قضايا

بين الهَوية والهُوية

raheem alsaidiمع ان استخدامها المتعارف عليه يصب بفهم واحد، الا ان احدهما – وهي الهَوية كما افهم - تنتمي الى الهوى والأهواء اما الأخرى، فهي منظومة صلدة تمثل نواة محورية تستقطب وفق مجموعة قواعد لها، العديد من الأفراد الذين يدورون في فلك تلك القواعد، ربما يؤمنون بها او تبعوها بطريقة الوراثة او عن طريق البيئة وما يدخل في دائرة الوراثة ينتمي بصورة او بأخرى الى صورة البيئة، فالتأثير المحيط غالبا يقود الى الهويات .

إن وصف الهوية بكونها النواة الصلدة يعني انها تحافظ على وجودها بطريقة دفاعية بحتة، سواء أكان هذا الوجود هو الفرد أو الجماعة أو الأمة أو المدينة أو الحضارة وكأني أصفها بالقلعة التي تحاول إحكام منافذها لكي لا تخترق من جيوش من التأثير البيئي المحيط .

والهوية هي السيستم أو المنظومة الابستيمية التي تتألف من أسس ربما تنمو أو يثلم بعض نظامها الابستيمي، فهي تنمو وتكبر إذا رصفت عناصرها التي تتألف منها وتموت إذا تعرضت الى عوامل إنهاك متعددة فتصبح مثل الأرض التي لا يمكنها تقديم ناتجها الى الغير، فلا روح أو جذوة يمكن ان نجدها في الهوية الباردة بعكس الهويات الساخنة أو الهويات الحيوية .

وعلى هذا فالهوية أشبه بالكائن الحي، تنمو وتموت، وهي تمثل الوجود فيما إذا تم قياسها بماهية الإنسان التي تمثل وجوده المادي،على  انها ترتحل مع الإنسان الى عالمه الآخر فتمثل نسخة تختلف عن غيره، وقد يصح القول ان الهوية هنا هي ماهية الإنسان التي ترافق وجوده .

وربما أمكننا الانفلات من صورة واحدة لمفهوم الهوية فهناك المحلية والعامة والخاصة والمتزمتة والمعتدلة فيمكن على هذا الأساس وصف الإنسان بمجموعة هويات منها  العامة التي تجمع مجموعة صفاته العامة وتعطيه الصورة التي تحدد ملامحه اما الهويات الخاصة فهي انتمائه المتعدد في غالب الأحيان فهو ينتمي لبلده بقباله مقارنته مع آخر من بلد مغاير وهو ينتمي لعقيدته أو طائفته أو لجماعته أو لاختصاصه أو لميوله أو لوظيفته ...الخ .

ولا يوجد بذرة لوجود ليس له هوية، فهي اما ان تكون تعريفه أو حيزه الذي تواجد به أو ربما كانت ما تركه وانصرف من أفكار، وهذا لا يعني تركيز الهويات على من لديه الحياة أو العقل، فالجبل والشجرة وحتى الرسمة والشخوص المعمار لديها الهوية التي تميزها عن غيرها فهي ليست إلا ماهية الشيء التي تحيله من لا معنى له الى وجود له أسسه التي يزاحم به ليكون شيئا في هذا العالم .

والقول ان الهويات هي موضة انتهت، يجانب الواقعية والصواب على حد سواء، بل هي سفسطة ما بعد الحداثة، فالهوية هي حاجة نفسية وعقلية معا، يخترعها الإنسان ان لم توجد، وتشير الى صفة ان الإنسان كائن اجتماعي، وقد تنقرض بعض الهويات  العامة لتولد محلها هوية أخرى، وإذ  يذكرني هذه الصورة بتوالد الحضارات وفق رأي شبنكلر والذي يدل على حيوية الهوية إلا ان تبدل الهوية قد يخضع لتحدي واستجابة إذا ما وضفنا منهجية توينبي في فهم تجاذب التاريخ، ولو تركنا السؤال الملح جدا، لماذا تنقرض الهويات أو الهوية فان الأسئلة التي تقفز الى مشهد البحث هو هل الهويات في فلسفة التاريخ هي الحضارة أم الدولة أم القبلية، وهل انقاد فلاسفة التاريخ لهوياتهم الخاصة أم العامة وهل تعتمد  الهوية على  العصبية أم  العكس، وربما سيطول  الحديث الذي تساوق مع فلسفة التاريخ، إلا ان كل فرد سواء فيلسوف التاريخ أم غيره يستند على أفكار معينة فان خلعها فانه يتجه الى هوية أخرى جديدة، وهو توجه جديد قد يكون مرده النفع أو الحاجة أو التأثر بالآخرين أو الانقياد الى مواكبة  التغير،أو عدم استيعاب أفكاره الأساسية وحتى ربما الشعور بالخجل منها وذلك يعني انه طارئ  على ما امن به سابقا،  ولم يمحصه كما يجب، ومع هذا فانه سوف يتقلب كثيرا بهويات أخرى، ومرد ذلك الى التجريب ومحاولة الاكتشاف وطلب التغيير .

إن ما نلمسه اليوم من  تفتت  الهويات أو انزياحها، بالنسبة لقلة من الأفراد أو الجماعات سبب الميل للاكتشاف أو  لضعف الأدوات أو للرغبة بالتحرر من القيود أو محاولة تقديم المغاير  الجديد والمختلف – كما يتخيل- وهي  مغامرة تقود الى صناعة فرد واحد، في حين إن هويات الأمم أو الأفراد أو الجماعات ستبقى الأكثر قوة دائما، حتى وان كانت هوية الفرد التي يسعى الى صنعها هي نسخة مبتكرة أو غير مبتكرة، ولا اعتقد ان هذا العالم سيسير يوما من دون اتكاء الأفراد والشعوب على الهويات .

 

د.رحيم الساعدي

في المثقف اليوم