قضايا

إنما هي قضية أخلاقية بالمقام الأول !!

hamid taoulostخلافا لما هو سائد بيننا، ليس هناك معتقدٌ من بين جميع أنواع المذاهب الفكرية والدّينية، التي لو اعتنقه الإنسان تحول إلى ملاك، ولو تركه تحول إلى شيطان أو العكس، لذلك نرى مجرمين لا أخلاقيّين من جميع المذاهب الفكرية والدّيانات السماوية والوضعية، ومن المعتقدات الخاطئة المنتشرة أيضا اعتبار أنّ شخصية الإنسان وطباعه وسلوكه هي مجرّد نتاج فلسفته أو أيديولوجيته أو معتقده الدّيني فقط، بينما الإنسان هو نتاج تركيبته الشخصية بالإضافة إلى ظروفه الخاصة وطبيعة المجتمع الذي نشأ وتربّى وعاش فيه، بمعنى آخر، أن الدّين هو مجرّد عامل ضمن عوامل أخرى، تساهم في رسم شخصية الإنسان، وليس هو العامل الأوحد في تشكيل السّلوكيات الأخلاقيّة للإنسان، والتي تنبع أولاً من جيناته وطريقة تربيته وظروفه الشخصية، الاجتماعية، التّعليمية، الثقافية والاقتصاديّة، قبل أن تنبع من معتقده الدّيني، سواء كان ذلك سلبًا أم إيجابًا. موجب هذه المقدمة هو تصرف أحد "الكفار" الفرنسيين –كما يحلوا للكثير من المتطرفين وصفهم بالكفر - في هذا الشهر المبارك الكريم الذي جعله الله من أفضل الشهور الإيمانية المتميز عن باقي الشهور من حيث فضله وأجره وحرمته، و الذي قررت أن أقضيه - هذه السنة أيضا – في منطقة هادئة من الديار الفرنسية، حيث تعيش الجاليات المسلمة أيامه الكريمة المباركة، بنفس الطقوس الرمضانية التي اعتادوا عليها، وكأنهم بين أهلهم في بلدانهم الأصلية، يعمرون مساجد الله المبثوثة في كل مكا، تقربا إلى الله وتوجها إليه تعالى بالعبادة بالليل والنهار، والتطلع إلى توبته ومغفرته سبحانه .

ــــــوهذه قصتي مع أحد سكان العمارة الشباب، الذين يشاركوننا يوميا المصعد ارتقاء وهبوطا نحو الطابق السادس حيث شقتنا، والذي استرعى انتباهي منظر عنقه المعقوفة بصفة مثيرة، وذلك عند عودتنا من التسوق قبيل المغرب ذات يوم من أيام رمضان،

حيث ملأتني اللحظة رغبة عارمة في معرفة سبب إشاحة الشاب بوجهه عنا للجهة المعاكسة، إلى درجة التواء عنقه، وكأنه أصيب بورم يعيق استدارته نحونا .. ترددت برهة، لكني حزمت أمري مدفوعا بالفضول إلى سؤاله عن إحجامه عن الحديث معنا، كعادته، حيث كنا نتجاذب الأحاديث كلما التقينا صدفة في المصعد: وهل أصيب بوعكة في عنقك وقد كان في الصباح معافا؟ ابتسم وأجاب بلطف ولباقة، وهو يحرك عنقه ذات اليمين وذات الشمال ليرني أنه غير مصاب بأي توعك، وأن عنقه سليمة، وشكر لي اهتمامي بحاله، وشكر ربه على ما متعه به من صحة وعافية، وأردف قائلا: ما فعلت ذلك لتوعك في عنقي كما توهمت؟ ولكن لخشية مني على أن أفسد عليكم صيامكم بروائح السيجارة التي دخنتها في سيارتي قبل أن أدخل المصعد بقليل، وآثرت أن أستدير للجهة الأخرى حتى لا تصيبكم أنفاسي المشبعة بالنيكوتين العالقة بثيابي، فأسبب لكم إحراجا دون قصد، وأنتم صائمون، وأني أعرف أن هذا الشهر هو من أعظم الشهور طهرا عند المسلمين، وعلينا أن نشارككم فرحتكم به، ونسهل عليكم صيامكم أيامه الكريمة قدر الإمكان ..

هالني ما رأيت من طيب تصرف وتأدب الشاب الفرنسي وسمو أخلاقه، رغم أنه لا ينتمي إلى الإسلام، وربما ليس له دين أو لا يعترف بأي دين أصلا .. انعقد لساني وشرد خيالي، حتى أني لم أنتبه لتوقف المصعد في الطابق الذي أقصده، إلا على تنبيه ذاك الخلوق، الذي شكرته وأثنيت علي خلقه وحسن تصرفه، والذي رد قائلا : هذا واجب علينا لأننا نعيش في بلد واحد ومجتمع واحد وعلينا أن نساعد بعضنا البعض .

خرجت من المصعد شاردا الذهن، تطوف بي الأفكار وتدفعني للمقارنة بين سلوك الفرنسي الذي قدر حالنا في شهرنا المبارك هذا، ومحاولته تجنيبنا ما يمكن أن يسيء لصيامنا كما قال، وبين ما آلت إليه أحوالنا اليوم حيث تقلصت الأخلاق الحميدة،وتمددت السلوكات البشعة، وأخذت مكانة المكارم، ودفعت بالصفات الحسنة التي أمر بها الله سبحانه وتعالى ونبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، إلى التواري والاندحار في مجتمعاتنا، حتى أضحى الخلوق القوي الأمين غريباً منبوذاً بيننا، لا يؤخذ له رأي، ولا تسند إليه أمانة من قلة التزام أكثريتنا بما أمر به الله من احترام الغير في هذا الشهر كما في غيره من الشهور، تم يردني التفكير إلى ما زخرت به شريعتنا السمحاء، وأعرافنا من مكارم الأخلاق، وما جبل عليه أسلافنا من عزة وتعاون واحترام الغير – الذي ما تخلفوا عنه يوما- الذي هو الأصل في روح التآخي والتقارب

سيطرت علي فكرة كتابة ما حدث لي مع هذا الذي هو في شريعة المتطرفين مجرد "كافر" تقديراً لموقفه المشرف من الإسلام والمسلمين، لكني ترددت، لمعرفتي المسبقة، بل وليقيني بأن من سيقرأ ذلك من المتطرفين، سيخوض -كالعادة-في انتقادي، وسيقسم بالأيمان المغلظة، أن دوافعي لذلك، لم تكن إلا بإيعاز من الامبريالية العالمية الأمريكية والصهيونية والشوفينية والرجعية والانتهازية العالمية والميكافيليكية، وسيبيح تقريعي وسيدعو زبانيته المغيبة العقل للدعاء ضدي بكل ما شحنوا به من أدعية عقيمة وقليلة الجدوى ..

قصصت على أهلي عما حدث لي في المصعد مع الشاب الفرنسي، فأعجبوا بتصرفه وقدروه وثمنوه، رغم انه جاء من رجل ليس له دين أو لا يعترف بأي دين أصلا، إلا أنه يحمل بين جنبيه خلقا ساميا يفوق ما يحمله بعض المسلمين بألف مرة في قلوبهم، ويسمو وعيه إلى مرتبة الفهم الحقيقي لجوهر هذا الشهر المرتبط عندنا بالمعاني السامية والأخلاق الفاضلة، أكثر منهم آلاف المرات، ما جعله يحترم غيره في كل شيء، لأن القضية ليست قضية معتقد أو ديانة، كما أسلفت، وإنما هي قضية أخلاقية بالمقام الأول ..أي أن الخلل الحقيقي ليس في المعتقد، وإنما يكمن في الأخلاق التي لم تعد موجودة، والضمائر المغيبة التي لم تعد تؤمن بالقيم والفضائل .. وبما ان الدين كله خلق، ومن فاقك في الخلق، فاقك في الدين، كما قال ابن القيم . ولذلك لا سبيل ولا حل لمواجهة كل ذلك، إلا بتخليص الناس من وهم أن الدين هو أداء الصلاة في مواقيتها وصيام رمضان والزكاة وذبح الأضحية في العيد وقراءة القران –والذي لا ننكره لأنه صلب الدين- لكن الدين هو المعاملة والالتزام والضمير وهو احترام حقوق الآخر مصداقا لقولهله صلى الله عليه وسلم: "إن من خيركم أحسنكم خلقاً"

الحل إذن هو إعلان الحرب الحقيقية، والجماعية، ضد كل ذلك، والقيام بثورة حقيقية لاستعادة كل الأخلاق الضائعة وإحياء الضمائر الميتة، التي تكتفي بترديد ما ورد في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف من "أخلاق فاضلة" دون فعل ملموس، يجسدها في سلوكياتنا اليومية، فستظل غامضة في الأذهان، بل وإنها ستتقلص مساحتها، وتتقوض الأمم والشعوب بتقلصها، وتذهب ريحها، لأن : الأمم الأخلاق ما بقيت … فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا .كما قال شوقي ..

كم كنت ولازلت أود أن أدعو لأمثال هذا الفرنسي الذي ننعته بالكفر، بالتوفيق والرحمة، لأنهم ارحم من قومنا بكثير!! لكني خشيت أن أأجج سعار من أخالفنهم الرأي من الجهلة المتخلقين، فيرتفع منسوب سبابهم، وتزيد حدة شتائمهم، لأنهم لا يقبلون الرأي الآخر مهما كانت وجاهته ..

حميد طولست

في المثقف اليوم