قضايا

ازمة العقل السياسي العراقي .. تحليل سيكوبولتك

qassim salihyسؤالان يحتاجان الى اجابة علمية:

• ما الاسباب التي جعلت العقل السياسي العراقي منتجا للأزمات؟

• ولماذا لم تفرز الحياة السياسية في العراق بعد التغيير قائدا سياسيا بمستوى رجل دولة؟

المحللون السياسيون يعزونها الى ان التغيير في العراق جاء بتدخل اجنبي، ولو ان القوى السياسية العراقية كانت هي التي اطاحت بالنظام الدكتاتوري لأفرزت قائدا سياسيا يوحّدها، لكنها كانت اشبه بفرق عسكرية متجحفلة في خنادق..لكل خندق عنوان وقائد، يجمعها هدف التخلص من النظام، وتفرّقها مصالح حزبية وطائفية وقومية.ولأن ما يجمعها انتهي بانتهاء النظام، فقد تولت المصالح اذكاء الخلاف فيما بينها على حساب المصلحة العليا للوطن.ويذكر بريمر بمذكراته، ان الشيعة كانوا يأتونه للمطالبة بمصالح طائفتهم، وكذا فعل السنّة والكورد. ويضيف بأن لا احد جاءه يطالب بمصالح العراق .. وربما كان هذا هو السبب الذي دفع بريمر الى ان يدق (التثليث) في شاصي العملية السياسية العراقية.فضلا عن ان الأحزاب السياسية طاردة للمفكرين من الطراز الرفيع، لأنها تحكمها ايديولوجيات وعقائد خاصة بها فيما العراق لا تستوعبه ايديولوجيا او عقيدة محددة.

ومع صحة هذا التحليل فانه لا يقدم تفسيرا متكاملا، لاغفاله حقيقة ان االشخصية السياسية العراقية هي نتاج طبيعة المجتمع العراقي، الذي ينفرد عن المجتمعات الأخرى بأنه شعب منتج لأصناف متضادة من البشر بمواصفات عالية الجودة.

فهو منتج لمبدعين ومفكرين وشعراء ورجال دين وشيوخ عشائر من طراز رفيع، ومنتج لقتلة ورعاع وغوغاء بمواصفات " عالية الجودة ". ففي (1958) قتل افراد العائلة المالكة وطاف الناس بكفوف أيديهم في حشود هائجة بهستيريا الفاقدين لوعيهم الإنساني.وفي (1963) قتل عبد الكريم قاسم وآلآف الشيوعيين والوطنيين. وفي (1991)قتل مئات البعثيين ووضعت إطارات السيارات برقاب عدد منهم وحرقوا وهم أحياء.

والعراقيون منتجون للطغاة..يرفعونهم للسماء حين يكونون في السلطة ويمسحون بهم الارض حين يسقطون.وهم منتجون لمن يفلقون رؤوسهم بالحراب من أجل التاريخ والموت فداء لمن ماتوا، ومنتجون لمعتقدين عن يقين بأن تاريخهم مزوّر وأسود ومعرقل للتقدم، ومنتجون لمن يعرفون بالغيرة العراقية والأنفة، ومنتجون لناهبين من طراز رذيل، ولا أرذل من سلوك ينهب الناس فيه وطنهم وذاكرة تاريخه، حتى صيروا الفرهود شطارة يتسابقون إليه حيثما حلّت بالوطن محنة.

والشخصية السياسية العراقية..نتاج الاحداث ايضا، نلتقط منها حدثين اسهما في تشكيلها:

الأول:ان التغيير في (2003) تجاوز هدفه، من الاطاحة بالنظام الى الاطاحة بالدولة التي نجم عنها ما نعدّه قانونا اجتماعيا نصوغه بالآتي:

(اذا انهارت الدولة وتعطّل القانون وصارت الحياة فوضى..

شاع الخوف بين الناس وتفرقوا الى مجاميع او افراد تتحكّم

في سلوكهم الحاجة الى البقاء، فيلجأون الى قوة تحميهم

يحصل بينهما ما يشبه العقد يقوم على مبدأ الحماية المتبادلة).

من هنا بدأت "ثقافة الاحتماء" وحدث تحول اجتماعي سيكولوجي سياسي خطير، هو ان الشعور بالانتماء صار الى القوة التي تحمي الفرد، فتعطّل الشعور بالانتماء الى العراق وتحول الى ولاءات لا تحصى. والعامل السيكولوجي هنا الذي لعب اخطر الادوار هو ان تفكير العقل السياسي انشغل بمهمة امتلاك الحاضر بأي ثمن وافتقد الرؤية السياسية المستقبلية للعراق.

الحدث الثاني هو: تبادل الادوار بين السنة والشيعة. فالسلطة بيد السّنة العرب اكثر من الف سنة، فيما كان الشيعة بدور "المعارضة" للزمن ذاته.ولقد فهم تبادل الأدوار هذا بين الطائفتين كما لو كان تبادل ادوار بين "الضحية" و"الجلاّد". ومن هذا الشحن السيكولوجي اعتمدت الشخصية السياسية العراقية العزف على الوتر الطائفي لترويج نفسها بين طائفتها تمهيدا لفوزها بالانتخابات .. ومنها تحديدا نشأ ما نصطلح على تسميته (البرانويا السياسية) التي لا يمكن ان تنتج رجل دولة.

فمن متابعتنا تأكد ان في القادة السياسيين العراقيين فرقاء مصابون بـ(البرانويا) التي تعني الشك المرضي بالآخر..كل فريق منهم صار يعتقد عن يقين(يقينه هو) ان الآخر يتآمر عليه لانهائه حتى وصل الحال بهم الى رفع شعار (لأتغدى بصاحبي قبل ان يتعشى بي) .. فتغدى الجميع بالجميع بوجبات من البشر تعدت المئة ضحية باليوم بين عامي (2006 و2008) تحديدا.

وما يزيد من حماقة البرانويا السياسية انها اذا طبخت على نار الطائفية والعرقية صار شفاء اصحابها قريبا من المستحيل.وبالصريح المرّ فان الشخصيات السياسية العراقية الحالية غير قادرة على ان تقتلع شكوكها وتحسن الظن بالاخر، ولك ان تتابع ما تبثه اكثر من خمسين فضائية عراقية تبث بين جماهيرها سموم الشك المرضي بالآخر، لان البرانويا برمجت خلايا ادمغة القائمين عليها وقادة سياسيين بثلاث عقد عبر الزمن:عقدة انتاج الخوف الموروثة من الماضي، وعقدة الرعب المعاش في الحاضر، وعقدة توقع الشر والافناء في المستقبل .. ونجم عنها سيكولوجيا ان حسابات الجميع صارت تستخدم آليات الربح والخسارة، في بيئة صراعية ليس فقط بين السياسيين المحسوبين على طائفة او قومية بل وبين كتل واحزاب الطائفة الواحدة والقومية الواحدة والشريحة الاجتماعية الواحدة حتى لو كان عديدها نصف مليون فردا!

 

أ.د.قاسم حسين صالح

 

في المثقف اليوم