قضايا

القبض والبسط في الحضارات

raheem alsaidiلكي أصل الى تحقيق ظل للفكرة التي تدور حول القبض والبسط في الحضارات، توجب التنويه الى الحديث عن تصور سروش الخاص بنظريته التفسيرية (الهرمنيوطيقية) المعرفية والمتوافقة وفكر كانت في التمييز بين الشيء لذاته أو لذاتنا، أو بين الدين والفكر الديني أو المعرفة الدينية، وقد أصر سروش على لا نسبية الحقيقة و نسبية المعرفة، فالمعرفة الدينية تتسم بالتحول والنسبية لأنها مرتبطة بألوان المعرفة الإنسانية الأخرى ومتأثرة بها . ويميّز سروش بين الذاتي والعرضي في الشريعة وهو يرى أن الإعدادات اللغوية والثقافية والحضارية قد ساهمت في تشكيل أعراض الدين الإسلامي كما نفهمه اليوم، ولأنها إعدادات متغيرة من ثقافة إلى أخرى فهي ليست من ذاتيات الدين، وهنا تتحرك تصورات القبض والبسط عنده فإذا تعرضت المعارف البشرية غير الدينية للقبض والبسط فلابد أن يتعرض فهمنا للشريعة إلى القبض والبسط أيضاً، أحياناً بصورة ضعيفة وخفيفة، وأحياناً بصورة شديدة وقوية .

ولست أريد الدخول الى مساحة القبض والبسط في الحضارات من زاوية القبض والبسط الخاص بالشريعة كما عند سروش لان تصوره يسطح نواتج الأفعال الإنسانية بشكل تام ويحجم الأفكار والافعال الانسانية بدائرة مغلقة ووسمها بقليلة الفائدة ثم ينتقي ويؤسس لمفهوم (النسبية) المطلق في فهم النص الديني، ولست أيضا في معرض وصف القبض والبسط من بعض العارفين بأنهما حالتان بعد ترقي العبد عن حالة الخوف والرجاء فالقبض للعارف بمنزلة الخوف للمستأنف والبسط للعارف بمنزلة الرجاء للمستأنف، ويقول آخر القبض أول أسباب الفناء، والبسط أول أسباب البقاء اما ابن عربي فيرى ان الرحمة بسط والغضب قبض فكأنما يوصف البسط بالسهولة والقبض بالصعوبة فهي مقارنة بين الحرية والانغلاق أو انكماش عضلة القلب وانبساطها أو فتح اليد وإغلاقها وهكذا العين،ولا يمكنني استثناء كلمة الإمام علي في الخطبة 155 حول الخفافيش التي يربطها بمفهوم غوامض الحكمة فالخفافيش يقبضها الضياء الباسط لكل شيء ويبسطها الظلام القابض لكل حي،والمعادلة هنا (الضياء=باسط لكل شيء، اما الظلام = قابض لكل حي= الضياء والظلام وجودان لهما فعل واحدهما اعم من الآخر) أو في الخطبة 25 بقوله ما هي إلا الكوفة ابسطها واقبضها والكوفة كانت أيضا حضارة مصغرة، ولكل هذا أمكنة أخرى ووقت آخر .

ان تصوري لقبض وبسط الحضارات يتحرك من تصوري أولا لقبض الأفعال الإنسانية أو المعرفة الإنسانية بشكلها العام و بسطها فتكون الأفعال الإنسانية ذاتية أو عرضية (وبعض الذوات العالية مثل الأنبياء والفلاسفة لديها نصا ثابتا ) معرضة الى القبض والبسط بتأثير المعارف البشرية جميعها (الدينية – اللادينية – السياسية – الثقافية – الاقتصادية – الجغرافية – الروحية – النفسية ...الخ) مما يؤدي الى نتاج فعل أو أفعال إنسانية تنتهي بتأثير بشري منتج على ارض معينة في زاويا 1- العلم 2- الفن والجمال 3- العمران 4- الأدب 5- الفكر والفلسفة6- الجانب الروحاني . وكل هذه الجوانب هي ما نطلق عليها مفهوم الحضارة .

لكن أين يمكننا وصف حالة القبض والبسط في الحضارات وفق هذه التركيبة من اعتماد أسس الفعل الإنساني أو الأفعال الإنسانية من زاوية أخرى بشكلها الجمعي .

 ان نماذج الحضارات ترتبط بالمجتمعات فهي نتاجه الأوحد، وبالتالي فانه إذا تعرضت المجتمعات الى القبض والبسط الذي يستند الى مجموعة من العوامل المختلفة فان نتاجها الحضاري يستند الى ذلك القبض والبسط، والتطلع الى حضارات كبيرة في التاريخ يعطينا فهما أوليا حول تلك القضية، فحضارات وادي الرافدين وفق القبض والبسط الذي مرت به تشير الى تغير تلك الحضارة وفق متغيرات نواتج الفعل الإنساني (الفردي أو العام) (الخارج أو الداخل) (الثابت أو المتغير) (النسبي أو المطلق) (الكلي أو الجزئي ) وظهور تلك الحضارة الذي يمثل البسط أيضا يقابله انعدامها الذي يمثل القبض .

وربما يتعلق هذا الأمر بحضارات الصين والهند ومصر واليونان والحضارة الإسلامية، لكن ما يميز بعضها ومنها الإسلامية ان القبض والبسط (الحضور والغياب) يصبح سمة مميزة لحضارة على حساب أخرى مثل إمكانية عودة الحضارة الإسلامية أو الصينية إذا ما استندنا على مشرط توينبي الفكري بالقول بهذه الفرضية .

وهنا فان القبض أو البسط لا يعني فقط السمة التي تكشف بروز واختفاء الحضارات في مكان واحد فقط وإلا كان هذا الإطار هو نسخ ما سطره شبنكلر في دوائره الحضارية التي سرد بها مذهبه الحيوي في تفسير التاريخ والذي استند فيه على نيتشة، بل أيضا يعني قراءة العوامل التي تعمل على بسط وقبض الحضارات مع مراقبة لحظة نشوء الحضارة (إذا كانت الصورة تتعلق باللحظة الحضارية المعاصرة كما في تشكل دول في آسيا وأمريكا الشمالية) وهو أمر يخص الدراسات المستقبلية بشكل مباشر والفكر الاستراتيجي، أو يخص نظرتنا الى قراءة كيفية انبثاق أو بروز أو نمو أو تكوين أو تأسيس أو تخطيط أو تصميم وتشكيل الحضارات في التاريخ القديم، من خلال رسم دائرة على تلك الحضارة وتفكيك هيكليتها ومن ثم إعادة تشكيلها بطريقة ناقدة لاكتشاف النشوء والاندثار .

والقبض والبسط يمكن ان تحديد ملامحه في التحدي والاستجابة لتوينبي فالتحدي قبض والاستجابة تمثل نوعا من البسط، بل ان استناده على الثنائية (سواء السالب أو الموجب أو الفعل وردة الفعل التي أخذها من علم النفس ويونك بالتحديد) تمثل ثنائية قابضة وباسطة، وهكذا يمكن القول على المذهب الحيوي لشبنكلر فالحضارات مستقلة بدوائر بعضها قرب بعض، والقبض والبسط يكمن بتحول الحضارة الواحدة من مرحلة الى أخرى كل واحدة تقبض الأخرى لتبسط نفسها فالحضارة هي طفل ثم دخل مرحلة الشاب ثم رجل ثم كهل ثم موت وهكذا، ولا نبتعد عن آراء هيجل فعنده الوعي يمثل البسط والأسطورة هي الجهل، والوعي باسط كبير، وهكذا يمكن القياس على تصورات أخرى في فلسفة التاريخ

ان التعامل وفق القبض والبسط لتكوين الحضارات في فلسفة التاريخ هو أيضا محاولة لقراءة حضور النص أو الهامش الإنساني أو الفعل الإنساني بكل تنوعاته (الفعل ثابت وفعل نسبي) في تكوين البناء الحضاري وربما تكتمل الصورة المختصرة هذه بكلمات ومقالات أخرى .

 

د. رحيم الساعدي

 

في المثقف اليوم