قضايا

ميكيافيللي .. عراقي!

qassim salihyلا اظن احدا فهم ثلاثية سيكولوجيا السلطة والحاكم والدين قدر ما فهمها ميكافيللي. فمع انه يعدّ مؤسس التنظير السياسي في عصر النهضة، الا انه كان ابرع واحق باكتشاف هذه العلاقة من شيخ النفسانيين .. فرويد.

والمدهش أن ما قاله عن (الأمير: الملك، رئيس الجمهورية، رئيس الوزراء ..) قبل خمسمائة عام ما يزال ينطبق على معظم حكّام العالم، بل أن اغلب من بيده السلطة بالدول النامية يتعاملون مع (الأمير) معاملة هتلر وموسوليني وستالين وفرانكو .. أعني أنهم يضعونه في مكاتبهم ويعدّونه مستشارهم في ادارة شؤون الدولة.

والمفارقة، أن ميكيافيللي وصف بالشيطان، ووصفه موسوليني - الذي أعدّ عنه اطروحة دكتوراه - بأنه منافق كبير، وانتقده الحكّام الأحياء منهم والأموات مع أن معظمهم طبّقوا ويطّبقون ما اوصى به في تعاملهم مع الرعية. وان كنت في شك بما اقول، أقرا (الأمير) فستجد أنه يوصي الحاكم أن يكون غدّارا اذا وجد أن محافظته على العهد لا تعود عليه بالفائدة، وأن يكون دعيّا كبيرا ومرائيا عظيما، فالاستيلاء على السلطة والاحتفاظ بها خدمة لمصالح فئة او جماعة سياسية على حساب جموع الناس ورغما عنهم .. يقتضي استعمال ما يلزم من قهر واستبداد لفرض نظام سياسي يروج له على أنه الخير العام.

ويضيف (ميكيافيللي) ان على الحاكم أن يجمع بين خداع الثعلب ومكر الذئب وضراوة الأسد، وأن لا يخجل في اختيار أي أسلوب مهما تدّنى لتحقيق أهدافه وطموحاته السياسية، وأن لا يتقيد بالمحاذير الأخلاقية التقليدية لتحقيق مبتغاه، فالهدف الرئيس لم يعد ، وفقا له، تحقيق رفاهية شعبه وسعادته بقدر البقاء في الحكم الى ما شاء الله. وأن يتقن الكذب والمراوغة ليحقق مآربه بأية وسيلة ملتوية، ويعطي شعبه في الوقت نفسه الانطباع بأنه رحيم، نزيه، انساني، مستقيم، ومتدين. وينبّه الحاكم الى أن الناس ناكرون للجميل، متقلبون، مراؤون، شديدو الطمع، وهم الى جانبك طالما أنك تفيدهم .. وسيمجدونك حين تكون مرهوب الجانب شديد العقاب.

في العراق، زمن النظام الدكتاتوري .. كان هنالك ميكيافيللي واحد .. غدر بجماعته، وانتقم من خصومه .. وكان مرهوب الجانب شديد العقاب .. اوصل العراقيين الى ان يمجدوه بمن فيهم اكاديميون وصفوه بأنه (هبة السماء) للعراق، وشعراء كبار رفعوه الى السماء وأضفوا عليه صفات الانبياء .. بينهم من انتموا الان الى ميكيافيلليّ الزمن الديمقراطي! ويحتلون مواقع في اتحادات الادباء العراقيين!.

وكان ميكيافيللي الزمن الدكتاتوري .. واحدا .. منفردا .. متفردا .. ولدى الناس وضوح بخصوص طغيانه واساليب تصفية خصومه، فيما الان هنالك ميكيافيللي معمم، وآخر ملتح، وآخر أفندي، وآخر يلبس العقال واليشماغ والعباءة الجاسبي .. فاختلط الامر على الذين يريدون ان يعيشوا آمنين وباتوا حيارى لا يعرفون مع أي ميكيافيللي يروحون وأي ميكيافيللي يتجنبون، وهم يريدون ان يعيشوا بلا منغصات .. بعد فواجع اثكلهم فيها ميكيافيللي الزمن الدكتاتوري ثلاثا وعشرين سنة، زادها ميكيافيللو الزمن الديمقراطي عشرا تطايرت فيها اجساد احبتهم باحداث أفجع وهربت احلامهم منهم مثل حمائم ملونة .. قتل الصياد اجملها وفرّت الأخريات مذعورات فرار ملايين العراقيين الى الغربة خائفين من ميكيافيللي الزمن الديمقراطي.

قد يقول احدهم اننا نبالغ في الوصف ونجور في التهمة، وله نستعيد قول ميكافيللي ونصّه: " ان الهدف الرئيس للحاكم ليس تحقيق رفاهية شعبه وسعادته بقدر البقاء في الحكم الى ما شاء الله" .. أليست هذه الصفة انطبقت على حاكم عراقي ديمقراطي قالها علنا (ما ننطيها!) برغم انه كان السبب الاول في شقاء شعبه؟ .. وانها رغبة قابعة في داخل معظم قادة العملية السياسية العراقية .. مع انها بالضد من الديمقراطية التي تعتمد مبدأ التداول السلمي للسلطة؟.

وميكيافيللي هو القائل ان الدين ضروري للحكومة لا لخدمة الفضيلة بل لتمكينها من السيطرة على الناس .. ولكم أن تتأملوا كم ميكيافيللي طائفي استخدمها في العراق؟ .. وتذكروا ان معظم الذين هم الان في المواقع المتقدمة من السلطة عادوا الى العراق وليس لهم اي رصيد شعبي فعزفوا على وتر الطائفية وصاروا، باعترافهم هم، في مواقع قرار لا يتخذون منها الا ما يخص انفسهم وجماعتهم.

ان اقبح الميكيافيلليّن هو الذي يوظف الدين للاحتفاظ بالسلطة. فالناس يبررون للسياسي الذي يمتهن السياسة ان يكون مراوغا، غدّارا، لأن السياسة بمفهومها العام عند العرب، بلا اخلاق .. . لكن ان تكون هوية السياسي دينية ويكون ميكيافيلليا فتلك مسألة لا تغتفر .. ليس لأنه يخدع الناس بل لأنه يخدع الله ويسيء الى قيم دينية تعدّ في نظر كثيرين مقدسة .. وانها عند الله هي والكفر سواء .. اليس الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله" فبشرّهم بعذاب أليم"، فكيف بالذي يخزن مليارات الدولارات ولا ينفق منها مليونا واحدا في سبيل مليونين ونصف نازح .. مهجّر .. بينهم اطفال يسكنون العراء وآخرون يفتشون في الزبالة عن كسرة خبز .. هو السبب في نزوحهم وشقائهم وجوعهم؟. والأقبح ان ملياراته لا يزكيها مع انه يعرف انها فريضة عليه .. بل يزيدها صلافة بحج بيت الله في كل عام! .. وتلك صفات فاتت على ميكيافيللي ان يذكرها في (الأمير) .. وبها يسجّل حكّام الزمن الديمقراطي العراقي اضافات جديدة لصفات الحاكم الديمقراطي!.

ايها السادة، ان الشيطان ميكيافيللي ما يزال حيا في زعاماتنا التي أصابها الاحتراب الطائفي بالبارانويا! وايصال زعامات محتقنة بشرور جاءت بها ديمقراطية ناقصة عقل ومسؤولية، لأن الطائفية السياسية ، بطبيعتها، منتجة لحكّام فاشلين .. ولا سبيل للعراقيين غير أن يعطّلوا عقلهم الانفعالي الذي جاءهم ببرلمانيين خذلوهم وأخجلوهم، ويحكمّوا عقلهم المنطقي بانتقاء من يمتلك القدرة على انقاذ العراق من محنته ، ويمنعوا مجيء ميكيافيللي جديد، والا سينطبق عليهم قول تشرشل :" كل شعب في العالم ينال الحكومة التي يستحقها !" .. وقد استحقوها عشر سنين .. ونخشى ان ما يجري الان في العراق هو الركضة الاخيرة نحو انتاج ميكيافيللي عراقي جديد! .. لعشر سنين او يزيد!

 

في المثقف اليوم