزي.

تَرَكَ عِزرا باوند إنجلترا مع بداية الحرب العالمية الأُولَى. وبِحُلول عام 1924 كان قَد استقرَّ بصفة دائمة في إيطاليا مع عائلته. وخلال الحرب العالمية الثانية، كان أحد أشهر مُؤيِّدي نِظام مُوسوليني، بَلْ وكانَ مُنَظِّرًا لِدُوَلِ المِحْوَر (ألمانيا، إيطاليا، اليابان). لذلك لَمْ يَكُن غريبًا أن تُلْصَق بِه تُهمة الخِيانة لبلده الأُمِّ أمريكا بسبب كتاباته وخِطاباته الإذاعية.

وفي نِهاية المَطَاف، قَبَضَتْ عَلَيه قُوَّات إيطالية مُسانِدة للحُلَفَاء، وتَمَّ تَسليمُه إلى أمريكا التي حاكمته بِتُهمة الخِيانة، لكنَّ المحكمة قَضَتْ بأنَّه غَيْرُ مُذنِب لأنَّه مجنون. وعِندها، عارضَ الكثيرون هذه الفِكرة، وأُعِيدَ النظر في قضيته، وحُكِمَ عليه بالسجن 12 عامًا في مُستشفى إليزابيث للأمراض العقلية. وبعد إطلاق سَرَاحِه بِضُغوطات مِن كُتَّاب العَالَمِ، عادَ إلى إيطاليا، حيث عاش حتى وفاته عام 1972.

كانَ عِزرا باوند يَبحث عن البِدائية والعَفْوِيَّة والبراءة والصِّدْق في شِعْر الأُمَم التي لَمْ تُفْسِدْها الحَداثة الصناعية والتكنولوجيا الماديَّة، كما حَدَثَ لِمُجتمعاتِ أوروبا وأمريكا. والفكرة الأساسية لديه هي أنَّ العلاقات الكائنة بين الأشياء أهَمُّ مِن هذه الأشياء ذاتها، ولكن ليس كل الناس يَرَوْنَها. وَحْدَه الشاعر الكبير يَرَاها.

يُعْتَبَر عِزرا باوند من أعظم شُعَراء الحداثة في تاريخ الأدب الإنجليزي، ولا يُمكِن إنكار تأثيره على الشِّعْر. وكان مِن أوائل مَن استخدموا الشِّعْرَ الحُر، كما لَعِبَ دَوْرًا عظيمًا في اندلاع الثَّورة الشِّعْرية الحديثة التي أثَّرَتْ على الأدبِ الإنجليزي كُلِّه في القرن العشرين.

وتَمَرُّدُه الشِّعْرِي كانَ مُتوازيًا معَ تَمَرُّدِه النَّفْسِيِّ والشَّخْصِيِّ، فقد اشْتُهِرَ باحتقاره للعاداتِ والتقاليدِ السائدة في المُجتمع، ومَيْله إلى الاستفزاز والخُروج على المألوف. وكانَ مِن أتباع الفَيْلَسُوف الصيني كونفوشيوس، وكان يَعتقد أنَّ الدولة الفَاشِيَّة التي أسَّسها مُوسوليني في إيطاليا هي تجسيد للدَّولة المدنية التي حَلُمَ بها كونفوشيوس.

لَقَد ارتكبَ عِزرا باوند خطيئةَ حياته بِدَعْمِه المُطْلَقِ للفَاشِيَّةِ، ومُساندته العلنية لِمُوسوليني، حَيث سَخَّرَ مَوْهبته الشِّعْرية ومكانته الأدبية لدعمِ العُنْفِ والإرهابِ، وإيجادَ مُبَرِّر أخلاقي لهما. وهكذا يَتَّضِح التناقضُ الصارخُ بَين الحالةِ الإبداعية والمَوْقِفِ الأخلاقيِّ، ويَظْهَر الصِّدَامُ الحَتْمِي بَيْنَ الوَظيفةِ الجَمَالِيَّةِ للنَّصِّ الشِّعْرِيِّ الإنسانيِّ الذي يَحْفَظ كَرامةَ الإنسانِ ويُحَافِظ على شُعُورِه وأحلامِه وتاريخه وحضارته، وبَيْنَ الوظيفةِ الأيديولوجية للفَاشِيَّةِ التي تَقُوم على القتلِ والكَرَاهِيَةِ وتَصفيةِ الخُصُومِ وإلغاءِ الحُرِّياتِ الفرديةِ وتَدميرِ مُستقبلِ الإنسانِ وإقحامِ الدُّوَلِ في حُرُوب دموية عبثية.

***

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

في طبيعة العلاقة بين الإنسان والطبيعة، ومنها الحيوان، ومنها الطيور، ومنها الصقور، ومنها الشاهين.. نبدأ بالرؤية الإسلامية في قوله تعالى (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) سورة الإسراء، الآية 70.

وهي الرؤيا التي يبنيها التصور العقدي الإسلامي القائم على التفضيل والسخرة المشروعة والشرعية التي يقدمها النص الديني مفعمة بالحلال. قال تعالى (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون) سورة الأعراف، الآية 32

أما بخصوص مسألة الصيد أو البيزرة أو القنص أو ماشابه ذلك فنستند إلى قوله تعالى (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب) سورة المائدة، الآية 4

قال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآية في عديّ بن حاتم وزيد المهلهل الطائيين، وهو زيد الخيل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير.. قال يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة فماذا يحل لنا منها؟ فنزلت الآية.

في سفر التكوين تظهر ظهورا جليا صدارة الإنسان على الحيوان (وقال الله لنصنع الإنسان على صورتنا كمثالنا وليتسلط على سمك البحر وطير السماء والبهائم وجميع الأرض) الآية 26 الفصل الأول

و منذ ذلك الحين دأب الإنسان على إخضاع الطبيعة وكائناتها لإرادته عبر سلطان العقل والعلم والتقنية. وكان هذا الدّأب محتشما في بدايات الانفتاح على عوالم الطبيعة انطلاقا من الخوف منها حتى تغوّل إلى التحكم فيها والسيطرة عليها، سيطرة لم تكتف باستهلاكها بل صنعت المسافة السحيقة بين الإنسان والحيوان. وهي المسافة المفارقة التي تحدث عنها الفيلسوف البريطاني توماس هاكسلي (أنا من أشد المقتنعين بالهوة العميقة التي تفصل بين الإنسان العاقل المتحضر والبهيمة الحمقاء الهوجاء الرعناء)

واليوم، يمسك الإنسان بالطبيعة ويدخلها مختبراته العلمية كي يحكم قبضته عليها. ومن هذه الطبيعة أمسك بالحيوان وطوّعه وروّضه.. في حين كان بالأمس يتعامل مع الطبيعة من زاوية نفسية يؤسسها الخوف ويؤطرها. ومن ثمة كان الإنسان القديم عندما يحمل عليه النهر أو البركان أو يهجم عليه الحيوان يتخذها آلهة له ويقدم لها القرابين.. هكذا تحولت العلاقة بين الإنسان والطبيعة من حالة اللاثقافة إلى حالة الثقافة، أي من حالة الخرافة إلى حالة العلم.3595 صقر

وعندما أقارب علاقة الإنسان بالشاهين  أنطلق من ملاحظاتي لأصدقائي البيازرة وهم يتعاملون مع صقورهم داخل حميميتهم في بيوتهم أو في الميدان، ومن خلال معاناتهم في تربية وترويض شواهينهم. وأتساءل: ما الضامن لرجوع الشاهين إلى كف صاحبه عندما يرسله إلى الفضاء؟ وهو الطائر الموسوم بالسماوي وبالشمسي والأسرع؟ ما الضامن لعودته إلى الأسر؟ إن هذه العلاقة غير القابلة للقبض ولا للقياس ولا للتفسير هي ما أوحى لي بالاشتغال على هذه الورقة المتواضعة في الكشف عن بعض رمزية هذا الكائن الجارح والطائر المتميز، الشاهين.

في كتابه (قاموس الرموز الإنسانية) يقول مالك شبال:

(الصقر حيوان أليف في فضاءات القصور الملكية، وهو طائر مفعم بالكرامة وذكي وقناص ماهر وهو رمز شمسي وهو حاضر في كثير من الهدايا المتبادلة بين الملوك والسفراء عبر التاريخ القديم)

والشاهين أو الصقر الجوال يطلق عليه في المصادر التوثيقية الغربية ب le faucon peregrinus  أي الجارح الذي ينزح من جميع الأماكن إلا القطبية منها. لهذا نعتوه بالجوال. والشاهين كلمة فارسية تعني الميزان وتفيد الملكي  أيضا في تفكيكها إلى (شاه) و(ين) الأولى تعني الملك والثانية تفيد علاقة التخصيص.

في مصر القديمة كان الصقر بحكم انسيابية جماله يرمز للمبدأ السماوي. وكانوا يشخصون (حوريس) إله الفضاءات العلوية على شكل إنسان برأس صقر، متأثرين في ذلك بنظرة الصقر المتميزة باعتباره يرى كل شيء حسب منظورهم. من هنا تطورت عين الإله (حوريس) في منظورهم الخرافي حتى تجاوزت الرؤية الشاملة إلى الرؤية الخصيبة.

وأما الأسطورة الجرمانية السكندنافية فقد أوْلَتْ للصقر أهمية كبيرة، فربطته بمقولة الخصب والعطاء كما جعلته شارة للفرسان تيمنا به باعتباره رمزا إلهيا ضد كل ما هو شيطاني. وقد اعتبره الفيلسوف (بورفيري) شخصية تتقمص معنى الرسالة السماوية لأن الطائر الجارح يمتلك القدرة على قراءة المستقبل. من هنا جاء اعتقادهم أن ظهور هذا الطائر فأل خير ومن هنا نفهم أيضا تطيّر أهل الجاهلية قبل أن يصحح عقيدَتهم النبيُّ محمد صلى الله عليه وسلم في حديثه (.. إذا تطيرتَ فامض..)

تقدم بعض الدراسات الميتولوجية الصقر في ثقافات العصور الوسطى وهو يقطع أوصال الأرانب. وهو مشهد طبيعي إذا قسناه بمقولة التوازن الطبيعي. لكن تفكير أهل هذا العصر يمضي به إلى اعتبار هذه العلاقة علاقة تطهيرية لأنهم فسروا الأرانب في رمزية الفسق في حين فسروا الصقور في رمزية النقاء. الصقر في هذه الميتولوجيا ينتصر ضد الشهوة وهو في نظرهم انتصار للذكورية النهارية على المبدأ الأنثوي الليلي.

في حضارة الأنكا بالبيرو قديما، اعتقد أهلها أن زعيم هذه السلالة (مانكو كاباك) كان له أخ أو معادل روحي أو ملك حارس. وتمثلوه على شكل صقر.

وتجدر الإشارة إلى أن بعض الميتولوجيا قدرت في مشهد الصقر غير ذلك، أي أنها ربطته بالطاقة السلبية كما كان أهل (بورنيو) جنوب أسيا يعتقدورن. فبحارتهم كانوا إذا سمعوا صوت الصقر غيروا وجهة قواربهم.

أعتبر الصقر والشاهين تحديدا طائرا جارحا إشكاليا لا بالمفهوم المشكلة وإنما بمفهوم التركيب. ذلك لأن الشاهين يختزن في عمقه الوجودي كثيرا من الأسرار أو بعبارة أقرب كثيرا من الدلالات.

نذكر منها وهي المستعصية على الحصر دلالتين فقط هما: الرؤية والمعرفة في بعدها الغريزي.

و نحن في هذا الصدد نلوذ بالتأويل لسلوكات الشاهين التي قرأها المتخصصون في عالم البيزرة. وهو تأويل مشروط بنتائج بحوثهم العلمية ولا يشط بعيدا خلف بريق القراءات المجانية. قال فرانز بوس وهو عالم أنتربولوجيا (الصقر هو البصيرة والرؤية اللتان نتمكن عبرهما من رؤية العالم) ونحن نرى العالم في عين الشاهين وفي معرفته الخارقة لما حوله. نرى فيه قوة البصر والبصيرة وقوة المباغتة وقوة الانقضاض والسرعة الخيالية والكرامة والنبل والقدرة على التكيف والقدرة على تحقيق التوازن وغيرها من الدلالات التي لا يتسع لها المقام هنا.

وسنضرب مثلا واحدا يكفينا طائلة السرد، ويتعلق بالمصور الأمريكي كاستر الذي اجتهد وجاهد كثيرا حتى تمكن من التقاط صورة للشاهين في حالة هبوط مثالي تجاوز فيه 360 كم في الساعة. وهنا نطرح السؤال: لِمَ لم تتبخر رئتا الشاهين وهو يهبط بهذه السرعة الخيالية؟ إن منطق الأشياء يقول إن العلاقة الفيزيائية بين جسم الطائر والفضاء تقوم على الخوف من شرط الضغط الجوي الذي يساوي موت الطائر في هذه الحالة التي يتعرض فيها لا محالة لتكسير جهازه التنفسي بالكامل، والموت طبعا.

لقد زوّد الله الشاهين بعظْمة في أنفه (العظمة الدرنية) وهي تعمل على إبطاء دخول الهواء إلى الرئتين مما يؤدي إلى تخفيف الضغط على الرئتين. كما تعمل هذه العظْمة على تغيير تحقيق توازن الطائر فور تغيير سرعته والانتقال من قوة إلى قوة أخرى دون أن يتأثر الشاهين بهذا التغيير المفاجئ.

هذا مثال من أمثلة من فيض لا متناهٍ لهذا الطائر المختلف. والشاهين مجال إنساني خصب يعكس المعاني والمفاهيم الإنسانية التي اشتغل عليها النقاد المحدثون وخرجوا منها بنتائج مبهرة بشأن هذا الكائن. فهو طائر مختلف واختلافه لا يتأتى من صورته على جذع شجرة أو فوق نتوء صخري بمنكبيه العريضين وبجلسته النبيلة ونظرته الثاقبة في صمت خرافي أو في تحليقه الساحر أو في انقضاضه على فريسته.. الشاهين طائر مختلف لأنه طائر نبيل.

قال عالم الطبيعيات كينيت ريتشموند (عند مقارنتنا نحن البشر بالصقور نبدو مخلوقات أقل درجة، لأن الصقور تمتاز بالقوة والجرأة والجمال والدم الساخن الذي يجعل منها مخلوقات نبيلة)

من هنا نفهم دعوة بعض التيارات الفكرية إلى تجاوز التصور الطبيعاني في علاقتنا بالحيوان وبعلاقتنا بالصقور والتي هي نظرة تفصل بين الطبيعة والثقافة.. إلى تبني التصور الإحيائي الذي ينسب للحيوان ما هو إنساني. وهكذا نحول الشاهين من مجرد طائر جارح قابل للتدريب إلى كائن منخرط في العلاقة الإنسانية التفاعلية.

***

نورالدين حنيف أبوشامة – المغرب

...............

* مداخلة على هامش المهرجان الوطني الأول للبيزرة المغربية الذي نظمته الجمعية الوطنية لصقارة القواسم بتاريخ 03 يونيو 2023 بمدينة المحمدية \ المغرب

بقلم: دين بورنيت

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

إن المتعة والسعادة مهمتان للغاية بالنسبة لصحتنا العقلية بحيث لا يمكن اختزالها في مادة الدوبامين الكيميائية الوحيدة في الدماغ.

إذا كنت عالم أعصاب لمدة عقدين من الزمن وما زال العدد في ازدياد، فسوف تلاحظ عندما يبدأ مجالك في الظهور في الخطاب السائد. في حين أن هذا عادة ما يكون أمرًا جيدًا (فهو مفيد بشكل خاص عندما يحظى مجال ما باهتمام الجمهور)، فإنه يمكن أيضًا أن يذهب بعيدًا، مما يؤدي إلى الارتباك وسوء الفهم في قضية معقدة بالفعل.

مثال على ذلك: الدوبامين، وهو واحد من العديد من المواد الكيميائية (وتسمى أيضًا الناقلات العصبية) الموجودة في الدماغ البشري، حيث يلعب العديد من الأدوار. ومع ذلك، إذا كنت ستتبع فقط السياق الذي يُذكر فيه الدوبامين في الكثير من الثقافة الحديثة، فقد تستنتج أن لديه وظيفة أساسية واحدة فقط ومحددة للغاية في الدماغ البشري، وهي إنتاج السعادة والمتعة.

"إليك كيفية تعزيز مستويات الدوبامين لديك"؛ "نصائح بسيطة لتحفيز تدفق الدوبامين"؛ "الاتجاه الجديد لصيام الدوبامين"؛ "هذا [موقع الويب/التطبيق/الجهاز/النشاط] مقنع لأنه يتلاعب بنظام الدوبامين لديك": هذه مجرد أمثلة قليلة من القصص الإخبارية والمدونات عبر الإنترنت، من بين عشرات الآلاف. الرسالة الشاملة من مثل هذه المقالات متسقة وواضحة: كلما زاد عدد الدوبامين في دماغك، زادت المتعة التي تشعر بها، وأصبحت أكثر سعادة.

لكي نكون منصفين، ليس أمرًا سيئًا بأي حال من الأحوال أن يكون الناس أكثر وعيًا بالعمل البيولوجي لأدمغتهم، والدوبامين هو بالفعل عنصر أساسي في علم الأعصاب لكيفية شعورنا بالسعادة.

إن قدرتنا على تجربة المتعة، كما هو الحال في الإحساس الأساسي بشيء ممتع أو "لطيف"، هي نتاج ما يعرف باسم "مسار المكافأة"، وهو دائرة صغيرة ولكنها مهمة توجد في أعماق الدماغ. كما قد تظن، فإن الدوبامين هو الناقل العصبي الرئيسي المشارك في وظيفة مسار المكافأة. ولهذا السبب يطلق عليه غالبًا مسار مكافأة الدوبامين. لذا، إذا كان نشاط الدوبامين في الدماغ يساهم بشكل حيوي في الإحساس بالمتعة، والمتعة هي جانب رئيسي من جوانب السعادة، فمن المنطقي أن تعزيز مستويات الدوبامين لديك سيجعلك أكثر سعادة، أليس كذلك؟

هناك منطق سطحي لهذه النظرة للأشياء. ولسوء الحظ، فإن المنطق لا يصمد في ظل التعقيد المرعب والترابط بين أدمغتنا. هناك الكثير من الأدلة التي تثبت أن مجرد "زيادة الدوبامين" لا يؤدي تلقائيًا إلى السعادة. ويأتي ذلك مع أبحاث مرض باركنسون.3597 GettyI

مرض باركنسون هو مرض تنكس عصبي يحدث عندما تبدأ المادة السوداء، وهي منطقة من الدماغ المتوسط تشارك في تنسيق الحركة (من بين أمور أخرى)، في الموت. على غرار مسار المكافأة، يلعب الدوبامين أيضًا دورًا مهمًا في وظيفة المادة السوداء. العلاج المفضل لمرض باركنسون هو عقار ليفودوبا، الذي يخفي أعراض مرض باركنسون عن طريق زيادة توافر الدوبامين في الدماغ، وبالتالي تعويض فقدان المادة السوداء.

في الأساس، يزيد الليفودوبا بشكل مباشر من مستويات الدوبامين. إذا كانت زيادة مستويات الدوبامين في الدماغ تؤدي تلقائيًا إلى المتعة والسعادة، فقد يكون ليفودوبا أحد أكثر الأدوية الترفيهية شعبية في التاريخ. ولكن هذا ليس هو الحال على الإطلاق. إن تناول الليفودوبا أمر غير سار في الواقع، ولهذا السبب لا ترى مرضى باركنسون في حالة من النشوة المستمرة

ومن الواضح أن الزيادة العامة في مستويات الدوبامين لا تؤدي إلى زيادة مقابلة في السعادة. إذا كان هناك أي شيء، فإنه يجعلك تشعر بالسوء. هذا لا يعني أن الدوبامين لا يقدم مساهمة بيولوجية مهمة في قدرتنا على الشعور بالسعادة؛ لأن هناك ما هو أكثر من ذلك .  يمكنك القول إن الدوبامين يمثل السعادة مثل البنزين بالنسبة للسيارة؛ إنه جزء لا يتجزأ من إنجاح الأمر،ولكن إذا قمت بملء سيارتك بالبنزين حرفيًا، إلى الحد الذي يتسرب منه من النوافذ، فلن يساعد ذلك أحداً.

الحقيقة هي أن عمل مسار المكافأة، وبالتالي تجربتنا للسعادة والمتعة، يتم تحديده من خلال عوامل عديدة  أكثر من مجرد مقدار الدوبامين الذي يتدفق في أدمغتنا. نعم، الدوبامين ضروري لعمل مسار المكافأة، ولكن الكثير من المواد الكيميائية الأخرى تشارك بطرق مختلفة.

ومن الأمثلة الواضحة على ذلك الإندورفين، المواد الأفيونية الطبيعية في الدماغ. تتفاعل فئة الأدوية الأفيونية (الهيروين والمورفين وما إلى ذلك) مع المستقبلات الأفيونية في الدماغ والجهاز العصبي التي يرتبط بها الإندورفين. يعمل كل من الإندورفين والأدوية المرتبطة به التي تحاكيه، على تحفيز النشاط في مسار المكافأة، مما يؤدي إلى الشعور بالنشوة. وهذا هو السبب في أن الأدوية التي تحاكي الإندورفين هي مخدرات قوية. مرة أخرى، القصة معقدة. بدلًا من إحداث المتعة أو "جعلنا سعداء"، يبدو أن الدور البيولوجي الأساسي للإندورفين (والمخدرات الأفيونية) يتعلق أكثر بمنع الألم أو السيطرة عليه.

الأوكسيتوسين، وهو ببتيد عصبي، مادة كيميائية أخرى في الدماغ تُذكر غالبًا في سياق السعادة. يُعرف الأوكسيتوسين باسم "هرمون الاحتضان" أو "هرمون الحب"، ويحظى بالاهتمام للدور القوي الذي يلعبه في العلاقات الشخصية والترابط البشري. يتم إطلاقه استجابة للتجارب الاجتماعية الإيجابية ويعمل مباشرة على الخلايا العصبية في مسار المكافأة، مما يساهم في شعورنا بالرضا تجاه التفاعل مع الآخرين بطرق مفيدة. تكون مستويات الأوكسيتوسين مرتفعة بشكل خاص أثناء النشاط الجنسي أو الإنجابي، مما يساعد على تفسير لماذا يمكن أن يكون عشاقنا وذريتنا مصدرًا قويًا للسعادة.

ومع ذلك، فإن الأوكسيتوسين لا يزيد فقط من اللقاءات العاطفية الإيجابية. يبدو أنه يضخم كل اللقاءات العاطفية، حتى السلبية منها. وهنا أيضاً يتطلب الأمر فارقاً بسيطاً، ومن الواضح أن مصطلح "المادة الكيميائية المنتجة للسعادة" ليس الحقيقة كاملة.

السيروتونين هو مادة كيميائية أخرى في الدماغ تشارك في السعادة. وهو الناقل العصبي الذي تستهدفه مضادات الاكتئاب الحديثة الأكثر شيوعًا. فهل من المؤكد أنها تلعب دورًا مهمًا في جعلنا أكثر سعادة؟ ليس تماما. إنه أكثر من مجرد مُعدِّل للمزاج والعاطفة. ويعني وجوده أن الأجهزة العصبية التي تتحكم في الحالة المزاجية يمكنها القيام بعملها بشكل أفضل.إنه يسهل على أدمغتنا تجربة السعادة والمتعة. إذا كان تحقيق السعادة هو هدف لعبة فيديو، فلن يكون السيروتونين هو البطل، بل سيكون الرجل العجوز الذليل الذي يوزع جرعات الشفاء وشكا من القوة. مفيدة بالتأكيد، ولكن بشكل غير مباشر.

هناك المزيد من المواد الكيميائية في الدماغ، الأقل شهرة (ولكنها أكثر أهمية من الناحية الفنية في الدماغ)، والتي تلعب أيضًا دورًا مهمًا في تجربتنا للسعادة.على سبيل المثال، نادرًا ما يتم ذكر الغلوتامات في المقالات الصحية العصرية، على الرغم من أنها الناقل العصبي الأكثر وفرة وأهمية في دماغ الثدييات. ربما هذا هو السبب في أنها لا تحظى باهتمام كبير من وسائل الإعلام - فهي تفعل الكثير بحيث لا يتم تكليفها بوظيفة محددة. ومع ذلك، إحدى هذه الوظائف هي تنشيط مسار المكافأة. في الواقع، يحفز عقار الكيتامين أجزاء من نظام الغلوتامات، وهو ما قد يفسر سبب فعاليته الشديدة ومخدر آخر شائع. يدرس الباحثون أيضًا إمكانات الكيتامين كمضاد للاكتئاب ويشيرون إلى دور الغلوتامات في السعادة.

أخيرًا وليس آخرًا، ضع في اعتبارك الدور المهم في السعادة الذي يلعبه GABA (حمض جاما أمينوبوتيريك)، وهو الناقل العصبي المثبط الأكثر شيوعًا وفعالية في الدماغ البشري. في حين أن غالبية الناقلات العصبية الأخرى مثيرة، مما يعني أنها تسبب المزيد من النشاط في الخلايا العصبية التي تتفاعل معها، فإن GABA يفعل العكس - فهو يثبط أو يوقف النشاط في الخلايا العصبية التي يتلامس معها. GABA يشبه إشارة المرور الحمراء. إذا كان هناك أي شيء، فهذا يجعل الأمر أكثر أهمية؛ تخيل نظام المرور في المدينة الذي يحتوي على أضواء خضراء فقط.

لقد اقترحت حتى الآن أن المتعة، من خلال تنشيط مسار المكافأة، هي جزء أساسي من السعادة، لذلك قد يبدو غريبًا أن تلعب مادة GABA، وهي مادة كيميائية مثبطة، دورًا. لكن ضع في اعتبارك أن السعادة يمكن أن تكون ناجمة عن غياب التوتر، أو المشاعر السلبية الأخرى، مما يجعلنا أكثر سعادة بشكل افتراضي. في الواقع، من بين العديد من المناطق العصبية التي "يغلقها" GABA هي تلك المرتبطة بالتوتر والمشاعر السلبية. علاوة على ذلك، يُعتقد أن فقدان نشاط GABA من مناطق الدماغ المرتبطة بالعاطفة، مثل اللوزة الدماغية، يساهم في عدد من اضطرابات القلق. تعمل البنزوديازيبينات، مثل الديازيبام (التي يتم تسويقها في الأصل باسم الفاليوم)، في المقام الأول عن طريق تحفيز نشاط GABA. وينطبق الشيء نفسه على أسلافهما المتشابهين كيميائيًا، ولكن الأكثر فعالية، الباربيتورات. حقيقة أن كل من البنزوديازيبينات والباربيتورات تجعلنا نشعر بالمتعة وتسبب الإدمان بشدة (خاصة الأخير) تشير بقوة إلى أن GABA، على الرغم من إغلاق الأشياء، يمكنه بسهولة زيادة سعادتنا.

أنا لا أدعى أن هذه المواد الكيميائية المختلفة في الدماغ، وخاصة الدوبامين، لا تلعب أدوارًا مهمة، أو حتى حاسمة، في تجربتنا للسعادة. من الواضح أنها تفعل ذلك. وربما يكون من الجيد أن تصبح رؤيتنا الثقافية للسعادة والرفاهية تدريجيًا أكثر علمية بطبيعتها، وليست روحانية أو أيديولوجية أو أي شيء آخر أقل واقعية، وبالتالي أكثر انفتاحًا على التفسير (والمعالجة المفيدة).

ولكن هناك أيضًا الحكمة القديمة القائلة بأن القليل من المعرفة أمر خطير. ما يقلقني ليس عدد الأشخاص الذين يصرون على أن الدوبامين عامل مهم في كيفية عمل السعادة في أدمغتنا. ما يقلقني أكثر هو الإيحاء المتكرر، بدرجات متفاوتة من الحدة، بأنه العامل الوحيد المعني؛ إن الدوبامين بالنسبة للسعادة هو بمثابة تدفق الماء الساخن للاستحمام.

وكما آمل أن أكون قد أوضحت، فإن هذا ليس هو الحال ببساطة. والإصرار على خلاف ذلك، سواء بقصد أو بغير قصد، لا طائل منه. والأمر هو أنه حتى كل ما قلته هنا، على الرغم من تعقيده وارتباكه كما قد يبدو في بعض الأحيان، هو مجرد جانب واحد من صورة أكبر بكثير. من المفيد أكثر أن ننظر إلى النظام بأكمله، بغض النظر عن مدى رغبتنا في تقسيمه إلى مكونات فردية.

ما أقصده هو أن تجربة السعادة هي جزء لا يتجزأ من صحتنا العقلية ورفاهيتنا، واختزالها في مسألة مواد كيميائية أساسية - وخاصة مادة واحدة فقط - هو أمر غير دقيق ومفرط في الاختزال. كما أنه يخاطر بتطبيق نفس المنطق على جوانب أخرى من النفس البشرية. عندما ننظر إلى الظروف المعقدة من حيث التفاعلات الكيميائية الأساسية، فإننا نجازف بتجاهل العوامل النفسية والاجتماعية المعقدة التي تحدد رفاهية الشخص.

لقد بُذل الكثير من الوقت والجهد للابتعاد عن هذا النهج الاختزالي في التعامل مع الصحة العقلية. إذا عدنا إليها، فلن يكون أحد سعيدًا. بغض النظر عن كمية الدوبامين الموجودة في دماغهم.

(تمت)

***

.....................

المؤلف: دين بورنيت/ Dean Burnett : عالم أعصاب ومؤلف. تشمل كتبه "الدماغ الأبله" (2016)، و"الدماغ السعيد" (2018)، و"المنطق النفسي: لماذا تسوء الصحة العقلية، وكيف نفهمها" (2021). يعيش في كارديف، ويلز.

سألني أحد الأصدقاء، ما هي أهم وأبرز سمات وخصائص الدولة الشموليّة؟. ومن خلال متابعتنا لسياسات الدولة الشموليّة/ الكليانيّة في دول الاستبداد التي سادت في أوربا، والتي مثل نهجها الشمولي/ الكلياني الملك "لويس الخامس عشر" في فرنسا بمقولته الشهيرة سيئة الصيت: (أنا الدولة والدولة أنا)، أو متابعتنا في دول العالم الثالث التي سارت على هذا النهج، ولم تزل قائمة في العديد من دولها، تبين معنا أن أهم السمات والخائص التي تمتاز بها هذه الدولة المستبدة القهريّة هي التالي:

أولاً: هي دولة جاءت من خارج إرادة الشعب، أي لم يشكلها الشعب بعقد اجتماعي، وبالتالي هي دولة في سياساتها وآليّة عملها غير شرعيّة، فالشعب ليس له أي دور في اختيار قادتها وتحديد طبيعة نظامها السياسي والاقتصادي والثقافي. وبالتالي، هي دولة جاءت الطبقة الحاكمة إلى سدّة الحكم فيها بالقوة، أو بالغلبة، وهذه القوى الحاكمة غير الشرعيّة الخارجة عن إرادة الشعب وعقده الاجتماعي، هي من يحدد سياسات الدولة وشكل حكمها وآليّة الحكم فيها أيضاً.

ثانياً: هي دولة غالباً ما يسيطر على دفة الحكم فيها، قوى اجتماعيّة لها مرجعيات تقليديّة، عشائريّة أو قبليّة أو طائفيّة أو مذهبيّة أو حزبيّة، وبعضها لا يمتلك أي دستور ينظم حياة المجتمع داخل الدولة، وبعضها لها دساتير مشبعة بمفردات الحريّة والعدالة والمساوة، ولكن في الواقع كل ما يرد في هذه الدساتير ليس أكثر من شعارات لذر الرماد في العيون، فالدولة هنا لا تعمل في سياقها العام لمصلحة الشعب بقدر ما تعمل لمصلحة القوى الحاكمة وحاشيتها وأسرها ومرجعياتها التقليديّة. وإن عملت للشعب، فهي تعمل من منطلق شعبوي، أي تريد من عملها إرضاء الناس للبقاء في السلطة، وليس من منطلق المسؤوليّة  المنطلقة من المبادئ القانونيّة والدستوريّة.

ثالثاً: هي دولة غالباً ما تحتمي فيها القوى الحاكمة ذات المرجعيات التقليديّة بحزب حاكم، يطرح شعارات فضفاضة في الحريّة والعدالة والمساواة والوطنيّة والقوميّة، لا ترتكز على بنية أيديولوجية ثوريّة ومنهج فكري عقلاني نقدي في التفكير والممارسة، لذلك تتخذ هذه القوى الحاكمة هذه  الشعارات الثوريّة ذات الطابع والوطني أو القومي واجهة لسياسات براغماتيّة، وعندما تجد أي معارضة لسياساتها من قبل الشعب، أو حتى من  ينتقد سياسات الدولة الداخليّة والخارجية البعيدة كل البعد عن جوهر وروح هذه الشعارات، نجدها تعمل على مواجهة وقمع كل من يعارضها تحت ذريعة عدم إيمان هذه المعارضة بهذه الشعارات والعمل على عرقلة تطبيقها،. هذا في الوقت الذي تُحوّل فيه القوى الحاكمة ذات الطبيعة الحزبيّة أحزابها ومنظماتها إلى حزام ناقل للسلطة لا أكثر، أي العمل على تنفيذ ما تريده منهم القوى الحاكمة حتى لو تعارض ذلك مع مبادئ وشعارات هذه الأحزاب والمنظمات أو الاتحادات. وبناءً على ذلك تفقد الأحزاب التي يحكم باسمها دورها الحقيقي في قيادة الدولة والمجتمع.

رابعاً: هي دولة يدعي قادتها الحقيقيون أو المهيمنون على السلطة بالقوة، أنها دولة قانون ومؤسسات ومواطنة. ولكن في التطبيق العملي هي بعيد كل البعد عن هذه الادعاءات، فالدولة تحكم في الواقع من قبل الطبقة الحاكمة ومن يواليها من مرجعياتها التقليديّة، ومن الانتهازيين والمصفقين الذين يخدمونها خدمة لمصالحهم الأنانيّة الضيقة أيضاً، فالقانون بكل مستوياته يخرق دائما من قبل القوى الحاكمة، والاقتصاد يصبح بيد القوى الحاكمة وحاشيتها، والسياسة تصب دائما في كيفيّة حفاظ القوى الحاكمة على السلطة بيدها، وفي الثقافة تعمل القوى الحاكمة على إقصاء المثقفين العقلانيين التنويرين وكل ما يساعد على خلق بنية فكريّة عقلانيّة تنويريّة بين مكونات الدولة والمجتمع، في الوقت الذي تدفع فيه إلى الواجهة رجال دين ممن يشتغلون على الفكر الغيبي الامتثالي الذي يبارك للسلطة حكمها وظلمها وتجهيلها وقهرها للرعيّة، يساندها شرائع من مدعي الثقافة المطبلين والمزمرين للسلطان، الذين يعملون بدورهم على تبرير كل ما يصدر عن الحاكم لإقناع الشعب بما يُطرح والأخذ به كحقائق لا يأتيها الباطل، والهدف طبعاً هو  تهجين الشعب ومسح عقول أبنائه وإقناعهم بأن كل ما يصدر عن السلطة الحاكمة، من سياسات وتشريعات وغيرها هي عقلانيّة وهدفها مصلحة الشعب.

خامسا: هي دولة في الحقيقة يعيش حكامها بواد وشعبها بواد، بل هي قوى حاكمة نتيجة فسادها وقمعها وظلمها للشعب، راحت تعيش حالة خوف من الشعب، وتعمل على الاكثار من الأجهزة الأمنيّة، هذا الأجهزة التي تحولت إلى فزاعة بل أداة قمع بيد السلطة الحاكمة، تسخرها لقمع كل من تسوّل له نفسه انتقاد السلطة وقياداتها وعملها وحتى فسادها، ومن المفارقات العجيبة أن هذه الأجهزة الأمنيّة التي سبب قيامها كما تدعي القوى الحاكمة هي حماية الشعب من أعداء الداخل والخارج، هي ذاتها تخاف من الشعب كثيراً، وتقوم بوضع التحصينات والأسيجة والحراسة المشدّدة حول مقراتها. وعلى هذا يتحول دورها من أم المواطن إلى  نتشر سياسة الخوف والرعب والقمع، وهي السياسة الأكثر تأثيراً على الفرد والمجتمع فكراً وممارسة، وفي مثل هذه الحالة تغيب الحريات وكل ما يرافقها من إبداع، فالفن والأدب لم يعودا بخدمة الشعب بل بخدمة السلطة الحاكمة. والفكر الفلسفي والتفكير الحر، لم يعد له مكانه كفر يساهم في توعية الشعب والرقي به، بل هي تعمل على تسييد الفكر الجبري الاستسلامي، وكل فكر يغيب العقل والإرادة الإنسانيّة دينيّاً كان أم وضعيّاً.

سادساً: هي دولة نجد فيها من يساهم في إدارتها شخصيات من خارج مؤسسات الدولة، أي ليس لها أي صفة قانونيّة مكلفة بها بشكل رسمي وفق الدستور وأنظمة الدولة، وترى أن هذه الشخصيات من داخل البيت الحاكم أو من يواليه تصول وتجول في سياسات الدولة، حيث تقوم بتعين فلان في هذا الموقع، أو تخرج فلان منه، وتجتمع بهذه الشريحة الاجتماعيّة أو تلك وتعطي توجيهاتها وفق ما تريده هي تحت الادعاء بأن ما تقوم به هذه الشخصيات (غير الشرعيّة) هو لمصلحة الدولة والمجتمع. وهذا في الحقيقة ما يدل على غياب ما يسمى دولة المؤسسات والقانون والمواطنة، وفرض دولة الوصاية والمحسوبيات والزعامات والكينتونات السلطويّة.

سابعاً: هي دولة غنيمة في الحقيقة، حيث تجد أن أكبر المؤسسات الاقتصاديّة وذات الربحيّةّ العالية، بيد الطبقة الحاكمة وحاشيتها، أو من يمثلها في المواقع الاقتصاديّة داخل الدولة، وهذا ما يساهم في نهب ثروات البلاد وتحويلها إلى أرصدة في بنوك الخارج وحرمان الشعب منها، وزيادة إفقاره وتجويعه. وخلق حالة من التفاوت الطبقي الحاد والمخيف ما بين طبقة قليلة العدد من المسؤولين والموالين للبيت الحاكم، تملك حصة الفطير الكبرى من حيث مواقع المسؤوليّة والبعثات التعليميّة والسيطرة على المواقع الاقتصادية، وامتلاك القصور والسيارات الفارهة.. وغير ذلك، وطبقة هي الأوسع تعيش حالات من الفقر والجوع والحرمان وفقدان تكافؤ الفرص والكفاءة والجهل والتخلف والمرض.

ثامناً: هي دولة غائبة الوضوح عموماً في توجهات خطها السياسي والثقافي والاقتصادي، فهي لا تمثل لا الليبراليّة ولا الاشتراكيّة ولا أي خط سياسي أو اقتصادي أو ثقافية واضح المعالم، وهذا الشكل من عدم الوضوح يرافقه سياسات براغماتيّة، وأهم وسيلة لتبرير هذه السياسات والتغطية عليها، هي قيام القوى الحاكمة بتجهيل الشعب عن طريق المؤسسات الثقافيّة والتعليميّة والاعلاميّة والدينيّة، بحيث يعيش الشعب بكل مكوناته في حالة من الضياع لا يعرف ماذا يجري في بلاده وكيف تدار أمور هذه البلاد. أو بتعبير آخر هي دولة عصابة بعيد كل البعد في الواقع العملي عن مفهوم دولة القانون والمواطنة والمؤسسات.

تاسعاً: هي دولة عسكرة، أي يسيطر عليها العسكر، وأكثر من نصف ميزانيّة الدولة تذهب للعسكرة ودعمها، وخاصة الوحدات العسكريّة المكلفة بحماية القوى الحاكمة، أو الرجل الحاكم ذاته.

عاشراً: هي دولة تشتغل على عبادة الفرد (اللدنيّة)، حيث يحول هذا الفرد الحاكم إلى شخصيّة (صمدانيّة) هي الآمرة والناهية، وهي من يشكل الحكومة، ويقود الجيش والدولة والحزب أو العشيرة والقبيلة والطائفة، وكل من يأتي لمناصب الدولة والحزب يجب أن يكون مطلق الولاء للقائد، ويُسبح دائماً بحمده ويواليه ويخضع لإرادته، وعلى هذا الأساس يقوم هؤلاء الموالون المطيعون (المؤدبون جداً) بتبرير سياساته كلها دون اعتراض، وليس عندهم مشكلة أن يحولوا كل زوايا شوارع المدن وساحاتها وواجهات دوائرها ومؤسساتها وغرف المكاتب والقاعات العامة، إلى قاعات عرض لصور القائد (الصمداني) وبكل الأوضاع التي يظهر فيها أمام شعبه الذي يحبه بدوره ويضحي من أجله إذا اقتضت الحاجة. وعلى هذا التوجه نحو عبادة الفرد القائد، يظهر زيف كل من يقول أن هذه الدولة هي دولة مؤسسات، وقانون، ومواطنة، وتعدديّة، وتداول سلطة، فلا ديمقراطيّة ولا حريّة ولا عدالة ولا مساواة ولا دولة مواطنة.. وكل هذه ليست أكثر من شعارات تحددها الدساتير الموضوعة على الرف، والتي لم تعد تنطلي على الشعب، وكل من يدعي بها في الدولة الشموليّة هو يكذب على نفسه وعلى الشعب، بل لنقل هو يستغبي الشعب ويتاجر باسمه.

إن عبادة الفرد (اللدنيّة) أوصلت قادة هذه الدول إلى مرحلة راح يعمل فيها الحاكم الفرد وفق عقليّة الملك "لويس الخامس عشر" في فرنسا عندما خاطب البرلمان الفرنسي عام  1766  قائلاً: (في شخصي فقط تكمن السلطة العليا، ومن شخصي بالذات تستمد مجالسي وجودها وسلطتها، وإليّ فقط تعود السلطة التشريعيّة بلا شريك أو رقيب، وعني ينبثق النظام برمته.). وأمام هذه السلطة الشموليّة/ الكليانيّة، تفقد كل سلطات الدولة التي حددها الدستور دورها، فلم يعد للدستور والقانون هيبته، وعلى هذا الأساس تفقد الدولة أيضاً قدرتها على محاسبة الفاسد والمخرب، وهنا يعم الفساد ويستشري في كل مسامات حياة الدولة والمجتمع.. ولنقل هنا يفسد الملح وتضيع (الطاسة). وأمام فساد الملح وضيعان (الطاسة) ترتفع الأصوات تطالب القائد الفرد وحده أن يحل أمر هذه المفسدة التي لم تعد الدولة الشموليّة أن تستمر أصلاً بدونها.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة.

(كما أن الناس هم مصدر السلطة فهم أيضاً مصدر العبودية).. ايتيان دولا بويسي - كتاب مقالة في العبودية الطوعية

تعد ممارسات وتوجهات الخوف والخنوع والخضوع والطاعة العمياء المبنية على الخوف لدى الجماهير مسارات حالكة تؤدي الى قبو العبودية المظلم، وهي جسور لعبور الطغاة نحو قلعة العبودية، وركائز أساسية لبناء الدكتاتوريات التي تتسلط على الشعوب الخانعة والخاضعة والطّيعة، ليوغل الطغاة في استعبادها بشتى أنواع الظلم والجور والتعسف.

يرى الفيلسوف سقراط (469-399  ق.م)  في الخوف بأنه يخلق الطاعة العمياء في نفوس الجماهير ومن ثم تسهل قيادتها وعبوديتها، في حين يقول ايتيان دولا بويسي ( 1530-1563م) الكاتب والمفكر الفرنسي الشهير في مقالة له صدرت لاحقاً في كتاب حمل عنوان (العبودية الطوعية): " كما أن الناس هم مصدر السلطة فهم أيضاً مصدر العبودية ". كتب "لا بويسي" هذه المقالة، في وقت كانت فيه فرنسا تمر بمرحلة عصيبة تميزت بالظلم والإستبداد، هاجم "لا بويسي" في هذه المقالة النظام الملكي المطلق والطغيان بوجهٍ عام، حيث أكّد أن الطغاة لديهم السلطة لأن الشعب أعطاهم إياها، وقد تم التخلي عن الحرية لأول مرة من قبل الشعب وبقيت بعد ذلك مُتخلى عنها، ففضل الشعب الرق على الحرية، والرضوخ إلى الهيمنة والإنصياع. (إيتيان دو لا بويسي. ويكيبيديا)

ولعل الشعوب الخائفة تبقى أسيرة في ظل العبودية يعيش أبنائها كالرقيق ونسائها كالإماء، تجلدهم سياط الطغاة والمستبدين، لتُركن تلك الشعوب في ما بعد على هامش التأريخ.

الخوف هو منبع العبوديّة لدى هيجل، في حين يراه نيتشه أساس أخلاق العبيد، وهو أم الرذائل عند أغلب فلاسفة اليونان، وكانت غاية المعرفة عند أبيقور تحرير النفس من الخوف، وهي نفس المفهوم لدى سبينوزا في حكم الدولة، وبشكل عام،انتقد اغلب الفلسفة والمفكرين الخوف واعتبروه عدواً رئيسياً، بدءاً من سقراط، وأبيقور، وسبينوزا، وكانط، وهيغل، ونيتشه، وإميل شارتييه وغيرهم،إذ وجدوا أن الخوف يعيق العقل، ويقّيد الإرادة، ويقتل الحرية، بل ويثلم الإنسانية، وهكذا فإنّ الخوف والعبودية متلازمان يكمل أحدهما الآخر، فإذا لم تغادر الشعوب الخوف فإنها ستدخل لا محالة في قبو العبودية المظلم.

كثيرون يقللون من أهمية "الكلمة" التي تعّبر عن التجرد من الخوف، رغم أن لها تأثير كبير في توعية الجمهور وتنظيم إعدادات المجتمع من أجل تقويم مسار بوصلته نحو الاتجاهات الصحيحة، فقد كان وقعها عظيما على مّر العصور، فمنذ أن خرج الإمام الحسين(ع) ليقول كلمة الحق بوجه طغاة بني أمية، أصبحت مقولته" إن الرجل هو الكلمة، شرف الرجل هو الكلمة، شرف الله هو الكلمة …" ترددها الملايين وتعتبرها نهجهاً سليماً لمبادئ الحرية والتحرر من الخوف ومن ثم عدم الرضوخ للعبودية.

في عصرنا الحديث، كان تأثير روبسبير المحامي وخطيب الثورة الفرنسية كبيراً في تأجيج روح الثورة الفرنسية من خلال الخطب التي غّيرت المسارات في فرنسا، فضلاً عن دول كبرى نحو الحرية والتحرر من الظلم والعبودية، وفي فترة لاحقة، ومع بداية النزعة الاستعمارية في القرن التاسع عشر، لم تكن مصادفة أن تتفق بدايات نهاية العبودية الغربية زمنياً مع مؤتمر برلين 1885م، الذي أقر القضاء على تجارة الرقيق والعبودية. مع ذلك، فقد تّحولت الحركة المناهضة للعبودية إلى أداة لتبرير الهيمنة وظهور النزعة الإمبريالية الجديدة.

انتقل المجتمع في العراق مباشرةً من العيش في ظل جمهورية الخوف الأولى (1968-2003)، التي كتب عنها كنعان مكية كتابه الشهير "جمهورية الخوف" عام 1989، إلى جمهورية الخوف الثانية (2003- ؟؟؟)، بعد أن عاش فترات زمنية طويلة تحت نير العبودية والخوف إبان نحو أربعة قرون من الحكم العثماني وما أعقبه من إحتلال بريطاني. ولم يقم بثورة سوى ثورة العشرين ضد الانكليز، وكانت بقيادة دينية وعشائرية في النجف التي سبقتها إنتفاضة عام 2018، وفي عام 1991 حصلت انتفاضة شعبية بعد حرب الكويت، أما بقية التغييرات في أنظمة الحكم منذ 1958-2003، فقد كانت عبارة عن انقلابات داخلية أو خارجية ولا يمكن تسميتها ثورات لأن رجالات من العسكر هم من نفذها دون مشاركة شعبية من الجماهير المضطهدة (1958-1963-1968). أما تغيير النظام عام 2003، فقد نفذته الولايات المتحدة والقوات المتحالفة معها،عندما كان العراقيون ينتظرون المُخّلص، ويمكن تسميته بـــ "الانقلاب الخارجي".

ولابد من الإشارة إلى احتجاجات وتظاهرات 2019 الشعبية، رغم أنها لم تحدث تغييرات سياسية كبيرة شاملة، سوى تحقيقها لمطالب ليست ذات شأنٍ كبير، مع أن أكثر من 800 متظاهراً ومحتجاً قُتلوا فيها.

لذا نجد أن متلازمة الخوف والعبودية طاغية في أغلب فئات المجتمع العراقي، فهي تمتلك طاعة عمياء لمن يمسك بالسلطة وتعده قائداً أوحداً، ولكن ما تلبث أن تتخلى عنه حال سقوطه بل وتشارك في قتله والتمثيل بجثته إن وقع بين أيديها (كما حدث مع الملك وعائلته عام 1958، وعبد الكريم قاسم عام 1963).      

خلاصة القول : رغم أن هنالك مقولة تشير إلى " أن العبيد يتلذذون بطعم العبودية كما يتلذذ الأحرار بطعم الحرية" !! ولكن متى ما تخلص المجتمع - الذي جثمت على صدره صخرة العبودية - من الخوف والخنوع والخضوع لمن يمسك بزمام السلطة من الحكام الطغاة، حينها تستطيع أن ترتقي قمم الجبال وتهجر الوديان لتخرج من أنفاق الظلام الحالك الى فضاءات شمس الحرية المشرقة فتنعم بالسلام والأمان والكرامة المنشودة.

***

د. وليد كاصد الزيدي

 

جلست امام حاسوبي، اصغي باهتمام الى حوارية على الزووم بعنوان “ستراتيجيات الجهل والتجهيل” التي قدمها الدكتور نجم حيدر والدكتور حميد الخاقاني على منبر حوار التنوير. كل كلمة القيت اثارت فيّ شعلة من التساؤل حول دور التعليم في نشر الجهل والتجهيل. كيف يمكن لمؤسسة تعد من اهم ركائز تقدم المجتمع ونشر المعرفة ان تصبح اداةً لنشر الظلام؟

من خلال الحوار، اصبح واضحا ان التاثيرات التاريخية والسياسية للتحكم في الافكار قد اسهمت في بناء استراتيجيات محكمة للحفاظ على سلطة الانظمة القمعية والفكر المنغلق. منذ بزوغ الحضارة وحتى يومنا هذا، نجحت هذه الانظمة في نشر الجهل وترسيخه، مما جعلها تتمكن من السيطرة على عقول الناس وتشكيل تفكيرهم. ومع مرور الوقت، تحول الجهل والتجهيل الى "علم" استغل لتحويل سلوكيات الافراد والجماعات. هذا الامر اثر سلبا على التفكير الحر والتقدم العلمي والحضاري، وادى الى خمول وانكسار في المجتمعات التي تحكمها تلك الانظمة المستبدة.

تجربتي الشخصية في التعليم اكدت صحة ما يقال: مناهج دراسية قديمة، تركيز على الحفظ والتلقين، بيئة لا تشجع على التفكير الحر… كلها عوامل تساهم في نشر الجهل والتجهيل. مع كلّ فكرة جديدة طرحت في الحوارية، ازدادت رغبتي في الغوص في هذا الموضوع المثير. ساقتني رغبة غامضة لاكتشاف خبايا عتمة الجهل ولافهم كيف يتم استغلال التعليم لخدمة أهداف سياسية أو دينية ضيقة وجعله أداة لتشويه العقول وغسل الدماغ بدلاً من نشر المعرفة.

في هذه المقالة، ساشارككم بعضا مما توصلت اليه من معلومات وافكار حول دور التعليم في نشر الجهل والتجهيل، وسأقدم بعض الحلول لتغيير هذا الواقع.

اضعاف التعليم

اضعاف التعليم هو مشكلة تواجه العديد من الدول، وتؤثر سلبا على مستوى التعليم وجودته. فالتعليم هو الاساس الذي يبنى عليه مستقبل الاجيال القادمة، ويمكنهم من المساهمة في بناء مجتمعات متقدمة ومزدهرة. لكن، للاسف، تعاني منظومة التعليم في عالمنا العربي بوجه الخصوص من ضعف وتراجع، بسبب عدة عوامل، منها:

اولا: تسييس التعليم: يعد التعليم وسيلة لنشر المعرفة والثقافة والقيم بين الاجيال، ولتنمية مهارات التفكير النقدي والابداع لدى الطلاب، ولتعزيز التواصل والتفاهم بين الشعوب. لكن، للاسف، تستغل منظومة التعليم في العديد من الدول العربية لنشر افكار وايديولوجيات معينة، وتساهم في تعزيز التعصب الديني والطائفي وتقويض قيم التسامح والقبول بالآخر، وخلق جيل مغلق على نفسه، غير قادر على التفكير النقدي وتقييم المعلومات، مما يعيق التقدم العلمي والتكنولوجي ويغذي الصراعات والتوترات، ولتخدم مصالح الحاكمين او الجماعات المتطرفة، بدلا من ان تخدم مصالح المجتمع. فمن خلال التلاعب بالمناهج التعليمية، وتلقين أفكار محددة دون تفكير نقدي، وتكميم حرية التعبير، وتحويل المعلمين إلى دعاة لأيديولوجية معينة، يمكن تحويل التعليم إلى أداة لتشويه العقول وغسل الدماغ. ويصبح التعليم حينها بمثابة سكين في يد المتطرفين، تستخدم لبث الكراهية والانقسام، وتعزيز التعصب، وخلق جيل مغلق على نفسه يعاني من حصارا ذاتيا، غير قادر على التفكير بحرية وتقييم المعلومات بشكل موضوعي.

وفقا لتقرير اليونسكو لعام 2023، فان الدول العربية وبدرجات مختلفة تفرض قيودا على حرية التعليم، وتمنع تدريس بعض المواضيع او الاراء التي تتعارض مع النظام السياسي او الديني السائد. هذا التسييس ينعكس على واقع التعليم، حيث نجد ان العديد من المناهج التعليمية تفتقر الى الحيادية والتنوع، وان العديد من المواد الدراسية المهمة، مثل العلوم الانسانية والفلسفة، تُهمش او تُحرف، وان العديد من الطلاب يتعرضون للغسيل العقلي او الارهاب الفكري.

ثانيا: اهمال تمويل التعليم: يعد التمويل احد العناصر الاساسية لضمان جودة التعليم، فهو يمّكن من توفير البنية التحتية اللازمة للمدارس والجامعات، وتجهيزها بالادوات والمواد التعليمية الحديثة، وتحسين ظروف العمل والتعلم للمعلمين والطلاب. لكن، للاسف، تخصص العديد من الحكومات العربية نسبة ضئيلة من موازناتها للتعليم، مقارنة بالدول الاخرى. هذا الانفاق الضعيف ينعكس على واقع التعليم في العالم العربي، حيث نجد ان العديد من المدارس والجامعات تفتقر الى البنية التحتية الكافية، وان العديد من المعلمين والاساتذة يعانون من رواتب متدنية، والعديد من الطلاب يفتقرون الى المواد والمصادر التعليمية الكافية. ولعل اهم مظاهر افتقار الطلاب الى المواد والمصادر التعليمية هي نقص الكتب والمصادر وتهالك المباني المدرسية ونقص الوصول الى الانترنت ونقص المهارات الرقمية وضعف استخدام التكنولوجيا وعدم وجود برامج تعليمية تفاعلية.

ثالثا: تركيز التعليم على الحفظ والتلقين: يُعد التعليم وسيلة لتنمية مهارات التفكير والتحليل والحلول لدى الطلاب، ولتمكينهم من مواكبة التطورات المتسارعة في العالم. لكن، للاسف، تركز العديد من انظمة التعليم العربية على الحفظ والتلقين بدلا من تنمية هذه المهارات. معظم الدول العربية تستخدم طرق تعليمية تقليدية، تعتمد على الحفظ والاملاء والاختبارات الموحدة، بينما تستخدم قسم قليل منها فقط طرق تعليمية حديثة، تعتمد على التفاعل والتعلم النشط والتقييم المستمر. هذا التركيز على الحفظ ينعكس على واقع التعليم ، حيث نجد ان العديد من الطلاب يفتقرون الى القدرة على التفكير والتحليل، وان العديد من الخريجين يفتقرون الى المهارات اللازمة لسوق العمل. ومن المظاهر التي تدل على توجه التعليم نحو الحفظ والتلقين التركيز على المعلم كمصدر اساسي للمعلومات، والاعتماد على الامتحانات كأداة رئيسية للتقييم، وقلة التركيز على مهارات التواصل والتفكير النقدي والتعلم التفاعلي، والتركيز على المناهج الدراسية التقليدية، وقلة استخدام التكنولوجيا في التعليم.

رابعا: التضيق على حرية البحث العلمي: يُعد التضييق على حرية البحث العلمي ظاهرة مقلقة تهدد تقدم المجتمعات العربية، وتعيق مسيرتها نحو التطور والازدهار. وتتخذ هذه الظاهرة اشكالا مختلفة، مثل ملاحقة الباحثين، واغلاق مراكز البحث العلمي، ومنع نشر الابحاث العلمية، والتضييق على تمويلها، وفرض رقابة عليها. وتؤدي هذه الممارسات الى نتائج كارثية، منها اعاقة تقدم العلم والمعرفة، وهجرة العقول، وخلق جو من الخوف والرهبة بين الباحثين، وانتشار الفساد في مجال البحث العلمي. وتؤدي هذه النتائج بدورها الى تفاقم مشكلات المجتمع، وتعيق قدرته على التطور والازدهار.

الاثار السلبية لاضعاف التعليم

يؤدي اضعاف التعليم الى العديد من الاثار السلبية على المجتمع، منها:

* ارتفاع معدلات الامية والامية المقنعة والجهل: مما يعيق التقدم العلمي والتكنولوجي في المجتمع. فالعديد من الناس لا يحصلون على التعليم الاساسي او العالي، مما يجعلهم غير قادرين على قراءة وكتابة وحساب، او على اكتساب المعرفة والمهارات اللازمة للتعامل مع العالم الحديث. وفقا لتقرير اليونسكو لعام 2023، فان متوسط معدل الامية في الدول العربية هو 25.6%، بينما هو 6.2% في الدول الاوروبية. هذا الارتفاع في الامية والجهل ينعكس على واقع المجتمع في العالم العربي، حيث نجد ان العديد من الناس يعانون من الفقر والمرض والاستغلال. اما الامية المقنعة فهي خطر كبير يهدد التطور والنمو لما تمثله من عدم القدرة على استخدام المهارات الأساسية للقراءة والكتابة والرياضيات بشكل فعّال في الحياة اليومية. هناك انواع كثيرة من الامية منها الثقافية والمالية والعددية والاحصائية والوظيفية والعقلية والجدلية. لكن الامية المقنعة تمثل أخطر أنواع الأمية وأكثرها تدميرا. لان الامي المقنع بالرغم من كونه "متعلم"، لا يعرف أنه لا يعرف. إنها وباء متنام، تتكاثر في مجتمعنا.

* انتشار البطالة: بسبب عدم تاهيل خريجي التعليم لسوق العمل. فالعديد من الخريجين يفتقرون الى المهارات العملية والتقنية واللغوية التي تتطلبها الوظائف المتاحة، مما يجعلهم عاطلين عن العمل او يضطرون الى العمل في وظائف لا تتناسب مع مؤهلاتهم. يبلغ متوسط معدل البطالة في الدول العربية في يومنا هذا 15.6%، مقارنة ب 5.4% في الدول الاوروبية.

* تراجع الاخلاق والقيم: بسبب غياب التنشئة السليمة للطلاب. فالتعليم ليس مجرد نقل المعرفة والمهارات، بل هو ايضا تربية الطلاب على الاخلاق والقيم الانسانية، مثل العدل والحرية والمساواة والتسامح والتعاون والنزاهة. لكن، للاسف، تفتقر العديد من المناهج التعليمية في العالم العربي الى هذا الجانب التربوي، مما يجعل الطلاب ينشئون على قيم سلبية، مثل الطائفية والتعصب والعنف والفساد. يبدو ان 42% من الدول العربية تفتقر الى تعليم للمواطنة والحقوق الانسانية، بينما تفتقر 58% الى تعليم للتنوع الثقافي والحوار بين الحضارات. هذا التراجع في الاخلاق والقيم ينعكس على واقع المجتمع في العالم العربي، حيث نجد ان العديد من الناس يعانون من الانقسام والصراع والفساد.

* انتشار التطرف والعنف: بسبب غياب الفكر النقدي لدى الشباب. فالتعليم هو وسيلة لتنمية الفكر النقدي والمنطقي لدى الطلاب، ولتمكينهم من التمييز بين الحق والباطل، وبين الواقع والخيال، وبين العلم والخرافة. لكن، للاسف، تفتقر العديد من انظمة التعليم العربية الى هذا الجانب التفكيري، مما يجعل الطلاب يقبلون على الافكار والايديولوجيات المتطرفة والعنيفة، التي تستغل جهلهم وضعفهم وغضبهم. وينعكس انتشار التطرف والعنف على واقع المجتمع في العالم العربي، حيث نجد ان العديد من البلدان تعاني من الحروب والنزاعات والتدخلات الخارجية.

* انتشار الخرافات والشعوذة: تنتشر ثقافة الخرافات والشعوذة من خلال قنوات متعددة، تشمل البرامج التلفزيونية التي تقدم محتوى مضللا يروج للافكار غير العلمية، وربط الاحداث الطبيعية بظواهر غيبية. كما تنتشر على الانترنت مواقع الكترونية تروج للافكار غير العلمية وتقدم معلومات مضللة حول مواضيع مثل الطب البديل والتنجيم وقراءة الطالع والسحر والشعوذة وتفسير الاحلام وقراءة الكف. ويروج بعض رجال الدين لافكار متطرفة ويحرّمون التفكير النقدي ويشجعون على الاعتماد على الخرافات والشعوذة بدلا من العلم. ثقافة الخرافات والشعوذة تعيق التقدم العلمي وتؤدي الى انتشار الافكار المتطرفة وتهدد استقرار المجتمعات. كما تضعف التفكير النقدي وتؤدي الى الاعتماد على الافكار المسبقة وتعيق قدرة الانسان على تحليل المعلومات بشكل عقلاني.

اخيرا، في هذه المقالة اظهرنا أن التعليم، بينما يفترض به ان يكون شعلة تنير دروب الجهل، يمكن ن يتحول الى سلاح يستخدم لنشر الظلام والتجهيل. فضعف منظومة التعليم في العديد من دول العالم العربي، الناتج عن عوامل سياسية واقتصادية وثقافية، ادى إلى تفاقم مشكلات الجهل والأمية والبطالة والتطرف.

ولكن، لا يزال الأمل قائماً

مع تضافر الجهود من الجميع لتحقيق الأهداف العليا، يمكننا إعادة بناء منظومة تعليمية قوية قائمة على العلم والمعرفة والتفكير النقدي، تساهم في نهضة المجتمع وتعزز قدرته على مواجهة تحديات المستقبل.

حان الوقت لجعل التعليم سلاحا لتحرير العقول ونشر النور بدلا من كونه أداة لنشر الجهل والتجهيل.

***

ا. د. محمد الربيعي

قلت في الأسبوع الماضي إنَّ كتابَ الأستاذ إياد مدني «حكاية سعودية» ليس سيرةً ذاتيةً بالمعنى الدقيق، وإن بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ: إن لم يكن سيرةً ذاتية، فما موضوعه إذن، ما الذي يقوله الكتاب وما الذي أراده الكاتب؟

بالنسبة لي فالكتاب أقربُ إلى دراسة في «تاريخ الأفكار». وهذا - للمناسبة - حقلٌ علميٌّ لم ينل حظَّه من الاهتمام حتى اليوم. وأذكر مثلاً أنَّ أعمالَ الفيلسوف البريطاني ايزايا برلين (1909-1997) تصنَّف عادة ضمن هذا الحقل. لعلَّ غيري من القرَّاء صنَّفه كدراسةٍ في تكوين الهُويّة. والحقُّ أنَّ هذا الوصفَ أقدرُ على الجمع بين فصول الكتاب.

المدينة المنورة التي انطلق منها الكاتبُ احتلَّت جانباً محدوداً من الفصل الأول. فقلت لنفسي: إنَّ سيرةَ الشخص هي - في جانب رئيسي - تاريخ المكان الاجتماعي الذي ينتمي إليه، فلماذا لا يبدو المكانُ بارزاً هنا؟ وضعت بعض الاحتمالات، لا أستطيع الجزمَ بأيّ منها. احتمالات من قبيل أنَّ المدينة منذ تلك الحقبة، أي ستينات القرن العشرين، لم تكن مجتمعاً مستقراً بل لعلَّ الوصفَ الأقربَ إليها أنَّها مجتمعٌ في حال سيولة، يكثر الآتون إليها ويكثر الخارجون منها. وبالنظر لخصوصية الوضع الديني - العلمي للمدينة، فهذه الحركة البشرية تجلب معها ثقافاتٍ متفاوتةً وأعراقاً مختلفة، تحتاج لوقتٍ طويل كي تندمجَ فتشكّل وحدةً اجتماعية. وهو وقتٌ لم يكن متاحاً في غالب الأحوال.

لكن لو اعتمدنا تفسيرَ الكاتب نفسه، فهو يأخذنا سريعاً إلى رحلته المصرية ثم الأميركية، وهما - فيما بدا لي - المرحلتان الأعمق إسهاماً في تكوين الأسئلة التي شغلت ذهنَه طيلةَ العقدين التاليين. المهم إذن هو ولادةُ الأسئلةِ التي ستحدّد مسارَ الحياة.

في الفصل الثاني سنفهم العلاقةَ بين نكبة حزيران 1967 واختياره الصحافةَ محوراً لحياته التالية. الواقع أنَّ معاناتَه كطالبٍ أجنبي في الولايات المتحدة في تلك السنوات، قد عمَّقت شعورَه بالحاجة لتصميم هوية «يختارها بنفسه» لا الهوية التي يفرضها المحيط.

خلال هذه المكابدة، كانَ قد لاحظ النقطةَ الغامضة التي نادراً ما التفت إليها أمثالنا، أي عملية القولبة أو التنميط التي يفرضها عليك المحيط، فتتقبلها بصورة عفوية لأنَّك لا تعرف بديلاً، أو تضطر لقبولها لأنك لا تحتمل كلفة البديل. في الفصل 12 يقدّم مدني معالجةً عميقةً ومفصلة إلى حدّ ما عن هذه القصة، ويذكرنا بمقولة شهيرة للمناضل الجنوب أفريقي ستيف بيكو «إن أقوى سلاح في يد الجبابرة هو عقل المقهورين».

لقد رسمت المجتمعات الغربية صورة للعالم الإسلامي، تجعله مستحقاً للقهر، لأنَّه عاجزٌ عن اكتشاف تخلّفه، وعاجزٌ في الوقت نفسه عن تجاوز تلك المحنة، أَّو ربَّما غير راغبٍ في التغيير. هذه الفكرة تقبلها كثيرٌ من المسلمين، وباتت - وهذا هو الجانب المؤلم في القصة - مبرراً للتعامل معهم تعاملاً فوقياً، أو حتى تبرير إذلالهم. وُضع العربُ والمسلمون في موقفِ من يتوجَّب عليه تبرير قناعاتِه وسلوكياته، والإجابة عن كلّ سؤالٍ يختاره الطرف الآخر. إنَّ تقبّل المسلم لهذا الموقف واعتياد الطرف الآخر عليه، أنشآ تعريفاتٍ ضيقةً لما هو صحيح وما هو خطأ، أي ما يسمح بقوله وما يجب السكوت عنه. وهذي هي المرحلة الحاسمة في توليف الهوية الفردية.

لم يقل إياد مدني صراحة إنَّه أراد إصدار صحيفة باللغة الإنجليزية، كي تساهمَ في تصحيح هذه الصورة البائسة، مع أنه أشار إلى أنَّ صحيفة كهذه، سوف تخبر العالمَ بأنَّ لدى هذه البلاد وأهلِها ما يستحقُّ أن يقال وما يجب الإصغاء إليه.

المرحلة الأخيرة في رحلة البحث عن الذات، هي العودة إلى المكان الذي خرج منه. المهمة الرئيسية الآن هي أن تختارَ هُويَّتَك بنفسك. ربما لا يرتاح الآخرون لرؤيتك على هذا النحو، لكن المهم أن تقتنعَ بها أنت، حينئذ سيعمل الزمن لصالحِك وسيضطر الآخر إلى قبولِها في نهاية المطاف. هذا هو ملخَّص الحكايةِ السعودية.

***

د. توفيق السيق – كاتب وباحث سعودي

 

لعل اليقين الذي لا يخامره شك، والواقع الذي لا تسومه مبالغة، أن علم مقارنة الأديان من العلوم التي وطّدَ أُسسها وقواعدها علماء المسلمين، فهم الذين وضعوا لبنات هذا العلم، وبيّنوا أصوله، فبعض العلماء الجهابذة على شاكلة المسعودي، والشهرستاني، والبيروني، قد جمعوا أشتات هذا العلم، واستقصوا أطرافه، وقد مرّ هذا الضرب من العلوم بعدة مراحل، حتى أصبح علماً له رواده ومناهجه وأهدافه ومصادره، ولعل من الأمثلة والشواهد التي تؤكد أن مقارنة الأديان لوناً أبتدعه المسلمون وليس المستشرقين كما رسخ في أذهان الكثير من الناس، أن علم مقارنة الأديان كما يذكر الدكتور أحمد شلبي في كتابه" سلسلة مقارنة الأديان" قد دُوّنَ في منتصف القرن الثاني الهجري، فعندما بدأ أكابر المُصنفين، وبُلغاء المنشئين، في تأليف الرسائل والمتون دون إعنات روية، ولا ارهاق خاطر، تلك الأسفار التي تناولت الفقه والتفسير والحديث، اتجهت جماعة منهم مُتبحّرة في ضروب الإنشاء، مُتبسّطة في فنون اليراع، للكتابة في مقارنة الأديان، فهو بذلك علم اسلامي كباقي العلوم الإسلامية التي ابتدعها الفحول الخناذيذ، ومن الشواهد أيضاً التي تؤكد أن هذا العلم اسلاميّ بحت، لم تعقد مقارنة قط بين دين وآخر قبل بزوغ فجر الإسلام، لعدم الإعتراف بين الأديان التي كانت سائدة في ذلك العصر، فالدين الإسلامي الخاتم الذي جاء عقب كل تلك الأديان، هو الدين الوحيد الذي اعترف بكل تلك الأديان نظرياً وواقعياً، فمن الناحية النظرية يعلن الإسلام في وضوح وجلاء أنه الدين الأخير من سلسلة الأديان التي استمدت وحيها من السماء، وهو في كنهه امتداد لتلك الأديان التي دعت لنبذ عبادة الأصنام والأفلاك والملوك لعبادة القاهر الدّيان، وبالتالي ورث الإسلام أهمّ ما في الأديان وأضاف إلي ذلك ما تحتاجه البشرية جمعاء في مسيرتها إلي يوم الدين، قال تعالى في محكم تنزيله: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به ابراهيم وموسى وعيسى) الشورى: 13.على ضوء ذلك صدح الإسلام بحقيقة مفادها أنه الدين الوحيد الذي لا دين سواه، قال عزّ من قائل: (إن الدين عند الله الإسلام) آل عمرن: 19. وقال جلّ وعلا: (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه) آل عمران: 85.

 أما من الناحية الواقعية، فإن الإسلام يعترف بالوجود الفعلي لقطاعات وكيانات غير مسلمة تعيش في كنفه، وترفل في نعيم عدله ورحمته، على شاكلة أهل الذمة والكتاب الذين رفدهم من صنوف بره، ومكّن لهم من الحقوق والكلاءة السابغة ما وقاهم جور الضنى، وطوارق الحدثان، ومن هذا الموقف انبثقت جذور علم مقارنة الأديان، ولعل مسلك الإسلام ازاء مخالفيه، يؤكد عظمة هذا الدين الذي نص كتابه على حرية الإعتقاد يقول تعالى في كتابه المحُكم السبك، الدقيق النسج، المُتناسق الأجزاء: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس: 99. ــ ويقول الحق سبحانه وتعالى أيضاً: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) البقرة: 256.ـ كما نجد أن المحجة البيضاء قد دعتنا لموادعة الملل الأخرى والإحسان إليهم، والعدل بينهم، عملاً بقول من تقدست أسماؤه، وتنزهت صفاته: (لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين)الممتحنة: 8. ـــ

أما الأطر والثوابت التي وضعها الإسلام في كيفية تعامله مع الأديان المغايرة له، تتمثل في احترامه لكل الرسالات الإلهية التي سبقته، وإرساء مبدأ الجدال بالحسنى تصديقاً لقوله تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) العنكبوت: 46. كما يقول المولى عزّ وجلّ: (قل من يرزقكم من السموات والأرض قل الله وإنّا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، قل لا تسألون عمّا أجرمنا ولا نسأل عمّا تعملون، قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا وهو الفتّاح العليم) سبأ: 24-26.  ويرى الدكتور محمد سيد أحمد المسير مؤلف كتاب" المدخل لدراسة الأديان" أن هذا النص الكريم يقدم النزاهة والحيدة في موضوع الجدال، ويدفع بالخصم إلي التأمل الواعي، والتفكير المستنير، ويأخذه برفق وحلم وأناة، كي يستبين الحق ويدرك الحقيقة، ويؤكد أن البشر جميعاً سيقفون أمام الخالق الأعظم للحساب والجزاء وأن المسئولية الفردية تجعل كل انسان على حذر وحيطة في مجال العقائد".

أما من تعاورت سيرته العطرة الألسنة، وتداولت مناقبه القرائح، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقد كان مطبوعاً على التسامح وحب السلام، وكان ديدنه في تبليغ رسالته التي انتشر شذاها في أعطاف الوجود، هو الحوار الهادئ العميق الذي تتثنى ألفاظه تثني الغصن الأملد، الحوار الذي يتحفك بمتانة تعابيره، وشدة أسره، وطلاوة تراكيبه، وصلابة حججه، فلا تملك أمامه إلا الإذعان والتسليم والإنبهار، فقد أورد لنا بن هشام كاتب السيرة، أن عدي بن حاتم رضي الله عنه الذي كان معتنقاً للمسيحية قد خشعت أصواته، وسكنت حركاته، وهو يستمع لحديث أُفْرِغَ في قالب الفصاحة، ونُسِجَ على مِنْوال الكمال، حديث سلِسُ، رقيق، مأنوس، يضاهي في عذوبته مُناغاة الأطيار، أفضى بالطائي لإعتناق الإسلام وتبعه قومه في ذلك، كما نقلت لنا كتب السيرة والحديث تلك المجادلات الهادئة المتزنة التي جرت بين رسول البشرية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبين اليهود الذين سأل متحدثهم محسور بن سحبان خير من وطئت أقدامه الثرى عن الدليل الذي يثبت أن القرآن من عند الله؟ فجاء الوحي بالجواب الشافي: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا) النساء: 82. كما انبرى النبي صلى الله عليه وسلم في مناقشات أخرى مع وفد نجران من النصارى، وعلى أثر هذه المناقشات المستفيضة التي استدل فيها المعصوم عليه الصلاة والسلام بحجج شبهاء، وبينات نواصع، وبراهين سواطع، أسلم نفر من قادة اليهود مثل عبدالله بن سلام، وثعلبة بن سعيد، وأسد بن عبيد، كما دخل الكثير من نصارى نجران الإسلام، ويخبرنا الأستاذ محمد عقيل بن علي المهدلي في كتابه "مقدمة في علم مقارنة الأديان" أن من القضايا التي جرت عليها المجادلات والمناقشات بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أصحاب الأديان: قضية الألوهية، وقضية النبوة، وقضية الكتاب المقدس، ونجد أن علماء المسلمين قد لزموا غرس النبي صلى الله عليه وسلم، وسلكوا منهاجه في كيفية الحوار مع أصحاب الأديان الأخرى، فمناقشتهم مع أصحاب هذه الديانات لم تخلوا من عظة واعتبار، على شاكلة الحوار الذي جرى بين الإمام الباقلاني رحمه الله وأحد الرهبان بمعية الملك، فسأل الباقلاني الراهب عن أهله وأولاده، فقال الملك مندهشاً: أما علمت أن الراهب تنزهه عن هذا، فقال الإمام الباقلاني: "تنزهونه عن هذا ولا تنزهون الله عن الصاحبة والولد" فألقمهم حجرا.

***

د.الطيب النقر

 

ومناسبة الكلام بالطبع هو المسلسل الذي يتصدر الجدل الإعلامي في رمضان 1445، وهو حديث النقاد والمحللين والخبراء الإعلاميين، وهو يضيف للأسف وقوداً جديداً لمحرقة الكراهية بين السنة والشيعة التي باتت أكثر ما يواجهه المشرق العربي تحديداً من نار البغضاء.

بالطبع لن أتناول الأمر هنا من زاوية نقدية إعلامية، فلست من أهل الاختصاص، ولكنني سأتكلم في الأمر من زاوية تاريخية بحتة، وبمقارنة موضوعية وهدفي بالطبع هو التقليل من الآثار الضارة التي يلهبها في العادة هذا اللون من المسلسلات من الكراهية بين السنة وبين الشيعة.

والمقصود بالحشاشين أبناء المذهب الاسماعيلي الكرام، الذين يتوزعون في فرقتين كريمتين الأولى هي الداودية وتعرف أيضا بالبهرة المستعلية، والثانية هي الآغاخانية وتعرف بالنزارية.

والحشاشون كما يقدمهم المسلسل هم أسلاف الطائفة النزارية الآغاخانية الاسماعيلية، ولمن لا يعلم فالآغانية اليوم عدة ملايين ينتشرون بشكل أساسي في سوريا والعراق والهند وباكستان، ولهم وجود قوي في أوروبا حيث يقم رأس هذه الطائفة الكريمة الآغاخان كريم الدين، وهو زعيم عالمي نادر، أطلق أكبر وقفية تنموية غير حكومية في العالم باسم شبكة الآغا خان، وتقدر الإيرادات التي تحققها الشبكة لعام 2022 بمبلغ 4.5 مليار دولار تعمل في نحو عشرين بلداً نامياً، لتحسين حياة الأفراد في الأرياف خاصة.

أما ظهور الاسماعيلية في التاريخ فإن شيعة أهل البيت انقسموا بعد موت الإمام السادس جعفر الصادق 766م إلى فرقتين اتبعت الأولى موسى الكاظم والأئمة من بعده إلى الثاني عشر وهؤلاء هم الجعفرية الإمامية الاثني عشرية الذين يحكمون إيران اليوم، والثانية اتبعوا اسماعيل بن جعفر وهو الأخ الأكبر لموسى الكاظم، وقد واجهوا اضطهاداً عنيفاً، واعتصموا بالستر والتخفي نحو 150 عاماً حتى ظهر إمامهم عبيد الله المهدي معلناً قيام الخلافة الفاطمية 909م وهي الخلافة التي أنشأها الاسماعيليون وقادت الغرب الإسلامي في أفريقيا وكذلك الشام والحجاز واليمن لمدة 270 عاماً ونشرت الثقافة والعمران والفنون في مصر بشكل قوي ومتين.

وقد استمرت الاسماعيلية مذهباً واحداً إلى وفاة المستنصر الفاطمي 1029م حيث انقسمت إلى فرقتين النزارية والمستعلية، وهنا ظهر الحسن بن الصباح داعياً لنزار ومعارضاً للدولة الفاطمية، ورحل من مصر إلى العراق ومنها إلى جبال نهاوند حيث استولى على جملة قلاع سلجوقية أهمها قلعة آلموت المحصنة، ومنها قاد كفاحاً ضارياً لنشر المذهب الاسماعيلي، كما قاد في الوقت نفسه حركة متميزة لنشر الفلسفة والعلوم والحكمة.

وبعيداً عن طبيعة المسلسل، والصورة البشعة التي يقدمها للحسن بن الصباح تحت اسم مؤسس الحشاشين المتوفى 1127م، وهو رجل يحظى باحترام كبير لدى الطائفة الاسماعيلية، فإنني أريد تقديم عدد من الحقائق:

لم يذكر أي مؤرخ إسلامي على الإطلاق كلمة الحشاشين وصفاً للطائفة الاسماعيلية النزارية، ولا لجماعة الحسن بن الصباح، على الرغم من أن كثيراً من كتب التاريخ ترجمت للحسن بن الصباح بالتفصيل، ولكن مصطلح الحشاشين غير وارد على الإطلاق في اي من كتب التاريخ المعتمدة التي عاصرتهم، ولم يرد ذكر كلمة الحشاشين في الكتب التاريخية الرئيسية التي أرخت للاسماعيلية خاصة تاريخ ابن عساكر وتكملة الطبري والقلانسي وابن الأثير وابن كثير وابن الجوزي والبنداري وابن بشكوال وأبو شامة وابن خلدون، حتى الغزالي وابن تيمية في فتاويهم المتوحشة لإبادة الاسماعيلية فإنهما لم يذكرا مصطلح الحشاشين على الإطلاق، حيث كانا يفضلان صطلح الباطنية، وجميع هذه الكتب شرحت باستفاضة حركة الحسن بن الصباح وخلفائه ولكن لم يذكر أحداً على الإطلاق لفظة الحشاشين اسماً لهم.

والعجيب أن المحققين لهذه الكتب يذكرون في الحواشي دوماً أن المقصود هم الحشاشون مع أن هذه الكتب الأصلية لم تستخدم أبداً هذه اللفظة.

أول مرة وردت لفظة الحشاشين لوصف هذه الطائفة كانت في رحلة بنيامين التطيلي وهو حاخام يهودي كتب وصفاً لرحلته التي قام بها في الشرق الإسلامي لتقصي أحوال اليهود وذكر فيها أن أربعة آلاف يهودي كانوا يعيشون في جبال نهاوند ويطيعون شيخ الحشاشين، دون أن يذكر أي تفصيل عن شيخ الحشاشين ولم يأت بحرف للحديث عن الطائفة الاسماعيلية.(رحلة بنيامين التطيلي المتوفى 569ه) وقد طبعت الرسالة بتحقيق المجمع الثقافي بأبو ظبي.

ولو سألت أي مؤرخ مسلم إلى عام 1800 عن الحشاشين فسيكون جوابه لم أسمع بهذا الاسم من قبل، ولم يكتب عنهم بهذه الصفة أي مؤرخ على الرغم من أن كتابات كثيرة تولت الهجوم على الاسماعيلية وحركاتهم المناوئة للخلافة العباسية وللسلاجقة، فمن أين جاء اسم الحشاشين إذن، وكيف صار هذا الاسم اليوم شائعاً لوصف هذه الطائفة الإسلامية الكريمة؟

كتب الباحث سامي مبيض في مقال له بمجلة المجلة 19/3/2024: "أول من حاول تسليط الضوء على ظاهرة الحشاشين كان المستشرق الفرنسي دنيس ليبي دي باتيلي Denis Lebey de Batilly، الذي جاء على ذكرهم في 1603، لكنّ أول من ذكرهم في سياق المذهب الإسماعيلي كان المستشرق الفرنسي بارتليمي دي إربلو Barthalemy de'Herbelot في "الموسوعة الفرنسية المشرقية" عام 1697. وفي سنة 1809 كان البحث الأهم للمستشرق سلفستر دو ساسي Sylvester de Sacy الذي أكد أن كلمة "الحشاشين" انحدرت من العربية، وأنها استُخدمت للحطّ من شأن جماعة الصبّاح أكثر من كونها صفة حقيقية لأفعالهم".

ولكن الصورة الشائعة اليوم عن الحشاشين تعود بشكل أساسي إلى المؤرخ البريطاني ول ديورانت 1981م الذي جمع إلى هذه الأقوال تصورات منسوبة إلى الرحالة الإيطالي ماركوبولو المتوفى 1324م، الذي زار الصين وعدداً من بلاد الشرق الإسلامي، صرح فيها بأنه يروي حكايا سمعها من الناس عن قلعة آلموت وذكر الحسن بن الصباح ولكن لم يذكر كلمة الحشاشين، ولكنه ذكر أن الزعيم الاسماعيلي كان قد أعد حديقة في فناء القلعة كثيرة الخضرة والثمار وفيها من النساء الحسان والبيوت المطلية بالذهب، وكان يعد تلامذته بتدريب قاس، ثم يسقيهم شراباً مخدراً، ويدخلهم الحديقة فيظنون أنهم في الجنة، وينالون ما يريدون من الخمرة والنساء ثم يخرجهم منها قبل أن يفيقوا، وكان في ذلك يعدهم لمهام الاغتيال الانتحارية ويعدهم بالجنة، فإن قتلوا رفعوا إليها في السماء، وإن نجوا أخذهم إليها في الأرض، وذلك تفسير إقدامهم بقوة وشجاعة على العمل العنيف الانتحاري.

والواقع أن الكلمة التي نقلها سلفستر دي ساسي عن وصف الاسماعيلية النزارية بالحشاشين تأسيساً على عبارة assassins التي وصفهم بها باتيلي نقلاً عن العربية تحتمل ثلاثة معان، وهي إنكليزياً تعني الاغتياليين الذين يقومون بعمليات اغتيال لخصومهم، كما تحتمل عربياً معنى الحشاشين، كما تحتمل وصف الأساسيين الأصوليين، والاحتمالات واردة، ولو كان المراد الحشاشين بالفعل لاستعمله خصومهم خلال التاريخ الذين كتبوا بشدة في مهاجمتهم ولكن لم يصفهم أي مؤرخ مسلم بوصف الحشاشين.

قناعتي أن الثوار النزاريين في قلعة آلموت كانوا لوناً من اليسار الإسلامي الغاضب، وكانوا يحملون أفكاراً تحررية وثورية ناقمة، ويحملون تأويلاً باطنياً للقرآن الكريم، يتيح لمفكريهم أفقاً أوسع من الاجتهاد.

من المؤكد أني لا أريد رسم صورة وردية للثوار النزاريين، خاصة أنهم أولغوا في الدم، وذلك في سياق حروبهم مع خصومهم من السلاجقة تحديداً، ولا شك ان لديهم سجلاً من الاغتيالات أبرزها اغيال الوزير السلجوقي الأشهر نظام الملك عام 1092م وكذلك اغتيال القائد الصليبي كونراد بعد مائة عام 1192م، ووصولهم إلى خيمة صلاح الدين وزرع خنجر قرب رأسه كناية عن قدرتهم على اغتياله، ولكن يجب أن نفهم ذلك في سياق نزاع تاريخي وتطاحن سياسي وردود أفعال لا تنتهي.

الثوار النزاريون تمردوا على الحكم العباسي خاصة بعد دخوله في الكنف السلجوقي، وكانوا دوماً بمثابة اليسار المتطرف في مواجهة النظم السياسية في المنطقة، وعلى الرغم من نزاعهم مع العباسيين فإنهم كانوا يشكلون قوة مقاومة صلبة في وجه الصليبيين وكذلك في وجه المغول، والواقع أن كل جهود العباسيين والسلاجقة والأيوبين للقضاء على الجماعة النزارية باءت بالفشل حتى كانت النهاية على يد هولاكو الذي حاصر قلعة آلموت ثم اقتحمها ببطش شديد 1258م، وبعد سقوط آلموت بأشهر قليلة استطاع هولاكو سحق بغداد وارتكاب أكبر مجزرة في التاريخ الإنساني.

لا  أدري بالضبط كيف ستمضي حلقات هذا المسلسل الصاخب، وكل ما أرجوه أن لا يكون ذراعاً أسود لنزاعات الكراهية في المنطقة، وأن يقدم الصورة الممكنة من التاريخ، بحياد ودقة، وأن لا يحقق لدعاة الكراهية مزيداً من الحجج لصناعة البغضاء بين السنة والشيعة.

***

د. محمد حبش

 

تحديد مفاهيم: يتطلب هذا الموضوع الذي يخص أربعة أطراف اساسية: الحكومة، الشعب، الأحزاب والكتل السياسية، ومراكز البحوث العلمية.. تحديد معنى اربعة مفاهيم:الأمن المجتمعي، الأمن السياسي، الأمن الأقتصادي، ومشكلات الشباب، وبدونها يبقى الحال في العراق كما هو ولن تتحقق دولة المؤسسات المدنية. ولنبدأ بفهوم:

 الأمن المجتمعي

يقصد به ان يعيش الفرد حياة اجتماعية مطمئنة على نفسه ورزقه وبيته، ويتحقق من خلال الاجراءات والخطط التي تتخذها الدولة لحماية المجتمع من كل ما يحد من تقدمه وتحقيق الحياة الكريمة لجميع المواطنين.

ومؤخرا استخدمت مفوضية الامم المتحدة السامية لحقوق الانسان مفهوم الامن الانساني كمرادف لمفهوم الامن المجتمعي وعرّفته بأنه (حماية الحريات الحيوية، وحماية الناس من الاوضاع والاخطار الطارئة، وبناء قواهم وطموحاتهم، وخلق النظم السياسية والمجتمعية والبيئية والعسكرية والثقافية التي تمّكن الناس من العيش بكرامة).

ما يعني ان كلا المفهومين يؤكدان ان على الدولة تأمين (كرامة الأنسان) بكل ابعاد الكرامة.

ومع ان هنالك ستة مكونات للأمن المجتمعي، فاننا سنركز على اهم اثنين منها: الأمن السياسي والأمن الأقتصادي.

فما المقصود بالأمن السياسي؟

يقصد به قدرة الدولة على حماية نفسها من اي تهديد او عدوان او هجوم، والحفاظ على كيانها السياسي، وتحقيق اعلى درجات الاستقرار، وتحرر المواطن من الشعور بالخوف والحاجة، وحمايته من تهديدات القمع السياسي، وتأمين عدم تعرضه للصراعات والحروب واضطراره للهجرة، وضمان ممارسة حرية التعبير عن الرأي، والتعامل السلمي في الأختلاف والخلاف في الرأي والرأي الآخر.

اما الأمن الأقتصادي فيقصد به تأمين حاجات الفرد الاساسية (غذاء، سكن، ملابس، رعاية صحية، تعليم..)، رفع مستوى الخدمات، تحسين ظروف المعيشة، ايجاد فرص عمل للجميع، محاربة الفقر، تطوير القدرات والمهارات من خلال برامج تعليمية، مواكبة روح العصر ومتطابات الحياة الراهنة.. وتحقيق العدالة الأجتماعية، الذي كان غيابها احد أهم اسباب الحراك الأجتماعي الثوري الذي اطاح بانظمة حكم عربية (ليبيا، مصر، تونس).

والتساؤل هنا: ما شكل العلاقة بين الأمن السياسي والأمن المجتمعي؟

والأجابة ان كليهما (الأمن السياسيّ والأمن الاجتماعيّ) يعدّان أحد الحقوق التي تمنحها الدولة لمواطنيها، وبموجب ذلك، يتعين على الدولة حماية أفرادها من التعدي الذي قد تمارسه الحكومات أو المنظمات، أو الأفراد، فإن تحقق الأمن السياسيّ والاجتماعيّ، يصبح بمقدور الأفراد المشاركة في الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة للمجتمع والدولة دون تمييز أو قمع.

ونضيف نقطة مهمة تخص قادة العملية السياسية، أن من شأن الحفاظ على الأمن والاستقرار السياسيّ والاجتماعيّ لأفراد الدولة أن يُكسب النخبة الحاكمة شرعية أكبر(أكرر.. شرعية اكبر)، ما يعني انه لا يمكن تحقيق الأمن الاجتماعيّ دون الحفاظ على الأمن السياسيّ.

فهل الأمنان السياسي والأقتصادي متحققان في عراق ما بعد 2003؟

الأحداث تؤكد انهما غير متحققين.. نكتفي بذكر ثلاثة فيما يخص الأمن السياسي:

الأول: الحرب الطائفية بين عامي (2006 و 2008) التي راح فيها آلآف الضحايا ولسبب في منتهى السخافة: ما اذا كان الآخر اسمه حيدر او عمر او رزكار!

والثاني: الحرب الداعشية

في ليلة 9 على 10 من حزيران (2014) سقطت مدينة الموصل في ساعات بيد مسلّحي الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) من غير ان تحصل معركة بينهم وبين قوات الجيش العراقي المسؤول عن حمايتها، فأصاب الناس ذهول ان تسقط ثاني اكبر مدينة عراقية محاطة باربع فرق عسكرية وبداخلها مائة الف شرطي ورجل امن.. في ساعات بين ليلة وفجرها.. بيد مسلحين لا يتجاوز عددهم عشر عدد الجيش النظامي المحيط بها وبداخلها!

والثالث: انتفاضة تشرين

في الأول من تشرين أول/اكتوبر 2019 شهد العراق حدثا سياسيا وجماهيريا غير مسبوق في تاريخه السياسي، ففيه انطلقت في المحافظات الوسطى والجنوبية تظاهرات فاجأت السلطة والشعب والمحللين السياسيين الذين كانوا على يقين بأن الأحباط اوصل العراقيين الى اليأس والعجز من اصلاح الحال. وفاجأت ايضا علماء النفس والأجتماع بما يدهشهم.. بل أنها خطّات نظرية في علم النفس تقول:اذا اصيب الانسان بالأحباط وحاول وحاول ولم ينجح، فأن تكرار حالات الخذلان والخيبات توصله الى العجز والاستسلام.. فأطاح بها جميعها شباب ادهشوا العرب والعالم!.

وخلال خمسة أيام، بلغ عدد الضحايا 110 شهيدا، ليسجل الخميس (الثالث من الأيام الخمسة) اليوم الأكثر دموية في مواجهات عنيفة غير مسبوقة بين القوات الامنية ومتظاهرين يطالبون برحيل الفاسدين وتأمين فرص عمل للشباب استدعى الحكومة الى اعلان الانذار جيم واستخدامها قوة مفرطة، ادانها الرأي العام العالمي، وحملّت المرجعية الدينية على لسان الشيخ عبد المهدي الكربلائي في خطبة الجمعة (11 تشرين اول 2019)، الحكومة العراقية مسؤولية اراقة الدماء، وامهلتها اسبوعين لكشف الجناة ومحاسبتهم على قتل اكثر من ستمئة وجرح وتعويق اكثر من عشرين الفا اغلبهم شباب ومراهقين.

واذا اضفنا لها المواجهة التي حصلت في المنطقة الخضراء بين فصيلين شيعيين هما التيار الصدري ودولة القانون فأننا نصل الى حقيقة ان الأمن السياسي غير متحقق في العراق طوال عشرين سنة، وانه الآن مهدد ايضا من تدخلات اجنبية وعدم توافق سياسي داخلي.

ولكشف ما هو غير معلن، فان المطالب المعلنة للمتظاهرين تحددت بتوفير فرص عمل للشباب وحملة الشهادات العليا، وتأمين الخدمات وتحسين الوضع الأقتصادي، فيما كانت في حقيقتها السيكولوجية تعبيرا عن انتقام استهدف أحزاب الأسلام السياسي، عبروا عنه باحراقهم لمقرات هذه الأحزاب، لأنهم وجدوا ان من انتخبوهم قد خذلوهم، او بالتعبير العراقي (ضحكوا عليهم) والعراقي.. (ما يرحم اليضحك عليه).

وللتاريخ فأنني كنت الوسيط بين الحكومة والمتظاهرين. فحين وجدت المخابرات العراقية ان لي حضورا توعويا مع المتظاهرين في ساحة التحرير.. اتصل بي رئيسها السيد مصطفى الكاظمي طالبا الحضور الى مكتبه.. والتقينا، واتفقنا على مسائل مهمة، والتقيت بعدد من قيادات المتظاهرات وتم الآتفاق بتحديد مدة ستة اشهر على تطبيقها.. وبعد يومين نزل السيد الكاظمي الى ساحة التحرير دون حماية معلنة والتقى بالمتظاهرين.

مشكلات الشباب

يشكل الشباب ثلثي المجتمع العراقي، ولهم الدور الرئيس في المجالات السياسية والأقتصادية والأجتماعية والعلمية، وعليهم يتوقف مستقبل العراق. ولدى متابعتنا لأوضاعهم بعد 2003، وجدنا انهم يعانون أربع مشكلات خطيرة:البطالة، المخدرات، الأنتحار، والأغتراب.

البطالة

وفقا لتقرير عالمي World of Statistics فان العراق حلّ ثالثا في العالم بنسبة بلغت 16% فيما ذكرت وزارة التخطيط العراقية ان نسب البطالة في البلاد تتجاوز ما ذكره التقرير لاسيما بين حملة الشهادات الجامعية. ويفيد تقرير بان نسبة البطالة في قطاع الشباب بلغت (27%)

وبحسب وزير التخطيط لجريدة الصباح فان نسبة الفقر في العراق 20 % لعام 2018، ترتفع بالمحافظات الجنوبية لتصل بمحافظة المثنى الى 52 %. ويفيد تقرير لوزارة التخطيط بأن عدد الذين هم تحت خط الفقر (13) مليون عراقي في سابقة ما حصلت بتاريخ العراق.

المخدرات

* وفقا لاحصاءات مجلس القضاء الاعلى في العراق لعام 2021 فان نسبة الادمان على المخدرات قد تصل الى 50 في المئة من فئة الشباب، وان تناولها وصل الى اطفال المدارس الأبتدائية!

* ووفقا لتقارير وزارة الصحة العراقية لعام 2017 فان هناك ثلاثة الى اربعة مدمنين من كل عشرة شبان بعمر 18-30.

ومع تعدد المصادر التي تؤكد ارتفاع تعاطي المخدرات في العراق، فان الحقيقة المؤكدة ان العراق يتصدر الدول العربية بتعاطي المخدرات في قطاع الشباب.

فما اسباب ذلك؟

أهم سببين:

* كانت الدولة قبل 2003:

- قوية في تطبيق القانون بعقوبات تصل حد الأعدام لمن يتاجر بالمخدرات.

- و تعاطي الكحول كان مباحا.. وبالصريح فأن الفضل يعود الى العرق العراقي.. لأن من يتعاطاه لا تكون لديه حاجة الى أي مخدر مهما كان قويا.

وأن الذي حصل بعد 2003:

* أن الدولة بمفهومها الأمني لم تعد موجودة،

- وان محلات بيع الكحول تم غلقها بمعظم المحافظات، فضلا عن دعوة ممثلي احزاب الاسلام السياسي في البرلمان العراقي بتحريم الكحول، وقيام بعض المليشيات بحرق عدد من محلات بيعها لاسيما في البصرة.

شهادات

+ يؤكد تجار ومهربون، تفاقم ظاهرة تهريب العرق والخمور المستوردة من العراق إلى إيران مقابل تهريب الحشيشة والحبوب المخدرة منها للعراق.

+ ويرى آخرون أن تخلخل الاستقرار السياسي دفع القوى السياسية الى ما هو مشروع وغير مشروع في تحصيل مكاسب من بينها سيطرتها على المنافذ الحدودية وممارستها الاستيراد والتصدير، وتوريط مسؤولين عراقيين باشراكهم واعطائهم نسبا من الارباح.. لهدف سياسي ايضا هو الهاء الشباب بالهلوسة وتخديرهم.

+ أعلن قائد الشرطة في البصرة الفريق رشيد فليح وجود متنفذين يوفرون الحماية لتجار المخدرات (20تموز 2019)

+ واعلن نائب برلماني من البصرة(السكيني) ان تجارة المخدرات في العراق اكثر من تجارة النفط والسلاح.

واصبح تجار المخدرات مافيات ومواجهات عنيفة مع القوات الامنية ادت الى استشهاد ضباط ومنتسبين.

* الأنتحــــــار

اعلنت فضائية (الشرقية نيوز) في حصادها ليلة (27/26 اكتوبر 2021) ان حالات الأنتحار قد زادت في عام 2020. وفي(31 كانون الثاني 2024 ) اعلنت نفس الفضائية ووسائل اعلام اخرى ان (هناك خمس حالات انتحار يوميا في العراق).

هذا يعني ان الحكومات العراقية واحزاب السلطة لم تعالج الأسباب التي تؤدي الى الأنتحار برغم ان علماء النفس والاجتماع ومثقفين كتبوا عشرات المقالات فيها معالجات علمية للحد من هذه الظاهرة.

نوعان من الأسباب:

الأول:اسباب تقليدية للانتحار، هي:

* البطالة في قطاع الشباب،

* تردي الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية،

* عادات وتقاليد اجتماعية متخلفة.

والثاني:أسباب عراقية جديدة للأنتحار، نوجزها في الآتي:

* انشغال حكومات المحاصصة بمصالحها الخاصة على حساب المصلحة العامة،

* فشل العملية السياسية وانشغالها بالصراعات وانتاج الأزمات نجم عنها حالات اجتماعية سلبية تطورت لظواهر أخطرها: تضاعف حالات الطلاق والانتحار وتعاطي المخدرات،

* توالي الخيبات على الشباب.. نجم عنها شعورهم بالاكتئاب والضياع والخوف من المستقبل وانعدام المعنى من الحياة، ليشكّلا أهم سببين لتعاطيهم المخدرات والمؤثرات العقلية.

ابتكار عراقي لمعالجة انتحار الشباب!

* في 22نيسان 2019، أمر مجلس محافظة بغداد ببناء أسيجة للجسور لمنع الشباب من الانتحار، سخر منه العراقيون ووصفوه بأنه (ابتكار جديد يستحقون عليه براءة اختراع) وأن (رئيس مجلس محافظة بغداد اكتشف سرّا خطيرا لم تعرفه الانسانيه على مر العصور حين توصل الى ان طريقة الانتحار تتم بواسطة الجسور ووجد العلاج.. ببناء الأسيجه!)

الأغتراب

هذه الكلمة (الأغتراب) التي تبدو بسيطة، شغلت اهتمام الفلاسفة وعلماء النفس والأجتماع وكتبوا عنها مجلدات وتوصلوا الى اكثر من عشر نظريات.. من ماركس الى هيجل، سارتر، كولن ولسن... اتفقت على ان له سببا محددا لكنها اختلفت في تحديد ماهية السبب.

ومن وجهة نظرنا نرى ان الاغتراب هو حصيلة تفاعل ستة اسباب.. نختصرها بثلاثة:

1. العجز: ويعني احساس الفرد بأنه لا يستطيع السيطرة على مصيره، لأنه يتقرر بعوامل خارجية اهمها انظمة المؤسسات الاجتماعية.

2. فقدان المعنى: ويعني الاحساس العام بفقدان الهدف في الحياة.

3. الاغتراب النفسي: ويعد اصعب حالات الاغتراب تعريفا، ويمكن وصفه بشعور الفرد بانه اصبح بعيدا عن الاتصال بذاته (حين يقف أمام المرآة يسأل نفسه: آني منو!).

وتفيد الدراسات بان المغترب الذي يعاني من واحد او اكثر منها، مثل: (حين تكون علاقاته بالآخرين او السلطة مصدر شقاء له)، فأنه يشعر بعدم وجود معنى للحياة، فينعزل عن المجتمع، وقد ينقلب ضده.

وحين يصل حد الشعور بأن ذاته اصبحت غريبة عليه، فانه يحقد عليها.. فينهيها بانتحار بطيء بالادمان على الكحول، او بانتحار سريع... بـــــطلقة!.. وقد فعلها كثيرون في العشرين سنة الأخيرة.

وللأمام علي (ع) مقولة سبق بها علماء النفس والأجتماع هي (الفقر في الوطن غربة) فكيف اذا كان هذا الوطن هو اغنى بلد في المنطقة وواحد من أغنى عشرة بلدان في العالم؟ّ.. دون ان تدرك السلطة ان الشباب يشكلون ثلثي المجتمع وانهم هم الذين سيحددون مستقبل العراق.

المعالجات

شرطان أساسيان لتحقيق الأمن المجتمعي في العراق، هما:

اولا: مكافحة الفساد

قالت منظمة الشفافية العالمية المعنية بالكشف عن الفساد حول العالم ان العراق يحتل المرتبة الثالثة في قائمة الدول الاكثر فسادا.

وصفت المرجعية الدينية في النجف الاشرف كبار الفاسدين في السلطة بانهم (حيتان)، و(بح صوتها) دون ان يستجاب لها بالحد من الفساد الذي افقر الملايين.

اعلنت هيئة النزاهة بانها تمكنت في 18-5- 2009 من تنفيذ اوامر قبض بحق 33 متهما بقضايا فساد لم تنفذها الحكومة.

كشف القاضي راضي الراضي الرئيس الاسبق لمفوضية النزاهة عن ان 31 من اعضاء الهيئة قتلوا.

رئيسان تناوبا على رئاسة دورة واحدة للبرلمان، اسلاميان.. يوعظان الناس بالزهد وبتطبيق الشريعة، يقولان بان الاسلام هو الحل.. يتقاضى الواحد منهما راتبا شهريا قدره 57 مليون دينارا عدا امتيازاته الخيالية!

المؤتمر الأول لمكافحة الفساد 2024

في (14 كانون الثاني 2024، )انعقد في بغداد اول مؤتمر لمكافحة الفساد برئاسة السيد محمد شياع السوداني مؤكدا ان الحكومة وضعت ملف مكافحة الفساد على رأس أولوياتها، وانها خاطبت الدول التي تتواجد فيها أموال الفساد، و اصدر سبع توصيات بدأها بـ(الإسراع في حسم وإنجاز الإخبارات والشكاوى والدعاوى الجزائية ضمن المدد المحددة قانوناً..)، وانهاها بـ(تشريع قانون لاستحداث هيئة الرقابة، استناداً إلى أحكام المادة 108 من الدستور...).

الفساد في العراق.. اكبر من سبع توصيات!

ان اشرس المعارك التي تواجه العراق هي معركته مع الفساد، وهي مخيفة! بدليل ان رئيس الوزراء الأسبق السيد نوري المالكي اعترف علنا بأنه لا يستطيع مكافحة الفساد لأنه لو كشف ملفاته لأنقلب عاليها سافلها. وحين تلاه رئيس الوزراء الدكتور حيدر العبادي وعد بأصرار بانه سيضرب الفساد بيد من حديد ثم اعترف علنا في(27 /11/ 2017) بأنه غير قادر، لأن الفساد (مافيا.. يملكون المال، فضائيات، قدرات، يستطيعون ان يثبتوا انهم الحريصون على المجتمع، وهم الذي يحاربون الفساد، ولكنهم آباء الفساد وزعماء الفساد)، ختمها رئيس هيئة النزاهة السيد حيدر حنون بتصريح في (3 /5 / 2023) بان الفاسدين (قادة، وجنود، ومشجعين يدافعون عنهم، وانهم يتسابقون على سرقة أموال الدولة)، ليؤكدوا حقيقة ان الفاسدين اصبحوا دولة داخل دولة.. تخيف أي رئيس وزراء يحاول التحرش بهم، وآخرهم السيد مصطفى الكاظمي، الذي حصلت في زمانه سرقة القرن بمليارات الدولارات! وتكتم عن كشف الحقيقة كاملة.. ما يعني ان محاربة الفساد تحتاج الى متخذ قرار شجاع وحازم وذكي واستثنائي يعتمد استراتيجية علمية يضعها مختصون وخبراء مستقلون، يتحرر من مقولتنا قبل عشر سنين بأن، (سيكولوجيا السلطة في العراق علمت الحاكم ان يحيط نفسه بأشخاص يقولون له ما يحب ان يسمعه).

لنستفد من تجارب العالم

يعد كتاب: (الفساد.. مبادرات تحسين اﻟﻨـﺰاهة في البلدان النامية) الصادر عن الأمم المتحدة بعنوان (برنامح الأمم المتحدة الأنمائ ومركز التنمية الأقتصادي في منظمة التعاون الأقتصادي والتنمية) افضل مصدر عن التجارب الناجحة في مكافحة الفساد ومنها:الهند، المكسيك، الولايات المتحدة. ومع ان تجربة ماليزيا تعد الأنجح في (الدور التنموي للدولة في مكافحة الفساد)، فأن تجربة سنغافورة تعد الأنجح والأنسب للأستفادة منها في العراق، وكان أهم عوامل نجاحها هو:

- إصدار قانون متكامل لمحاربة الفساد،

- انشاء "مكتب التحقيق في ممارسة الفساد" وقيامه بمهامه على الوجه الأمثل،

واتخاذ اجراءات ذكية لتنفيذ التشريعات التي تضمنها "قانون مكافحة الفساد" اهمها:توفر إرادة سياسية جادة وصادقة وحازمة في اقرار قانون فعاّل وعملي لمكافحة الفساد، وتأمين نظام قضائي كفوء ونزيه وسريع، وتأمين جهاز اداري مهني لتنفيذ قرارات القضاء، واشاعة الوعي بين المواطنين بان مكافحة الفساد واجب وطني وديني واخلاقي.

وكان اهم درس بتجربة سنغافورة، أنها قامت بتشكيل هيئة تتبع رئيس الوزراء ويعين أعضاؤها بقرار منه بعد أن كانت تابعة لوزارة الداخلية، تتولى دون غيرها جمع الاستدلالات والتحقيق في إعطاء سلطات واسعة لأعضاء هيئة مكافحة الفساد في الكشف عن الجرائم. ولا يحق لأي مسئول بالدولة أن يعيق أو يتداخل أو يؤثر على عملية اتخاذ القرار أو التحريات أو التحقيقات التي يقوم بها مكتب التحقيقات (Corrupt practices Investigation Bureau) الذي منحت له كامل الصلاحيات في استدعاء اي فرد مهما كان منصبه في الدولة او ثقله السياسي للمثول امامه والأجابة على اية اسئلة او استفسارات. مثال ذلك.. إذا كان أحد الأفراد مسئولاً مدنيـًا راتبه الشهري 500 دولارا ولديه سيارة BMW ولدى زوجته سيارة مرسيدس، ويمتلك منزلاً بقيمة 5 مليون دولار، فان عليه ان يمثل امام مكتب التحقيقات ويجيب عن سؤال: من أين لك هذا؟. فان ثبت ان ما لديه كان مالا غير مشروعا، فانه تتم مصادرته وتطبق بحقه قوانين صارمة تعتبر الفساد ليس فقط مجرد جريمة ارتكبها ذلك الشخص، وانما ضد من اعطاه تلك الأموال ايضا.

فهل تستطيع حكومة السيد السوداني محاسبة او مساءلة (36) ملياردير ثروة كل واحد منهم مليار دولار معظمهم كانوا فقراء، وفقا لمركز البحوث الفرنسي؟

وهل يستطيع تنفيذ ما قاله في المؤتمربانه سيتم (تشكيل لجان تحقيقية مع المسؤولين من المستويات كافة) ولو مساءلة رؤساء الوزراء السادة: نوري المالكي، حيدر العبادي، عادل عبد المهدي، ومصطفى الكاظمي، بوصفهم كانوا الرجل الأول في الدولة؟

ثانيا: اعادة النظر بامتيازات السلطات الثلاث والبرلمان

نورد هنا بالأرقام ميزانيات العراق في عدد من سنوات ما بعد 2003

بلغت ميزانية العراق عام 2003 بحدود 14 مليار دولار، ارتفعت عام 2004 إلى 18 مليار دولار، لتبلغ في 2005 بحدود 26 مليار دولار، ارتفعت في 2006 الى 34 مليار دولار، لتقفز في 2007 الى 42 مليار دولار، لتصل 70 مليار دولار في 2008، و 74 مليار دولار في 2009، و 84 مليار دولار في 2011، و 101 مليار دولار في 2012، و 120 مليار دولار في 2013، لتقفز في 2014 الى 150 مليار دولار.

والتساؤل هنا جاء على لسان المرجعية بصوت الشيخ احمد الصافي بخطبة جمعة (9 /8/ 2019) بقوله:(ارقام مرعبة من الأموال.. أين ذهبت؟ هل من مجيب؟!).. ولم يجبه احد أين ذهبت تلك الأموال الضخمة!

والجواب ان ما يقرب من ثلث هذه الميزانيات يذهب رواتب وامتيازات للسلطات الثلاث واعضاء البرلمان العراقي في سابقة ما حصلت بتاريخ العراق وتاريخ حكومات وبرلمانات العالم المعاصر.

ورغم اننا قدمنا مذكرات وقعها شخصيات وطنية من داخل العراق وخارجه، فأن من في السلطة لم تستجب. ومع ذلك فأننا اعددنا استراتيجية علمية لمعالجة اهم شرطين لتحقيق الأمن المجتمعي مقدمة من (المدى) الى مكتب السيد رئيس مجلس الوزراء.

وبالصريح فانه ما لم يتم معالجة هاتين الآفتين (الفساد والأمتيازات) فانه لن يتحقق الأمن المجتمعي ولا الأمن السياسي ولا الأمن الأقتصادي. ونحذر بأنه ما لم يحصل تغيير في الأنتخابات التشريعة القادمة تنقل العملية السياسية من سكة المحاصصة الى سكة بناء دولة مؤسسات مدنية فان العراق مقبل على حدث خطير سيندم عليه من توهم ان من استلم السلطة واستفرد بالثروة سيبقى يتنعم بهما الى يوم يخصه عزرائيل بالزيارة.

***

أ.د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

..........................

(*) مقدم الى مؤتمر مركز البحوث النفسية (7-3/8 / 2024 كربلاء، تحت شعار: الأمن المجتمعي التحديات والمعالجات.

لستُ ممَن يظن أن كلَّ شيء يبدأ بأمة دون سواها، هي الأصول وغيرها الفروع. فإذا المعتزلة مثلوا سقوط الأجسام(العاشر الميلادي) بـ«التّفاحة»(النّيسابوريّ، المسائل في الخلاف)، ثم مثّل بها إسحق نيوتن(ت: 1726م) عملية الجاذبيّة، وشاعت له (السابع عشر والثامن عشر)، ليس معنى هذا أنه انتحل المعتزلة، إنما العقل قادرٌ على إنتاج العلم، وهو إنساني بطبيعته، فما فكر به المعتزلة فكر به نيوتن، لا وجود لمركزية ولا لاحتكار.

كذلك قرأت في كتاب «همس الدَّم.. قصص الثورات» لإيريك دورتشميد (المدى 2020)، كلمة رددها قائد الثَّورة الفرنسيّة، لجان جاك روسو(ت: 1778): «يولد الإنسان حراً، ولكنه في كلّ مكان يجر سلاسل الاستعباد». معلوم، أنَّ روسو صاحب «العقد الاجتماعيّ» الشّهير، عاش وقال مقولته في القرن الثّامن عشر، عصر النهوض الأوروبيّ، فهل اطلع روسو على عبارة عمر بن الخطاب(اغتيل: 23 هجرية)؟

لا نعتقد ذلك، فالرواية أول ما جاءت في «فتوح مصر والمغرب» لعبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم(ت: 257 هجرية): «مذ كم تعبّدتم النَّاس، وقد ولدتهم أمّهاتهم أحراراً» (فتوح مصر والمغرب)، ثم رواها: الثَّعالبيّ(ت: 429 هجرية)، في «الشّكوى والعتاب»، والمفسر المعتزليّ محمود الزّمخشريّ(ت: 537 هجرية) في «ربيع الأبرار ونصوص الأخيار»، وابن حمدون(ت: 562 هجرية) في «التّذكرة الحمدونيَّة»، وبعدها انتشرت في كتب مَن أتى بعدهم، رويت عن سندها الصَّحابي أنس بن مالك(ت: 93هجرية). هل تُرجمت مِن هذه الكتب في زمن روسو؟! مِن الصَّعب الإقرار بذلك، إنما الفكر الإنسانيّ، وكل مَن يفكر بمصالح النّاس، يرتقي إلى هذا الكلام، وليس هناك أرض عاجزة، ولا شعب عاجز من التقدم الإنسانيّ، خلاف ما يريده أصحاب المركزيات، فما نحته الأوروبيون مِن أفكار، نحته قبلهم غيرهم.

في مقابلة أخرى، بدأت إدانة العبوديّة تُعلن بكنائس بريطانيا، فصدرت وثيقة لندن الجماعية(1783م)، جاء فيها: «قضية رفاقنا في الخليقة: الأفارقة المقموعين»(ديلبيانو، العبودية في العصر الحديث). إذا التقى روسو مع عمر بن الخطاب، فالإنجيليون التقوا مع علي بن أبي طالب(اغتيل: 40 هجريّة)، في كتاب تكليفه لمالك الأشتر(اغتيل: 38 هجريّة) والياً على مصر: «أَشْعِرْ قَلْبَكَ المَحَبَّةَ لِلرَّعِيَّةِ وَالرَّحْمَةِ بِهِمْ، وَالرَّفْقَ بِهِمْ، وَلاَ تَكُوْنَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعَاً ضَارِيَاً يَغْتَنِمُ أكْلَهُمْ، فَإنَّمَا هُمْ صِنْفَانِ: إمَّا أخٌ لَكَ فَي الدَّيْنِ، أَوْ نَظِيْرٌ لَكَ في الخُلُقِ، يَفْرُطُ مِنْهُم الزَّلَلُ وَتَعْرِضُ لَهُم العِلَلُ، وَيَأْتِي عَلَى أَيْدِيْهِم العَمْدُ وَالخَطَأْ»(نهج البلاغة).

قد يقول بعضهم: هذا كلام الشَّريف الرَّضي(ت: 406 هجرية)، جامع ومحرر النّهج، وأنّ النص لم يأت عند الأقدمين، جاء عند المتأخرين على زمنه: ابن حمدون(ت: 562هـ) في (التّذكرة الحًمدونيّة، وبعده النّويريّ(ت: 733هـ) في (نهاية الأرب في فنون الأدب) ثم القلقشنديّ(ت: 821هـ) في كتابيه (مآثر الإناقة، وصبح الأعشى). لنعطي القائل الحقّ، ولكن ما هو البعد الزمني بين وثيقة الكنيسة، وما نفترض كتبه الشّريف الرّضي، أليس ثمانمائة عام؟ إذن هو وليد هذه المنطقة، وكذلك الحال مع مقولة عمر بن الخطاب.

إزاء ما تقدم سنواجه رأيين، مشرقاً ومغرباً لا يلتقيان: العادمون للتّاريخ، فما جاء في أمهات التاريخ الإسلاميّ مجرد نصوص مسرحيّة عندهم، وما التفوق في الماضي والحاضر إلا لأوروبا. الثّاني: العادمون لغيرهم: لا تاريخاً فكرياً لغيرنا، وما الحضارة الأوروبيّة وصناعتها إلا مِن إعجازنا! والاثنان يهربان مِن واقع أنّ الأمم حيّة كافة.

يُشار إلى قضية أخرى على هاش المقال، تلفت النّظر، ونحن نعيش الهجاء الطّائفي، النَّابع مِن ضمائر مشكوك بإنسانيتها، وعقول يابسة حواضن للجهل، هل يُعقل، أنَّ عمراً وعليّاً، صاحبي النَّصين الإنسانيين، وما يُلمس مِن رقي حضاري فيهما، يجري قحمهما كذباً وخداعاً، في الطَّائفيّة الرّخيصة، المشتعلة مِن على أعواد المنابر؟

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

لا يكاد يخلو أدب الفكر الاجتماعي والسياسي المعاصر، بمختلف أصنافه وتياراته، وتنوع اهتمامه وتوجهاته، وتعدد مصادره ومرجعياته؛ من الحديث عن (الطبقة) أو (الطبقات) الاجتماعية؛ إن لجهة تبلورها كمعطى سوسيولوجي يعي ذاته بالمغايرة مع وعي بقية المكونات الأخرى في المجتمع، أو لجهة تصنيفها بين ارستقراطية / عليا، وبرجوازية / وسطى، ودنيا / عاملة، أو لجهة علاقاتها البينية واستقطاباتها المتقابلة هل هي قائمة على أساس التفاعل والتواصل أو التصارع والتقاطع .

وعلى الرغم من كون النقاش حول مكانة (الطبقة) الاجتماعية وبيان دورها في سيرورات المجتمع، فضلا"عن وظيفتها في عمليات الإنتاج الاقتصادي والتبادل الثقافي والتداول القيمي، يمتد إلى حقب تاريخ ما قبل الميلاد، لاسيما ضمن أعمال الشهير للفيلسوف الإغريقي (أفلاطون) وخصوصا"كتابه المعروف (الجمهورية)، والذي اعتقد من خلاله إن سلامة المجتمع واستقراره يرتهن بضرورة تقسبمه إلى ثلاث طبقات؛ الذهبية والفضية والبرونزية، حيث لكل طبقة مكانتها ووظيفتها اللتان ينبغي المحافظة على الحدود بين طبيعة كل منها، مع مراعاة عدم التخالط فيما بين خصائصها النوعية . بيد أن من الإنصاف الإشارة إلى أن الفكر الماركسي كان من أبرز الأنظمة الفلسفية التي شيدت معمار مفهوم (الطبقة) ببعديها النظري والعملي على حدّ سواء، من منطلق إن كل من (الطبقة) وصراعها (الطبقي) هما الداينمو المحرك للجدلية الاجتماعية برمتها؛ سواء أكان في مجال التاريخ، أو في حقل الاجتماع، أو في مضمار الوعي، أو في إطار الدين، ومن ثم رصد أشكال التناضح بين الطبقات وتشخيص أنماط التلاقح بين الذهنيات .

وكغيره من الأنساق الفكرية الكبرى التي حاولت تغطية كل ما يتعلق؛ بأصل الكون / الوجود، وطبيعة الإنسان / المجتمع، وماهية الفكر / الوعي، بحيث تعطي الحلول لكل القضايا وتقدم الإجابات لجميع المسائل . فقد تعرض الفكر الماركسي للكثير من الإساءات النظرية والتشويهات المنهجية؛ ليس فقط من قبل خصومه ومناوئيه فحسب، وإنما كذلك من جانب المنتمين إليه والمحسوبين عليه – بل ربما تبدو إساءات الأولين أقل وطأة من تشويهات الآخرين –  وهو الأمر سمح لبعض الكتاب والباحثين (المتمركسين) التهاون – إن لم يكن التخلي – عن أهم المعايير الاجتماعية والضوابط المعرفية، التي أفضى إهمالها والتفريط بها إلى فقدانهم امتياز الرؤية الواضحة لتضاريس الواقع الاجتماعي، وحرمانهم فضيلة التفكير السليم بأواليات تفاعله واتجاهات حراكه .

وهكذا بقدر ما يكثر الأنصار ويزداد المشايعين لهذا الفكر أو ذاك، فضلا"عن تضاعف المفكرين والباحثين بين صفوفه، بقدر ما يتشظى إلى مدارس مختلفة إن لم تكن متعارضة، وينشطر إلى نظريات متنوعة إن لم تكن متناقضة . ومن المفيد التذكير هنا إن الطابع الموضوعي لصيرورات الظواهر الاجتماعية، فضلا"عن حتمية تفاعلها وتصادمها وتصارعها وبالتالي تطورها، لا يمنع عنها حالات الاستثناء التي قد تخل بآليات تلك السيرورات الجدلية، كما قد يحصل في حالات (الطفرات) المفاجئة و(الانحرافات) المباغتة و(الانقطاعات) الغامضة .

وعلى هذا الأساس، فإن توقعات حصول هذه الحالات وارتفاع معدلاتها ترتبط بطبيعة المجتمعات المدروسة وأنماط ثقافاتها وسياقات تاريخها، من حيث أنه كلما كان المجتمع المعنى أكثر تطورا"في مضامير التطور الاقتصادي والإبداع الثقافي والتقدم الحضاري، كلما كان الفرز (الطبقي) بين جماعاته ومكوناته أكثر تبلورا"وأشدّ وضوحا"، والعكس بالعكس . أي بمعنى ان التكوين (الطبقي) للمجتمع لا يرتبط بالشوط الزمني / التاريخي الذي قطعه ضمن مسار صيرورته الاجتماعية – كما يحاجج البعض عادة – وإنما يتحدد نمط ذلك التكوين بالقياس الى مدى انخراطه بالسيرورة الحضارية للعالم، مثلما في  حجم إسهامه في تجاوز أطوارها البدائية وتخطي مراحلها التقليدية، والانتقال بها، من ثم، الى أطوار الرقي والتحضر الإنساني .

وإذا ما وضعنا (الطبقة الوسطى) العراقية ضمن إطار هذه الشروط والمعايير، سنلاحظ أن عمليات تبلورها على الصعيدين النظري والواقعي قد أعيقت وأجهضت مرارا"وتكرارا"، نتيجة للظروف والأوضاع الشاذة التي لم يفتأ المجتمع العراقي من التعرض لها والانخراط في أتونها، بحيث لم يتسنى لمقومات صيرورة تلك الطبقة من التبلور والنضوج بالشكل والصيغة التي تمكنها، ليس فقط من حيازة وامتلاك تلك المقومات الأساسية فحسب، وإنما حالت دونها والقدرة على اكتساب (الوعي) بدورها التاريخي والتمكن من وظيفتها الحضارية . ولهذا فقد ساهمت تلك العوامل على وضع عناصر هذه (الطبقة) بين شقي رحى؛ تخلف الشروط والمعايير الموضوعية للواقع من جهة، وضعف القدرات والإمكانيات الذاتية (الوعي) من جهة أخرى . والى أن تتحقق تلك الشروط وتتوفر تلك العوامل ستبقى (الطبقة الوسطى) العراقية في حالة من الترجرج والهلامية على صعيد الوجود من جانب، والغموض والالتباس على صعيد الوعي بذلك الوجود من جانب ثان .

***

ثامرعباس

العلاقة بين الشعر والفلسفة تعتبر علاقة وثيقة، فالشعر والفلسفة هما من وسائل التعبير الإنساني التي تسعى إلى فهم الحياة والعالم من حولنا بشكل عميق. والشعر هو فن أدبي يتضمن استخدام الكلمات بشكل مبدع للتعبير عن المشاعر والأفكار والتجارب. أما الفلسفة فهي دراسة الأسئلة المتعلقة بالوجود، الحقيقة، القيم، العقل، الأخلاق.

والشعر هو شكل من أشكال الفن الأدبي مكوناته اللغة الأدبية، وهو يرمي إلى هدف معين وإيصال رسالة محددة. والشعر هو كلام موزون له بنوة لغوية منظمة ويتمتع بصوره جمالية غير موجودة في الكلام العادي. أما الفلسفة فهي ترتبط بماهية الإنسان لتجعله راغبا في المعرفة وهو معرفة الأشياء بحقائقها الكلية، والفلسفة تعني بالأشياء وتحفز العقل. والفيلسوف بحكم اهتمامه بالواقع ينصت إلى صوت الحقيقة.  يبني ما الشاعر بحكم اهتمامه بالجمال والمشاعر ينصت إلى روحه ووجدانه وخياله.

يعبر الشعر عن الأفكار والمشاعر بطريقه جمالية  ملهمة. بينما تعتمد الفلسفة على التحليل والمنطق لفهم وتفسير الوجود والحقيقة. وممكن للشعر أن يلقي الضوء على مواضيع فلسفيه مثل الحب والجمال. كما أن الشعر ممكن أن يساعد في توجيه الفلسفة نحو قضايا إنسانية أكثر عمق وتأمل هذا من جانب، من جانب آخر يقدم الشعر للفلسفة أساسا وقواعد للتفكير العميق والتأمل المنهجي مما يمكن الشعراء من بحث القضايا الفلسفة بشكل أعمق وأدق.

والشعر هو فن التعبير الأدبي الذي يمكن الشاعر من التعبير عن الحب والحزن والفرح والغضب وغيرها من المشاعر الإنسانية بطريقه مباشرة أو غير مباشرة. أما الفلسفة فهي دراسة الأسئلة الأساسية حول الحياة والوجود التي من خلالها يصل الفلاسفة إلى فهم جوهر الواقع وبناء نظريات تثري الفهم البشري وتحقيق التطور الفكري.

والربط بين الشعر والفلسفة يكمن في الطبيعة العميقة لكليهما كوسائط للتعبير الإنساني والتأمل الفكري، يحث يستخدم الشاعر اللغة الشعرية للتعبير عن الأفكار الفلسفية بشكل غنائي وجذاب. ليس اللغة فقط بل هناك علاقة معرفية فالذي تتوصل إليه الفلسفة يجسده الأدب بأجناسه المختلفة من شعر وقصه ورواية والاختلاف بينهما يكمن في آلية تقديم كل منهما نفسه من خلال اللغة. والتعبير الفلسفي قريب من الواقع كونه يخاطب العقل الإنساني في بحثه عن الحقيقة. بينما التعبير الشعري مقترن بالأفاق الكونية في جوانبه المعرفية، وفي الخيال في جوانبه الإبداعية الهادفة إلى المتعة والجمال لكونه يخاطب الروح والوجدان في الإنسان. ويعتبر الشعر في بعض الأحيان وسيلة لنقل الحكم والفلسفات العميقة بطريقه تتجاوز الكلمات العادية، بالإضافة إلى ذاك ممكن للشعر أن يلهم الفلسفة والعكس صحيحا،، حيث يمكن للأفكار الفلسفية أن تلهم الشعراء في إبداع أعمال شعرية غنية بالروح الإبداعية. وعلى هذا الأساس يمكن دمج الشعر والفلسفة معا لإنتاج أعمال فنية غنية بالمعنى والعمق الفكري. والدوج بين الشعر والفلسفة ممكن أن يخلق تجربه فريدة تثري قلوب وعقول القراء والمستمعين، وممكن لهذا التلاقي أن يساهم في توسيع آفاق الفهم والإدراك، وممكن للأعمال التي تنبثق عن هذا التجانس أن تكون مصدرا للإلهام وإثراء للثقافة الإنسانية.

أضافه إلى ما سبق ممكن اعتبار الشعر نتاجا فلسفيا في بعض الحالات، فالشعر كوسيلة فنية للتعبير ممكن أن يحمل رسائل وأفكارا فلسفيه عميقة، وقد يقوم الشاعر بتناول قضايا فلسفيه مثل الحياة والموت، والوجود والغياب بطريقه تستدعي التأمل والتفكير العميق. وعند استخدام الشاعر لفة الشعر وأساليبها الفنية لتناول مواضيع فلسفيه ممكن أن يكون لشعره بعد فلسفي يدهش القارئ ويدفعه للتأمل في الخفايا والمعاني العميقة. والشعر الذي ينبثق من قلب فلسفي يمكنه أن يلقى قبولا كثيرا بين القراء والباحثين عن الجمال والحقيقة.

وكان الشعر في الفكر الإغريقي له أساسا جوهريا في الخطابة، حيث كان يتخذ هذا الفكر من الصياغة الشعرية وسيلة للتعبير عن حقائقه ومضامينه، وهناك نجد صاحب ملحمة الإلياذة هوميروس كتبا فلسفته بحروف من الشعر وأراد بذلك تأسيس عالم جديد وهو العالم الإغريقي الذي يكتشف مولد الفلسفة. وكذلك بارمنيدس في فلسفته عن الوجود الواحد عبر عنها على شكل شعر. وهيراقليطس عبر عن فلسفته في التحول والصراع الدائم في نثر شاعري غني بالصورة الأدبي. وبشكل عام فإن الشعر والفلسفة يمكن أن يتكامل كل منهما مع الآخر لإثراء التجربة الفكرية والإبداعية للإنسان، ويكملان بعضهما البعض، ولكل منهما دوره في الحياة ويخدمان الفكر البشري بطريقه مختلفة ولكن لأتعارض بينهما.

***

قائد عباس حمودي حميد

بدءا، على أصحاب الفكر والإبداع الثقافي أن لا يختزلون تحت أي ذريعة دور اللغة كأداة للتعبير، قول شيء يمس هموم الأمة، وان لا يكتفون فقط، باستعراض اللغة، مجرد وسيلة ملازمة للنصوص الأدبية كالشعر والقصة والرواية، وينسون فعل لغتهم في فضح مظالم ومعاناة شعوبهم، فتصبح اللغة وما تمتلكه في مجالها القيمي من مضامين سيميائية، لا معنى لها ولا تستطيع أن تجسد تلك القيم بشكل دقيق وملموس.. في إطار تعزيز تعدد اللغات والثقافات اعتمدت الأمم المتحدة في ديسمبر 1973 قرارا للاحتفال بإدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية الست في عمل الأمم المتحدة. لكن هل كان هذا القرار ينذر بانتهاء التمييز بين البشر وانتمائهم الثقافي والحضري، أو الاعتراف بحقوق الشعوب والأمم، وأهمها حق الحياة والاستقرار ومنع الحروب عليها؟.

يقول العراقيون: أنصت إلى لغة والديك تجد ما يقودك إلى الحقيقة.

اللغة، هي ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي فن يعبر عن روح الإنسان وتاريخه، تنقلنا عبر الزمن وتفتح أبواب ثقافتنا بأسلوبها الفريد على مصراعيه. وإذ يقال عن العربية هي لغة الأدباء والشعراء المشعة بجمالياتها وعمقها في سماء الأدب اللامتناهي. فتراثنا الأدبي الحافل بأنسابه اللغوية القيمة والحكمة والجمال والدفء، يعكس أيضا، المشروع التنويري لنصرة الكادحين والطبقات المسحوقة التي نالها الظلم وعانت من الاضطهاد والحروب على مدى عصور. اليوم، حينما يتساقط الدم وتتعاظم عواصف الظلام والإرهاب، تبقى الكلمات وسيلة البقاء على قيد الحياة. وعلى اللغويين أن يتصدوا بأقلامهم الحرفية لمواجهة الذي يهدد معنى الإنسانية. وخطابهم الثقافي أن يتجاوز حدود الجمود، كالسيف يخترق دروب الجهل والتخلف والتستر على الحقيقة.

لا تقتصر اللغة العربية فقط على صورها والكلمات البليغة، بل تتعدى ذلك لتمتد إلى عمق الفهم والتفاعل التعبيري في مجاليه الأدبي والقيمي. تحمل في طياتها الدقة والغزارة، ما يجعلها أداة فعالة لنقل الأفكار والمشاعر بأبهى الأساليب والوضوح. وتتجلى أهمية اللغة العربية في قدرتها على حمل المعاني والتعابير العميقة. كما تمنح الكلمات حقها الكامل وتجسد الأفكار بشكل دقيق وملموس. ومن خلال تراثنا الأدبي الغني، فاللغة العربية تتمتع بأشكال وأساليب فنية وسيميائية مختلفة، أيضا، برؤية نوعية شاملة.

في خضم هذه الصفات البعيدة المدى، فاللغة العربية جسر يربط الماضي بالحاضر، بل، الشرق بالغرب. تلاحمها مع الزمن، يعكس تجدد عظمة تأصيلها ليتلاءم مع تطور العصر وتحدياته. وفي الوقت نفسه، كيف يجد الإنسان في اللغة العربية، ليس فقط وسيلة للتعبير، بل وصفحة مفتوحة على عالم المعتقد والفن والعلم، إنها كنز عديد الأغوار والاستكشافات. وفي جمالية اللغة العربية تكمن أيضا، عبقرية الشاعر الأبدية في كيفية توظيف مفرداتها ليس في الخطاب الأدبي فحسب، إنما الجري باتجاه الحياة السياسية ومعالجة المحيط الاجتماعي وتفكيك واقعه الموضوعي والطبقي.

ثقافات عالمية متنوعة في عصور عدة، نقل كتابها وأدباؤها ومفكروها الكثير عن إعجابهم باللغة العربية وقدرتها التعبيرية في مفاصل الحياة العامة... غوته، كان من أشهر الكتاب والمفكرين الألمان، أبدى إعجابه الكبير باللغة العربية إذ قال: "هناك شيء ملكوت في اللغة العربية، ولها قدرة على التعبير عن أفكار معقدة ببساطة فائقة"... فولتير، الفيلسوف الفرنسي الشهير أعرب عن إعجابه باللغة العربية قائلا: "اللغة العربية هي لغة العلم والفلسفة"... إيمرسون، الفيلسوف والشاعر الأمريكي قال: "اللغة العربية... تختصر المعاني بأقل الكلمات وأعظمها"... لورانس داريل، الروائي البريطاني أعرب عن تقديره للجماليات اللغوية في اللغة العربية، وكتب عنها بإعجاب في روايته "القاهرة الثلاثية".

أضيف إلى ذلك، أن اللغة العربية التي تعتبر لغة القرآن والشعر والأدب الكلاسيكي، ولها مكانة خاصة في قلوب الأدباء والكتاب العرب، قال فيها الكاتب والفيلسوف اللبناني الشهير: جبران خليل جبران: "العربية لغة جميلة، والكلمات فيها كالألحان"... أحلام مستغانم: الكاتبة الجزائرية الحائزة على جائزة نوبل للأدب قالت: "اللغة العربية هي حقل زهور لا يعد ولا يحصى".. نجيب محفوظ: الروائي المصري الحائز على جائزة نوبل للأدب، والذي وصف اللغة العربية بأنها "أرق من العاج وأقوى من الصلب".. أديب الرفاعي: الشاعر السوري الكبير وصف اللغة العربية بأنها "لغة الطير ولحن الأمواج".. أحمد شوقي: الشاعر المصري وصف اللغة العربية بأنها "لغة الشعر الجميل والأدب العظيم".. إلا أن عالم الإجتماع العراقي علي الوردي، كان قد وجه عام 1951 نداء وهو بصدد مفهوم "لغة الكتابة ولغة الخطابة" قال فيه: تحدثوا كما تخطبون، واخطبوا كما تتحدثون. ما أعظم هذه الناصية الفلسفية في الحياة المجتمعية لهذا الانسان المفكر، وما أعظمه من خطاب يسابق الزمن ويتصدى للجمود.

لعلنا، ونحن نرتوي من جوانب الإعجاب باللغة العربية، سواء كانت تعبيرا عن روعة الألفاظ أو تقدير للتراث الأدبي الغني الذي قدمته اللغة العربية على مر العصور. وقد رأى الكتاب والأدباء للغة العربية لونا خاصا وصوتا جميلا يعكس تاريخا وحضارة لن تتوقف عند حدود أو أزمنة. نتساءل، ما قيمة لغة الأدب لدى بعض المثقفين المتباهين العرب، إذا لم يحسنو فعلها وفي الضفة الأخرى تقف، كل مآثر اللغة، أية لغة، عاجزة أمام وحشية الحروب وقتل الإنسان بهمجية مفرطة. ولم يبق إلا لغة الصمت، وهو "فعل" أقوى من اللغة ذاتها عندما يصبح النص الأدبي "مأساة" أمام آلة الحرب والقتل الهمجي، حيثما تندثر لغة الكلمات للتعبير عن قيم الحياة والإنسانية في زمن العقبات الظلامية والقتل والدمار.

ولعلي أختم بقول محمود درويش، الشاعر الفلسطيني الراحل، الذي تنبثق كلماته في عمق لغتنا العربية كالنبع في صحراء العقول المحاصرة بالجفاف، تحمل في طياتها، قيما ووعيا ثقافيا يهزم التشويش ويعيد كالرياح العاتية للذاكرة أصل القضية: "اللغة العربية هي جوهر الهوية، ولون الأحلام، ورنين الحرية".

***

عصام الياسري

شهر رمضان هو شهر التفكير يوميا وبتمعن وعمق في علاقتنا بالله تبارك وتعالى وجرد دقيق لانحطاط منحنى صدقنا ووعينا لما بعد هذه الحياة وماهية وجودنا فيها وغايات ذلك، هناك تحليل بياني لما هي عليه برمجتنا الإسلامية واستعادة نقدية لمنعطفات ذاكرتنا العبادية على الأقل خلال السنوات القليلة الماضية او لنقل السنة الفائتة وتحديد مستند الأعمال وماذا عن الذنوب المرتكبة عبرها او ضمنها او في سياقها ، حيث لا يمكن لمسلم رشيد وواع بماهية إسلامه في وجوده أن تغيب عن ذهنه تجديد برمجته الداخلية الفكرية والنفسية والعملية كونها ذات ارتباط مباشر بمصيره في الحياة الدنيا ويوم الحساب، مما يجعل الصيام لمدة شهر ليس روتينا عباديا وإنما دورة مستندية للنفس والفكر والعاطفة والموقف والتطلع ذات خريطة تتوزع معالمها في أعمق اعماق الذات الإنسانية والتي يمكن مقاربتها واستدراك تدقيقها من خلال العودة للقرآن الكريم عبر عملية تدبر وكذلك من خلال مقتضيات الدعاء ووعي فلسفة الصبر كمنهج تطور ورقي وليس تفريط او إفراط في قبال التحديات والصعاب والالتزامات..

 الدورة المستندية لآفاق الذات:

اقرب مثال هو رجل أعمال يمتلك مصنعا ينتج مواد مهمة إما غذائية او صناعية أو غير ذلك بلاشك يحتاج إلى دورة مستندية وفق خريطة محددة لمتابعة وتحليل وتدقيق البيانات وحركة الإنتاج والتخزين والتوزيع ومردوداتها المالية، وينطبق الأمر على بعدين الخسائر والأرباح حيث سيكون الانضباط والتخطيط والتنظيم والادارة المثلى دليل النجاح، بينما الإهمال وترك الرقابة وتأخر التنظيم وفقدان التخطيط، اساس سيناريو الخسارة الفادحة والافلاس، ولنطبق الأمر في وعينا بذات كل واحد منا في علاقته بالله عز وجل وما تعكسه من جودة في العطاء الفكري والنفسي والسلوكي والموقف الايماني والعمل الصالح فهي تجارة ناجحة وإما العكس تجارة فاسدة كاسدة خاسرة والذي يقرر صورتها وحقيقتها هو الإنسان نفسه بحسب ما كانت مستنداته الشخصية إما خير او شر، دون أن ننسى أنه هذه الدورة المستندية المحاسب فيها هو ذات الشخص ولا يمكنه تكليف أحدا غيره.

رمضان مستندية البرمجة الداخلية للإنسان المسلم وفرصة سانحة لمراجعة البيت النفسي والقمة الفكرية والعمق العاطفي والسلوك العملي عبر ترميم الخريطة المستندية وترتيب الأولويات وتحليل الخسائر واستثمار الأرباح كل ذلك في تجربة تأملية لعلاقتنا بالله تبارك وتعالى وبالآخرين وبالحياة كلها وذلك كله في رحاب القرآن الكريم، ولا ريب أن رمضان شهر تجديد نظام الصرف الأخلاقي عبر الصبر في هجران ذنوب ارتكبت وسودت القلب وشوهت الرؤية وأفسدت المسيرة نحو العيد الاكبر..

 كيف نصوم؟!

شهر رمضان دورة برمجة ذاتية ترنو إلى نيل عطاءات العفو والمغفرة والصفح والرحمة الإلهية والعتق من نيران الدنيا والآخرة، نعم إنه شهر الجرد العمري أو على الأقل السنوي والمنطلق لتربية الذات من خلال تنقية ملفاتها من أوساخ الغفلة والتكبر والعجب والنفاق والكذب والخيانة وتتبع عثرات المؤمنين وفتنتهم وكل المظالم والمفاسد في أعمارنا، دورة البرمجة الداخلية هي إرادة بناء نظام التوبة الحقيقية، نعمل من خلالها على تخطيط إيمان عميق وصادق، يكون ذا أثر عكسي على عداد الذنوب والمعاصي والمظالم لتتناقص تدريجيا في تفاصيل حياتنا المقبلة، وتأمين لمستندية الذات من الانزلاق نحو هاوية الغضب والطرد من رحمة الله- والعياذ بالله، فنتذكر جوع وعطش إخواننا بغزة الصامدة المرابطة ونزوحهم والطيبين باليمن والسودان وفي ذلك كله تذكر لجوع يوم القيامة وعطشه، ونتصدق على فقراء ومساكين فلسطين أولا واليمن والسودان والعالم كله، ولنعمل على تأمين مجتمعاتنا عبر توقير كبارنا، ورحمة صغارنا، وصلة أرحامنا، والأمثل ان نحفظ ألسنتنا، ونغض عما لا يحل النظر إليه أبصارنا، وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعنا، ولا نغفل على أيتام الناس خاصة أيتام غزة الأبية وأولئك الذين صانوا كرامتنا بشهادتهم، حتى يتحنن على أيتامنا، هكذا واقعا تكون التوبة إلى الله من ذنوبنا، ولا ننسى أن نرفع إلى الله أيدينا بالدعاء في أوقات صلواتنا ، فإنها أفضل الساعات، ينظر الله عز وجل فيها بالرحمة إلى عباده..

إرادة تجديد الوعي:

شهر رمضان من أفضل الفرص لتجاوز الملهيات ومظاهر العبث وسبل الإغواء والتخلص من حبائل المخططات الفتنوية للافراد والمجتمعات فإن الشقي من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم، إنه رحلة تجديد لماهية كرامة الإنسان في هذه الحياة ضمن أطر الإسلام الخالص، ومنها لكرامة المجتمع المسلم وبالتالي وعي ماهية الكرامة الإنسانية في الإسلام من أعماق الداخل نحو الخارج الواقع والمحيط بنا، إنها رحلة الصبر على الوعي السليم للحياة الإيمانية عبر إعمال الفكر الراقي وتهذيب النفس بالأخلاق الرفيعة والاسهام بالموقف الرشيد في مسارات العمل وآفاق التطلع.

الصبر سمة شاملة لدورة البرمجة الداخلية وتحليل وترشيد المستندية الذاتية لكل واحد منا، وقبل أن تكون عبادة فهي لطف إلهي بل جائزة إلهية لمن صام الشهر الفضيل بوعي بليغ وجد واجتهاد في بلوغ منتهى رضا الله، فإرادة الصوم الحقيقي هو وعي أهمية شهر رمضان وما فيه من عبقات الرحمة والمغفرة والعتق من النار، والإرادة الذكية هي أساس الصبر، عبر سؤال ربنا بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقنا لصيامه وتلاوة كتابه حتى نتوب بصدق وإخلاص ووعي وثقة بأن لنا رب غفور رحيم سميع مجيب، فلا ننام على الواجبات والفرائض ولا نفتح ملفات الجاهلية الأولى ولا نصب الزيت على نيران الفتن، بل لنصم عن كل الشرور التي تشوه إسلامنا في جميع ميادين واقعنا خصوصا في السياسة والإعلام ومنابر شياطين الظلم ولنصم ببصيرة ونصبر على تربية النفس ونهيها عن الهوى وتعويدها على الطاعات بحضور وخشوع، حتى نجعل فيه من أهل كرامة الله، فتكون أنفاسنا فيه تسبيح، ونومنا فيه عبادة، وعملنا فيه مقبول، ودعاؤنا فيه مستجاب ..لعل وعسى ننال جنة المأوى..

الثقافة القرآنية وإدارة أزمنة الحياة:

في شهر رمضان السمة الأساسية او العادة المهمة هي ضرورة الانشغال بالذكر الحكيم من اول ليلة إلى آخر يوم وهذا ما يمكن التعبير عنه بأنه روح الدورة ولغة الخطاب التي تجعلنا نكتسب تعبيرات خاصة ومفاهيم استراتيجية في صياغة الرؤية ضمن ما يعبر عنه بالثقافة الإسلامية التي تتأسس على مفردات وتشريعات وآفاق الرؤية القرآنية والبرنامج التربوي والتأصيلي قرآنيا، لهذا كله كان رمضان شهر الصيام ربيع القرآن، أي حضور شبه شامل في تفاصيل الزمن الرمضاني للوحي الالهي المتمثل في بصائر القرآن ونوره المبارك الذي يسلط على الأعماق والواقع والأفكار والعواطف والعلاقات والتطلعات في استثمار امثل لأيام وليالي رمضان لاستيعاب وفهم ووعي وتدارس وتأمل وتدبر لآيات الذكر الحكيم مما يخلق داخل الذات ثورة إيمانية تربوية تدرك معالم الوجود الزمانية حيث رمضان الشهر ينبه مفهوم الزمن الذاتي لمسؤوليات الحياة ويضبط إدارة الفعل العبادي ضمن معادلة قرآنية استجمع وتستحضر وتؤلف بين عدة عبادات في وقفة مصيرية للذات في علاقاتها وتصوراتها وتطلعاتها، هنا في رحاب القرآن في شهر واحد من السنة تتجسد العبودية لله لتشرق على باقي السنة بروحية جديدة ملؤها الوعي القرآني لمقاصد الحياة ومسؤولياتها وآفاق كرامتها الحقيقية.. هكذا نصوم عن كل الثقافات النسبية لننفتح على الثقافة المطلقة في القرآن الكريم كمنهج تجديدي للذات في وعيها لماهية الإسلام والإيمان والإحسان والكرامة في رحاب شهر الله..

و الله من وراء القصد

***

ا. مراد غريبي – كاتب وباحث

طوال كل العصور التي عاشتها بلاد وادي الرافدين؛ ماضيها وحاضرها لم يشهد العراق تردّيا في آدابه وفنونه كالتي نراها اليوم ؛ فحتى العصور المتأخرة التي سميت بالفترة المظلمة التي تلت اواخر العصر العباسي وتعاقب دويلات الاعاجم والقبائل غير العربية الغازية التي حكمت بلادنا الى ما قبل العصر الحديث لم تكن بالمستوى المتدني الذي نلحظه الان حيث ظهرت في تلك الفترة السالفة بعض علاماتٍ مضيئة وإشارات ابداعية ضمن ذاك الخضم الهائل من الغثّ في النتاج الادبي والفني .

ففي بلدٍ عريق موغل في القدم مثل وادي الرافدين والذي انجب ملحمة كلكامش والاناشيد السومرية وولدت فيه أقدم مكتبة في ربوع آشور وأكّـد وهي الآثار الادبية الخالدة الذي علّمت العالم القديم أصول الرقيّ في التفكير واستهدى الاغريق والرومان بنتاجه الثرّ الواسع الافق وخطَت الإلياذة والاوديسا خطى ملحمة كلكامش ، وفي ثراه الغنيّ ولدت الكتابة المسمارية في معابده وصروحه فمن الصعب جدا ان نصدّق ان يؤول حال الثقافة الواهن والضعف والهزال الذي اصاب عقل الانسان العراقي وريث بابل وسومر وآشور وأكّد ويحزّ في النفس ان يغرق الكثير من العراقيين في مستنقعات الجهل وهشاشة الفكر وتزداد الاميّة بهذه النسبة المخيفة وينحدر التعليم الى مستويات مفزعة تثير الأسى .

ومثلما يتدهور الوضع السياسي وهو الانعكاس الدقيق للوضع الثقافي العراقي فهناك شرائح سياسية من غلاة الدين التي تحكم الان مؤسساتنا الثقافية لا تريد ان يرقى الفن الى مدارج عالية باعتباره "حراما" ويظنون بخطلٍ واضح ان السينما مبعث للفساد الاخلاقي وان المسرح يلهي الانسان عن ممارسة عباداته بحيث ينسى المرء خالقه ويلهو بسحر الفن ويضيع في متاهات ابداعه وكذا الامر في اللوحات التشكيلية باعتبارها خربشات شيطانية تعمي بصر الانسان وتفقده بصيرته وكذا الامر في التماثيل والاعمال النحتية لأن الاعمال النحتية وفق وجهة نظرهم المسطحة الفارغة انها تنافس الله في مخلوقاته وهذه كلها تخرّصات غير سليمة وتنمّ عن جهل فاضح بدور الفن والادب في تغذية عقل الانسان وصقل مشاعره وتطهير روحه من شوائب الجهل وإدراك الجمال والإنصات الى الموسيقى والغناء الراقي لإزالة ما تراكم من كدَر الحياة وابعادها عن المنغصات التي تؤذي الانسان وتجعله حجرا صوانا فيما لو ابتعد عن الفن والادب ومراميه التي تهدف الى خلق المتعة والفائدة والارتقاء بالبشر الى صفاء الإنسانية وسموّها الاخلاقي والثقافة عموما تعمل على توثيق الجمال وتبرز حلاوته وبهجته.

وفي سنوات الثلاثينات والاربعينات من القرن الماضي كانت الحركات التجديدية الثقافية تبدأ من العراق وتنطلق الى بقية العالم العربي كحركة التجديد الذي تزعمها السياب ونازك الملائكة والبياتي في الشعر العربي وولادة الشعر الحرّ وفي نفس الفترة انطلقت ايضا الحركة التجديدية في الفن التشكيلي وكان رائدها جواد ونزار سليم مع بقاء العمود الشعري منتصبا شامخا بيد شاعر العرب الاكبر محمد مهدي الجواهري وقبله الرصافي والزهاوي ولو عدنا الى الوراء ايام زهو العراق كان زمام الشعر بيد ابي الطيب المتنبي ابن الكوفة المعطاء ، والبصرة ابنة العراق النجيب أول من ابتكرت علم اوزان الشعر العربي على يد الخليل الفراهيدي . فما الذي تغيّر ونحن نرى اليوم التراجع الكبير لبلاد ما بين القهرين حتى نكون في اسفل السلالم بل في اعمق اعماق القيعان؟!

لسنا نصدّق إن الانحدار والتدهور الثقافي سببهُ العولمة فكل اقطار العالم واقعة تحت تأثيرها ولكنها حافظت على موروثها الثقافي وبقيت تصون هويتها وتحدد معالمها بشعرها ونثرها وفنّها وعاداتها وتقاليدها وإرثها الحضاري.

نحن مَن وأدْنا ثقافتنا وقتلنا ابداعنا حين خضعت ثقافتنا لسنوات حكم دكتاتوري صارخ وكُمّمت افواهنا وضيّق الخناق على نتاجنا الادبي والفني وحوربت حرية التعبير.

ثمّ جاء الاحتلال الاميركي في العام / 2003 ليزيد الطين بلّة فانفلت حبل الثقافة وانكفأ المبدعون في بيوتهم وانعزلوا عن الساحة الفنية والادبية وأتيح لكل من يمتلك ثقافة مسطّحة بسيطة مسؤولا ثقافيا كبيرا يجرّ وراءهُ زمرةً من المتثاقفين ويمنحهم كل بضعة شهور منحا مالية من خزائن شعبنا المتعب وفتحنا ابواب مؤسساتنا الفنية والادبية على مصراعيها لهذا وذاك من بغاث الوعي وضعاف الكلمة وصارت المؤسسات الثقافية والفنية مرتعا للصغار وضيّقي الافق والمحسوبين على الابداع حشرا ومعظمهم ممن تربّى وتعلمَ في احضان سلطة الحزب الواحد وتسلّطوا بغمضة عين وصاروا أسيادا للإبداع وقادةً للفكر الذي خبا بسبب وجودهم بعدما كان زاهيا مشرقا طوال العصور الماضية وكان لامعا معطاءً حتى وقت قريب في سنوات الخمسينات والستينات وحتى السبعينات من القرن العشرين ومن المؤكد ان شمسه ستسطع حتما ويبزغ فجر آخر جديد مادام في العراق تاريخ حافل بالابداع وحضارة عريقة خضراء من جنائن بابل ومن صحائف وكتب آشور التي كتبت بالرقُم المسمارية التي علّمت العالم الكتابة .

أعرف ان الاوان لم يحن بعد للإرتقاء الثقافي والفني ببلادي الان لكنه حتما سيرسخ لاحقا ويعيد ترتيبه ويتم تجديده ولو طال الزمن على يد جيلنا المقبل أبناء الرافدين لأنهم خير خلف لخير سلَف .

***

جواد غلوم

 

إنَّ عُروبة اللُّغة لا تعني بحالٍ من الأحوال أنها قد تنزَّلت على العَرَب من السماء، ولا علاقة لها بغيرها من اللُّغات البَشريَّة. ربما كان من يَهرِف بمثل هذا يعرف ذلك الأصل، لكنَّ حالته، على الأرجح، تتمثَّل في حُبِّ التلبيس؛ لأهداف نفسيَّة لا تخفَى على عاقل، ولتعصُّبات ذهنيَّة، تُعمي وتُصِم. وفي ذاك من البدهيَّات شواهد، قد يسوقها نموذجٌ من الناس ليُثبِت بها على نفسه الإفلاس! وتلك من مغالطات (رجل القَشِّ)(1)، التي يركبها أمثال هؤلاء، حصانًا طرواديًّا زائفًا، من خلال دُمًى يصطنعونها- وإنْ كانوا لا يحسنون اصطناعها في الحدِّ الأدنَى- متمترسين بها دِفاعًا عن تراثهم! هذا إلى أساليب معروفة من الانتقاء والاجتزاء والبتر في بعض النصوص، بهدف توجيهها كيفما بُيِّتت الاعتقادات والنيات. وفي ذلك آية من آيات الإعياء في الاحتجاج، بالتماس ما لا يعني شيئًا في ميزان الحقائق الموضوعيَّة والعِلم. وهنا مثالٌ ثقافيٌّ واحد يكشف تاريخًا من تسيير النفوس والعقول في حروب فكريَّة غير نزيهة.

هكذا ابتدر (ذو القروح) لقاءنا. فتساءلت:

- وأين الردُّ على أمثال هؤلاء؟

- الحقُّ أنَّ الردَّ يندرج تحت تحذير الحكمة الفرنسيَّة: «من ينفِ، فإنَّما يتَّهم نفسه أحيانًا!qui s'excuse, s'accuse »(2) لأنَّ عدم نفي التُّهَم المتهافتة أَولى، على طريقة الشاعر القائل: «إذا نَطَقَ السَّفيهُ، فلا تُجِبْه!»

- لكن ما العمل إذا كثُر السُّفهاء، وكان فينا سمَّاعون لهم أكثر؟!

- صحيح، فمن نَكَد الثقافة، أن تجد نفسك أحيانًا مضطرًّا إلى إيضاح الواضحات.

- على أن من المسلمين أيضًا من هم أكثر تدليسًا، وعدم احترام لا للعقول، ولا لسياقات النصوص.

- ومنهم بشير (هذه الأُمَّة) الليبراليَّة، وهو سيِّد معمَّم. فهو الآخَر- في وجدانيَّاته، التي قد ينعتها بـ«العرفانيَّة»- يرتدُّ إلى الفكر الغنوصي العبَّاسي، مجترًّا مخاضات (ابن الراوندي) تارة، وبعض ما يُشبِه الباطنيَّات تارةً أخرى. مردِّدًا بدَوره القول بأنَّ «القرآن» من أكثر الكتب تناقضًا على وجه الأرض. وهو في ذلك أكثر من «الإنجيل» و«التوراة»، بزعمه! آخذًا بمنهاج هرمنيوطيقي، يبدو فيه عالةً على الإيراني الذي نهج هذا المنهاج (محمَّد مجتهد شبستري). على أنَّ هذا الأخير يبدو على عِلم بهذا المنهاج لا نصيب للسيِّد المعمَّم الليبراليِّ منه.(3)

- كيف يا سيِّدنا؟

- لستُ سيِّد أحد! ولكن لنقرأ النصوص التي يعبث بها الرجل في ندواته؟

- أهو يحكِّم العقل؟

- ليته يحكِّم العقل! وفرقٌ بين تحكيم العقل وتحكيم الدجل! ولكن لنر ميزان اعتدال الرجل وعقلانيَّته.

- هات!

- يبدأ لك بحكاية الآيات المدنيَّة والمكيَّة(4)، التي تتردَّد كذلك في (قناة الحياة) لدَى قمُّصها الهمام (زكريا بطرس)، وكأنما تشابَه قلباهما، قائلًا: إنَّ الآيات المكيَّة كان فيها «لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِيْن»، فيما تأتي الآيات المدنيَّة وفيها قتالٌ وجهاد. وهذا وجه اختلافٍ وتناقضٍ لديه. والواقع أنَّ هذه أوهى حجَّة في مناقضتها للواقع والتاريخ معًا. فمن الطبيعي أن لا يدعو الرسول للقتال في (مكَّة)، ومن الطبيعي بعد تأسيس الدولة، وبعد التهديدات المُحيقة به، أن يُؤذَن لأهل المدينة بالقتال، دفاعًا عن النفوس والدولة الوليدة؛ فلكُلِّ حادث حديث. والتهديد كان من العَرَب المشركين، ومعهم اليهود من جانب، ونصارى الروم وأحلافهم من نصارى (الغساسنة) في (الشام) وغيرهم من جانبٍ آخر. كان التهديد من الأحزاب الذين حاصروا (المدينة) الوليدة وتألَّبوا عليها- أَعرابًا ويهودًا- ومن الرُّوم الذين كانوا يحشدون في الشَّام ويحضِّرون لاستئصال شأفة المدينة والمسلمين. والتاريخ معروف في ذلك. في تلك الظروف جاءت آيات القتال دفاعًا ودرءًا للعدوان. أ فمن العقل، أم من العدل، أن يُعَدَّ المُدافع معتديًا؟! أمَّا في غير تلكم الأحوال، فالآيات تَتْرَى واضحاتٍ في رفض العدوان: «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ: أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ، أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ، فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا، وَمَنْ أَحْيَاهَا، فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا، وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَـمُسْرِفُون.» «وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ، وَلَا تَعْتَدُوا، إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُعْتَدِين.»

- هل ثَمَّة أوضح من هذا؟

- وهذا ما ورد في (سورة البقرة)، المدنيَّة.

- هؤلاء لا تهمُّهم قراءة النصوص، بتمامها، ووَفق سياقاتها.

- ولذا تراهم يجتزئون، ويتقافزون، لانتقاء ما يشتهون، وما يخدم أغراضهم العقديَّة من جهةٍ، والتشويهيَّة من جهة. خائنين بذلك أمانة القراءة العِلميَّة، ومبادئ العدل، والإنصاف، والأخلاق.

- ألا ترى أنَّهم يفعلون ذلك، كما يفعل نظراؤهم من الأصوليِّين الإسلاميِّين من ذوي الأهواء، حينما يجتزئون من النصِّ كذلك ما يخدم مآربهم، متعامين عمَّا سواه.

- بل قل: متعامين عن الآيات المجاورة للآيات التي بها يستشهدون وعليها يدندنون. ستجدهم يقفزون إلى الآية التي تلي الآية السابقة- وكلُّها آياتٌ في سياقٍ واحدٍ متكاملة- قائلين ها هو قرآنكم يقول: «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ»! ويقفون هنا. لا يُكمِلون، حتى هذه الآية نفسها: «...وَأَخْرِجُوهُم مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ؛ وَالفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ. وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ. فَإِن قَاتَلُوكُمْ، فَاقْتُلُوهُمْ؛ كَذَلِكَ جَزَاءُ الكَافِرِين.» ثمَّ يقفز أحدهم كالكنغر إلى آيةٍ من سورةٍ أخرى: «قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ: سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ. فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا، وَإِن تَتَوَلَّوْا، كَمَا تَوَلَّيْتُم مِن قَبْلُ، يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا.» فيصرخون: أ هو، يقول: «تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ».. إرهاب.. إرهاب يا أمريكا ويا إسرائيل! ألا تسمعان؟ وهؤلاء هم «الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ»، أي مجزَّءًا؛ ليقولوا ما يشاؤون.

- تعني أنهم لا يربطون الآيات حتى بسياقاتها الداخليَّة النصوصيَّة، فضلًا عن سياقاتها المتعلِّقة بالتاريخ، أو ما يسمَّى بأسباب النزول، أي (السياق الخارجي)؟

- نعم. لأنَّ هذا كلَّه لن يخدم أغراضهم. «سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ، إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا: ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ! يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ. قُل: لَنْ تَتَّبِعُونَا، كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِن قَبْلُ. فَسَيَقُولُونَ: بَلْ تَحْسُدُونَنَا! بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا. قُل لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ: سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ؛ فَإِن تُطِيعُوا، يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا، وَإِن تَتَوَلَّوْا، كَمَا تَوَلَّيْتُم مِن قَبْلُ، يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا.» (سورة الفتح).

- هؤلاء المخلَّفون من الأعراب كانوا خونةٌ للنظام القائم، إذن، أو للدَّولة بلغة العصر، هاربون من الخدمة العسكريَّة، وهم في الوقت نفسه وُصُوْلِيُّون، مرتزقة، نفعيُّون، يبحثون عن المغانم فقط.

- ولهذا يأتي الخطاب ليردَّ عليهم، أنهم إنْ كانوا صادقين في حُبِّ القتال، فـ«سيُدْعَوْنَ إلى القتال»، وليس فقط «سيُسمح لهم». ولكن «إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ»، وليس إلى «مَغَانِمَ ليَأْخُذُوهَا»؛ ليكون الاختبار، وليتبيَّن مَن يُقاتل في سبيل الله ممَّن يُقاتل في سبيل المغانم. كما هو اختبار الله لخلقه النفعيِّين دائمًا، منذ الشيطان الرجيم- الذي سقط في الاختبار؛ لأنه بنَى طاعته على بلوغ كبريائه؛ فلمَّا لم تتحقَّق مقايضته مع الله، نَكَص- وصولًا إلى نماذج أخرى، بَنَتْ إيمانها وتقواها على الرغبة في الحصول على مغانم، واستثناءات نفعيَّة خاصَّة، فيما هي «متدروشة»، لا تسعى؛ فلمَّا مرَّت بامتحان الله، سَقَطَتْ، وعندما لم تتحقَّق مقايضتها مع الله، كَفَرَتْ، وأصبحت شواهد على صبيانيَّة العقل المتشبِّث بماضي آبائه وأجداده!

***

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيفي

..........................

(1) حول مغالطة (رجل القَشِّ)، يمكن الرجوع مثلًا إلى: (مصطفى، عادل، (2019)، المغالطات المنطقيَّة: فصول في المنطق غير الصوري، (القاهرة: رؤية)، 203- 214).

(2) ترجمته الحرفية: «مَن يعتذر، فقد اتهمَ نفسه!» غير أنَّ «مَن يعتذر» هنا بمعنى: «مَن ينفي اتهامًا»، لا «مَن يعتذر عنه». وكأنَّ من تداعيات هذا قول (محمود درويش): «لا تعتذر إلَّا لأُمِّك!»، مسمِّيًا ديوانه «لا تعتذر عمَّا فعلتَ!»

(3) كثيرًا ما يبدو قَدَر (العِراق)، تاريخيًّا وجغرافيًّا، أن يتبع (إيران)، حتى إنَّ (الزبيدي، تاج العروس، (عرق))- وهذه من الغرائب، ولا سيما في القرن الثاني عشر الهجري- ينقل في تعريف العراق: أن «العِراق: بلادٌ معْروفةٌ من فارِس، حدُّها من عبَّادان الى المَوصِل طولًا، ومن القادِسيَّة الى حُلْوانَ عرضًا!» مع أنها قامت في العِراق حضارات، ساميَّة وغير ساميَّة، مستقلَّة عن الفُرس، منذ ما قبل التاريخ، من السومريِّين، والأكاديِّين، والآشوريِّين، والبابليِّين، والكلدانيِّين.

(4) ثمَّة تداخلٌ في السُّوَر، بين الآيات المنسوبة إلى (مكَّة) وتلك المنسوبة إلى (المدينة). ذلك أن ترتيب «القرآن» لم يكن توقيفيًّا بصورة مطلقة، ولا متسلسلًا زمنيًّا، بدليل قِصَّة جمع «القرآن»؛ إذ لو كان توقيفيًّا، لما احتاج الأمر إلى جهد (عثمان) لجمعه، بل لما ساغ النظر في ترتيبه، ما دام توقيفيًّا، ولو كان متسلسلًا زمنيًّا، لكانت «سُورة العَلَق»، مثلًا، أُولى السُّوَر. وعليه، يبدو أن مسألة المَكِّي والمَدَني إنَّما نشأت عن «السِّيرة النبويَّة». والسِّيرة لم تكن تاريخًا عِلميًّا. بل لقد جمعت روايات شتَّى، في متن السِّيرة وفي هوامشها، اعتذر (ابن إسحاق) عن تحمُّل عُهدتها العِلميَّة؛ من حيث هو راوٍ، لا باحث ولا محقق. وبما أنَّ «القرآن» كذلك نصٌّ جَدَليٌّ، وبما أنَّه جاء وَفق طبيعة الثقافة الشفويَّة العَرَبيَّة، فلقد كان بطبيعته تلك قابلًا لتكرار الآيات والخطابات، بحسب مقتضيات الأحوال والنوازل. ولهذا كلِّه ظلَّ من الصعب «أرخنة» النصِّ القرآني على نحوٍ عِلمي، يترتَّب عليه القطع بما هو مَكِّيٌّ وما هو مَدَني. وحول المَكِّي والمَدَني (يُنظَر: السيوطي، جلال الدِّين، (1426هـ)، الإتقان في علوم القرآن، تحقيق: مركز الدراسات القرآنية، (المدينة المنوَّرة: مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف)، 1: 43- 00).

 

تختلف الآراء حول طبيعة الكتابة للطفل حسب المجتمعات والطّبقات الفكريّة كما تختلف شركات الصناعة الثقافية فيما تقدّمه الى الأطفال من أفلام وصور متحرّكة ومن قصص. ويضع علماء الاجتماع والمنظّرون للكتابة للّطفل شروطا ينبغي أن تتوفّر في النّصوص متعللين بما يسمّى خطأ براءة الأطفال فهل الطفل بريء حتّى نحترم فيه براءته؟

في اعتقادنا أنه لا يصح الحديث عن البراءة عند الأطفال بكل بساطة ودون تحديد مفهومها. فالبراءة تعني التّخلّص من العيب أو من المرض أو من الخطأٍ وهي كذلك الخلوّ من الشيء. ونحن نتسرع في الحكم عندما نقول إن هذا الطفل بريء في حين أنّه لم يرتكب أي جرم نبرّئه منه. كل ما في الأمر أنه تصرّف بذكاء أو بالفطرة أو كان صادقا في كلامه أو كان نزيها في موقفه. نحن نحاكم الأطفال ونقيّم أفعالهم من وجهة نظرنا نحن، وجهة نظر ذات المرجعية الأخلاقية او الدينية او الموروثة أو العلمية. وبناء على أحكامنا المسبقة نجد أنفسنا نحاول أن نبني الطّفل الذي نريد ليكون متناسقا مع عقليتنا ومتناسبا مع ذواتنا وممتثلا لعاداتنا وتقاليدنا فننظّر ونؤسس ونكتب ونسطّر وننفّذ برامجنا ونسيّج حياة الطفل ونمارس عليه نفوذا يحدّ من حرّيته ويحاصره حتى يحصره في مساحة أضيق من خياله فنجعل منه كائنا يخاف من الفعل قبل أن يقوم به.

الطفل يعضّ ويصرخ ويضرب بالفطرة للتعبير عن الإحساس بالظّلم، وقد يكون هذا العنف الذي يمارسه الطفل نتيجة ضغط او شعور بالقمع او بالاحتقار. كل الأعمال العنيفة التي يمارسها الطفل على غيره لم يتعلّمها لا من العائلة ولا من المحيط فلا أحد أمره بأن يعضّ الآخر ولا من لقّنه فنون الضرب باليد أو بالسّاق (كلّ الأطفال يتعلّمون باكرا الرّكل لأنّه سهل). فهل نساهم من حيث لا تدري بأوامرنا ونواهينا في زرع ردّة الفعل العنيفة في الطّفل.

ألسنا أحد أسباب هذا النزوع الى العنف عندما نفرض عليه آراءنا وكتاباتنا التنظيرية؟ ألم نسع الى تحديد مساحة لحركة الطفل وتفكيره أصغر مما كان يتخيّل؟

نحاول جاهدين أن ننجز كتابة للطفل معينة ونضع لها عنوانا كبيرا: كيف تكون الكتابة للطّفل؟ ونجازي النصوص التي نعتبرها صالحة لتربية أطفالنا على سلوك حضاري نعتقد أنه الأفضل في بناء شخصية الطفل وصقل مواهبه ونسعى الى تلقينه اساليب الحياة من التفكير الى الممارسة ونلزمه باحترام القواعد التي نراها أساسية.  ونسطّر له طريقا ونسيج له مساحة للتحرّك ونسقط عليه الأوامر والنواهي. ونشرع في اختيار الالفاظ فنفصل الجميلة منها عن البذيئة والسلسة عن العنيفة ونقصر في الجمل أكثر ما يمكن ليستطيع الطفل حفظها ونؤلّف الخرافات ونطبعها في كتب ونزينها بالصور ونضع غلافا جذّابا لكل كتاب. ولنفرض أنّ كل هذا النظري صحيح وذو جدوى، ماذا إذن على مستوى الواقع؟

تحيّلوا أنّنا مرّرنا التوصيات والتوجيهات والبرامج لحاسوب أو روبوت وأمرناه بالتنفيذ بحرية على طريقة الذكاء الاصطناعي. أعتقد أنّه سيرفض ما كلّفناه به وستكون نتائج العمل الحر كالاتي. قد يستمع الطفل الينا وتشدّ انتباهه الخرافات التي نقلناها له بالعنعنة دون تفكير ودون تحريف فلم نجتهد يوما فنغيّرها لتتماشى مع أطفال القرن الحالي ومداركهم العقلية. وقد يستنجد الحاسوب، كما نفعل، بالغول ليكف الأطفال عن ضجيجهم ويناموا خائفين فنخلو نحن الى صمتنا.  قد يلتجئ الروبوت الى فتح التلفاز على أفلام من الصور المتحركة عمادها العنف والقتل والانتقام والجريمة والعقاب والبطل والضحية ولا من يحاسب الطفل عن طول الوقت الذي يمضيه امام الشاشة.

نحن نعاني ازدواجية في التعامل مع الطفل فنعيب عليه تشبثه بالحاسوب ونخاف عليه من الإدمان وننسى فضائل الحاسوب والعابه التي تنمّي ذكاء الطّفل وتعلمه الصّبر وتزرع فيه الرّغبة في الانتصار وتعلّمه العزيمة وتقبّل الهزيمة بروح رياضية بل نسعى الى رقمنة المدارس الابتدائية والاعتماد على المعلوماتية في التعليم. ولعلّ كثيرا منّا ما زال يذكر حبّنا للقصص المصوّرة التي لا تخلو من المغامرة والخداع والبطش والقتال. نذكر مثلا قصص kiwi و black le roc قبل أن تظهر قصص أخرى من النوع البوليسي وهي قصص تعتمد على الخيال والتحليل الدقيق الذي يستعمله المفتّش للوصول الى تفكيك الجريمة. هذه القصص تشدّ الطفل وترغّبه في القراءة فلماذا يراد من الكتّاب (وأخصّ بالذكر كتاب نصوص المسابقات) استبدلناها بقصص مضبوطة ومقيّدة ومحبوسة بشروط الجوائز.

لماذا نفرض على الطّفل أن يقرأ الكتب اللّطيفة التي نعدّها له ونترك له حرّية الإبحار في الشبكة العنكبوتية حيث يستقطبه تجّار التطبيقات واللّعب وتجار الدّين أيضا؟

الطّفل يولد حرّا بالفطرة محبّا للحرّية لا يريد أن يفعل ما يملى عليه لأنّه ببساطة لا يستطيع أن يقدّر أهمّية ما نوصيه به فهو، يطمح أن يصبح رجل أمن أو مفتّشا لينتصر للمظلومين ويعاقب المجرمين فنراه يفرح كلما انتصر بطل الحقّ على المجرم الشّرير.

الدفاع عن الحق كما الدفاع عن النفس أو عن الممتلكات غريزي وحبّ التّملّك أيضا. الطّفل يشعر الاخرين بأن أبويه ملك له لا ينبغي لأحد المساس بهما ويعبّر عن الدفاع عن هذا الملك بالعنف اوّلا ثمّ بالصراخ ثانيا عندما يشعر بأنه غلب على أمره.

الطّفل أكثر ذكاء ممّا نتصوّر وما علينا الا تنمية الذكاء بالحرية وبتوضيح الأمور حتّى تلك التي نعتبرها عنيفة. من الأفضل ـن نُعْلمه بأن الشّرّ موجود ويمكن مقاربته ولا بإخفاء الجريمة وتحريم النصوص أو تجريمها عندما تتناول العنف والجريمة بتعلة أن هذا من شأن الكبار.

نحن نتهم الطفل بالبراءة فنكتب له ما نريد ولا ما يريد.

***

المولدي فرّوج

حين يسلم المرء قياده للخيال ويمضي خلف دعاوى الذاكرة، لاستطلاع بواكير الوعي في المجتمع العراقي والاستدلال على بدايات تشكيل منظوماته الثقافية، فان الاحالة المتوقعة ستكون باتجاه ما تمخض عن صدمة الحداثة الغربية التي رافقت ظاهرة المدّ الاستعماري وما تبلور على أساسها – ألم يزعم البعض بأنها كانت القابلة التي أنجبت الفكرة الليبرالية من رحم مجتمع عاقر؟! .

بيد ان الاطمئنان لهذه الحصيلة الجاهزة لا يعدو أن يكون سوى ابتسارا "للوقائع واختزالا" للأحداث، التي شهدها ذلك المجتمع منذ مطلع القرن العشرين المنصرم ولحد الآن . ذلك لأن فاعلية تلك الصدمة – وان شملت حقول شتى – كانت ترمي الى تحقيق الهيمنة السياسية، وتعميق التبعية الاقتصادية، وتمزيق الوحدة الاجتماعية، وتلفيق الفتوحات الثقافية، دون أن تحفل بما ستؤول اليه الأوضاع من طغيان في الحالة الأولى، والحرمان في الحالة الثانية، والامتهان في الحالة الثالثة، والارتهان في الحالة الرابعة .

وهو ما تصدّت له وأسهمت بفضحه ثلة من الوطنيين الأقحاح الذين واجهوا، متنكبين سلاح الفكر العلمي والثقافة العقلانية، صعوبات مادية واعتبارية قلّ نظيرها لدى أقرانهم في المجتمعات الأخرى . ليس لأن الأفكار التي كانوا يروجونها تتسم بنزعة المناهضة الصلبة للسلطات الحاكمة والمناوئة الجذرية للسياسات الخاطئة فحسب، بل ولأن المنهجية التي كانوا يحللون بموجبها الواقع ويستنبطون من خلالها المعالجات، كانت متقدمة بأشواط على نمط القيم وأطرالتقاليد السائدة التي كان يرزح تحت وطأتها المجتمع العراقي، بحيث طوحت بالمسلمات القارة في مخياله الجمعي وزحزحت البديهيات الراكدة في سيكولوجيته الشعبية . وهو الأمر الذي دمغ الحزب الشيوعي العراقي – منذ بداية تكوينه وعلى امتداد تاريخه – بطابع الراديكالية النقدية، حيال ثوابت الدولة التسلطية ومرجعيات المجتمع التقليدية ومنطلقات الثقافة النخبوية، بحيث أفضت، بالتالي، لابتلاء اعضائه وجمهوره بأشرس أنواع القمع وأسوأ أشكال الاضطهاد التي قلما تعرض لمثلها أقرانهم من الأحزاب الأخرى، بالرغم مما كانوا يحملونه من آمال وما يضمرونه من نوايا .

ولهذا فان أغلب الذين أرسوا دعائم الفكر التاريخي وقواعد الثقافة الانسانية في بيئة المجتمع العراقي هم من أصول ماركسية بشكل عام وشيوعية بوجه خاص، مما قيض لأطوارالثقافة العراقية أن تحمل بصمات الفكر الذي بشروا به، وتضوع بنكهة الثقافة التي نشروا بذورها . ذلك لأنهم لم يراهنوا – لكي يجعلوا من الثقافة العلمية والفكر الجدلي مهمازا "لتغيير الواقع وتقدم المجتمع - فقط على (قوة الفكرة) بدلا" من (فكرة القوة) فحسب، وانما شرعوا لبناء مدماك ثقافي يقوم على أساس المنهجية الماركسية، التي ما أن يفرط بها أو يساوم عليها، حتى ينمو زؤان الأفكار الفجة وتشرأب التصورات السقيمة . ولهذا كان انجلس يقول في معرض الحديث عن نفسه وعن صديقه الشهير – كما يشير لينين (ان مذهبهما ليس بمذهب جامد، انما هو مرشد للعمل . ان هذه الصيغة الكلاسيكية تبين بقوة رائعة وبصورة أخّاذة هذا المظهر من الماركسية الذي يغيب عن البال في كثير من الأحيان . واذ يغيب هذا المظهر عن البال، نجعل من الماركسية شيئا"وحيد الطرف، عديم الشكل، شيئا "جامدا" لا حياة فيه، ونفرّغ الماركسية من روحها الحية، وننسف أسسها النظرية الجوهرية – ونعني بها الديالكتيك، أي مذهب التطور التاريخي المتعدد الأشكال والحافل بالتناقضات - ونضعف صلتها بقضايا العصر العملية الدقيقة، التي من شأنها أن تتغير لدى كل منعطف جديد في التاريخ) .

ومن المفارقات التي كانت شائعة ابان عهود الأنظمة الدكتاتورية والايديولوجيات الشمولية، أن النقاش الذي كان يجري في ظروف التقيّة السياسية – على ندرة حصوله ومحدودية نطاقه – بين أنصار هذا الحزب أو ذاك، لتحليل قضية من القضايا الفكرية التي كانت تهيمن على فضاء الوعي الاجتماعي، أو تفسير واقعة من الوقائع السياسية التي كانت تفرض سلطانها على جدول أعمال الواقع، غالبا ما كانت حصيلته النهائية تشير لصالح تلك العناصر التي غالبا"ما كانت توصم بمرجعيتها الشيوعية، حتى وان كانت لا تنتمي للحزب الشيوعي، باستثناء كونها تتوفر على رصيد (متواضع) من الثقافة الماركسية . وهو الأمر الذي كان يعد سببا "كافيا" لأن تكون محط ازدراء وضغينة من لدن جميع الاتجاهات التي كانت تعمل معها على نفس الساحة وضمن ذات البيئة، ليس لأن مدخلات تلك الثقافة كانت تشكل تحديا"لرؤى تلك المجموعات التي كانت تتغذى على المتخلف من الأفكار والمتعصب من النظريات فحسب، وانما لعمق مخرجاتها على صعيد الوعي الاجتماعي وشمولية طروحاتها على مستوى الواقع التاريخي .

وعلى ذلك فلن يسع المرء وهو يقلب صفحات ماضي الثقافة العراقية، التي شهدت مختلف ضروب الصراعات الايديولوجي، منذ بواكير تشكيل الدولة (الوطنية) ولحد الآن، ايجاد فاعل اجتماعي / مثقف حقيقي لا يمتح من معين ترسانة الفكر الماركسي أو خال من مؤثرات الثقافة الماركسية، سواء أكان معها – معظم أجنحة اليسار – كخطاب نظري وممارسة عملية، أو عليها – غالبية أجنحة اليمين - كنقد لطروحاتها ومعارضة لاتجاهاتها.

***

ثامر عباس

بقلم: كريسبين سارتويل

ترجمة: د.محمد عبدالحليم غنيم

***

يعمل الخرف على تسريع العملية التي نمر بها جميعًا، حيث تصبح ذكرياتنا خارجة بشكل متزايد في العالم من حولنا

غالبًا ما يستخدم الأشخاص الذين يقومون بأعمال مذهلة في الذاكرة (تكرار سلسلة طويلة من الأرقام، على سبيل المثال) تقنية تسمى "قصر العقل"، والمعروفة أيضًا باسم "طريقة الموضع"، و"الغرفة الرومانية" و"الرحلة". "الطريقة." هذه التقنية قديمة- وقد وُصفت من قبل البلاغيين الرومانيين شيشرون وكوينتيليان - وتتضمن تخيل مبنى، مثل قصر أو منزل، وربط كل عنصر يجب تذكره بموقع في ذلك المبنى. يتحرك المرء عبر الهيكل المتخيل غرفة تلو الأخرى (وبالتالي "الرحلة")، ليجد العناصر المعنية.

أعتني بوالدتي جويس البالغة من العمر 98 عامًا،والتي كانت تعاني من مشاكل الذاكرة المنهكة بشكل متزايد لسنوات عديدة. وعلى مدى عقد أو عقدين من الزمن، تمكنت من التعويض عن هذه المشاكل بكفاءة مذهلة. إلى حد كبير، تم ترتيب حياتها بحيث تتمكن من العمل كما تتذكر بشكل أقل فأقل. وقيل لي إن هذه العملية - وهي ليست غير معتادة بالنسبة للأشخاص ضعاف الذاكرة - تظهر أن قصر العقل هو أكثر من مجرد خيال. ومع فقدانها للبنية الداخلية للذاكرة، أصبحت صالات عقلها حرفية وخارجية. في البداية، بشكل منهجي، ثم بشكل فوضوي، استخدمت جويس أبيل منزلها هنا في ريف فيرجينيا كذكرى لها.

بطريقة ما نحن جميعا نفعل هذا. نحن ننثر الصور الفوتوغرافية أو الأشياء المهمة في جميع أنحاء مساحتنا بحيث نتذكرها أثناء تحركنا فيها. معظم الناس، عندما يسيرون في منازلهم، يستخدمون طريقة السفر، أو على الأقل يحتمل أن يكونوا في رحلة حنين بين القطع الأثرية، نحو ماضيهم. قصر الذاكرة ليس مجرد صور في رؤوسنا، ولكنه يتكون من أشياء من بيئتنا المبنية.

إحدى الطرق التي احتفظت بها جويس بذكرياتها كانت باستخدام الملاحظات اللاصقة. لمدة عقد أو أكثر، كتبت كل ما أرادت أن تتذكره - أسماء الأشخاص وأرقام هواتفهم، والمواعيد، والأفلام التي أرادت مشاهدتها، والكتب التي أرادت قراءتها، والاقتباسات التي ستقرأها بصوت عالٍ في حفل تأبينها (في الحقيقة)، والعديد من الأشياء. اشياء اخرى. لقد ألصقتها في جميع أنحاء مكتبها وعلى الجدران. وأكثر فأكثر، كانت كل حقيقة تتطلب ملاحظة، وتكاثرت في أكوام وأكوام، ولم يعد معظمها مرئيًا تحت التراكمات اللاحقة. ملاحظات حول كيفية تشغيل التلفزيون متراكمة حول التلفزيون؛ تذكيرات الطعام من السنوات الماضية المتراكمة في المطبخ. انجرفت الملاحظات في النهاية إلى الأسفل فوق كل شيء. بمجرد أن فقدت ملاحظة ما، وهي العملية التي تسارعت مع تراجع ذاكرتها، كان لا بد من كتابة ملاحظة أخرى إذا أردنا استرجاع نفس الحقيقة. وما إلى ذلك وهلم جرا.

كان الأمر كما لو أنني حطمت نافذة، وسمحت للرياح أن تهب عبر قصر عقلها، مما أدى إلى تشويش كل شيء

لقد حدث أسوأ قتال خضته معها منذ تمرد مراهقتي عام 1973 تقريبًا قبل عامين، بعد أن حدقت في تراكم الملاحظات وقررت أنه يجب القيام بشيء ما. لقد جمعتهم جميعا. عشرون منهم أو نحو ذلك قالوا فقط "جون ويليامز، كافاتينا"، للإشارة إلى قطعة موسيقية محبوبة بشكل خاص. لقد اختزلت هذا إلى ملاحظة واحدة وتخلصت من الباقي، بالإضافة إلى مئات الأوراق الأخرى (وأيضًا العديد من قصاصات الورق والمظاريف التي تحتوي على ملاحظات مماثلة). كان هدفي هو الحفاظ على جميع شذرات المعلومات، دون تكرار. حاولت أن أتحدث معها أثناء قيامي بذلك، لكنني شعرت أيضًا أنه كان عليّ أن أقوم بالتخلص الفعلي  بعيدا عنها، وإلا فلن يتم ذلك أبدًا. لقد كانت جويس دائمًا شخصًا أنيقًا ومنظمًا نسبيًا، وكانت لدي فكرة أنها ستقدر  تدخلى في النهاية.

عندما رأت جويس النتيجة، شعرت بالخوف. بكت مرارا وتكرارا لبضعة أيام. كانت على يقين من أن هناك أشخاصًا فقدت أسمائهم وعناوينهم في هذه العملية ولن تتمكن الآن من استعادتها. لم تكن تعرف حتى من هم ، فقط أن الناس كانوا يضيعون، وأن هناك أشخاصًا تحبهم ولا يمكنها الاتصال بهم مرة أخرى. مفارقة فظيعة في الذاكرة: قد يكون لديك شعور بأنك نسيت، ولكنك نسيت ما نسيته.

لقد حاولت حقًا التأكد من عدم اختفاء أية معلومات. ولكن كان الأمر كما لو أنني حطمت نافذة، وسمحت للريح بأن تهدر عبر قصرها العقلي، وأفسدت كل شيء. لقد فكرت (وأفكر)، لكنها عانت من ذلك بشكل مباشر كخسارة لذاتها. وفي صباح أحد الأيام بعد بضعة أشهر، روت حلمًا من الليلة السابقة. في الحلم، عرفت أن هناك أشخاصًا يحبونها وتحبهم، لكنها لم تستطع تذكر أسمائهم ولم يكن لديها أي وسيلة للتواصل معهم. لقد فقدت الجميع. "ثم أصبح كل شيء مظلمًا." وكانت تبكي. لقد كان أكثر من مجرد حلم.

إنها تحتاج إلى المزيد من المساعدة، هذا ما استنتجته بينما كنت أقوم بتجميع ملاحظاتي، وأنا وأطفالي نعيش معها بشكل متقطع أو في نوبات منذ ذلك الحين. وهذا يعني أن الناس هنا، يعيدون ترتيب أوانيها ومقاليها وأثاثها، إلى حد ما، حتى نتمكن من القيام بما يجب القيام به (الطهي لها والعمل أيضًا عن بعد، على سبيل المثال). لقد أصبحت عملية التغيير أسهل إلى حد ما؛ لقد أصبحت أكثر مرونة مع مرور الوقت. ولكن كان هناك أيضًا الكثير من الحزن والغضب، لأنه كان هناك الكثير من الخسارة. إنها تشعر أنها فقدت كل ما يتحرك، وقليلًا من نفسها إلى جانب ذلك.

أعتقد، بطريقة ما، أنها تختبر كل تغيير في منزلها كتغيير في نفسها، وأعتقد أنه، في الخيال وفي الواقع، مع الخرف أو بدونه، لا يوجد تمييز ثابت بين من نحن وأين نحن . أماكننا وأنفسنا ليست مختلفة تماما. حسنًا، هذا ليس مفاجئًا، فأنا حتى الآن أمتص مكاني في رئتي ثم أطلق جزءًا من نفسي مرة أخرى إلى الغلاف الجوي أثناء الزفير. عندما أتدفق عبر بيئتي، فإنها تتدفق من خلالي. إن العلاقة أو حتى عدم التمييز بين الأشخاص والأماكن التي يشغلونها هي موضوع اهتمام في علم النفس المعاصر، والأخلاق العملية، والعلاقات الدولية، التي تهتم أكثر فأكثر بالآثار التي تهدد الهوية نتيجة لفقدان المرء لموطنه.

إن أغراضنا، والغرف التي تحتويها، تشكل وتحافظ على إحساسنا بمن نحن

جادل الفيلسوف جون لوك في القرن السابع عشر بأن الذاكرة ضرورية للهوية الشخصية. لنفترض أنك شخص في الستينيات من عمرك. ما الذي يجعلك نفس الشخص الذي كنت عليه عندما كنت مراهقًا، رغم كل التغييرات؟ جادل لوك بأنه لا يمكن أن يكون هناك سوى تدفق مستقر ومتسق نسبيًا للذاكرة. يتذكر الشخص الذي يبلغ من العمر 60 عامًا أشياء كثيرة عن المراهق - حبه الأول، حيوانه الأليف المفضل أو كتابه أو أغنيته - بطريقة أو بدرجة لا يستطيع أي شخص آخر القيام بها. بالنسبة لأمي، مع تعرض تدفق الذاكرة للخطر، وبينما تملأ المساحات الفارغة في حياتها بالافتراضات، فإنها تعلم أن ذاتها مهددة. قالت لي ذات يوم: "في بعض الأحيان، أنسى من أنا وماذا يفترض أن أفعل". كان التمسك بملاحظاتها بمثابة الحفاظ  على نفسها.

ومرة أخرى، الذاكرة ليست مجرد عملية عقلية: فهي تستخدم عادةً البيئة والمصنوعات اليدوية الموجودة فيها. أول شيء تفعله عندما تحاول أن تتذكر المكان الذي وضعت فيه هاتفك هو النظر حولك في الغرفة. على أية حال، يتم الآن تحويل الذاكرة إلى مصادر خارجية على نطاق واسع، مثل تكنولوجيا المعلومات. نتذكر الآن من خلال Google وتطبيقات التقويم وملاحظات iPhone. لم تصل جويس أبدًا إلى عصر المعلومات، على الرغم من أنها لم ترسل بريدًا إلكترونيًا إلا قبل عامين. ربما ستكون الملاحظات اللاصقة للجيل القادم من كبار السن (أنا، على سبيل المثال) إلكترونية، على الرغم من أنني أعتقد أن ذكرياتنا لا تزال غير قابلة للانفصال عن الفضاء المادي، وأن الفضاء المادي له علاقة مختلفة بالذاكرة مقارنة بالفضاء المتخيل.

لذلك أعتقد أن تجربة والدتي تظهر شيئًا ما حول كيفية تذكرنا جميعًا: بمساعدة الأماكن والأشياء - حقيقية أو متخيلة، مصنوعة من الورق أو الكود (ولكن في حالتها، على وجه الخصوص، حقيقية ومصنوعة من الورق). قد نفكر في هذا كمثال رئيسي لما يسمى، في الفلسفة، بفرضية العقل الممتد*، التي طرحتها شخصيات مثل آندي كلارك، وديفيد تشالمرز، ومارك رولاندز. لتبسيط مجموعة معقدة من الأفكار: نحن نفكر من خلال بيئاتنا، والأشياء "الخارجية" هي جزء من شخصياتنا. أعتقد أننا نرى هذا طوال الوقت وفي كل مكان، ولكن بشكل خاص في المواقف التي تتفكك فيها الذاكرة الداخلية. من خلال العمل كأوعية للذاكرة الشخصية، فإن الأشياء الخاصة بنا والغرف التي تحتوي عليها، تشكل وتحافظ على إحساسنا بمن نحن عليه .

تحولت ذاكرة أمي من كونها مكانًا أو قصرًا متخيلًا بداخلها إلى كونها مطابقة إلى حد كبير لبيئتها المادية. لقد تم إخراج عملية التذكر بشكل مطرد إلى الخارج على مدى 20 عامًا. ربما هذه هي الطريقة التي تتفكك بها الشخصية الإنسانية أو تتحلل: عندما تضعف، فإنها تمتد إلى العالم، ولو بشكل يائس، وتغيره، وتعيد ترتيبه إلى كنز ذاكرة. لم يكن الأمر مجرد ملاحظات، بعد كل شيء: إذا كانت الذات هي الذاكرة، فإن منزلها وكل مصنوعاتها - كل طبعة وكل ملعقة، كل قرط وكل غرفة - موجودة فيها، كما هي فيه. لكن المكان الحقيقي أيضًا في تغير مستمر. إنه ينفجر شيئًا فشيئًا، ويصفر، ويتآكل. ويأتي ابنك فيعيد ترتيبه أو يفرغه، فتضيع أنت.

مثل الأشياء التي تتذكر، ربما يتفكك البشر من الداخل إلى الخارج، حتى نصبح غير متميزين عن بيئتنا. ببطء، تصبح ذكرياتنا والعالم كما هو، ونتوقف فورًا عن الوجود ونتوسع في كل شيء.

(تمت)

***

.....................

* تقوم فرضية العقل الممتد على أن وعينا يتكامل باستمرار ويتشكل بواسطة أشياء خارجية، بما في ذلك أشخاص آخرون، بطرق تشير إلى أن العقل يمتد إلى ما هو أبعد من حدود الجمجمة، أو حتى الجلد.

* المؤلف: كريسبين سارتويل/ Crispin Sartwell (من مواليد 20 يونيو 1958) أكاديمي وفيلسوف وصحفي أمريكي كان عضوًا في هيئة التدريس بقسم الفلسفة في كلية ديكنسون في كارلايل، بنسلفانيا حتى تقاعده في عام 2023.قام بتدريس الفلسفة والاتصالات والعلوم السياسية في جامعة فاندربيلت، وجامعة ألاباما، وجامعة ميلرسفيل في بنسلفانيا، وكلية معهد ميريلاند للفنون، وكلية ديكنسون. وأحدث كتاب له هو:  الجمال: غمر سريع (2022).

* رابط المقال على مجلة سايكى/ PSYCHE بتاريخ 14 مارس 2024

https://psyche.co/ideas/what-my-mothers-sticky-notes-show-about-the-nature-of-the-self

للنفس البشرية عناصر كلية وأخرى جزئية متفرعة عنها بحكم الأحوال والأفعال والانعكاسات، وهذه الظواهر أو الصور الجزئية قد تكون من حيث اعتبارها ثوابت نفسية إما أنها ذات طابع ظرفي أو عارضي و مؤقت أو دائم وغريزي قد يمس الكينونة الرئيسية للإنسان من جهة افتقارها أو استغنائها، ضعفها أو قوتها، جهلها أو علمها المبدئي بالأشياء والأبعاد..

فمن جملة هذه الصور يمكن طرح جانب الجهل والعلم كوصف رئيسي وشمولي للنفس الإنسانية بحسب وضعها بين هذين المتناقضتين، بحيث نجد الدلالة على هذين العنصرين الراسخين في النفس الإنسانية، في عدة آيات قرآنية أذكر من بينها قول الله تعالى:"اقرأ باسم ربك الذي خلق،خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لا يعلم "[1].

ففي هذه الآيات استحثاث على البحث في أصل المعرفة عند الإنسان وتأسيسها النفسي وما هي الأدوات الضرورية لتحصيلها ومدى حدودها إصابة أو خطأ في التحصيل المعرفي ...

وإذا كان هذا الجهل الذي قد يتميز به الإنسان منذ بداية تكوينه يمثل حالة عادية بالنسبة إليه،مع قابلية التعلم والاستعداد له بإرادة التحصيل وتوظيف أدواته،فإننا سنجد القرآن الكريم يطرح صورة أخرى للجهل الإنساني وهو في طور النضج واكتمال أدوات المعرفة والاستبصار لديه،إلا أن هذا الطور من الجهل الإنساني سيكون نتيجة التصرف الذاتي في الصياغة المعرفية رغم الشعور الفطري لديه بالقصور عن الإحاطة العلمية،مما يعني أن هذا الجهل الذي سيقع فيه الإنسان هو جهل سلوكي بسبب عدم وعيه وتقديره للأمانة التي عرضت عليه وتحمله لمسؤولية الحفاظ عليها.

وهذا ما نجد وصفه في قول الله تعالى:"إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا "[2].

وبما أن الإنسان قد يطبعه الجهل بأبعاد اختياراته الذاتية  وبالمسؤولية التي يتحملها،باعتباره كائنا مكرما وراقيا على غيره من الجمادات والحيوانات والرياحين من جن وشياطين، فإنه بسبب جهله هذا سيقع في سلوكيات تخالف مضمون تلك الأمانة المشرفة وغايتها التكليفية،حتى إنه في بعض الأحيان قد يعمل ضد مصلحته كتناقض ذاتي .

وكنموذج على هذا التناقض الذي قد يطبع سلوك الإنسان ضد مصلحته نجد قول الله تعالى:"أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء،فلا تذهب نفسك عليهم حسرات،إن الله عليم بما يصنعون"[3]

هذا التناقض قد يصل إلى مستوى يمكن الاصطلاح عليه ب"الجهل بالجهل"بحيث قد يتوهم الإنسان معه أن علمه ذاتي وأن كل ما لديه من المعارف كسبي،حتى إذا جاء وقت الاختبار وجد أن ما لديه من العلم والمعرفة،بل الكسب بصفته علما ماديا أو معنويا، مجرد عارية وهبة من الله تعالى كما نجد الدلالة عليه في قول الله تعالى:"فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم، بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون،قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون"[4].

وفي هذا المعنى يطرح القرآن الكريم مبدأ الفطرة والمعرفة الضرورية، والتي هي في أصلها هبة من الله تعالى، وتمثل عنصرا رئيسيا في النفس الإنسانية،بل هو أصل تكوينها ورأس علومها ومبدئها.

يقول الله تعالى:"فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون"[5].

وعن جهل الإنسان وعدم التزامه بمبادئ الفطرة المؤصلة للعلم الضروري لديه ستترتب سلوكيات خاصة تطبع نفسه على مستوى التحصيل المعرفي والحكم العلمي، من أهمها الجدل والخصومة "ولقد صرفنا في هذا القرآن من كل مثل وكان الإنسان أكثر شي، جدلا "[6]،"خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين"[7].

وكذلك الاستعجال في طلب الدليل أو الاستجابة المباشرة لكل طلباته دون وعي بأبعادها وشروطها، كما نجد نعته في قول الله تعالى "خلق الإنسان من عجل سأوريكم آياتي فلا تستعجلون "[8] "ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا"[9].

فهذا الاستعجال حين الإفراط في توظيفه قد يؤدي بالإنسان إلى إصدار أحكام خاطئة ربما يكون فيها هلاكه،من أخطرها الحكم الخطأ على قضاء الله وقدره ووصفه بالظلم أو عدم الحكمة،كما يعرض الله سبحانه وتعالى بعض هذه الأحكام الاستعجالية الخاطئة من طرف الإنسان بقوله:"فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن،وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن"[10].

إذ ستصبح نفسه فيما بعد تعرف نزوعا إلى الجحود ونكران النعمة" وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا".

***

الدكتور محمد بنيعيش - أستاذ الفكر والحضارة

المغرب

...............................

[1] سورة العلق آية 1-5

[2] سورة الأحزاب آية 72

[3] سورة فاطر آية 8

[4] سورة الزمر آية 49

[5] سورة الروم آية 30

[6] سورة الكهف آية 54

[7] سورة النحل آية 37

[8] سورة الأنبياء آية 37

[9] سورة الإسراء آية 17

[10] سورة الفجر آية 15-16

 

هذه الكريهة البغيضة الخلق، الشنيعة البشعة، المرتفعة الصياح، لا ترضى بشيء، ولا ترضى عن شيء، غير أن تنشر بأسها وعنفها، ولا تدعنا نعيش تلك الحياة الغضة، السمحة، اليسيرة، التي تعيشها شعوب المنطقة، فالحرب الضروس التي ضربت رواقها على السودان، ولا تريد أن تفارقه، لم يصارحها أحد في الحق بعشق ولا غرام، أزمعت هذه الهيجاء التي تطوف في هذه البلاد من أقصاها إلى أقصاها، أن تنتزع أرواح الناس انتزاعا، وتتركها بين ذراعي الموت، وخصوماتنا المؤلمة التي أحالت شعبنا إلى صفوف متراصة تحت رأيتها، قد اجتمعت عندها طائفة كبيرة من ألوان الضغائن والأحقاد،  هذه العداوات والبغضاء، لم تزل بكل أسى وأسف جذعة قوية، لأن سدتنتها يعنون بها أشد العناية، ولا يريدون لنائرتها أن تخمد وتنطفئ.

والحق الذي لا سبيل إلى الشك فيه، أن الوغى سوف تدفع رجاء السودان إلى الفتور، والخمود، والانزواء، ذلك الرجاء الذي ينبغي أن يشغل عقلنا بالتفكير، وقلبنا بالعاطفة، في كيفية إخماد  أسباب هذه الحرب، التي لقينا فيها من الشدة، والمشقة، والبلاء، شيئاً عظيما، يمتنع عنا هذا الرجاء، لأن هناك من يعتقد أنه خليقاً أن يسود، إذا طال أمد هذه الحرب، وتبرم من طولها الجيش، ونسي أو تناسى هذا الجامح الطامح، أن الشعب يضيق به أشد الضيق، وينكر غايته وهدفه أعظم الانكار، والجيش السوداني لا يكتفي مثلنا بالانكار والضيق، بل يضيف لهما عزماً صادقاً لا يكاد يرقى إليه ظن، فالجيش تجتمع عنده هذه الضروب، مع الحاح عنيف بمحق المليشيا، قبل أن يبلغ العام، أو يكاد يبلغه دواسه معها.

والسودان حتى ينجو بنفسه من شرور هذه الحوادث الحادة، عليه أن يحلل، ويفند، ويمدح، ويذم، يحلل أسباب هذه النزاعات،  ويسعى أن يحصي مسوغاتها، فالسودان يحتاج أن يقف في فصول كل هذه الحروب التي استعرت في أراضيه، وقفت تفكير وتأمل، وأن ينتهج هذه الطريقة الشائعة المألوفة في الكثير من البيئات المتحضرة، التي تعكف على دراسة كل ما يؤرقها بالبحث والاستقصاء،  هذه الطريقة الناجعة هي وحدها التي تنتسخ آية الشك، وتبدد ظلمة الشبهة، علينا إذن أن ننثر كنانة هذه الأسباب أيها السادة، ونعمد إلى أشدها اعناتا إلى الذهن، فنتخذها موضوعاً يبعثنا على التفكير، ويحبب إلينا الروية، التي تكفل لنا  التخفف من هذا الحمل المنشوء، الذي إذا نزعناه عن رقابنا، لعشنا في لذة ودعة، ولتوثقت صلاتنا بالنهضة،  النهضة تلك المفردة العظيمة المعاني، الفينانة الأفرع، والتي لا يتحرك ذكرها إلا عند استرجاع ماضينا السحيق، وحتى نتحفّى بنتاج العقول، وجني الأذهان، علينا أن نقصي العواطف، ونبعد الاحساس، فالمشاعر مكانها  العبث والفنون، أما مشاكلنا العويصة المعقدة، فهي تحتاج إلى عقل نابه  ومنطق صائب، وتحليل دقيق،  نحتاج إلى عقل واعي ومدرك، يأنف من هذه الحياة الوضيعة، ولا يتكلف المعاذير لأصحابها، عقل جائشاً بالحركة والنشاط، يسعى لأن يبحث في الآراء المضطربة، وقضايا الهيجاء المتناقضة، فيقرب أسباب، ويقصي أخرى، ويظهر في خاتمة المطاف وجه الحرب الشاحب، ويبين صفرته ودمامته.

وحتى ننظر إلى أبعد من أنوفنا، علينا أن نحكم الإبانة، ونحقق الايضاح، ونلائم بين حكمنا على الأشياء وحكمنا على الناس، يجب أن نستيقن أن نظامنا الاجتماعي عامل لا سبيل إلى اغفاله، نظامنا هذا الذي يجب أن نسرف في لومه، وذمه، ولا نقتصد، لأنه ينال الحظ الأوفر من الميل والعاطفة، ولأن منظومته تحتوي على كل رث وفاسد، وحتى نتجنب َشرور هذا النظام، علينا أن نُحْكِم التربية، ونُحْكِم الأخلاق، ونُحْكِم القيم المستوحاة من الدين، حتى لا نخلط الحسن بالقبيح، والجيد بالردئ.

وحتى نفعل هذا كله، علينا أن نتكلف جهوداً، ونتجشم أهوالاً، و نستدعي تلك الملكات القوية التي تعيننا على التخلص من هذه الأزمات، نحن إذاً نفكر في هذه الأزمات على اختلافها، ونسعى في عزم وثاب للتخلص منها،  أول خطوة يجب علينا اتخاذها لطي سجل هذه الأزمات، يكمن في التركيز على طائفة بعينها،  طائفة لا تستطيع أن تقاوم جهدنا هذا أو تتأبى عليه، الطائفة صاحبة الشعور الجم، والإحساس القوي، علينا أن نوليها اهتمامنا، حتى تستطيع أن تعرف وتنكر، وتحذف وتضمر، في شأن الوطنية، حينها فقط تستطيع الناشئة أن تدفع عن نفسها، وتحسن الدفاع، وتتجاوز هذه المعاظلة والالتواء، التي أغرقنا نحن أنفسنا بين ثنياها، فهي منكبة على الأصول التي حذقتها من طفولتها الباكرة، ومتهاتفة على قيمها، وحريصة على أخلاقها، فالهوية والاعتداد بها، ملكة تحصلت عليها بالدرس والتحصيل، لا بالمعاناة والطلب مثل حالنا نحن، والناشئة حتى تنعم بحدة العاطفة، وصدق الشعور، علينا أن نجنبها كل ما تورطنا فيه، من آثرة، وجهل، وعجز ذهننا الكليل عن التفكير الصحيح، و أن ننأى بها عن التماهي الفج مع سلطان القبلية، وتعزيز الهوية الوطنية حتى يبلغ أقصاه عند الجيل الجديد، يجب أن تنهض به قطاعات ومؤسسات متعددة، أولها قطاع المناهج بكليات التربية، ومما لا يند عن ذهن، أو يلتوي على خاطر، أن المناهج في كنهها هي الأثر الفني البديع الذي يشذب من غرائز الأطفال الساذجة، ويلهم عواطفهم الطليقة، ليأطرها ويدفعها نحو الخير والجمال، والمناهج التي تحرك الذهن، وتأجج العاطفة، -كما نعلم- يجب أن تخضع للتغيير والتجريب،  وأن تكون حافلة بالألفاظ الحرة المترفة، والصور والألحان الباذخة، وبالموسيقى والتصوير، وأن نعطي هذه الأداة الشائعة التي تسمى "الحكاية" حقها، فالأطفال يحبونها ويكلفون بها، لأنها تعبث بانفعالاتهم ونفوسهم، ويبقى أثرها منسوجاً على لوحة صدورهم،  ومرتسماً على صفحة أذهانهم، والقصص، والحكايات، وغيرها من الوسائل، ينبغي أن تكون وسيلة لا لأن تدفع المهج البريئة إلى الراحة والفتور، ولكن لأن تؤثل فيهم قيم الوطنية، حتى تحفل بها الخواطر، وتتدفق بها القرائح، ويغتني بها الشعور، والمناهج يجب ألا تكون مذاهب مختلفة، حتى لا يفترق الناس حيالها تفرقاً عظيما، ولكن أن تكون شاملة محيطة، تستثير العواطف، وتهيج الإحساس خاصة فيما يتعلق بالكرامة والأعياد الوطنية، فوقع هذه الملاحم والأعياد، يجب أن يظل خالداً في عقل هذه الأجيال وقلبها، هذه المناهج يفترض أن تنتهي بدارسها إلى القوة والخصب، وأن تقود لأن يتحلى طبعه بالرغبة في البر، والنفور من الشر، وألا يُعنى باللفظ الوضيع، أو يحوم حوله، تلك الألفاظ التي تكون ثقيلة على النفس، وممجوجة في الأذن،  مثل التعصب، والجمود، والآثرة، والخيانة، والاستبداد، والغرور، والجهوية، وغيرها من الألفاظ التي أقعدتنا عن ملاحقة الركب، ومجاراة التطور،يجب أن تنبو عنها السليقة السليمة، وحتى نجمل القول حول المناهج، نقول أن الغاية التي تسعى إليها المنظومة التعليمية من وراء وضع المناهج، هي أن تبسط اللسان، وتشحذ الخاطر.

  والمعلم أيسر سبيل لأن يؤدي مهمته الجليلة على أكمل وجه، علينا أن نجنبه هذه الحياة الغليظة الخشنة التي يعيشها الآن، وأن تخلو حياته من هذا الكد، وهذا الاضطراب، وألا تكون عوالمه كلها تعسة سيئة الحال، فمقام المعلم وقدره أجلّ من أن ينحط إلى هذه المرتبة، علينا أن نبعد معلمي الأجيال عن هذه المنزلة الكريهة، وأن نتعهدهم بالعناية والرعاية، ونصرفهم عن العاديات، لكي يستطيعوا أن يعصموا الأجيال من الإثم، وحتى لا يصيبهم الضعف، أو يدركهم الفتور، في نصرة أوطانهم، وفي الذود عنها، وفي التضحية والموت من أجل أن تبقي هي شامخة أبية، المعلم الذي يقدم ألوان العواطف والشعور لتلاميذه، يجب أن تكون سمات العلم والمعرفة هي السائدة عليه، لذا يجب أن يمضي في وتيرة الصقل والدورات المكثفة حتى نصل به إلى غايتها، وأن تظل نغمة الاستنارة، والمواكبة، ضاخبة، مجلجلة بين خلايا ذهنة المتقد.

  دعونا نسأل في دهش، بلغة حانية مستعطفة ولاة أمورنا، حتى متى تبقى مدارسنا على هذه الهيئة الرثة الكئيبة، إن واقع هذه المدارس حتماً يزري من نفسية الطفل المتلقي، ويجعلها ثقيلة سمجة،  لا تسعى إلى تحصيل، أو تهفو إلى تفوق، علينا أن نقي رياض الأطفال، والمدارس بكافة مراحلها وتقسيماتها، هذه النكبات المتصلة، وأن نعزز صلتها بالرقي والتطور والسناء، وأن تقترن مبانيها بمعاني المعرفة ورونقها، والمعرفة أكبر الظن أحط وأدنى عند ساستنا، لأجل ذلك لا تلتفت إلى هذه المدارس، إذن لا لوم ولا تثريب على ساستنا الذين يستخفوا بالدور الكبير الذي تقوم به هذه المدارس، ولعل من الثقل والاملال، أن نسهب في تفصيل تغاضيهم عنها على مر العقود والحقب، إن تجافي أرباب الحكم والتشريع عن الموئل الذي يرفد الناشئة بهذه الحياة التي يجب أن تمتزج بنفوسهم، يزري بآمال ومصلحة النوع الإنساني، ويقوض دعائم المجتمع، ويفت في عضد القدرة الشعبية التي شيدتها، فحكوماتنا المشبلة العطوف التي تطيل في الحديث، وتكثر من الثرثرة، وتسرف في الألفاظ الدالة على فضل التعليم، كان أرجى أن تكون أسرع حكومات المنطقة في الأخذ بأسباب التعليم، وأن تمعن في بناء هذه الصروح التي تحتفي بالحياة العقلية للأجيال، ولكنها لم تفعل، أو أنها لا تريد أن تفعل، لأنها تريد أن تحافظ على حياتنا القديمة المتصلة بالجهل وانتشار الأمية اتصالاً وثيقا، وألا نرى لهذا العلم جمالاً مغريا، وحسنا فتانا.

ولعل من الطبيعي أن ينتهي بنا الحديث إلي اللغة العربية التي تعتبر خلاصة كل شيء وجوهره في هذه الديار، شاء من شاء، وأبى من أبى، اللغة العربية التي تضحك من هذه الدعوات الفارغة البلهاء، التي تسهب وتطيل في ضرورة أن تتوقع في دائرة المعتقد والمذهب الديني، ولا تحظى بمثل هذا الانتشار، ونسيت هذه الدعوات أن وحدة السودان واتساقه لم تكن إلا بها، لقد صمم بعض السذج على مناهضة هذا الوعاء المترف، وشرعوا في امضاء هذا العزم، التماساً لرضى الغرب وتقرباً إليه، ولكن هذا التصميم، وهذا العزم، طرحه الزمان، وداس عليه بكلكله، ولم يبقى إلا على عنوانه، فنحن ما زلنا نسمع في اكبار وتثاؤب خفيف، مذيعي الأخبار في سوداننا يتداولون في أجهزة الراديو والتلفاز هذه اللغة في اسراف وجموح، ولم يبدلوها بعد بلغة أجنبية كانت أو محلية، ولعل الشيء الغريب أن أنصار هذه اللغة وخصومها يتحدثون بها، ويتشدقون بألفاظها الرنانة في حوارتهم الضحلة والعميقة، هم خاضعين لسلطانها إذن، ورغم ذلك يلومونها، ويعنفوها، ويستهجنون سطوتها التي لا تقتصر على أدب ودين،  فنظامهم السياسي نسجت أحرفه من هذه اللغة العصية على الهدم والاضمحلال أيضا. ومن السخف الذي لا يعادله سخف، أن نعادي هذه اللغة ونسرف في عدائها، لأن موطنها  الأصلي هو جزيرة العرب، ولأن أسمال العروبة هنا في سوداننا واسعة الخروق كما يرى البعض، علينا أن ننتحل لغة مغايرة لهذه اللغة، ونتخذها أداة للتخاطب عوضا عنها، ستظل هذه اللغة الشامخة تحتفظ بحقها في الحياة، وستظل هي الرائدة والمهيمنة على رصيفاتها، وسنظل نكبرها ونكبر دينها وأدبها، ولن تنقطع صلاتنا بقوتها وجذالة ألفاظها، ستظل أشجار هذه اللغة السامية مغروسة في ثرى هذه البلاد، ولن تتصدع جذورها، أو تتهاوى فروعها، أو تتقصف أوراقها، مهما تعددت تيارات الريح أو تضاربت، إذن لغة السودان الأولى لا تبتغي التأييد، ولكنها تبتغي أن نجاهد في سبيلها، وأن نحتفظ بطارفها وتليدها في حنايا هذه المهج الغضة البريئة، وألا يتعرض جيدها الأتلع النضير إلى الغواشي وسوء التقدير.

***

د. الطيب النقر

 

لقد عُرّفَت السياسة بأنها فن الممكن، ومن هذا التعريف أستنبط المشتغلون بالسياسة مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، يعني كل شيء متاح ويمكن أستخدامه، فهو مرخص لهم أستخدامة لتحقيق الغاية المراد بلوغها من قِبلهم، وأستناداً على هذا المبدأ سمحوا لأنفسهم أدخال الكثير من الممارسات الغير أخلاقية، والغير أنسانية في عملهم السياسي، بل وأعتبروه فناً سياسياً، يعبر عن حذاقة وذكاء ذلك السياسي الممارس لهذا العمل الموسوم باللاأخلاقي واللاأنساني مادام يصب في تحقيق أهداف رسمتها السياسة العامة لبلده. لاشك أن هكذا لون من السياسة، هي سياسة متجردة من الأخلاق والأنسانية، وقد شهدت الأنسانية جراء هذا اللون من السياسة الويلات تلو الويلات من جرائم الحروب، وأستعمار للشعوب، وهضم للحقوق.

السياسة كعلم ونظريات وممارسات توظف لأدارة الدول والشعوب، والتحكم في أيقاع ونوع العلاقة بين مكونات الشعب الواحد، ولكن للأسف جُيرت السياسة عند البعض من الحكام من أجل تعزيز سلطتهم، والتحكم بمقدرات شعوبهم، ومن هذا النوع من السياسة، هي السياسة التي رسمها الأمويون بقيادة معاوية بن أبي سفيان، وهو من سبق السياسي والمفكرالأيطالي نيكولا مكيافيلي، بل يمكن أعتبار معاوية هو المؤسس الحقيقي للمكيافيلية السياسية، فقد صنع نموذجاً سياسياً يوظف فيه كل الممكنات المتاحة، من أجل بناء مملكته وتوطيد حكمه، فقد كان نموذج للدهاء السياسي الموسوم بالشيطنة في بناء أمبراطوريته الأموية، والتي كانت نموذج خارج للمألوف في فلسفتها وممارستها للحكم، فقد حدد هدفه بوضوح، الا وهو السيطرة والحكم الفردي، وبناء أمبراطورية عائلية، وقد لخصها في كلمة له (ماقاتلتكم لتصوموا ولا لتحجوا ولالتزكوا. قد عرفت أنكم تفعلون ذلك وإنما لأتأمر عليكم...). فقد سمح لنفسه من أجل تحقيق ما يصبو إليه من هدف شخصي، كل الممكنات سواء كانت مادية كالحروب، وقد فعلها، وكانت أشهرها حرب صفين التي قاتل فيها خليفة المسلمين الشرعي علي بن أبي طالب، وما تعرض إليه معارضوه من قتل وأضطهاد ونفي وسجون. أو سياسياً فقد مارس سياسة الأحتواء، وهي أستراتيجية تتضمن التحيد والتهميش والأستلطاف والترغيب للمعارضين، وهي سياسة عُرفت، بسياسة شعرة معاوية، وقد لخصتها كلمة له يقول فيها (لو كان بيني وبين الناس شعرة لما إنقطعت، فإن مسوها تركتها، وأن أرخوها جذبتها). من خلال ما عرضناه من منهج معاوية بشكل مختصر، سنوضح الممارسة السياسية الغير أخلاقية في توظيف النبوءات والحكايات لأجل توطيد سلطانه، وهي ممارسة تنطبق عليها الشعار الذي رفعه زميله من بعده مكيافيلي، وهو (الغاية تبرر الوسيلة) وتحت هذا الشعار أستخدم معاوية ممارسة لم تكن معهودة في السابق،وهو أستخدام الدين لا لخدمة الفضيلة وأنما لخدمة السلطة، وخدمته شخصياً، وهذا النوع من الممارسة لا تتطلب من الشخص أن يكون شريفاُ، وأنما فقط محب لنفسه فقط، وقد قالها الرجل كما ذكرنا أعلاه.

نستعرض هنا بعض الممارسات التي سجلها لنا التاريخ في كيفية توظيف الأموين للنبوءات والحكايات، وهنا نأخذ أمثلة نوضح به ممارساتهم في توظيف هذه النبوءات والحكايات كطريقة يهيمنوا بهما على الجمهور، ويضمنوا ولاءهم وطاعتهم لهم، ونذكر هنا أمثلة : عندما أراد هشام بن عبد الملك أزاحة أبن أخيه الوليد بن يزيد بن عبد الملك من ولاية العهد، ساعياً الى تبديله بنجله مسلمة كولي للعهد فأستعان بمستشاريه، فأشاروا عليه بفكرة الأسلوب الدعائي المتمثل بأختلاق الروايات والحكايات الموضوعة متوخياً تسقيطه أجتماعياً كطريق لأقصاءه بعيداً عن الصراع المادي، فقد أستعان هشام بتنفيذ هذه المهمة بالفقهاء والمحدثين لتحصيل هذه النبوءات، وقد ساهم الزهري بعدد غير قليل من هذه النبوءات والأحاديث، ومنها عن الزهري حديث نبوي تظهر فيه شخصية الوليد المراد تسقيطها (وُلد لأخي أُم سلمة وَلد، فسموه الوليد، فقال النبي : سميتموه بأسماء فراعنتكم، ليكوننَّ في هذه الأمة رجل يُقال له الوليد، لهو أَشد لهذه الأمة من فرعون لقومه)، وفي حديث آخر : سيكون في الأمة فرعون، يُقال له الوليد)(معمار الفكر المعتزلي ص56)، وأما النوع الثاني من الدعاية المضادة، هي الحكايات التي قِلت بعد مقتل الوليد، تصور أنحرافه المزعوم عن أخلاق الأسلام، بل وخروجه عن الإنسانية وشيطنته، بل وزندقته بأعين المجتمع، فقد جاء في أحد الحكايات بأن الوليد كان يخفي تمثال لماني يتعبد إليه، وكأنه لا يؤمن بالأسلام) (الأصفهاني: الأغاني7/56)، وهناك حكاية أُخرى حُكيت عليه بأنه كان يسكر فوق سطح الكعبة انتهاكاً لحرمتها) (تاريخ الطبري6/180، البداية والنهاية 7/62 ) وفي حكاية أخرى تتقول (بأن الوليد كان يريد يجمع بين أختين) (معمار الفكر المعتزلي ص57). هذا الأسلوب لم يتوقف على خليفة أموي واحد بل هو خط عام لسياسي هذه الدولة، فقد لعبت هذه السياسة دور حاسم في أقناع الجمهور بأن تولية الحاكم هو أمر سماوي لا راد لقضاءه، وليس على الناس الا السمع والطاعة، وهنا نأخذ دور النبوءات في تثبيت وأستباب الأمر لعمر ابن العاص بولايته على مصر وأنه أمر حتمي بأعتباره قضاء وقدر ألهي، فقد ذكر ابن يوسف الكندي المتوفي في القرن الرابع الهجري في كتابه الولاة والقضاة في حديثه عن والي مصر عمر بن العاص كالآتي (كان عمر بن العاص تاجراً في الجاهلية فأتى الأسكندرية فوافق عيداً لهم يجتمعون فيه ويلعبون.. أجتمع أبناء الملوك وأحضروا كرة لهم مما عملها لهم حكماءهم فتراموا بها بينهم وكان من شأنها المتعارف عندهم من وقعت في حجره مَلك الأسكندرية،أو قالوا ملك مصر فجعلوا يترامون بها وعمر في النظارة فسقطت الكرة في حجره فتعجبوا لذلك، وقالوا ما كذبتنا هذه الكرة قط إلا هذه المرة وأنى لهذا الأعرابي يملك الأسكندرية، هذا والله لايكون) (محمد يسري: كيف لعبت النبوءة دوراً حاسماً في أنتقال السلطة)، ومن النبوءات التي قيلت لصالح تولية معاوية وتبرير سلطانه على رقاب المسلمين، هو ماذكره ابن كثير في كتاب البداية والنهاية المتوفي عام 700 هجرية وهناك من يقول 774 هجرية والذي يذكر في كتابه هذا أن هند بنت عتبة كانت قد تزوجت من الفاكه بن المغيرة المخزومي، وأنه في يوم ما شاهد الفاكه رجلاً يخرج من داره فشك في زوجته وأتهمها بالفسق والزنا، وتحاكم الطرفان الى أحد كهنة اليمن، فقام هذا الكاهن بتبرئة هند، وقال لها (أنهضي غير زانية، ولتلدن ملكاً يُقال له معاوية) وهنا أعتذر الفاكه لها ولكنها تركته وقالت له لأحرصن أن يكون هذا الملك من غيرك فتزوجت من أبي سفيان بن حرب وكان لهما معاوية. من المعروف أن أبن كثير من الموالين لبني أميه لأنه من تلاميذ ابن تيمية، لذلك يكون حريص على أظهار مناقب بني أمية، وهناك نبوءة أخرى نذكرها كمثال لا للحصر أخرجها البغوي عن طريق محمد بن سلام الجمحي عن أبان بن عثمان بن عفان قال فيها كان معاوية بمنى وهو غلام مع أمه إذ عثر، فقالت له قم لا رفعك الله، قال لها أعرابي لمَ تقولين هذا؟ والله إني أراه سيسود قومه، وأختم هذه النبوءات التي وظفت في الدجل السياسي، والتي أبدع فيها الأمويين أيما أبداع، والذي من خلاله عززوا سلطتهم في الحكم خلال 90 عام حكموا خلالها المسلمون بطريقة يتصاغر أمامها مكيافيلي بكل أساليبه الشيطانية، فقد ذكر الواقدي أن معاوية خاطب أهل الشام أثناء رجوعه بعد تنازل الحسن فقال (أيها الناس إن رسول الله قال: إنك ستلي الخلافة من بعدي، فأختر الأرض المقدسة، وقد أخترتكم فألعنوا أبا تراب فلعنوه. أن هذا اللون من التفكير يستند الى آيديولوجية أبتدعها الأمويون للأنقضاض على السلطة، وقد سًميت بعقيدة الجبر أو القدرية تعززها أمثال هذه النبوءات والحكايات المختلقة والملفقة، والمحبوكة بشكل فني لا يخلو واضعيها من خيال واسع.

***

أياد الزهيري

عندما تكون المواطنة استلابا واغترابا؟!

كتب الأديب محمد الماغوط يقول: "عندما كنت أتمشى في حلب كنت أسمع بائع الجرائد يصيح: (الوطن بخمس ليرات، الثورة بثلاث ليرات، العروبة بليرتين) كنت أظنه يقصد ثمن الجريدة"

1- مقدمة:

إذا كانت المواطنة تعبيرا عن العلاقة الإنسانية بين الإنسان والإنسان من جهة، وبين الإنسان والوطن من جهة أخرى، فإن هذه العلاقة، بما تنطوي عليه من مضامين وقيم وأبعاد، تشكل أكثر العلاقات الإنسانية سموا بالإنسان وارتقاء بإنسانية. فالمواطنة في صورتها الحقيقية حالة من الازدهار الإنساني التي تولدّ في الإنسان حالة إنسانية تعبر عن أكثر مضامين وجوده الإنساني سموا ونبلا. وعندما يفقد الإنسان نبل هذه العلاقة بالوطن والإنسان فإنه يفقد أكثر عناصر وجوده أهمية وحيوية. ولا ضير في القول بأن توتر هذه العلاقة يدفع الإنسان إلى دوائر الاغتراب والاستلاب بكل ما تنطوي عليه هذه الدوائر من بؤس الوجود الإنساني وإكراهات الحياة، وذلك لأن الإنسان يكتسب جوهره الإنساني عبر تواصله الحرّ مع الوطن وبما يضفيه هذا التواصل من مشاعر إنسانية متدفقة المعاني والدلالات.

فالحرية جوهر المواطنة وعمقها، وذلك لأن المواطنة ترمز إلى الإنسان الحر القادر على المبادرة الإنسانية الحرة بحكم انتمائه إلى الأرض والمجتمع. والمواطنة تعني الإنسان الحر الذي يمتلك حقوقا وواجبات مؤسسة على مفهوم المشاركة الديمقراطية الحرة في مجتمع محدد وملموس، وهذا يعني بالمقابل أن الإنسان الذي لا يتحلى بصفة المواطنة في مجتمع معين هو كائن مستلب مغترب فاقد لجوهره الإنساني.

والسؤال المركزي الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو هل هناك مواطنة في مجتمعات شمولية قائمة على التسلط والإكراه؟ وأين هو مكان الإنسان العربي في جغرافية المواطنة والانتماء إلى الوطن؟ هل هناك مواطنون أحرار وفقا لدلالة مفهوم المواطنة وأبعاده الإنسانية؟ أم أن الإنسان العربي ما زال بعيدا عن شرف اكتساب المواطنة في عالم حر؟ وبعبارة أخرى هل نحن أقنان أم أحرار في مجتمعات يسودها صلف القهر وجنون الاستبداد؟

2- أزمة المواطنة:

ويقينا أننا عندما نأخذ بالدلالة الحرة لمفهوم المواطنة فإننا سنجد غيابا مذهلا للوجود الإنساني في مختلف أصقاع عالمنا العربي حيث نجد ركاما بشريا فقد إنسانيته وكرامته وإحساسه بالمواطنة الحرة والوطن. فالإنسان العربي في دائرة التسلط والقهر فقد صلته الإنسانية بالأرض والوطن ويفتقد اليوم إلى أبسط معاني الوجود والكرامة في علاقته بالسلطة والأنظمة السياسية القائمة التي لا تستطيع أن ترى في مواطنيها إذا جاز التعبير أكثر من أقنان وعبيد ورقيق ورعاع وسوقة وعامة.

ومن أجل التعبير عن أزمة المواطنة في العالم العربي، وعن الحالة الاغترابية التي يعيشها الإنسان العربي، يمكننا أن نلجأ إلى المقارنة بين مشاهد التكريم التي يحظى بها المواطن الغربي في وطنه وبين مشاهد التعذيب والقهر التي يعانيها الإنسان العربي في وطنه ودياره. لنستعرض صورة واقعية ما زالت حيّة في الذاكرة تتمثل في مشهد استقبال الصحفية الفرنسية الُمحررة في العراق "فلورانس أوبنا" في طريق عودتها إلى الوطن، حيث استُقبلت في مطار باريس باحتفال وطني مهيب منتظر. ولم يكن غريبا على فرنسا الحرة أن يكون رئيس الجمهورية الفرنسية نفسه في طليعة المستقبلين احتفاءً بعودة الصحفية المظفرة. لقد استنفرت فرنسا، شعباً وحكومةً، كل طاقاتها السياسية والدبلوماسية، على مدى أشهر عديدة، من أجل تحرير فرنسية كانت تعمل مراسلة صحفية مغمورة في العراق، ولم يهدأ للحكومة الفرنسية جفن، وللشعب الفرنسي بال، حتى تمّ تحرير الصحفية المنكوبة وإعادتها إلى الوطن محاطة بكل مظاهر الرعاية والتكريم.

وقد يتساءل القارئ لماذا نسرد هذه الواقعة؟ ولما نستعرض عودة الصحفية المظفرة إلى فرنسا بعد غياب طويل؟ لأننا ببساطة نريد عبر هذه الصورة، للعلاقة الحيّة بين الدولة والمواطن، أن نعرّف بمفهوم المواطنة كما يتجلى في الوعي وفي الممارسة في البلدان الديمقراطية، وتحديد الكيفية التي يُعامل فيها المواطن في الغرب الأوروبي الديمقراطي. لأن الموقف السياسي والجماهيري من الصحفية الفرنسية المحررة في العراق يقدم أوضح تعبير عن معنى المواطنة وماهيتها في البلدان الديمقراطية. فكرامة المواطن في هذه البلدان ترمز إلى كرامة الوطن وتعنيها، وذلكم هو مفهوم المواطنة في مجتمعات حرّة.

عندما كنا نشاهد طقوس العودة المظفرة للمواطنة الفرنسية محاطة بكل مظاهر الحفاوة والتكريم من قبل الشعب والحكومة الفرنسية(وكانت هناك حالات مماثلة أخرى سابقة في إيطاليا، وبريطانيا، واستراليا، وأمريكا) عشنا معضلة الصراع الوجداني لحالة نفسية متناقضة ومـتأزمة في الآن الواحد، وتتمثل هذه المعضلة الوجدانية في انشطار وجداني بين شعورين متناقضين: يتمثل أحدهما بحالة من الفرح والسعادة بينما يتمثل الآخر بحالة أخرى من الحزن والأسى والمرارة: فرح لا يوصف لحالة إنسانية يتم فيها تحرير الصحفية الفرنسية ونجاتها من اعتباط الاختطاف، وحالة أخرى مناقضة لها تتمثل في شعور المرارة والأسى لأن هذا يذكرنا بالمأساة التي تكوي قلوب المواطنين العرب في كثير من أقطارهم عندما يعودون إلى أوطانهم من غربة طالت أو قصرت، حيث ينتظرهم في مطارات بلدانهم احتفاء وطني من نوع آخر، فأسماؤهم مرصودة في السجلات الحمراء ودهاليز أجهزة الأمن والاستخبارات في انتظارهم، حيث يكون الداخل إليها مفقودا والخارج منها مولودا. نعم هما صورتان للاحتفاء بالمواطن صورة فرنسية، وصورة عربية فأيهما أكثر تشويقا وجمالا(1)؟

قد تكون هذه الصورة وهذه المقارنة أفضل الممكن في التعبير عن مفهوم المواطنة في مجتمع ديمقراطي ومفهومها في مجتمع شمولي ديكتاتوري. وتلك هي صورة واحدة في فسيفساء الاستبداد التي لا تحصى رموزها ولا تستنفد معانيها.

المواطنة كرامة الوطن في الإنسان، والمواطن صورة لكرامة الوطن، وتلك هي الصورة التي نشاهدها في سيناريو المواطنة في الدول المتقدمة. أما المواطنة في بعض بلداننا فهي المذلة التي يؤصلها سدنة النظام القاهر في الإنسان المقهور، وصورة المواطن هي صورة تتجلى فيها مذلة الوطن، لأن كرامة الوطن من كرامة مواطنيه. فالوطن الذي نعيش فيه يعاني من المذلة والقهر لأن المواطن فقد شروط الكرامة الإنسانية وسقط في متاهات الاغتراب والاستلاب الذي فرض عليه في دورة الاستبداد السياسي الذي يتصف بالعمق والشمول.

فالأنظمة السياسية المستبدة تسعى بكل ما أوتيت من قوة إلى تحويل المواطنين إلى رعايا وعبيد، إلى أفراد يدينون بالولاء الأعمى للنظام القاهر المستبد. والمواطنة في منظور النظام السياسي هي ولاء المحكوم للحاكم ورضوخ المواطن لإرادة النظام. فالخضوع هو مبتدأ المواطنة في الأنظمة الأمنية والقمعية والإذلال هو خبرها. الإكراه هو المنطلق، والعبودية الإنسانية هي الغاية التي تسعى إليها الأنظمة البائدة.

ففي العالم العربي المعاصر ما زال مفهوم القبيلة والطائفة يتقدم على مفهوم المواطنة. وما زال مفهوم الانتماء إلى القبيلة والطائفة يتصدر مختلف الانتماءات وفي مقدمتها الانتماء إلى الوطن. وما زال مفهوم الوطن في دائرة الغموض، وما زالت العلاقة بين الوطن والمواطن علاقة مشوبة بالخوف والقلق والحذر(2).

إن بناء مفهوم المواطنة citoyenneté وتأصيله وعيا مرجعيا في عقل المواطن في اتجاه تعزيز الانتماء إلى الوطن ثقافيا وإنسانيا أصبح ضرورة حضارية تفرض نفسها في مختلف التكوينات الاجتماعية للوجود الإنساني المعاصر. ولا ريب في ذلك لأن مفهوم المواطنة يشكل واحدا من المفاهيم الأساسية التي تأخذ مكانها في الحياة الفكرية والسياسية للمجتمعات الإنسانية المتقدمة في السلّم الحضاري. ويعول كثير من المفكرين اليوم على أهمية بناء هذا المفهوم وتأصيله في اتجاه تحرير الوعي اليوم من أثقال الانتماءات التقليدية الضيقة التي تتمثل يقينا في الانتماءات الطائفية والقبلية والعشائرية الضيقة. فالتحولات الكبرى الضاغطة التي تشهدها المجتمعات الإنسانية في عصر العولمة في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية تعمل على تفكيك المنظومات الأيديولوجية القديمة، وتفرض على الأنظمة السياسية المعاصرة إعادة النظر في أنساقها الثقافية من أجل استمرارها في الهيمنة والوجود.

2- السياق التاريخي لأزمة المواطنة في البلدان العربية:

إن الحديث عن المواطنة في البلدان العربية يتطلب منا أن نتساءل عن أوضاع الدولة ما بعد الاستعمار والكولونيالية. كيف تشكلت هذه الدول وكيف تأصلت هويتها؟ كيف تستلهم القيم الديمقراطية والتجربة الديمقراطية من الغرب؟ وما هي الكيفيات التي تعمدها هذه الدول في استقدام التجارب الغربية؟ هل تحترم هذه المبادئ والتجارب الديمقراطية التي تجري في العالم المتقدم؟ كيف تقاوم المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية التقليدية وكيف تتعايش من أجل المحافظة على وجودها إزاء المؤسسات الحديثة؟

لقد قسمت البلدان العربية وفقا لاتفاقية سايكس بيكو إلى دول ودويلات وجاء هذا التقسيم بوحي من مصالح الدول الكولونيالية الكبرى التي اعتمدت تقسيما إداريا يجعلها أكثر قدرة على إدارة هذه البلدان فيما بعد الكولونيالية. ولم تأخذ هذه الدول بعين الاعتبار أو الأهمية التكوينات الإتنية والعرقية والقبلية لهذه الدول بعين الاعتبار. لقد شطرت هذه التقسيمات القبائل العربية في عدة دول وشطرت القرى أحيانا إلى ثلاثة أقسام، وشتت العائلات الكبرى في دولتين أو أكثر. وقد عملت الكولونيالية هذه على تكوين دول وحرصت على بناء أيديولوجيات سياسية متكاملة مع الكولونيالية الأم.

وفي دائرة هذا التقسيم ترتب على الشعوب العربية أن تنمي انتماءها إلى صيغة الدولة التي شكلت بحدودها الكولونيالية. وهي دول حديثة التكوّن وقد فرضت على شعوبها من الخارج. وقد تطلب ذلك من كل فرد ومواطن أن يعترف بولائه لهذه الدولة أو تلك، من منطلق البحث عن السلام والاستمرار في الوجود، وأن يعلن عن نفسه "مواطنا " يؤدي واجباته ويمتلك حقوقه في إطار الدولة الحديثة، التي فرضت عليه دولة ينتمي إليها لأسباب استعمارية وليس لاعتبارات تاريخية أو حضارية. وهذا يعني أن الأمر تطلب من كل فرد شملته الدولة الحديثة ألا يشعر بأن أجنبي يعيش في دولة لا ينتمي إليها. وقد اقتضى الأمر أن يعيد المواطن تكيفه الجديد وأن يبدأ تدريجيا بتأصيل هذا الانتماء الجديد للدولة الكولونيالية الجديدة. وغني عن البيان أن الزعماء العرب في عهد الاستقلال لم يستطيعوا أن يمتلكوا مفهوما واضحا عن الدولة وطبيعتها وأسسها وإشكالاتها. وكانوا يجهلون ربما أن الروح الوطنية والقومية هي الأصل في عملية بناء الدولة. وكانوا يجهلون ربما بأن الدولة لا يمكنها أن تكون مؤسسة خاصة لحكامها.

لقد نشأت الدول القديمة على أساس الأمة Nation فالأمة توجد في أصل الدولة L'ETAT وقد تشكلت هذه الدولة بدساتيرها ومؤسساتها وفقا للروح القومية. ولكن وعلى خلاف ما هو معهود في التاريخ فإن الدول العربية هي التي تشكلت أولا ثم هي التي أدت إلى ولادة الأمة(بالمعنى الضيق للأمة: الدولة القطرية). ونحن هنا إزاء قانونية معكوسة في تاريخ تشكل الدول والأمم. ولأن الدولة لا يمكنها أن تنشأ إلا في أحضان الأمة فإن الدراما السياسية في هذه البلدان ما زالت تدور في حلقة مفرغة.

وبالتالي فإن هذه الإشكالية المتعلقة بنشوء الدولة على نحو كولونيالي خارجي أدى إلى تشويش كبير في مسألة المواطنة والانتماء. ولم تتضح معالم مفهوم المواطنة في كثير من البلدان العربية المعاصرة. وليس غريبا جدا إذا قلنا بأن مشاعر القلق والتوتر وغياب الأمن الوطني وتداعي المشاعر بالشرعية التي تمثلها الدولة بقي طاغيا في كثير من ممارسات الحياة الثقافية في البلدان العربية، ولذلك بقي الولاء مكرسا للوحدات الاجتماعية الجوهرية الصغرى، كالولاء للقبيلة والعشيرة والطائفة بوصفها كيانات اجتماعية أكثر رسوخا وأهمية من الدولة التي فرضت بمقتضى الأحوال الكولونيالية المعروفة.

3- الأنظمة السياسية العربية واستلاب الإنسان:

لقد عملت الأنظمة السياسية والديكتاتورية القائمة في القرن الماضي على تغييب القيم الديمقراطية في المؤسسات الثقافية وفرغتها من المضامين الحرة جميعها، وجعلت من مجرد التذكير بحقوق الإنسان والمواطنة والقيم الديمقراطية زندقة وكفرا، وجاء الحصاد في نهاية الأمر جراح دامية. لقد أدت وضعية النشوء غير الطبيعي للدولة إلى غياب الشعور بالأمن عن المواطن. فالدولة الحديثة المصممة على نماذج خارجية غريبة عن طبيعة المجتمع وهي تعاني صعوبة في الحصول على ثقة المواطن واقتناعه بمشروعيتها السياسية. وهذه الدولة تواجه تبعة إرثين مختلقين يتمثل أحدهما في التركة الثقيلة لكيانات اجتماعية تقليدية وما قبل تاريخية أحيانا ويتمثل الثاني في إرث ثقافي وسياسي غربي محمل بتراث ديمقراطي إنساني بالغ النضج والتعقيد. وهذه الوضعية الانشطارية دفعت الدولة إلى استخدام العنف والإسراف في التسلط من أجل ضمان الأمن، وذلك لأنها عاجزة في الأصل عن عقلنة هذا الواقع الذي يتفجر بتناقضاته الماثلة بين الجديد والقديم، بين الحديث والمتجدد، بين التقليدي والحداثي، بين الدولة العصرية والتكوينات التقليدية للحياة المجتمعية، بين مفهوم المواطنة ومفهوم الرعاية (الرعية). وبالإضافة إلى ذلك يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن الدولة نفسها بعيدة جدا عن الثقة بالمواطن نفسه. فالمواطن غالبا ما ينظر إليه بوصفه عدوا للدولة والدولة هي العدو الأول للمواطن كما يراها المواطن نفسه. وهنا نجد أنفسنا في أجواء انعدام الثقة الكلية بين المواطن والدولة. وهذا بدوره يشوش الصورة التي يفترض أن تكون للمواطنة وعلاقة الدولة بالمواطن. وعلى هذا الأساس فإن المواطن يعش حالة توتر وقلق تتصف بالاستمرار والديمومة عندما يتعلق الأمر بالدولة وممارساتها القمعية.

في الدول الديمقراطية يشارك المواطن في عملية بناء القوانين الخاصة بالحياة العامة، وله الحق أن ينظر فيها ويبدي الرأي حولها. وهذا الأمر لا وجود له في الغالب في الدول العربية ما بعد الكولونيالية.

فمبدأ المساواة لا يتطلب أن تكون القوانين والقرارات التي تشكل النظام حقيقية وواقعية فحسب، بل يتطلب أن تؤسس هذه المساواة على منظومة من القيم الضرورية والأساسية لوجود المجتمع الحرّ. وهذا يعني أن الأمر يقتضي وجود اتفاق اجتماعي حول القيم الأساسية المطلوبة للمجتمع الحر. وعندما لا يوجد مثل هذا الاتفاق فإن الوضع السياسي والاجتماعي يكون حرجا إلى حدّ كبير.

وهنا يمكن القول بأن البلدان العربية تعاني من غياب هذا التوافق القيمي المؤسس للدولة الحديثة. ويضاف إلى ذلك أن الشعب لا يمكنه ولا يستطيع وليس متاحا أمامه أبدا أن يراقب أو أن يحاسب على الممارسات التي يمارسها أهل النظام السياسي الأساسي. وهذا ينسحب أيضا على وضعية البرلمانات التي تأخذ صورة منتخبة من قبل الشعب حيث لا تملك هذه البرلمانات في الأغلب أي خيار سياسي ما لم تحدده الدولة. وهذا يعني أن النظام التمثيلي لا يعدو أن يكون في الواقع أكثر من "بروباغاندا" سياسية في خدمة النظام السياسي القائم، وتكمن وظيفة هذا النظام التمثيلي (البرلمانات، ومجالس الشعب، مجالس النواب) في ترويج صورة خارجية للعالم الخارجي الغربي بالتحديد عن وجود نظام ديمقراطي، وبالتالي فإن هذه السمة تجعلها تحظى بدعم الغرب وتقديره ولاسيما للأنظمة التي تعاني من صعوبات وتحديات داخلية. وفي هذه الدول إلا في حالات استثنائية فإن الحزب الواحد هو الذي يحدد مرشحيه إلى البرلمان وهذا الحزب الواحد هو الذي يرشح سيده الوحيد إلى سدة الرئاسة.

فالشعوب العربية لا تشارك في صنع القرار أو القوانين، وليس لها أن تخضعها للمراقبة، فالحكومات العربية هي المعنية وحدها ببناء القوانين وإصدار التشريعات، والشعوب معنية إلى حدّ كبير باحترامها وتنفيذها. فالمواطنون مطالبون باحترام هذه القوانين طوعا أو كرها، وعندما يخرجون عن هذا التصور فإنهم يعاملون بوصفهم عملاء للخارج وأعداء للأمة والوطن.

وفي هذا الجو المفعم بالخطر وغياب الأمن والشرعية، فإن المواطن لا يجد أمامه خيارا آخر سوى التخلي عن حريته والتنازل عن كرامته من أجل أمنه الشخصي(3). فالدولة- بمعنى النظام السياسي القائم - لا تحافظ على وجودها من خلال الاقتراع الحر، بل تعتمد مبدأ القوة العسكرية أو الأمنية، ومن هذا المنطلق فإنه يجب علينا أن نفهم لماذا تلجأ الحكومات إلى اغتصاب حقوق الإنسان وانتهاكها ولماذا أصبح انتهاك هذه الحقوق قاعدة في السلوك السياسي في أغلب النظم السياسية العربية.

وفي دائرة هذه الصورة لغياب الحق والقانون فإن الشعوب العربية تعاني من نهوض مؤشرات الفقر فيها إلى الحدود القصوى عالميا. وبالتالي فإن أغلب الدول العربية (غير الخليجية) تنظر المساعدات الخارجية. وفي هذه الظروف تتضاءل تدريجيا الإمكانيات التربوية في تحقيق فرص حقيقية للتعليم، وغالبا ما يجد الطلاب أنفسهم مكرهين لمتابعة دراساتهم في فروع واختصاصات علمية غير مجدية في المستوى الاقتصادي والاجتماعي. ويمكن الإشارة هنا أيضا إلى ارتفاع مستوى ومعدلات الأمية التي تبلغ أحيانا 70% بين الإناث في بعض البلدان.

وعندما ننظر اليوم في العالم المتقدم نجد أن التعددية السياسية قد أصبحت اليوم عقيدة سياسية راسخة في الغرب وفي البلدان المتقدمة. وهذه التعددية هي التي توجد في أصل الكرامة الإنسانية واحترام حقوق الإنسان في التعبير وفي المشاركة السياسية. ومع أن الزعماء العرب يعلنون عن هذه التعددية فإنهم في العمق يتنكرون لأي صيغة من صيغ التعدد السياسي التي تفرض نفسها في مختلف بلدان العالم. وهذا التنكر والرفض المبطن يفسر لنا غياب التعددية السياسية فعليا وحضورها شكليا. لقد واظب كثير من الحكام العرب على تغييب هذه التعددية تحت ذريعة العمل على تحقيق الوحدة الوطنية أو ذريعة التحدي الصهيوني، أو ذريعة التنمية والتعمير، أو الصمود والتصدي، وغير ذلك من الذرائع التي لا تصمد أبدا للمنطق والاختبار والنظرة الموضوعية.

فالنظام السياسي العربي الراهن يعاني من التخلف والجمود حيث تسوده التشريعات السياسية الموروثة منذ مئات السنين، لقد حرم هذا النظام الإنسان العربي عمدا من حقوقه الأساسية وحرمه من أبسط المبادئ التي نادت بها الشرائع الدولية لحقوق الإنسان، وهو " نظام تسلطي يقوم على الاستبداد وخنق القيم الديمقراطية ولاسيما في مجال الحياة الثقافية"(4).

وتحت تأثير هذا المنع والقمع والحرمان بقي مفهوم المواطنة بمعانيه السياسية والأخلاقية مفهوما غامضا ومرفوضا ومصادرا. والفرد في العالم العربي لم يصبح مواطنا بعد لأنه ما زال يفتقر إلى الروابط الإنسانية والحقوقية مع الدولة ومؤسساتها. إنه فرد من القطيع والرعية يحظى برعاية الدولة وحمايتها واحتقارها، إنه عبء ثقيل على الكيان السياسي، والحاكم في نظر الرعية هذه هو من تُستجدى عنايته وتُنتظر رحمته ويطمع في غدق عطائه، إنه ولي النعمة ورب النقمة ومفتاح الرحمة في نظر رعاياه وقطعانه.

4- خاتمة:

فالمواطنة في العالم العربي ما زالت تختنق بعوامل الاستبداد وعناصر الاستعباد. وقد بيّنا أنه لا يمكن الحديث أبدا عن مواطنة في زمن القمع والإكراه. والإنسان العربي يحتاج حتى في أحسن الأحوال وأفضل الظروف الممكنة للديمقراطية يحتاج إلى قَدَرِ ثقافي جديد إلى" تسونامي" ثقافية هائلة تنتقل به إلى مناخ ديمقراطية حيث يتأصل مفهوم المواطنة. " فالمجتمع العربي " والعالم الثالث بشكل عام" لا يزال يحتاج إلى تعميق الوعي المؤسسي والقانوني الذي يدعم الحس الوطني ويقلص الحاجة إلى الضوابط البيروقراطية على مختلف الصعد(5).

ويلاحظ في هذا السياق أن بعض الدول العربية تعمل على بذل جهود سياسية وتربوية كبيرة في بناء الإحساس الموضوعي بالمواطنة. " لكن معظم هذه الجهود تدور في نطاق الشعارات المثالية التي ينتظر أن تتحول في زمن ما إلى ممارسات. ومن المتوقع أن يطول الوقت للاقتراب من ذلك الهدف الطموح. خصوصا وأن بعض الشعارات تحتاج إلى أن يجلى عنه الغموض كي يقترب من عقل جماهير الناس الذين لا يزالون يعانون وضعا صعبا من الأمية الثقافية والمؤسسية والحضارية والسياسية. ولعل من العقبات التي تعرقل عملية التطور الحضاري للشخصية العربية عموما التضاد بين التبعية الذهنية العشائرية ومتطلبات العقل الحضاري الذي لا يمكن أن تستغني الدولة عنه لضمان سيادتها وتأمين الاعتراف الجماهيري بها ومؤسساتها(6).

إن ممارسة المواطنة الديمقراطية يفترض أن يكون المواطنون متساويين فيما يتعلق بالحقوق وأن يمتلكوا القدرة على تحمل المسؤولية والمشاركة في اتخاذ القرارات السياسية وأن يشاكوا أيضا في فعاليات المؤسسات السياسية. ومن الواضح في هذا السياق أن عالمنا المعاصر يفيض بمختلف الشروط والعناصر التي تمنع على الأفراد ممارسة المواطنة. فمبدأ المساواة في الحقوق يصطدم في واقع الأمر بتحديات كبيرة تتمثل في البطالة واللاتسامح والعنف والنفي والإقصاء والاستبعاد والإخفاق المدرسي وكثير من أشكال التمييز العنصري والإقليمي وغياب الأنظمة الديمقراطية. ومن ثم فإن مشاركة المواطن بالشأن العام يصطدم بجعله الكبير للحقوق أو باللامبالاة وغياب الإحساس بالمسؤولية فيما يتعلق بقضايا الشأن العام في المجتمع التنمية وتعزيز المؤسسات العامة.

***

أ. د. علي اسعد وطفة

جامعة الكويت- كلية التربية

........................

مراجع المقالة:

(1) - نعني هنا الأنظمة الشمولية دون غيرها في البلدان العربية.

(2)- رضوان السيد: الحريات الأكاديمية في جامعات سوريا ولبنان، ضمن الحرية الأكاديمية في الجامعات العربية، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي عقدها منتدى الفكر العربي، 27-28 سبتمبر أيلول عمان، 1994،(صص 73-91) ص 91.

(3) -NAHIMANA(F). Emergence d’un Etat, Paris, L’Harmattan, 1993, pp. 247-263

(4)- مبدر لويس، المثقفون العرب والمستقبل العربي، الوحدة، عدد101،فبراير /مارس، 1993،صص(175-185)صص178.

(5)- قيس النوري، حول بنى السلطة والثقافة والأزمة العربية، آفاق الديمقراطية والتركيب الثقافي العربي، الفكر العربي، العددان 85 – 86، 1996،صص 38-48، ص. 47

(6) - قيس النوري، حول بنى السلطة والثقافة والأزمة العربية، المرجع السابق، ص. 48

 

بقلم : ديفيد والتنر تووز

ترجمة: د. محمد عبدالحليم غنيم

***

يجب أن يصبح العلم متناغمًا مع المحادثات الدقيقة التي تسود الحياة كلها، من العصور البدائية إلى الحاضر

الحياة ليست حلما. حذر! حذر! حذر!

نسقط على الدرج لنأكل الأرض الرطبة.

أو نتسلق إلى حافة الثلج بأصوات زهور الأضاليا الميتة.

– من قصيدة “المدينة التي لا تنام” لفيدريكو غارسيا لوركا (1898-1936)

ترجمة: روبرت بلي

كنت أقف وسط خليط من الوحل والروث بجوار حظيرة الألبان، أتحدث إلى الكاميرا عن مرض جنون البقر- كان ذلك في أوائل التسعينيات، عندما كان المزارعون وعامة الناس والسياسيون في حالة من الذعرالشديد  بشأن المخاطر المحتملة المرتبطة باعتلال الدماغ الإسفنجي البقري (BSE)- عندما اقترب مني إحدى العجول، وصدمني بأنفه، وشرع  في لعق ملابسى، تراجع طاقم الأخبار بعيدًا، وهم يراقبون السياج المعدني الثقيل خلفهم.

- هل هم بخير؟ هذا أمر طبيعي؟

ضحكت وخدشت البقرة بين قرنيها. "طبيعي تماما." إنها فقط تحب الملح الموجود على ملابسي. ثم تساءلت إذا كان ذلك صحيحًا. هذا ما تعلمته في كلية الطب البيطري. لقد كنت في الأساس بديلاً بشريًا لكتلة الملح التي يستخدمها العديد من المزارعين. أم أن هذا التفاعل بين الأنواع كان أكثر من مجرد السعي وراء الاحتياجات الفسيولوجية الأساسية؟

في الآونة الأخيرة، بعد أن استخدمت خرطوم حديقة لإخراج فأر من جحره في مزرعة الدجاج، ثم ضربته على رأسه بالطوب، غمرني حزن عميق. اقترحت ابنتي أنني كنت أعبر عن الحزن الذي شعرت به بعد تشخيص مرض السرطان الذي تلقته زوجتي في الأسبوع السابق. ذلك ربما يكون صحيحا. ومع ذلك، فإن هذه التجربة مع الفأر أثارت أيضًا ذاكرة قوية من أيامي كطالب بيطري. لقد طلب مني أحد الأساتذة التخلص من خروف حديث الولادة مشوه خلقيًا. لا أذكر التعليمات التي أعطيت لي. لا أذكر التعليمات التي أعطيت لي. وفي غمرة شعور في غير محله بالشك الأخلاقي، لا بد أنني استوعبت فكرة أن الموت المفاجئ أكثر إنسانية من الموت المستمر. أتذكر أنني أمسكت بالحمل، الذي كان زلقًا بسبب سوائل الولادة، من قدميه الخلفيتين، وأرجحته في دائرة، وحطمته على جدار خرساني. هل كانت مشاعري اللاحقة حول هذه الأحداث تعاطفًا مبالغا فيه وفى غير محله؟

ماذا يعني عندما تتخبط قطة في حضني، وأداعبها على الفور، أو أضحك من كلب يتبع صاحبه، الذي يحمل كيسًا صغيرًا من فضلات الكلاب؟ هل يجب على القط والكلب الحصول على مكان مريح وآمن للراحة أو ممارسة بعض التمارين أو تناول الطعام؟ عندما تستقر ستة دجاجات في الفناء الخلفي لدي في صف واحد خلف السياج السلكي للاستماع إلي وأنا أغني بوب ديلان أو رافي، ما الذي يسمعونه؟ إذا قرأت أكثر من مجرد احتياجات حيوانية بسيطة في هذه الأحداث، فهل أقوم بالتجسيم العاطفي؟  هل أقوم بتعقيد ما هو في الأساس علاقات بسيطة دون داعٍ؟ كنت أعتقد ذلك.

باعتباري عالم أوبئة متخصص في الأمراض التي تتشاركها الحيوانات الأخرى مع البشر، فقد وجدت نفسي في كثير من الأحيان أخوض في مستنقع من المعضلات، التي لم تكن أكثر إرباكًا مما كانت عليه عندما كنت، قبل بضع سنوات،حيث  ناضلت مع قضية أليس في بلاد العجائب المتعلقة بالعلاقات الإنسانية مع الحشرات. الحشرات مجرد حيوانات. والأطباء البيطريون، بموجب القانون والميل، مجبرون على رعاية رفاهية جميع الحيوانات. إذن… ماذا؟

في تدريسي وأبحاثي، كنت أضع عادة العلاقات بين الإنسان والحيوان، بما في ذلك تلك التي تتعلق بالمفصليات، في ضوء الأمراض التي تنتقل بين الحيوانات الأخرى والبشر. على سبيل المثال، قمت بدراسة مرض لايم الذي ينقله القراد، وكذلك فيروس غرب النيل* الذي ينقله البعوض، ومرض النوم الذي تنقله ذبابة تسي تسي، وداء الليشمانيات الذي ينتقل عن طريق ذباب الرمل. كان عملي هو وصف دورات حياة هذه الأمراض، ومن ثم إيجاد طرق فعالة لقتل نواقلها.

لكن الحشرات ليست مجرد ناقلين يحملون رسائل عن الطفيليات والمرض والموت. وكما أكدت العديد من مؤتمرات الأمم المتحدة، فهي أيضًا مصدر مهم ومستدام للغذاء لمليارات البشر.

وأكثر من هذا.

لم يفكر العديد من العلماء مرتين في استخدام الحشرات لاستخلاص استنتاجات حول البشر

في عام 1909، اقترح توماس هانت مورغان أن حشرة ثنائيات الجناح Drosophila melanogaster ستكون مرشحًا مثاليًا للدراسات الوراثية. تنجذب ذبابة الفاكهة إلى الخل ومنتجات الفاكهة الحمضية الأخرى. ومن ثم يشار إليها عادة باسم ذباب الفاكهة. تتكاثر بسرعة وليس لديها متطلبات غذائية صعبة. وحتى القرن الحادي والعشرين، كانت هذه الجينات أساسًا لكثير من فهمنا للقواعد الجينية للأمراض البشرية والحيوانية والنباتية، بالإضافة إلى علاجاتنا لها. تكريمًا لخدمتها العظيمة للإنسانية، كانت ذبابة الفاكهة من بين الحيوانات متعددة الخلايا الأولى التي تم تسلسل جينومها بالكامل. لم يفكر العديد من العلماء مرتين قبل استخدام الحشرة لاستخلاص استنتاجات حول البشر. في الواقع، يشير نيكولاس شتراوسفيلد وفرانك هيرث، في بحث نشر في مجلة ساينس عام 2013، إلى أوجه تشابه عميقة في كيفية تنظيم الدماغ للسلوك في المفصليات (مثل الذباب وسرطان البحر) والفقاريات (مثل الأسماك والفئران والبشر).

إذا كان بإمكاننا التعرف على الإدراك البشري والسلوك وعلم الأمراض من خلال دراسة الحشرات، فكيف يؤدي ذلك إلى طمس الخطوط الفاصلة بين "نحن" و"هم"؟

ومن خلال إجراء مقارنات جينية بين البشر والأنواع الأخرى، يمكننا حساب الحمض النووي أو خيوط الجينات (حزم من الحمض النووي ذات الوظائف المعروفة). ومن الناحية الوبائية، يمكن مقارنتها بإحصاء الأفراد أو المجموعات مثل الأسر.

وتشير الدراسات الجارية حول التشابه الجيني بين الأنواع إلى أننا يمكن أن نكون، في بعض النواحي على الأقل، متشابهين وراثيا بنسبة 80 إلى 90 في المائة مع القطط والكلاب والجرذان والماشية. وأقل قليلاً بالنسبة للدجاج، ونشبه الحشرات المختلفة بنسبة 40 إلى 60 في المائة، بما في ذلك ذباب الفاكهة.

يعيدني هذا إلى إعادة فحص علاقتي بالبقرة في الحظيرة، والقطة في حضني، والدجاج الذي يبدو مفتونًا بغنائي، وحزني على قتل الحمل والفأر (ولكن ليس البعوض والذباب). لقد تطورت بعض هياكلنا الجينية ــ تلك التي تترجم إلى سمات وظيفية أساسية للحفاظ على الحياة ــ من أسلاف مشتركين منذ ملايين السنين. هذه هي أقدم ذكرياتنا الجماعية، وهي مدمجة في جوهر هويتنا. عندما أنظر إلى عينى قطة، أو حتى دجاجة، وعندما تعيد النظر، هل نتعرف على هذه الذكريات الجينية المشتركة وغير المعلنة والمنسية؟

ماذا عن الكائنات الحية التي ترى العالم بطريقة مختلفة وغير بصرية؟ في العقود الأولى من القرن العشرين، اقترح جاكوب فون أوكسكول أن كل كائن عضوي له عالمه المتصور الخاص به. منذ ذلك الحين، اكتشف العلماء أن هذه البيئة، كما أطلق عليها أوكسكول، تم إنشاؤها بواسطة حواس بالكاد يمكننا تخيلها، ناهيك عن فهمها. لن أغامر هنا بحياة الفطر أو الأشجار. أجد الأمر مربكًا وصادمًا بدرجة كافية عندما أفكر في مسؤولياتي تجاه الكائنات الحية التي وصفناها بالحيوانات.

أين تكمن الذكريات التي أتقاسمها مع هذه الأنواع الأخرى - ليس فقط حيوانات المزرعة والحيوانات الأليفة والحيوانات الضخمة التي كانت الاهتمامات الرئيسية في حياتي المهنية - ولكن أيضًا أصغر المخلوقات الموجودة تحت قدمي، على بشرتي وفي الهواء؟ ما هي الرعاية والاهتمام الذي أدين لهم به؟ بالتأكيد ليس فقط التأكيد الغامض على أنه لا ينبغي لنا أن نجعل الحيوانات غير البشرية تعاني. كيف نعرف أننا نواجه صعوبة في فصل الألم عن المعاناة لدى البشر؟

لا أستطيع أن أجد الكلمات للتعبير عن هذه الذكريات:  هذا الفرح، هذا الحزن، هذه المعرفة.

أيًا كان الإجراء الذي أقوم به، سواء أمشي أو آكل أو أخرج الفضلات، فإنه يتكبد حياة الآخرين تكلفة، سواء عن طريق قتلهم وأكلهم مباشرة، أو عن طريق تناول الأطعمة التي كان من الممكن أن يعيشوا عليها. التأثير الأكثر تطرفًا الذي أحدثته حياتي على الأنواع الأخرى هو الانقراض، ليس فقط وجودهم الجسدي، ولكن أيضًا ذكرياتهم، سواء تلك المكتسبة خلال حياتهم أو تلك المتجسدة في الحمض النووي الخاص بهم، وبعضها جزء من الحمض النووي الخاص بي. عندما تموت الكائنات الحية وتختفي، ما هي مسؤولياتي تجاه تلك الذكريات؟

ذات مرة، قال أحد زملائي إن انقراض أي نوع من الحيوانات خلال حياتنا العملية يشكل فشلاً عالميًا واسع النطاق للرعاية البيطرية. إن أي تقرير عن انقراض الأنواع من شأنه ـ بل وينبغي له ـ أن يثير شعوراً بالحزن والخسارة والفشل المهني.

فماذا إذن عن التقارير عن "الحشرات"، والموت العالمي لتريليونات الحشرات الفردية، وربما الملايين من الأنواع، والتي لم نلاحظ أو ندرس أو نصنف الكثير منها بعد؟ هل من واجبي الأخلاقي أن أحزن على فقدان المجهول المجهول؟

أين يقع الخط الفاصل بين التفكير الجماعي والانتقادات التصحيحية لأقراننا؟

في المناقشات العامة، غالبًا ما يرتبط الانقراض بكلمة الأنواع. حتى وقت قريب، كنت أفكر بشكل فضفاض إلى حد ما في مفهوم الأنواع. مثل جميع التصنيفات، فإن فكرة أن الكائنات الحية يمكن فرزها وتصنيفها بشكل نهائي إلى مربعات يمكن أن تكون مفيدة. بالتأكيد، كان من المهم بالنسبة لي على المستوى المهني أن أتمكن من التمييز بين القطط والكلاب والأبقار والأغنام والخنازير والفيلة والزرافات. وبمجرد أن نتعثر في ما هو أبعد من الأفراد في البيئة المعقدة للحياة الحيوانية، فإن نظام التصنيف الذي ابتكره المتحدثون اللاتينيون الأثرياء من أوروبا يصبح أكثر صعوبة. وكما لخصت لولو ميلر مؤخرًا في كتابها لماذا لا توجد الأسماك (2020)، فقد أدى التصنيف الليني إلى إدامة الممارسات الثقافية الوحشية والقاسية للتفوق العنصري والجنسي والجسدى.

في كثير من الأحيان، ادعى العلماء علنًا أن العلم يهدف إلى الموضوعية: إذا وضعنا جميع ملاحظاتنا في نفس قاعدة البيانات، فهل ستصحح ميولنا وتحيزاتنا بعضها البعض؟ أين يقع الخط الفاصل بين التفكير الجماعي والانتقادات التصحيحية لأقراننا؟

كيف يمكننا أن نفكر بشكل قاطع في العفن الغروي الذي يتصرف في بعض الظروف كالحيوانات، وفي ظروف أخرى يتصرف كالنباتات، والتي يوصف بعضها بأنها خلايا مفردة عملاقة تحتوي على آلاف النوى؟ هل نجمعهم معًا في صندوق من بقايا الطعام غير محدد المعالم؟ وماذا عن الدينوفلاجيلات، التي بذلت جهدًا كبيرًا في شرحها لطلابي وزملائي، عندما ظهرت "أزهار" بحرية سامة تهدد صحة البشر والحيوانات الأخرى؟بعضها يقوم بعملية التمثيل الضوئي، وبعضها يأكل الفرائس، والبعض الآخر يتعايش في الشعاب المرجانية. يبدو أن علماء التصنيف قد تجنبوا التصنيفات الفنية الأكثر إثارة للجدل من خلال الإشارة إلى الفروع الحيوية، وهي أنواع حديثة تنحدر من سلف مشترك. وحتى تلك التصنيفات مثيرة للجدل.

يرتبط التصنيف ارتباطًا وثيقًا بالطريقة التي نفكر بها في العلاقة بين العلم والعالم الذي نعيش فيه. يمكن إرجاع العديد من مفاهيمنا حول العلم إلى جندي نبيل وفيلسوف طبيعي من القرن السابع عشر. في خطابه حول المنهج (1637)، أعلن رينيه ديكارت أنه يوجه أفكاره:

بطريقة منظمة؛ البدء بأبسط الأشياء التي يسهل التعرف عليها، ثم الصعود تدريجيًا، إذا جاز التعبير، إلى معرفة أكثرها تعقيدًا؛ وإقامة النظام العقلي، حتى لو لم يكن للأشياء أولوية طبيعية على بعضها البعض...

إن ما نعتبره علمًا في القرن الحادي والعشرين هو تقريبًا كل هذا النشاط الديكارتي القائم على الأشياء.

نعتقد أن أفضل العلوم يتم إجراؤها في المختبر. وقد زعم بعض علماء الأوبئة أن الدراسات الأكثر موثوقية هي التجارب العشوائية المنضبطة مزدوجة التعمية، حيث يتم اختيار الحيوانات أو البشر والأشياء الصيدلانية بشكل عشوائي. وكما هو متوقع، فإن مثل هذه الدراسات تعمل بشكل جيد في المختبرات أو المستشفيات، حيث يمكن التحكم في التفاعلات مع البيئة المحلية (نظريًا على الأقل). تقدم هذه التصميمات البحثية أدلة ضعيفة في أحسن الأحوال حول فعالية التغذية أو اللقاحات أو الأدوية، على سبيل المثال، في العالم المعقد الذي لا يمكن السيطرة عليه والذي نعيش فيه.

تواجه العلوم المبنية على الكائنات تحديات حتى مع أبسط النتائج الثنائية للأفراد. كيف يمكننا تحديد ما إذا كان الشخص يعاني من الإسهال أم لا؟ كنت أقول لطلابي إنك تعرف أن شخصًا ما مصاب بالإسهال إذا أخذ برازه شكل الوعاء الذي تم وضعه فيه. كيف نحدد الصحة؟ اقترحت ابنتي عندما كانت مراهقة أن الشخص السليم يتعافى من المرض بسرعة أكبر من الشخص الذي لا يتمتع بصحة جيدة. هذه التعريفات قابلة للتطبيق، ولكن من غير المرجح أن تجدها في أي منشورات علمية رسمية.

تواجه الأساليب الديكارتية صعوبة أكبر في الإجابة على الأسئلة المتعلقة بتغير النظم البيئية الاجتماعية أو شلالات الانقراض. ما هو نوع العلم الذي يمكن استخدامه لدحض أو إثبات أساليب تحقيق أهداف التنمية المستدامة؟  من الصعب أن نتصور، ومن المستحيل أن نثبت باستخدام العلوم التقليدية المبنية على المختبرات، أن اختفاء مختلف المفصليات أو الأشجار أو الضفادع يرتبط بصحة الإنسان وبقائه.

ليس الكون، كما ألمح ديكارت، مجرد مجموعة من "الأشياء". الكون موجود بفضل شبكة معقدة من العلاقات بين الأشياء. ومع ذلك، وبعيدًا عن القوى الواضحة بشكل صارخ مثل الجاذبية، فقد فشل علمنا المبني على الأشياء في معالجة العلاقات بين كل تلك الأشياء. اقترح باري سميت، رئيس الأبحاث الكندي السابق في التغير البيئي العالمي، أننا ركزنا في بعض الأحيان بشكل حصري على ما نسميه بالعلوم الصعبة (وهذا يعني أن العلوم الاجتماعية هي علوم لينة) ولم يتم إيلاء الاهتمام الكافي للعلوم الصعبة للغاية التي تعالج التغير الاجتماعي في سياق التغير البيئي. حتى عندما يتعلق الأمر بالجاذبية، فإننا نبحث باستمرار عن جسيم يمكن أن تتواجد فيه هذه القوة غير المرئية.

لقد تشبث الكثير منا بهذا العلم الاختزالي القائم على الموضوع كوسيلة للتحوط ضد العقيدة الدينية والسياسية، ولأنه «ينجح» في بعض الظروف. لقد أتاحت لنا العلوم المبنية على الكائنات أن نصف، بتفاصيل دقيقة، هياكل الفيروسات والكلاب والأشجار والكواكب والفراشات. يمكننا إجراء عملية جراحية على قطة ابتلعت زينة عيد الميلاد أو على بقرة تتطلب عملية قيصرية. يمكننا أن نصف بتفاصيل رائعة الرقصات والمعارك بين الطيور والنحل والغوريلا والفيلة والكنغر والبشر. نحن مندهشون من الطرق العديدة المختلفة، والتي لا يمكن تصورها في بعض الأحيان، التي ترى بها الكلاب والنحل والخفافيش العالم الذي نتقاسمه العيش . من خلال قلب تلسكوباتنا والنظر في أسرار الأجسام، يمكننا إنشاء لقاحات ضد بروتينات السنبلة، وتغيير جينومات الحشرات بحيث لا يمكنها حمل الأمراض التي تهم الإنسان، ومراقبة البريونات، التي لا تعيش إلا بمعنى الاعتماد المشترك، والتي قد يسبب أو لا يسبب المرض. يمكننا أن نكتشف، ولو بشكل عابر، ما نعتقد أنه أصغر جسيمات المادة والطاقة في الكون؛ نطلق عليها أسماء مثل الكواركات (من رواية جيمس جويس التي صدرت عام 1939 بعنوان Finnegans Wake) والبوزونات (التي سميت على اسم عالم الفيزياء الهندي ساتيندرا ناث بوز).

أليست القدرة على التنافس مع العلم المبني على الموضوع يعد تقدمًا على اليقين المبني على الغريزة أو المعتقد أو الأيديولوجية؟  يمكننا على الأقل البحث عن أنواع مختلفة من الأدلة أو المعقولية الرياضية لتقديم الحجج والحجج المضادة. إن هذه الإنجازات التي أطلق عليها توماس كون «العلم الطبيعي» تعتبر كبيرة. ولكن إذا كانت فكرة الأنواع محل خلاف، وإذا استمرت الذكريات بطريقة ما بين الكائنات الحية، وإذا كنا أكثر من مجرد مجموعة من الأشياء، بل شبكة واحدة متشابكة من الحياة، فما الذي يقع بين فضاءات كل هذه الأشياء. ما هو الشيء الذي ينقرض إن لم يكن الأنواع؟

أنا مظهر من مظاهر الحوار بين الكائنات الميكروبية التي تتحاور مع كل شيء آخر

إذا كان بحثي في العلاقات المتضاربة بين البشر والمفصليات يتحدى افتراضاتي حول الحيوانات والأنواع، فإن البكتيريا والعتائق والفطريات والأشياء شبه الحية التي نسميها الفيروسات تتحدى افتراضاتي الأعمق حول الذات والوجود.. وتتشارك هذه الكائنات المادة الجينية ــ ذكريات تجارب الماضي ــ فيما بينها، مما يدفع البعض إلى القول بأن تعدادها العالمي، وفقا لبعض المعايير، هو نوع واحد، أو ربما حتى كائن حي واحد. تتكون أجسامنا من تريليونات الخلايا، والعديد منها ينحدر من نسل تطوري لكائنات بدائية وحيدة الخلية. طوال التطور، أدخلت المواد الوراثية الفيروسية نفسها في الجينوم البشري. كما أن أجسامنا تستضيف عشرات التريليونات من مجموعة متنوعة من الكائنات وحيدة الخلية التي أطلق عليها عالم الأحياء الدقيقة الحائز على جائزة نوبل جوشوا ليدربيرج اسم الميكروبيوم. يتواصل أعضاء هذا الميكروبيوم مع بعضهم البعض باستخدام ما يسمى الآن باستشعار النصاب، ويتواصلون مع الخلايا التي تشكل أجسامنا من خلال لغات مبنية من جزيئات تعبر جميع حدودنا الوقائية التي تحدد نفسها بنفسها. أعضاء هذا الميكروبيوم، في محادثاتهم مع خلايا أجسامنا، يؤثرون على مناعتنا، وسلوكنا، وحالتنا الغذائية والصحية، وحالتنا العقلية. نحن مخلوق من الكائنات الحية الدقيقة لدينا، ونحمل، في شكل مادي، ذكريات عميقة عن الحياة على الأرض.

تعد الميكروبات محلية بشكل مكثف في آن واحد، وهي محادثة من خلال الأكل والتغوط مع المناظر الطبيعية التي نعيش فيها، وعالمية، حيث تنخرط في محادثات ميكروبية بين مجموعات من الفيروسات والبكتيريا والعتائق والفطريات التي تنتقل عن طريق التجارة والهجرة وتيارات الرياح والمياه.أنا تجسيد لمحادثة بين الكائنات الميكروبية، التي تتحدث مع كل شيء آخر: البقرة التي تلعق ملابسي (التي يتحدد ميكروبيومها جزئيًا بواسطة دقيق الصويا والحبوب من المناظر الطبيعية الأخرى)، وتريليونات البكتيريا الموجودة في السماد الموجود على حذائي، القطة التي في حجري، والحمل المشوه، والفأر الذي يحفر في حظيرة دجاجي، والدجاج المصطف عند السياج، يستمع إلى غنائي.

اعتاد بعض طلابي أن يجدوا أنفسهم مشلولين بسبب مخططات السباغيتي التي أنشأناها للروابط بين الكائنات الحية، والأمراض، والديناميات الاجتماعية، والتغير البيئي والمناخي. إذا كان كل شيء مرتبطاً بكل شيء آخر ــ ليس بطريقة غامضة في العصر الجديد، ولكن من حيث التأثيرات والنتائج التي يمكن ملاحظتها، وإن كان من الممكن التنبؤ بها بشكل غامض ــ فكيف يمكننا أن نتصرف؟

أنا لا أحتوي على الحشود. أنا الحشود.عندما أتفاعل – جراحيًا، طبيًا، جسديًا، وبائيًا – مع الكائنات الحية الأخرى، أنا لا أحارب مرضًا وبائيًا أو خللًا جسديًا.أنا لا أحتاج إلى تسليح أفضل.أحتاج إلى تسهيلات أكبر مع لغات متعددة الأنواع. إنني منخرط في محادثة عبر الانقسامات الثقافية مع جموع أخرى، والتي بدأنا للتو في استكشاف لغاتها وأنماط إدراكها. وبالنظر إلى هذه الحدود البيولوجية الجديدة، أعرب ليدربيرج عن أسفه لأن علم الأحياء "مثقل بالفعل بالحقائق لدرجة أنه معرض لخطر التعثر في انتظار التقدم في المنطق واللسانيات لتسهيل تكامل التفاصيل".

رفض هوكينج لاحقًا فكرة أن القوانين غير المشروطة تحكم الكون الشبيه بالآلة

منذ وقت ليس ببعيد، افترض معظم الفيزيائيين افتراضًا غير معلن مفاده أن الكون متماسك ويعمل وفقًا لقوانين، بينما تحدد طبيعة وشكل الكون الذي ندركه، فهو موجود بطريقة أو بأخرى خارج الزمان والمكان. في كتابه "تاريخ موجز للزمن" (1988)، تساءل ستيفن هوكينج:

ما الذي ينفخ النار في المعادلات ويصنع الكون الذي يمكنهم وصفه؟ … لماذا يتكبد الكون كل عناء الوجود؟ …

[إذا اكتشفنا نظرية كاملة، فمع مرور الوقت يجب أن تكون مفهومة على نطاق واسع للجميع، وليس فقط لعدد قليل من العلماء. وعندها سنكون جميعًا، فلاسفة وعلماء وأشخاصًا عاديين، قادرين على الانضمام إلى المناقشة حول سبب وجودنا والكون. إذا وجدنا الجواب على هذا، فسيكون ذلك هو الانتصار النهائي للعقل البشري – لأننا عندها سنعرف أفكار الله.

لكن في كتابه "أصل الزمن: النظرية النهائية لستيفن هوكينج" (2023)، ذكر توماس هيرتوغ، صديق هوكينج ومعاونه الوثيق، هذه المحادثة مع هوكينج  فىعام 2002:

تخطى ستيفن محادثته الصغيرة المعتادة وبدأ العمل على الفور.

لقد غيرت رأيي. [أ] التاريخ الموجز [للزمن] مكتوب من منظور خاطئ...

إن وجهة نظر عين الله [التي أخذها موجز التاريخ] مناسبة للتجارب المعملية مثل تشتت الجسيمات حيث يقوم المرء بإعداد الحالة الأولية وقياس الحالة النهائية. ومع ذلك، فإننا لا نعرف ما هي الحالة الأولية للكون، وبالتأكيد لا يمكننا تجربة حالات أولية مختلفة، لمعرفة أنواع الأكوان التي تنتجها…

وقال إن الفشل في إدراك ذلك يقودنا إلى طريق مسدود. نحن بحاجة إلى فلسفة جديدة [للفيزياء] في علم الكونيات.

بدلًا من البحث عن نظرية شاملة يمكنها تفسير كل شيء، رفض هوكينج لاحقًا فكرة أن القوانين غير المشروطة تحكم الكون الشبيه بالآلة. كان فهمه الجديد هو أن «الكون هو نوع من الكيانات ذاتية التنظيم، حيث تظهر جميع أنواع الأنماط الناشئة... [وأنه] إذا كان هناك إجابة لسؤال الوجود العظيم، فيجب العثور عليها في هذا العالم. "، وليس في بنية من المطلقات وراءه." في الواقع، هذا يعني أننا إذا بدأنا من حيث نحن وتلمسنا الكون وراءنا، فإننا لا نكتشف نظرية نهائية لكل شيء. وخلص هوكينج إلى القول: "نحن نخلق الكون بقدر ما يخلقنا".

لقد أدرك الكثير منا في علوم الحياة التطبيقية، وخاصة في مجال أوبئة الأمراض الحيوانية المنشأ والعلاقات بين صحة البشر والحيوانات الأخرى والنظم البيئية، منذ فترة طويلة تحديات إدارة النظم البيئية من الداخل إلى الخارج. ومن المطمئن، من وجهة نظر علمية، أن الفيزيائيين يتوصلون إلى استنتاجات مماثلة.

إذا عدنا إلى الوراء قليلاً، فليس من الخيال أن نرى أن ما تسميه بعض الثقافات الكائنات المقدسة، أو البساتين، أو الينابيع، أو الوديان، أو الأرواح، أو الآلهة، هو مزيج من قوى الجاذبية (غير المرئية)، والمحادثات المتجددة والشخصية التي تستشعر المجتمع بين الميكروبات.

إن قوى الجاذبية، بناقلاتها الكهرومغناطيسية القوية والضعيفة، تربط كل شيء في كل مكان، مما يدعم ويشكل الكون الذي نعيش فيه. في التصورات الاستعمارية الإمبراطورية، ليس فقط تلك الخاصة بالأوروبيين وأحفادهم في مرحلة ما بعد التنوير، ولكن أيضًا تلك التي لا تعد ولا تحصى من "الآشوريين"، والبابليين، والمصريين، والمنغوليين، والفرس، والرومان، والروس، والألمان، والموريين - هذه القوى الغامضة كانت تسمى الآلهة. لقد تم تكريم الكائن العضوي الذي يخرج من العالم المصغر منذ فترة طويلة في الأماكن المقدسة والغذاء والماء والحيوانات الروحية والناس.

بما أن الوجود والكون خالقان مشاركان، ولأن المستقبل غير مؤكد، فإن كل ما نقوم به مهم، ومهمتنا كبشر هي أن نستكشف، بكل الطرق الممكنة، ما يعنيه هذا.

في هذا الفهم للكون، لا توجد قوانين صادرة من خارج العالم الذي نعرفه، ولا توجد ألواح أو كتب مقدسة أو نبوءات أو نظريات نهائية صممها علماء الرياضيات أو الفيزيائيون أو علماء الأحياء يمكنها تفسير كل شيء.

إذا بدأنا بمكاننا، وما نلاحظه، وما (نعتقد) أننا نعرفه – العلاقات والتواصل غير اللفظي والمحادثات بين الأبقار والقطط والدجاج والجرذان والحملان والقراد والبكتيريا – يمكننا أن نبدأ في إنشاء علم غير مهووس بالأشياء يتناسب مع المهمة، نسخة موسعة ومتعددة الأنواع من علم ما بعد الطبيعي.

بالنسبة لأولئك الذين يبحثون عن معنى في العالم، لا أستطيع أن أفكر في بداية أفضل من ملاحظة أنه بما أن الوجود والكون خالقان مشاركان، والمستقبل غير مؤكد، فإن كل ما نقوم به مهم.

أعود إلى وجودي وسط هذا الدليل المادي: الأبقار والقراد وذباب الفاكهة والقطط والدجاج والحملان والبكتيريا. نسعى معًا إلى إيجاد طرق للحفاظ على ذكرياتنا الجماعية بما يتجاوز انقراض أجسادنا وأنواعنا المرصوفة بالحصى، في عالم متجدد ومتجدد يتجاوز تصورنا.

***

..................

الكاتب: ديفيد والتنر تووز هو عالم أوبئة بيطري كندي متخصص في أساليب دمج صحة البشر والحيوانات الأخرى والنظم البيئية. وقد نشر أكثر من 100 ورقة بحثية تمت مراجعتها من قبل أقرانه، والعديد من الكتب المدرسية المعترف بها دوليًا، بالإضافة إلى الخيال والشعر والعلوم. تشمل هذه الكتب الغذاء والجنس والسالمونيلا (2008)، أصل البراز (2013)، أكل الخنافس! (2017)، وعن الأوبئة (2020)، ومؤامرة الدجاج (2022)، وجاذبية الحب (2023). يعيش في أونتاريو على أرض تعد الموطن التقليدي لقبيلة Haudenosaunee وAnishinaabe والشعب المحايد.

* فيروس غرب النيل (WNV) هو فيروس منقول بالمفصليات حيواني المنشأ ينقله البعوض وينتمي إلى جنس الفيروس المصفر (Flavivirus) ضمن فصيلة الفيروسات المصفرة. ويوجد هذا الفيروس المصفر في المناطق المعتدلة والاستوائية من العالم. وقد تم اكتشافه لأول مرة في منطقة غرب النيل الفرعية في دولة أوغندا في شرق أفريقيا عام 1937. وقبل منتصف التسعينيات من القرن العشرين، ظهر مرض فيروس غرب النيل بشكل متقطع فقط، وكان يشكل خطورة بسيطة على البشر، إلى أن تفشى في الجزائر عام 1994 مع وقوع حالات إصابة بالتهاب الدماغ الناتج عن فيروس غرب النيل، وكان أول تفشي كبير للمرض في رومانيا في عام 1996 مع إصابة عدد كبير من الحالات بـمرض غزوي العصب. وقد انتشر فيروس غرب النيل الآن على مستوى العالم، حيث تم اكتشاف أول حالة في نصف الأرض الغربي في مدينة نيويورك في عام 1999؛ وعلى مدار السنوات الخمس التالية لذلك، انتشر الفيروس عبر الولايات الأمريكية ال48 المتجاورة، وشمالاً إلى كندا ونحو الجنوب إلى جزر الكاريبي وأمريكا اللاتينية. كما انتشر فيروس غرب النيل في أوروبا فيما وراء حوض البحر الأبيض المتوسط [تم اكتشاف سلالة جديدة من الفيروس مؤخرًا في عام 2012 في إيطاليا]. ويعتبر فيروس غرب النيل الآن ممراض متوطن في إفريقيا وآسيا وأستراليا والشرق الأوسط وأوروبا والولايات المتحدة، التي تعرضت في عام 2012 لواحد من أسوأ الأوبئة.

تسببت الموافقة على فتح برامج دراسات عليا في الجامعات الاهلية في جدل كبير في الوسط الأكاديمي، حيث اثارت اعتراض شديد من العديد من الأكاديميين والمهتمين بالشأن التعليمي. هذا القرار اعاد الى الواجهة العديد من التساؤلات حول سياسة التعليم العالي، وأثار قلق العديد من المهتمين بالشأن الأكاديمي بشأن فائدتها ونتائجها المحتملة.

وعلى الرغم من المطالب بالتريث في فتح الدراسات العليا، وبضرورة توفير الدراسات اللازمة لتحديد مقدار الحاجة لها قبل الشروع في فتح برامج جديدة، استمرت وزارة التعليم في سياستها في انتاج اعداد كبيرة من حاملي الشهادات في مختلف التخصصات، وفتح مجالات التعيين لهم للتدريس في الجامعات بدون تدريب لما بعد الدكتوراه، ودون الالتفات الى مشكلة الضعف الاكاديمي وضعف المهارات، وانتشار ظاهرة الاطاريح المزورة والمسروقة وكتابة الرسائل الجامعية من قبل المكاتب التجارية.

هذا ولقد عانى التعليم العالي الاولي على مر العقود الماضية، مثله مثل الدراسات العليا، من تدهور خطير لاسباب مثل ضعف المستوى التعليمي، وعدم وجود اجراءات فعالة لضمان الجودة، والاعتماد المفرط على التلقين والحفظ دون التركيز على التفكير النقدي والتحليلي. وواجه التعليم العالي عديد من التحديات، بدءا من نقص التمويل الحكومي الذي اثرسلبيا على توفر الموارد اللازمة والبنية التحتية. وازدادت حدة التحديات بتدني جودة التعليم بسبب نقص الأساتذة المؤهلين والبرامج الدراسية الحديثة، بينما ظل الفساد يؤثر سلبا على جودة التعليم ونزاهة القبول والامتحانات، وازداد تأثير البيروقراطية على كفاءة الإدارة وتقديم الخدمات للطلاب. واستمرت معاناة الجامعات من نقص التكنولوجيا الحديثة وعدم مواكبة مناهجها للتطورات العالمية في مجال التعليم. ولا يزال خريجو الجامعات يواجهون مشاكل البطالة بسبب عدم ملائمة المناهج لاحتياجات السوق والمجتمع ونقص الفرص الوظيفية في السوق العراقية

وانطلاقا مما ذكرته اعلاه، ولاستبعاد احتمالية التخلص من هذه المشاكل في الوقت الحاضر، ارى بأن تمديد فترة الدراسة لسنوات الدراسة الاولية اصبح ضروريا اذا ما رغبنا في تحسين معارف ومعلومات الخريجين، والمساهمة في زيادة المحتوى العلمي والمهاراتي للشهادة، باعتبار انه كلما زادت عدد الوحدات الدراسية والتجارب العملية والبحث العلمي يمكن ان تزاد المعرفة كميا ولربما نوعيا ايضا. ومن هذا المنطلق تأتي دعوتي إلى زيادة فترة التعليم الجامعي.

ومن هذا ينشأ اعتقادي بأن إضافة سنة او سنتين للدراسة الجامعية قد يساهم بشكل كبير في رفع مستوى الشهادة الأكاديمية وزيادة المعرفة والخبرة التي يتلقاها الطلاب. من المهم أن يكون لكل خريج شهادة جامعية بعد خمس او ست سنوات من الدراسة، تعادل درجة الماجستير (لربما يطلق عليها بالبكلوريوس العالي). هذا سيمكن الطلاب من تعويض النقص في معرفتهم والاستفادة من جو الجامعة الاكاديمي لفترة أطول، كما انه سيشبع رغبة كل خريج لتحقيق ما يسعى له اليوم في الحصول على درجة اكاديمية عليا، ومن دون الاضرار بالمستوى العلمي، والذي يعتمد اعتمادا كاملا في العراق على عدد السنوات الدراسية وليس على جودة ونوعية وتميز التعليم. ولن تتعارض هذه الزيادة في فترة الدراسة مع نظام بولونيا وسيتطلب مجرد زيادة 60 وحدة ECTS.

مع اني مؤمن بأن رفع مستوى التعليم العالي يجب أن يكون أحد أولوياتنا في العراق، ويجب أن نسعى إلى تحسين جودة التعليم في جميع المؤسسات التعليمية، ارى انه في الوقت الحاضر، ولوجود صعوبات جمة في تحقيق هذا الهدف، ولكون زيادة فترة الدراسة الزمنية مع تغيير اسم درجة التخرج لا تتعارض مع هدف تحسين المستوى الأكاديمي المحقق فأني ادعو للنظر في امكانية التمديد. علما ان فؤائد التمديد عديدة ويمكن تلخيصها بالتالي:

1. تعميق المعرفة والمهارات: تمديد فترة الدراسة سيُعزز المعرفة والمهارات بشكل كبير، حيث سيتيح المزيد من الوقت لتغطية محتوى المواد الدراسية بشكل أعمق وأشمل، مما يسمح للطلاب بالتركيز على مجالات تخصصهم بشكل أكبر واكتساب مهارات إضافية مثل مهارات البحث العلمي والكتابة الأكاديمية، ليصبحوا أكثر تميزا في سوق العمل.

2. تحسين فرص العمل: سيؤدي تمديد فترة الدراسة إلى تحسين فرص العمل بشكل كبير، حيث سيخرج الطلاب بمؤهلات أكاديمية أكثر تميزا، مما يزيد من قدرتهم على المنافسة في سوق العمل ويُتيح لهم التخصص في مجالات أكثر ندرة، مما يعزز من فرصهم في الحصول على وظائف أفضل واعلى راتباً.

3. تعزيز فرص الابتكار: سيتيح تمديد فترة الدراسة المزيد من الوقت للطلاب لإجراء البحوث والدراسات، مما سيشجعهم على التفكير بشكل نقدي وإبداعي، ويعزز من فرصهم في تطوير مشاريعهم الخاصة، مما يساهم في تحسين مهاراتهم الشخصية وامكاناتهم الإبداعية.

4. تحسين جودة التعليم: سيتيح تمديد فترة الدراسة الى المزيد من الوقت للأساتذة للتفاعل مع الطلاب بشكل أفضل، ممّا سيحسن فرص التعاون بين الطلاب والأساتذة، ويتيح للجامعات فرصة أفضل لتطوير برامجها الدراسية بشكل ملبي لاحتياجات الطلاب وسوق العمل.

5. التكيف مع متطلبات العصر: سيساعد تمديد فترة الدراسة على مواكبة التطورات السريعة في مجالات العلوم والتكنولوجيا، مما سيتيح للطلاب اكتساب مهارات تناسب احتياجات سوق العمل، ويحسن من قدرتهم على المساهمة في تنمية المجتمع، مما قد يشجعهم على استكمال دراستهم العليا في الدكتوراه.

6. الفوائد الشخصية للطلاب: سيتيح تمديد فترة الدراسة للطلاب فرصة تطوير مهاراتهم الشخصية، مثل مهارات التواصل والقيادة، من خلال المشاركة في الأنشطة الطلابية والتعرف على أشخاص جدد وتكوين علاقات مع أساتذتهم، مما يساعدهم على بناء شخصياتهم وتعزيز قدرتهم على التفاعل مع الآخرين بشكل إيجابي.

7. فوائد اقتصادية: سيساهم تمديد فترة الدراسة في زيادة فرص العمل للخريجين، مما سيعزز من مساهمة التعليم العالي في تنمية الاقتصاد، ويحسن من مستوى المعيشة للمجتمع.

8. فوائد اجتماعية: سيساهم تمديد فترة الدراسة في تقليل معدلات البطالة، وهو ما يزيد من الوعي المجتمعي بأهمية التعليم، ويحسن من مستوى المعيشة للمجتمع.

وباختصار، يعد تمديد فترة الدراسة موضوعا ذا فوائد جمة، حيث يتيح للطلاب المزيد من الوقت لإجراء البحوث، وتطوير مهاراتهم الشخصية، واكتساب مهارات تناسب احتياجات سوق العمل، ويعزز من فرص التعاون بينهم وبين أساتذتهم، ويساهم في مواكبة التطورات السريعة في مجالات العلوم والتكنولوجيا. ويقلل من فروق الشهادات بين العراق والدول المتطورة.

ولكن، لا بد من الأخذ بعين الاعتبار التكلفة المالية لتمديد فترة الدراسة، والتأكد من قدرة الطلاب على تحمل عبء الدراسة لمدة 5 او 6 سنوات (علما ان حصولهم على شهادة البكلوريوس العالي او الماجستير ستكون حافزا مهما)، وضمان تصميم برامج الدراسة بشكل مناسب لتلبية احتياجات سوق العمل.

في الختام، تمديد فترة الدراسة للحصول على الشهادة الاولية في التعليم العالي من 4 سنوات إلى 5 او 6 سنوات له العديد من الفوائد والاهمية، ولكن يجب التأكد من أن هذا التمديد يتم بشكل مدروس وضمن خطة شاملة لتطوير التعليم العالي.

***

ا. د. محمد الربيعي

يوجد هناك احياناً خيط رفيع بين: الخطأ والصواب / العدالة والظلم / الشجاعة والتهور / الكرم والسفه / الحُرص والبُخل / العبقرية والذكاء / النباهة والبلاهة

وقد تعمل المعتقدات والآراء السابقة والعواطف والثقافة المحلية والبيئة أثرها في ازالة القدرة على التمييز  بينهما!. وتعمل الفلسفة ومشتقاتها من العلوم القانونية والإجتماعية والنفسية على إيجاد معايير للتمييز بينهما.

والمعيار هو عملية مقارنة بين نموذج متفق عليه قانوناً او عرفاً انه يمثل نمودج ينبغي ان يحتذى به في التقييم، (تقييم السلوك الفردي او الآراء او المقترحات، الحسن والقبح، العدل والظلم..).

والقانون هو علم معياري لأنه يضع قواعد لما ينبغي ان يكون عليه سلوك الفرد وسط الجماعة

فاذا تمت الشكوى من طبيب او محامي او مهندس او قاض؟ بانهم ارتكبوا سلوكاً خاطئاً!

فما هو معيار الخطأ؟

هنا يضع القانون معيار الرجل المعتاد، وهو شخص من نفس طائفة الفاعل نجرده من ظروفه الشخصية لاهو بالذكي جداً بحيث يصل بنا الى القمة ولاهو بالغبي بحيث ينزل بنا للحضيض ونحيطه بنفس ظروف الفاعل وقت ارتكاب الفعل، لنرى مدى اقترابه من النموذج المعياري. فإذا كتب طبيب لمريض وصفة طبية ساءت على اثرها حالة المريض. فالمحكمة هنا تسأل هل ان الطبيب المعتاد  يستعمل مثل هذا العلاج لهذه الحالة ام لا؟ ولها ان تستعين باهل الخبرة من الاطباء، ومن ثم تحكم بوجود الخطأ، اذا كانت هذه الوصفة غير معتمدة. اما اذا كانت معتمدة ومقبولة من عدد من الاطباء فلا وجود للخطأ.

وفي القضايا السياسية يقترح الفيلسوف روسكو باوند معيار المصلحة العامة. بينما يتفق معظم الكتاب والباحثين ورجال القانون والسياسة الاحرار والمستقلين ان افضل معيار هو (الاستفتاء الشعبي). اذ يقول الشعب كلمته فيما هو يراه جيداً او سيئاً، خاصة اذا سبقته حملة تنويرية عامة.

وإذا قلت عن شخص انه عادل وشجاع وكريم! فبمن قارنته واعتبرته عادلاً وشجاعاً وكريماً؟

هل قارنته بقواعد السلوك التي جاءت بها الاديان السماوية مثلاً! ام قواعد الأخلاق، ام مقارنة برجال ونساء شهد لهم التاريخ والناس بتلك الصفات؟.

هل وضعت نموذجاً مثل الرسول المصطفى ام آل بيت النبوة ام حاتم الطائي ام الحجاج مثلاً

وبخلاف التقييم العادل المستند الى معايير موضوعية فان العدالة والشجاعة والكرم ستكون مجرد شعارات فارغة ....

ومن تاريخنا المعاصر يوصف بعض الناس فلاناً من الناس بأنه كان قائداً شجاعاً وعادلاً ...

ولكن الشجاع عندما يقدم على امر عليه ان يحسب حساب النتائج المترتبة على شجاعته وشعاراته خاصة اذا كانت مردوداتها على شعب بأكمله. وبخلافه يعد متهوراً وارعناً. ولذلك قالت العرب بحق: (ان الشجاع حين يرى المخاطر يَفُر).

واذا قلنا ان الفرار شجاعة في موقف معين يتجمد فيه الجبان وتشل حركته كما هو الأرنب، فإن هذا يؤكد مرة اخرى ان المفاهيم جميعاً نسبية بحسب وقائع الزمان والمكان.

***

فارس حامد عبد الكريم

 

بقلم: جون كلايبورن إيسبل

ترحمة : د.محمد عبدالحليم غنيم

صوفي دي غروشي أو صوفي دي كوندورسيه

(8 أبريل  1764 – 8 سبتمبر 1822)

***

الرسالة الثانية (الترجمة عن الانجليزية)

إن التعاطف الذي نقدر عليه مع الآلام الجسدية، والذي هو جزء مما نفهمه تحت اسم الإنسانية، سيكون شعورًا قصير الأمد جدًا بحيث لا يكون مفيدًا في كثير من الأحيان،عزيزي C***، إذا كنا غير قادرين على التفكير بقدر من الحساسية. ولكن بما أن التأمل يطيل الأفكار التي جلبتها لنا حواسنا، فإنه يضخم ويحفظ فينا تأثير رؤية المعاناة، ويمكن للمرء أن يقول إن هذا هو ما يجعلنا بشرًا حقًا. في الواقع، هو التأمل الذي يثبّت في نفوسنا وجود الألم الذي لم تره أعيننا إلا لحظة واحدة، ويدفعنا إلى علاجه لمحو فكرته المؤلمة والملحة؛إنه الانعكاس الذي يساعد حركتنا الطبيعية، ويجبر تعاطفنا على أن يكون نشطًا في تقديم أشياء لها مرة أخرى لم تترك سوى انطباعًا مؤقتًا عليها؛ إنه التأمل الذي، عند رؤية الألم، يذكرنا بأننا خاضعون لهذا الطاغية المدمر للحياة، مثل الكائن الذي نراه مضطهدًا به، يجلبنا إليه بحركة من العاطفة والحنان موجهة نحو أنفسنا، ويثيرون اهتمامنا بآلامهم، حتى عندما يفضلون إبعاد حساسيتنا بدلاً من جذبها؛ وأخيرًا، إنه التأمل ، الذي، من خلال العادات التي يمنحها لحساسيتنا، وبإطالة حركاته، يجعل الإنسانية شعورا فاعلا ودائما في نفوسنا، يتوق إلى ممارسة نفسه، ويمضي قدما دون انتظار الإثارة، باحثا عن سعادة البشر في أعماله. العلم، في تأملات الطبيعة والخبرة والفلسفة، أو أنه يتحد مع الألم والمصائب، ويتبعهم في كل مكان ويصبح معزيهم، إلههم.. ومن ثم فإن الشعور الإنساني هو، إلى حد ما، حبة أودعت في أعماق قلب الإنسان بطبيعته، وستعمل على تخصيبها وتنميها ملكة التفكير. لكن سيقول البعض أن بعض الحيوانات قادرة على الشفقة وليس على التفكير؟(١)3558 صوفي

ماري لويز صوفي دي غروشي هى ابنة فرانسوا جاك دي غروشي وماركيز دي غروشي وماري جيلبرت هنرييت فريتو دي بيني. ولدت غروشي في مولان عام 1764 وتوفيت في باريس عام 1822. وفي عام 1786 تزوجت من عالم الرياضيات والفيلسوف ماري جان أنطوان نيكولا دي كاريتات، ماركيز دي كوندورسيه. كانت في الثانية والعشرين من عمرها، وكان هو في الثانية والأربعين، وكان أكاديميًا بارزًا. بعد زواجها، أنشأت صوفي دي كوندورسيه صالونًا حضره تورجو، وبومارشيه، وجوج، وستال، والعديد من الفلاسفة إلى جانب الزوار الأجانب مثل جيفرسون، وبيكاريا، وربما آدم سميث. لعب هذا الصالون لاحقًا دورًا مهمًا في سياسة جيروندين. سمحت كوندورسيه للدائرة الاجتماعية، الملتزمة بالحقوق المتساوية للمرأة، بالاجتماع في منزلها؛ وربما ساعد اهتمامها بحقوق المرأة في تشكيل مقال زوجها عام 1790 بعنوان: "Sur l'admission des femmes au droit de cité"في عام 1793، بعد شجب دستور اليعاقبة، اختبأ زوجها. زارته كوندورسيه سرًا وشجعته على الكتابة. قام المركيز بتأليف كتابه Esquisse d’un tableau historique des progrès de l’esprit human (1795)، والذي قامت بتحريره فيما بعد؛ تقدمت كوندورسيه بطلب الطلاق بموافقة زوجها، لأن ذلك سيسمح للزوجة والابنة بالاحتفاظ بأصول الأسرة. وفي عام 1794، غادر مخبئه وتم التعرف عليه وتسليمه إلى السلطات. ثم عثرعليه ميتًا في السجن في صباح اليوم التالي، على الأرجح منتحرا. نشرت كوندورسيه آخر أعمال زوجها بعد وفاته. بسبب حظره ووفاته التي سبقت طلاقهما المخطط له، تُركت كوندورسيه معدمة، تعيل نفسها وابنتها وشقيقتها الصغرى. ومن أجل البقاء، افتتحت مشروعًا تجاريًا إلى جانب أعمالها في الكتابة والترجمة. تلقت تعليمًا عاليًا في وقتها، وأجادت تعلم  الإنجليزية والإيطالية بطلاقة وترجمت أعمال آدم سميث وتوماس باين. أهم منشوراتها هي رسائلها الثمانية Lettres sur la Sympathie، التي أضيفت عام 1798 إلى ترجمتها لنظرية المشاعر الأخلاقية لسميث (1759). وبقيت الترجمة  التى أنجزتها أصلا  معتمدا طوال القرنين التاليين، بينما تم تجاهل رسائل التعاطف الثمانية إلى حد كبير. في عام 1799، استأنفت كوندورسيه صالونها، حيث عملت بين عامي 1801 و1804 لنشر أعمال زوجها الكاملة.  التزمت بآراء زوجها السياسية، حتى النهاية،وفي ظل القنصلية والإمبراطورية، أصبح صالونها مكانًا لاجتماع معارضي النظام مثل فورييل. وشهدت رد فعل البوربون بعد عام 1815، وتوفيت عام 1822 أثناء إعداد طبعة جديدة من أعمال زوجها.3559 صوفي

يفتح المقطع أعلاه الرسالة الثانية من رسائل كوندورسيه الثمانية حول التعاطف الملحقة بترجمتها لكتاب سميث عام 1798، على الرغم من أن النص أقدم ببضع سنوات - يذكر زوجها الرسائل في وصيته المكتوبة عام 1794. تبدأ الرسالة الثانية بمديح ممتد للتأمل كنوع من الملاط الذي يقوي بناء التجربة الرحيمة. ينتمي آدم سميث، مثل هاتشيسون وهيوم، إلى التقليد الاسكتلندي الذي يحرص على إيجاد توازن في التعاطف مع المصلحة الذاتية التي يروج لها هوبز أو لاروشفوكو والتي تعتبر مركزية في علم الاقتصاد اليوم. ربما تتميز كوندورسيه بتغيير في التركيز: فبينما يرى سميث التعاطف كنوع من المشهد الذي يعاد سرده في العقل المشاهد، يقدمه كوندورسيه بمصطلحات أكثر مادية، ككيمياء القلب، كما يقترح أحد المراجعين المعاصرين.(2) وتبدو كوندورسيه غير منزعجة من ملاحظة سميث التي مفادها أننا يمكن أن نتعاطف مع الموتى، رغم أنهم لا يساهمون في ذلك؛ كل عنوان رسائلها هو صهرها الإيديولوجي كابانيس،كل عنوان رسائلها هو صهرها الإيديولوجي كابانيس، الذي تستشهد تقاريره عن اللياقة البدنية والأخلاقية للإنسان (1802) برسائلها وتدوين وجهة نظر مادية شاملة للعقل في تقليد كونديلاك. إن اختزال العقل في المادة هو مشروع كبير، يعادل اختزال لابلاس للسماء في الفيزياء النيوتونية في كتابه المعاصر Mécanique céleste (1796)، وربما بدا أكثر أهمية من اتباع استعارة سميث المسرحية. تزعم كوندورسيه في الرسالة الأولى أن لغتها الإنجليزية كانت سيئة عندما بدأت - "je n'entendais pas assez l'anglais pour lire l'original" - ولكن يبدو أن هذا قد تم تصحيحه. دعونا نلاحظ أن روسو يرفض أيضًا استعارة سميث المسرحية، ويختار بدلاً من ذلك التركيز على الشفقة؛لكن الكثير من هذا قد يكون التفاصيل التي تشعر كوندورسيه أنها يمكن حلها في الوحدة النهائية، وتقديم أدوات جديدة لإعادة ترسيخ العاطفة في الفكر الأخلاقي.

تمتعت النساء بدور قديم ما قبل الحداثة كوسيط للفكر الطليعي، وكوندورسيه، الذي تسبق ترجمتها لسميث رسائلها، تتبع هذا التقليد؛ وقد قيل إن قاموس مترجمتها أكثر مادية من معجم سميث، وهو ما سيكون غير عادي بالنسبة لـ تحويل من الإنجليزية إلى الفرنسية. وسبقتها دو شاتليه، التي توفيت عام 1749، في ترجمة كتاب نيوتن "مبادئ الرياضيات" (1687) في أربعينيات القرن الثامن عشر، لكن النساء ترجمن الكثير خلال هذه الفترة، وكان هذا النوع من الأدب يُستغل بشكل شائع. شارك دو شاتليه وستال أيضًا اهتمام كوندورسيه بالفلسفة الأخلاقية. بدأت كوندورسيه في هذه الأثناء حياتها المهنية كمترجمة من خلال العمل على نص يدافع عن الثورة الفرنسية المبكرة بقلم جيمس ماكينتوش، زعيم اليمين الاسكتلندي، في عام 1792.

(تمت)

***

................................

* جون كلايبورن إيسبل، مصائر النساء: الكاتبات الفرنسيات، 1750-1850. كامبريدج, المملكة المتحدة: دار نشر الكتاب المفتوح، 2023،

الأعمال:

1- [كوندورسيه، صوفي دي]، بيرنييه، مارك أندريه، وديدري داوسون، محررون، رسائل التعاطف مع صوفي دي غروشي: الفلسفة الأخلاقية والإصلاح الاجتماعي (أكسفورد: مؤسسة فولتير، 2010)

2- ماكينتوش، جيمس، اعتذار الثورة الفرنسية والمعجبون بها الإنجليز […]، ترجمة. صوفي دي غروشي (باريس: ف. بويسون، 1792)

3- سميث، آدم، نظرية المشاعر الأخلاقية […]، ترجمة. صوفي دي غروشي (باريس: ف. بويسون، 1798)

الهوامش:

1- بيرنييه، مارك أندريه، وديدري داوسون، محررون، رسائل التعاطف مع صوفي دي غروشي: الفلسفة الأخلاقية والإصلاح الاجتماعي (أكسفورد: مؤسسة فولتير، 2010)، ص. 38-39.

2-   مارك أندريه بيرنييه، "تحولات التعاطف في عصر التنوير"، في رسائل عن التعاطف (1798) بقلم صوفي دي غروشي: الفلسفة الأخلاقية والإصلاح الاجتماعي، تحرير. مارك أندريه بيرنييه وديدري داوسون (أكسفورد: مؤسسة فولتير، 2010)، ص. 14.

المصادر:

1- أرنولد تيتارد، مادلين، صوفي دي غروشي، ماركيزة كوندورسيه: سيدة القلب (باريس: كريستيان، 2003)

2- بيرجيس، ساندرين، وإريك شليسر، رسائل صوفي دي غروشي حول التعاطف: مشاركة نقدية مع نظرية المشاعر الأخلاقية لآدم سميث (أكسفورد: مطبعة جامعة أكسفورد، 2019)

3- بيرنييه، مارك أندريه، وديدري داوسون، محررون، رسائل التعاطف مع صوفي دي غروشي: الفلسفة الأخلاقية والإصلاح الاجتماعي (أكسفورد: مؤسسة فولتير، 2010)

4- بواسيل، تييري، صوفي دو كوندورسيه، امرأة التنوير، 1764–1822 (باريس: مطابع عصر النهضة، 1988)

5- بروكس، باربرا، “النسوية عند كوندورسيه وصوفي دي جروشي”، دراسات عن فولتير والقرن الثامن عشر 189 (1980)، ص 297 – 361.

6- براون، كارين، صوفي غروشي دو كوندورسيه حول التعاطف الأخلاقي والتقدم الاجتماعي (أطروحة دكتوراه غير منشورة، جامعة مدينة نيويورك، 1997)

7- براون، كارين، صوفي دي غروشي، رسائل في التعاطف (1798): طبعة نقدية، ترجمة. جيمس ماكليلان (فيلادلفيا: الجمعية الفلسفية الأمريكية، 2008)

8- ستيفن كالي، الصالونات الفرنسية: المجتمع الراقي والتواصل السياسي من النظام القديم إلى ثورة 1848 (بالتيمور: مطبعة جامعة جونز هوبكنز، 2004)

9- شارل ليجير، أسرى الحب، استنادا إلى وثائق غير منشورة. رسائل حميمة من صوفي دو كوندورسيه وإيمي دو كونيي وعدد قليل من القلوب الحساسة الأخرى (باريس: سي. جيلاندري، 1933)

10- فالنتينو، هنري، مدام دي كوندورسيه؛ أصدقائه وأحبائه، 1764-1822 (باريس: بيرين، 1950)

Lettres sur la Sympathie

Lettre II

La sympathie dont nous sommes susceptibles pour les maux physiques, et qui est une partie de ce que nous comprenons sous le nom d’humanité, serait un sentiment trop peu durable pour être souvent utile, mon cher C***, si nous n’étions capables de réflexion autant que de sensibilité ; mais comme la réflexion prolonge les idées que nous ont apportées nos sens, elle étend et conserve en nous l’effet de la vue de la douleur, et l’on peut dire que c’est elle qui nous rend véritablement humains. En effet, c’est la réflexion qui fixe dans notre âme la présence d’un mal que nos yeux n’ont vu qu’un moment, et qui nous porte à le soulager pour en effacer l’idée importune et douloureuse ; c’est la réflexion qui, venant au secours de notre mobilité naturelle, force notre compassion à être active en lui offrant de nouveau les objets qui n’avaient fait sur elle qu’une impression momentanée ; c’est la réflexion qui, à la vue de la douleur, nous rappelant que nous sommes sujets de ce tyran destructeur de la vie, comme l’être que nous en voyons opprimé, nous rapproche de lui par un mouvement d’émotion et d’attendrissement sur nous-mêmes, et nous intéresse à ses maux, même lorsqu’ils pourraient plutôt repousser qu’attirer notre sensibilité ; c’est la réflexion enfin qui, par les habitudes qu’elle donne à notre sensibilité, en prolongeant ses mouvements, fait que l’humanité devient dans nos âmes, un sentiment actif et permanent qui, brûlant de s’exercer, va sans attendre qu’on l’excite, chercher le bonheur des hommes dans les travaux des sciences, dans les méditations de la nature, de l’expérience, et de la philosophie, ou qui, s’attachant à la douleur et à l’infortune, la suit partout, et en devient le consolateur, le dieu. Le sentiment de l’humanité est donc en quelque sorte, un germe déposé au fond du cœur de l’homme par la nature, et que la faculté de réfléchir va féconder et développer.

Mais quelques animaux, dira-t-on, sont susceptibles de pitié, et ne le sont pas de réflexion ?1

كتب: ك.م. سيثا K.M. Seethi

ترجمة: علي حمدان

***

بناء على تجربته مع العديد من الحركات، تحدى تورين الفكرة التي تقول ان السلوك الجماعي يمكن تعريفه فقط استنادا الى الامتثال للقوانين والعادات والقيم السائدة. قام بمبادرات لدراسة السلوك الجمعي: أولا، من خلال الانغماس في مختلف الحركات الاجتماعية والسياسية مثل حركة الطلاب، وحركة مكافحة الطاقة النووية، والحركة القومية. والعمال النقابيين في قطاعات مختلفة، وحركة التضامن البولندية، ومناجم الفحم في تشيلي، وصناعة الصلب، وحركة زابانيستا في تشياباس في المكسيك. كان منهجه معارضا للدراسات الوظيفية التي تعتبر الفاعلين والأنظمة مترابطة. وجادل في ان منطق الأنظمة الاجتماعية والفاعلين الاجتماعين ، خاصة الذين يسعون للابتكار والتدخل النقدي، يتعارض بشكل أساسي. حيث تسعى  القوى الفاعلة الى قدر اكبر من الحرية والاستقلال والكرامة والمسؤولية.

في عام 1969، اعرب تورين عن انتقاده لمفهوم المجتمع ما بعد الصناعي، بشكل خاص كما صاغه دانيال بيل، الذي صوره على انه المجتمع المفرط في الصناعة. وعلى مدى الخمسة عشر عاما التالية، تضأل الحماس لفكرة الثورة ما بعد الصناعية، مع قلة من المراقبين وخاصة في دوائر الاعمال، على استعداد لتبنيها. عوضا عن ذلك، ظهر تعبير اكثر ملاءمة،  ثورة صناعية جديدة او تقدم كبير في الإنتاجية الصناعية. وجادل تورين بان تعريف مجتمع ما بعد الصناعي يجب ان يقارب الان بطريقة أشمل واكثر جذرية. يجب ان ينظر اليه على انه ثقافة جديدة تفرز نزاعات وحركات اجتماعية جديدة. ان التعريف المهني الواسع لمجتمع المعلومات هو تعريف مضلل ويفشل في تبرير فكرة ظهور مجتمع متميز. وبدلا من ذلك، ينبغي تعريف مجتمع ما بعد الصناعة بشكل اضيق من خلال الإنتاج التكنولوجي للسلع الرمزية التي تشكل او تحول فهمنا للطبيعة البشرية والعالم من حولنا.

بناء على ذلك، حدد تورين أربعة مكونات رئيسية للمجتمع ما بعد الصناعي: البحث والتطوير، ومعالجة المعلومات، والعلوم الطبية والتقنيات الحيوية، ووسائل الاعلام الجماهيرية. على النقيض من ذلك، كانت الأنشطة البيروقراطية وإنتاج المعدات الكهربائية والالكترونية تعتبر قطاعات ناشئة في مجتمع صناعي يتم تعريفة في المقام الأول من خلال انتاج السلع، بدلا من خلال قنوات الاتصال الجديدة وخلق اللغات الاصطناعية.

بحث تورين عن الحركات الاجتماعية كان مثيرا للأعجاب. وفقا له، كان مفهوم الحركة الاجتماعية يحمل أهمية حاسمة في علم الاجتماع المعاصر. تنبع هذه الأهمية ليس فقط من الحاجة الى التمييز بين علم الاجتماع وتعريفات قديمة كانت ترتكز على دراسة المجتمع ذاته، والتي يجب استبدالها بالاهتمام بالفعل الاجتماعي، ولكن أيضا من الحاجة الملحة الى بناء فهم جديد للحياة الاجتماعية. هذا البناء يتطلب ادراج مفهوم الحركة الاجتماعية كرابط حيوي بين رصد التكنولوجيا الجديدة وتصور اشكال جديدة من المشاركة السياسية. على عكس الفكر الاجتماعي السابق، فان مفهوم الحركة الاجتماعية الان يمكنه ان يحتل دورا مركزيا في التحليل الاجتماعي. ان لدية الإمكانيات ليصبح الأساس الذي يمكن من خلاله اجراء فحص شامل وفهم لديناميكيات المجتمع المعاصر. من خلال الاعتراف بالقوة التغيرية للحركات الاجتماعية وتفاعلها مع التكنولوجيات الناشئة. يمكن لعلم الاجتماع ان يتبنى نهجا اكثر شمولية وصلة في دراسة تعقيدات الحياة الاجتماعية في العصر الحاضر.

كتب تورين " الحركات الاجتماعية ليست عوامل ايجابية او سلبية في تاريخ الحداثة، او في تحرير الإنسانية. انها تعمل في نوع معين من الإنتاج والتنظيم الاجتماعي. ولهذا السبب نؤكد على اولوية الصراعات الاجتماعية والبنيوية على الحركات التاريخية". وقال ان" الحركات الاجتماعية الجديدة هي اقل اجتماعية سياسية (سوسيوـسياسي) واكثر اجتماعية ثقافية (سوسيوـثقافي). فالهوة بين المجتمع المدني والدولة تتزايد، بينما يتلاشى الفصل بين الحياة الخاصة والعامة. ان الاستمرارية من الحركة الاجتماعية الى الحزب السياسي اخذة في الاختفاء: والحياة السياسية تميل الى ان تكون منطقة مكتئبة بين دولة اقوى في بيئة دولية متغيرة، وعلى الناحية الاخرى، حركات اجتماعية ثقافية". وكتب أيضا" المخاطرة الرئيسية لم تعد هي رؤية الحركات الاجتماعية تمتصها الأحزاب السياسية كما كان الحال في الأنظمة الشيوعية، ولكن الانفصال الكامل بين الحركات الاجتماعية والدولة. في مثل هذه الحال، يمكن بسهولة للحركات الاجتماعية ان تصبح متجزئة، تتحول الى دفاع عن الأقليات او البحث عن الهوية، بينما تصبح الحياة العامة مهيمن عليها من قبل حركات مؤيدة او معارضة للدولة.

في عام 2014، كتب تورين " اليوم مهمتنا الرئيسية هي فهم الحالات الاجتماعية والجهات الفاعلة اجتماعيا التي تختلف تماما عن تلك التي كانت في المجتمعات الصناعية. من جهة نشهد صعود الانظمة الاستبدادية، ومن جهة أخرى، في الغرب؛ تم استبدال راس المال الصناعي أولا عام 1929 ثم مرة أخرى في عام 2007- 2008 براس المال المالي الذي لا يحمل وظيفة اقتصادية، ولكنه يهدف فقط لتحقيق الربح باي وسيلة ممكنة. يمكن للجهات الفاعلة ان تقاوم راس المال المضارب القوي الساعي نحو الربح الصرف من خلال الدفاع عن القيم الأخلاقية العالمية. بينما لم تستحوذ فكرة حقوق الانسان على الاهمية خلال الفترة الطويلة بعد الحرب. فأننا نرى الان ان حقوق الانسان والديمقراطية هما القيمتان الوحيدتان اللتان  يبدو انهما قادرتان على حشد ما يكفى من القوى الاجتماعية والسياسية لمعارضة الأنظمة الاستبدادية المناهضة للديمقراطية، ورأسمالية المضاربة".

قبل بضع سنوات، لاحظ الن: في القرن العشرين، روج المؤيدون من الدول الأكثر ثراء للاعتقاد بان النمو الاقتصادي والديمقراطية السياسية والسعادة الشخصية أمورا مترابطة. ومع ذلك، أشار الى ان الوقع القاسي للتاريخ قد دمر هذا الراي المتفائل الى حد كبير. وأضاف ان حقائق التاريخ القاسية حطمت هذه النظرة المفرطة في التفاؤل. وقال  الديمقراطية والتنمية لا تتقدمان دائما معا في الواقع، يمكنهم حتى التحرك في اتجاهات متعاكسة تماما. وان الديمقراطية لا تكون واقعية الا عندما يشكل سكان البلد كيانا سياسيا نشطا. تضعف او تختفي عندما تقود القرارات السياسية عوامل غير اجتماعية مثل الولاء والمشاعر القومية، والتكامل المجتمعي، وإرادة الحاكم، او حتى السعي الى التحديث نفسه.

تحول تورين الى ناقد للسياسات النيوليبرالية التي ازدادت أهميتها منذ التسعينات. خلال نهاية القرن العشرين، وضع بجرأة مسألة الذات والديمقراطية في مقدمة الخطاب الفكري من خلال اعماله المؤثرة، ولاسيما نقد الحداثة وما هي الديمقراطية. هذه النصوص الرائدة تحدت الفهم التقليدي للديمقراطية كمجرد مجموعة من الضمانات المؤسسية او ممارسة سلبية في الحرية. بدلا من ذلك ، قدم تورين تصور عميق للديمقراطية.

وفقا لتورين، تستلزم الديمقراطية كفاحا مستمرا يقوم به افراد متجذرين في ثقافاتهم الفريدة وتطلعاتهم الى الحرية، ضد المنطق السائد المفروض من قبل الأنظمة القائمة، وفي هذا الاطار، طرح تورين عن رؤية للديمقراطية تتجاوز الحدود التقليدية وتحتضن الوكالة الفعالة للأفراد في تشكيل مصائرهم الخاصة. قدمت أفكاره وجهة نظرة جديدة حول الديمقراطية. مؤكدة القوة التغيرية للأفراد المشاركين في السعي وراء الحرية في سياقاتهم الثقافية الخاصة.

اثار منهج تورين انتقادات من بعض الزوايا. في كتاباته المبكرة رأى ان منهجه "الفعلي " هو نتيجة طبيعية للنظريات البنيوية والوظيفية. معترفا بمساهماتهما في الفهم الاجتماعي. ومع ذلك مع تقدم عمله، نأي بنفسه تدريجيا عن هذه المفاهيم المنافسة دون الانخراط في مناقشات او مناظرات تفصيلية. مع تصرفات مثيرة للجدل الى حد ما، رفض تورين بشكل جدلي ليس فقط مفاهيم البنيوية والوظيفية ولكن أيضا التفاعلية الرمزية والتجريبية والنظريات التطورية للمجتمع والفلسفة الاجتماعية ايضا.

وفقا لديتر روشت، يشير المبدأ النظري المركزي لتورين الا ان المجتمع المعاصر ليس مجرد نظام لإعادة الإنتاج، بل هو  كيان ديناميكي يعيد خلق نفسه باستمرار من خلال الصراع. فهو يرى المجتمع كمجموعة هرمية من أنظمة العمل، حيث يشارك الفاعلون ذو المصالح المتضاربة والتوجهات الثقافية المشتركة ضمن نفس النطاق الاجتماعي. يعارض تورين الفكرة بان المجتمع مبني فقط على الاقتصاد او الأفكار او انه يتألف من أنظمة فرعية او مستويات هرمية. بدلا من ذلك، فهو يحدد التاريخ والعلاقات الطبقية كمكونات أساسية للمجتمع، مؤكدا على توليد النماذج وتحويل التوجهات الى ممارسات اجتماعية في سياق الهيمنة الاجتماعية.

منظور تورين قد تحدى فكرة المجتمع كمنظمة ميكانيكية او جامدة، عوضا عن ذلك اكد على العمل والعلاقات الاجتماعية. تتعارض هذه الرؤية مع الوظيفية والبنيوية، حيث تسلط الضوء على الطابع الديناميكي للتفاعلات الاجتماعية بفاعلية الافراد في سياق اجتماعي معطى. في السبعينات، قام تورين بتوسيع أفكاره وطور أسلوبا يسمى "التدخل الاجتماعي" لتحليل الحركات الاجتماعية. هذا الاسلوب، جنبا الى جنب مع نهجه "العملي"، يهدف الى تحديد وفهم ظهور حركات اجتماعية هامة تلعب دورا مركزيا في مجتمع مبرمج. في الماضي، كانت حركة العمال تحتل هذا الموقف المركزي في المجتمع الصناعي، بينما احتلت حركات الحريات المدنية هذا الموقف في مجتمع السوق. سعى تورين لكشف وفهم الحركة الاجتماعية التي ستتولى دورا مؤثرا مماثلا في ديناميكيات تطور المجتمع المبرمج.

كما اشار روتشت، الى ان الآراء قد تختلف بشان مكانة تورين كشخصية بارزة في علم الاجتماع المعاصر، الا ان اسهاماته في دراسة الحركات الاجتماعية لا يمكن انكارها. تتميز اعماله الواسعة بنهج طموح ولكنه مثير للجدل، رسخت مكانته كواحد من ابرز العلماء في هذا المجال. وعلى النقيض من العديد من اقرانه، سعى تورين لتقريب الفجوة بين الأطر النظرية الكبرى والتحليل التجريبي التفصيلي على المستوى الاجتماعي الجزئي. قناعته الفكرية الثابتة وموقفه الواضح ميزته عن غيره، حيث تحدى بشجاعة النهج البديل دون قلق ظاهر من الانتقادات او رد الفعل العنيف.

 

في المثقف اليوم