قضايا

التشيع القروي والتشيع المدني

mahdi alsafiلم يكن كتاب الدكتور علي شريعتي "التشيع العلوي والتشيع الصفوي" قريبا من الواقع المزري للتشيع العراقي، بل تعامل مع مايحدث في ايران عاصمة التشيع الرسمي في العالم (من خلال قدرتها على انتاج عقول مفكرة ومراجع دين ومؤرخين اسلاميين ورواة حديث لهم تأثير مباشر في العالم الاسلامي)،

الدولة التي لم تتذبذب حضارتها المدنية كما يحصل في بقية الدول المجاورة لها، ولعلها بالفعل احدى ميزات تفوق العرق الاري الذي تقابله في الجهة الاخرى الحضارة الالمانية الحديدية، الا ان شريعتي (رحمه الله) كانت لديه معاناة وصراع مع المؤسسة الدينية التقليدية من نوع اخر، صراع حضاري نهضوي يراد منه ان يصل الى نتيجة وخلاصة واضحة في نهاية نفق هذا الصدام الغير متكافئ بينه وبين التشيع الصفوي، الا وهو ابعاد المقدس الارضي التسلطي عن رقاب وعقول الناس (التي لايمكن لها ان تنتج نظام ولاية الفقيه مستقبلا)، اي بناء دولة ومجتمع وامة متحررة، بدون وصاية سلطانية دينية مقدسة.

اما المعاناة الكبيرة التي يواجهها الشيعة اليوم في العراق، والتي وضعتهم الظروف والمؤامرات الامبريالية والرأسمالية في مقدمة المعركة، لحماية مايسميه اعداءهم بحزام او دول الهلال الشيعي، فهي تكمن في تراجع الاداء السياسي الشيعي وتفككه بشكل كارثي، فلم تبقى لديه بعد فشل تجربته الديمقراطية في الحكم، الا المؤسسة الشعبية التي صنعتها الظروف المصيرية القاهرة"مؤسسة الحشد الشعبي.

التشيع المدني لايبتعد كثيرا في ظاهره عن ممارسات وتصرفات التشيع القروي، فقد ترك وزير خارجية ايران ظريف المفاوضات النووي مع الدول العظمى، ليذهب الى اقرب حسينية لممارسة شعيرة احياء ليلة القدر(وحضور مأتم وفاة الامام علي ع)، وهي رسالة طمأنة للتيار الاصولي في ايران (لاسيما المرشد الخامنئي والحرس الثوري) بأنهم لم يبتعدوا كثيرا عن الثقافة التقليدية الايرانية الرسمية(كل شيء يدار بعلم المرشد)،

لكن ما ان يعود الوفد الايراني للتفاوض مجددا مع القوى الكبرى، حتى يظهر لهم وجها اخر من وجه ايران الحضاري، فهم (اي دول الست) يعرفون حجم وقدرات هذا البلد العقلية والثقافية، حيث يردد العالم المتقدم ان في كل جامعة من جامعاتنا العلمية العريقة يوجد اما استاذ ايراني او اكثر (وكذلك طلبة دراسات عليا)،

فالموقف الذي وقفه ظريف اثناء الاجتماع محذرا الوفد الامريكي من تهديد ايران بالانسحاب من المفاوضات، هو نفس الموقف الذي وقفه السفير الايراني عام 1991 عند الحدود العراقية الكويتية في منطقة صفوان، وقد كنا نعاتبه عتابا شيعيا قرويا اخويا"جاه احنه مو شيعة...مو المفروض من ايران تقف معانا وتساندنا وتنقذنا..نحن نرفض الذهاب للسعودية لانهم وهابية وفضلنا ايران...احنة ...وانتم...ولازم"بعد صمت فارسي الهوى نطق السفيربصلابة ايرانية وبتحجر"لاتشترط على الجمهورية الاسلامية"، اتضح بعدها ان السفير جاء يبحث عن اسماء محددة من العراقيين ذو الاصول الايرانية، تماما كما كانت تفعل بقية الدول.

التشيع القروي دخل الحوزة بقوة في النجف وقم بعد عام 1991، حيث اخذ السيد محمد الشيرازي رحمه الله في قم على عاتقه فتح ابواب الحوزة لكل من هب ودب على حد قول العامة، وفي العراق اراد السيد محمد صادق الصدر رحمه الله ان يكسر الجمود الذي كانت تعاني منه الحوزة، بعد حملات الابادة المنظمة التي مارسها حزب البعث الفاشي بحق الشيعة ومراجعهم وسياسييهم،

وخصوصا الموقف المرتبك الذي حصل من قبل السيد الخوئي رحمه الله ابان انتفاضة 15 شعبان، وقصر الفترات الزمنية التي يمكن ان يسمح بها البعث لاي مشروع اصلاحي ديني شيعي في فترة الحملة الايمانية الكاذبة (فالشيعة حالهم حال بقية المجتمع العراقي لم يكونوا في الاعم الاغلب من المتدينين)، وقد كان السيد الصدر (الشهيد الثاني) على علم كامل بأن النظام البعثي سيقوم بتصفيته، كما حصل لعدد من المراجع في النجف حينها،

فقد جمعتنا الصدفة يوما في حي الصناعة في دمشق بالسيد المالكي، قبل استشهاد السيد الصدر بايام، وتطرقنا الى المخاطر الكبيرة التي يمكن ان تهدد حياة الشهيد الثاني، وقد ذكر المالكي بالحرف

"انه ارسل شخصيا رسائل الى السيد الصدر مقدما عرضا له بتأمين طريق الخروج من العراق..الا ان السيد رفض ترك بلاده وفضل الاستشهاد كما فعل الشهيد الصدر الاول"،

المدرسة الشيرازية ارادت استقطاب اكثر عدد ممكن من ابناء العراق النازحين بعد قمع انتفاضة 1991 المنحدرين من المناطق الريفية،

فهذه المناطق تعد بؤرة خصبة لنشراي ثقافة طقوسية اسطورية دينية سماوية او ارضية ولاي دولة من دول العالم الثالث، علما ان الريف العراقي مختلف تماما عن بقية قرى وارياف بقية الدول،

اولا : لانه يعد قريب من المدن ولاتفصله مسافات كبيرة عنها،

وثانيا: ان اغلب ابناء المدن لديهم صلة رحم متواصلة بينهم وبين جذورهم القروية،

ثالثا: استطاعت الحركات اليسارية والاسلامية اختراق مناطق القرى والارياف قبل مجيء البعث للواجهة السياسية والسلطة، وان تساهم برفع المستوى الثقافي لابناءها،

الا ان الطريقة البدوية في الحكم التي اتبعها الطاغية صدام، وحملات التصفية الجسدية الشاملة لجميع الحركات السياسية والثورية، والتي لم ينجوا منها الا من اسعفه جواز اخر اللحضات او منافذ الاهوار وجبال شمال العراق للهجرة والهرب من ماكنته الدموية والهجرة،

ثم ماحصل من اثار نفسية ومعيشية وثقافية تركتها احداث حرب تحرير الكويت 1991 المدمرة، واحداث انتفاضة شعبان، وفرض الحصار الاقتصادي الدولي،

كوارث متوالية افرغت الريف والمدن العراقية من اية ثقافة مدنية معتدلة، بل ان المواطن يعاني حاليا من الاعراف القبلية والعشائرية حتى وسط العاصمة بغداد،

هذا فضلا عن ان العراق بكافة مكوناته وطوائفه واثنياته يعيش تلك الحالة المتخلفة (هناك تسنن قروي قبيح للعرب السنة والاكراد لايمكن مقارنتهما بأي حالة اخرى في المنطقة، وخصوصا ان العرب السنة يشعرون بحالة من التيه والضياع بين ثقافة البعث وثقافة داعش).

كذلك قام السيد الشهيد الثاني فتح ابواب حوزته الخاصة لابناء الريف العراقي (فضلا عن ان ابواب الحوزة مفتوحة ايضا لابناء المدن، لكن من المعروف ان ابن المدينة ينجذب للدراسات الاكاديمية اكثر، عكس ابن الريف الذي يشعر ان المدرسة الدينية تعطيه شيئا من الهيبة والقوة في الشخصية بين افراد عشيرته او مجتمعه)، فالحوزة الشيرازية لديها تركيز مباشر وقوي لاشاعة ظاهرة الطقوس العاشورائية، وابراز الحوادث والمسائل الخلافية مع المذاهب السنية، واعادة ضخ الروايات الضعيفة السند لتقديس الظاهرة الطقوسية المتبناة من قبلهم، وهي مدرسة خرافية استغلتها الوهابية الداعشية التكفيرية لاستباحة دماء واموال واعراض الشيعة، وهي مرفوضة تماما من المدرسة الشيعية الاثني عشرية المعتدلة، اما المدرسة الصدرية التي لم تستمر طويلا بعد استشهاد السيد الصدر الثاني رحمه الله،

هي مدرسة ثورية اصلاحية شاملة، المدرستين كانتا السبب في ابراز ظاهرة التشيع القروي البدائي، الذي اصبح من اعقد الظواهر الاجتماعية في العراق (كظاهرة المشي من مختلف المحافظات الشيعية الى كربلاء والنجف والكاظمين، المبالغة بأقامة الشعائر الشيعية، والغلو في حب ال بيت الرسول ع، وتقديس رجال الدين)، هذه الممارسات جاءت الى الشيعة العرب من الجارة ايران، لكن هذا الجار العنيد، والبارد الدم، والمحب للتجارة وجمع المال،

لاتوجد عنده فواصل بين التشيع العلوي او المدني وبين التشيع القروي والصفوي، ففي ساعة التشيع القروي هم اول الصفوف العاشورائية، وفي ساعات التشيع المدني هم اول دول المنطقة في مجال العلم والاعمار والبناء والازدهار والتكنولوجيا.

هناك حالةغريبة كانت سائدة ولازالت تعاني منه القيادات الشيعية العربية، التي كانت منخرطة في عمل الحركات السياسية الاسلامية منذ خمسينيات القرن الماضي، وهي ظاهرة استحواذ بعض الشخصيات الايرانية الاصل على قيادات ومسارات تلك الحركات، وذلك لتعاطف الجانب الايراني الرسمي معها بحكم الطابع العرقي، لكن هذه القيادات هي اول من اثار مسألة الخلاف بين القيادات القروية (التي يسمونها المعدان)وبين القيادات التي تشعر انها مدنية منذ العهد الاخميني (الدولة الاخمينية 539 ق.م.).

هذا الشعور الاقصائي الذي بدأت تشعر به المحافظات الجنوبية المهمشة (كالبصرة التي تلوح بأقامة اقليم في الجنوب)، ليس له علاقة بالدور الايراني الشريف الذي تقوم به حاليا بمساعدة العراق وسوريا ولبنان وفلسطين لمواجهة الارهاب الوهابي الامبريالية الصهيوني (علما ان تركيا وامريكا واسرائيل تدعم داعش والنصرة اكثر مما تقدمه ايران من دعم لللشيعة في العراق، في سياسة المصالح تغيب الاهداف الاخلاقية والانسانية)،

فالتيار الذي يدعم هذه التوجهات الاخلاقية الدينية هو جناح السيد الخامنئي والحرس الثوري، والذي نقول للتاريخ لولاهما لكان سهلا على تيار الاصلاحيين ان يقوم بصفقة مع نظام صدام بمبادلة المعارضة العراقية المقيمة على اراضيهم بمجاهدي خلق قبل عام تسعينيات القرن الماضي،

مانود التوصل اليه من استنتاج :هو نجاح التجربة الايرانية بشكل اثار استغراب ودهشة العرب، وكسب احترام وتقدير الدول العظمى، في حين سجل لنا الزمن والتاريخ فشل اخر من سلسلة متواصلة من الفشل السياسي والاجتماعي والاقتصادي العراقي،

فالتجربة العراقية القبيحة التي ارجعتنا الى عهد ماقبل قيام دولة العراق الحديثة، تجربة مخجلة ومخزية ذهب ضحيتها مئات الالاف من الضحايا، واهدرت مليارات الدولارات على مشاريع وهمية واخرى فاشلة، ولم تستطع اي نخبة سياسية او مكون او طائفية عراقية ان تنجح في بناء اي نموذج او تجربة سياسية ناجحة او مقبولة قامته به،

فلا امل في ايجاد ثورة اصلاحية للانقاذ، الا بمحاولة استنساخ هذه التجربة الايرانية الرائدة في مجال ادارة الدولة المدنية، التي لاتتعارض مع الدين والطائفة والعرق واللون، عبر المساهمة بتقديم كافة اشكال الدعم والتفاعل المباشر مع تجربة الحشد الشعبي، وجعلها بمثابة النموذج الواقعي للخروج من الازمات الداخلية والخارجية، كأي تجربة اجتماعية ثورية وطنية توعوية شاملة، تقع على عاتقها مسؤولية اخذ زمام المبادرة في ادارة الدولة وتعديل مسارها السياسي بشكل سلمي ومدني، يشترك فيها العامل والفلاح والطبيب والاستاذ الجامعي والمعلم والموظف والمثقف والاديب والاعلامي، الرجل والمرأة، الخ.

 

مهدي الصافي

في المثقف اليوم