قضايا

المبدعون العراقيون يموتون في الغربة

qassim salihyفي شهر واحد (ابريل 2015) توفي الفنان المسرحي خليل شوقي في هولندا، وتوفي الفنان التشكيلي محمد مهر الدين في الاردن.وفي دمشق هنالك مقبرة خاصة بالعراقيين .. كتب على احد قبورها .. الشاعر محمد مهدي الجواهري.في ليبيا توفي ودفن هناك اشهر عالم نفس عراقي في النصف الثاني من القرن الماضي .. دكتور نوري جعفر.وفي السويد توفيت في (1998) رائعة المسرح العراقي الفنانة زينب .. ولفّ نعشها بعلم عراق 14 تموز مكللا بباقات الزهور تتقدمه دراجتان ناريتان وخلفه عراقيات وعراقيون بألوانهم المتعددة وشخصيات عالمية .. سياسية وفنية وثقافية، وصف موكبها في حينه بأنه لم تشهد السويد مثله.والفاجعة، ان معظم المدن العربية والاوربية تكاد لا تخلو مقابرها من مبدع عراقي في العلوم التطبيقية والانسانية والعسكرية والفنون الجميلة.

         فلماذا يموت العراقيون المبدعون في الغربة؟

أنلاّ تكون للمبدعين مكانة في الزمن الدكتاتوري فتلك مسألة مفهومة، ولكن أن تتراجع مكانتهم في الزمن الديمقراطي فهذه قضية فيها نظر. ذلك أن النظام الدكتاتوري يرغم العقل المبدع على خدمته .. ولأن شخصية المبدع تنفر من الاتجاه التلسطي فأنه اما أن يستجيب دفعا للشر، أو الانكفاء على الذات، او يعيش حالة اغتراب عن نفسه والوطن قد تدفع به الى الانتحار(حدث هذا في دمشق وبيروت)، أو يهاجر الى بلد يحترم شخصه ويقدّر ابداعه.ومن يتأمل واقع العقول العراقية المهاجرة يجد انها أنشأت جامعات وكليات في دول الخليج، اليمن، ليبيا، الجزائر .. وأسهمت بتطوير دول أوربية، وقدمت لمجتمعاتها خدمات تتطلب ابداعا، اذ يذكر الكاتب خالد القشطيني أن الأطباء الموجودين في بريطانيا لو عادوا الى العراق لتوقفت الخدمات في المستشفيات البريطانية!.

والمفارقة ان زمن الديمقراطية فشل في اعادتهم كما فشلت الدكتاتورية، مع أن الدكتاتورية شرّعت لهم قانونا بأسم (الكفاءات) كان مجزيا ماديا .. وعادوا للعراق فعلا لكنهم اختنقوا .. فتركوا ما منح لهم من قطع أراض وسيارات وامتيازات، ورجعوا لبلدان الغربة التي رحبت بهم ثانية رغم انهم تركوها ليحققوا حلم وطن احبوه.

   وديمقراطيتنا فشلت ليس فقط في تهيئة الأجواء لعودة المبدعين، بل أن الموجودين منهم داخل الوطن صاروا بين من سار على خطى المهاجرين من قبله ومن أخمد صوته كاتم صوت، ومن اختار ان يجاهر بالحقيقة حاملا كفنه على يديه .. وقد خسرنا في اسبوع واحد عمار الشابندر ورعد الجبوري.

والمؤلم أن الباقين منهم تراجعت مكانتهم الوظيفية.فمعظم المراكز الرئيسة بمؤسسات الدولة تسند لا على أساس الكفاءة العقلية بل الانتماء الحزبي وولاءات الهويات الفرعية (عشيرة، قومية، طائفة ..)، والمحاصصات، حنى صارت كل وزارة مؤسسة مستقلة عن الدولة يجري التعيين فيها على اساس هوية وزيرها والكتلة السياسية التي منحت لها.وصار التعيين بمؤسسات الدولة يفضّل حامل بكلوريوس من اهل الثقة على خبير دولي حامل دكتوراه في الاقتصاد، ولم يعد للمبدعين المستقلين دور فاعل على صعيد السلطة التنفيذية، فكان هذا أحد أسباب سوء الأدارة وشيوع الفساد بأنواعه الثلاثة السياسي والمالي والأداري بحالة تثير الخجل أن يحتل العراق الديمقراطي! المراتب الأولى بالفساد بحسب منظمة الشفافية العالمية.

وكما جرى في النظام الدكتاتوري باسناد عمادات الكليات في الجامعات الى المنتمين لحزب السلطة، فان هذه العمادات ورئاسات الأقسام العلمية اسندت غالبيتها للمنتمين الى الأحزاب الأقوى في السلطة من حديثي الخبرة، فيما الأكاديميون المبدعون يكاد دورهم يكون مهمّشا.ولهذا السبب فان الجامعات العراقية احتلت مراتب متأخرة في سلّم التقويم العالمي والعربي للجامعات.

وما يحز بالنفس، تراجع القيم الأخلاقية بحق المبدعين ايضا.فقد شكا أكاديمي معروف بابداعه وخرّج اجيالا أنه حضر مؤتمرا علميا فأجلسه طالبه الذي صار (دكتورا) في الخط الثالث فيما طالبه هذا جلس بالخط الثاني .. لأنه يعمل بمكتب معالي الوزير. وأن مدير مدرسة من جيل المبدعين طرق كل ابواب وزارة (الـ .. .) من أجل نقل ابنته لمكان قريب من مسكنه .. وعجز، فنقلها شاب بعمر حفيده يعمل في " ميليشيا" أحد الأحزاب .. بيوم وليلة!. فضلا عن ان ثقافة القبح جعلت ثقافة الأبداع في الموسيقى والمسرح والفن والشعر تتراجع داخل الوطن بمسافات عما كانت عليه قبل خمسين سنة!

   ان الابداع صار اليوم هو المعيار لتقدم المجتمعات وتفوق الدول.فالدولة الأكثر احتراما لمبدعيها وتوفيرا لفرص توظيف ابداعهم بخدمة المجتمع، هي الأكثر تطورا وتحقيقا لحياة كريمة لمواطنيها. ففي مقالته " الثورة الهادفة " أشار عالم النفس تورنس المتخصص بالابداع الى أن الولايات المتحدة بدأت منذ مطلع ستينيات القرن الماضي بثورة خفية في أهداف وطرائق التربية بتوظيفها نحو الحل الإبداعي للمشكلات ، والتعبير الإبداعي أيضا، فيما اشار العالم الامريكي جيلفورد الى " أن صياغة طريقتنا في الحياة وضمان مستقبلنا يقومان على قدراتنا الابداعية على وجه الخصوص " .. وقبلهما اشار أرنولد توينبي الى أن الأفراد المبدعين هم المصادر الأساسية في المجتمع .ونضيف لما قالوه ان قراءة التاريخ في مجالات السياسة والنظم الاجتماعية والعلوم التطبيقية والفنون .. تجعلنا نستنتج أن المبدعين هم الذين يغيرون العالم ومسار التاريخ أيضا، بل وحتى تغيير الأنموذج الذي ننظر من خلاله الى الكون والأشياء والطبيعة البشرية، وقس على ذلك ما احدثه غاليلو وانشتاين وماركس وفرويد.

وما يحيرك أن تراجع مكانة المبدعين في زمن الدكتاتورية كان أحد أسباب انهيارها، وأن الديمقراطية التوافقية لم تلتقط العبرة ولم تدرك ان المبدعين في العراق طاقة هائلة في اعمار الوطن وتطوير العقول .. بل ان النظام الديمقراطي تقصّد التضييق عليهم فهاجروا او استكانوا بعد ان اعتمدت حكومات التغيير السابقة مبدأ (الأقربون وأهل الثقة) هم الآولى في مؤسسات الدولة .. وان كانوا لا يفهمون! .. وتلك احدى اهم اولويات ما ينبغي ان تقوم به الحكومة الجديدة .. منطلقة من حقيقة: لو اتيحت الفرصة لنصف مليون عراقي مبدع وعودة نصف مليون عقل عراقي مهاجر .. لجعلوا العراق جنّة، لأنه يمتلك ثلاث ثروات هائلة:تحت الأرض وفوقها .. وفي العقول .. فهل يفعلون؟

 

في المثقف اليوم