قضايا

كرة القدم وثنائية صراع الذوات القاتل

raheem alsaidiنشرت فيما مضى مقالا حول جدلية القدم واليد وأشرت الى ان لعبة الغرائز تحولت من الملعب الاولمبي أو من ساحة القتال الدموية الرومانية وغيرها الى صورة وسيطة هي  الصراع مع الثور الاسباني في ساحة ما تزال مفتوحة ثم الى نمط مخفف من التحايل وهو ملعب كرة القدم .

كما إن تقسيم فيثاغورس الفيلسوف اليوناني للناس في الملعب الاولمبي الى ثلاثة أنماط  والتي منها نمط يتاجر وآخر يستمتع وآخر يشجع، أشار الى تفسير لغرائز الناس في ذلك الوقت، وهذا التقسيم الذي ادرسه لطلبة الفلسفة في المراحل الأولية، لم أجده تغير كثيرا، وهي نمطية تقسيم وجدناها عند الإمام علي بعده الناس وفق ثلاثة أصناف، واختيار فيثاغورس للمثل الواقعي كان جميلا فالناس بين مستمتع ومتاجر ومتعصب، ولكن هل يوجد اخطر من متعصب؟ كلا بكل تأكيد، فالتعصب يقود الى الخسران كما كان يقول لي أستاذي المرحوم الشيبي .

إن 35 وثلاثين مليون فرد ينظرون الى قضية ما في نفس الوقت في التلفاز، يعني انها 5 ملايين عائلة فان كان من ينظر الى هذه القضية باهتمام هم 4 ملايين فرد فقط، فذلك يعني ان العدد مهول، فإذا سيطرت عليهم وتابعوها بطريقة مشوقة فالخطر سيكون بسيطا ان كان سينتهي بشكل سريع اما إذا استمر فهناك كلام آخر .

سابقا كانت العائلة العراقية تنظر بشوق لبرنامج يهتم بإظهار مشاكل العائلة العراقية من شعوذة وسحر باهتمام بالغ، وسيكون الأمر مختلفا لو انهم شاهدوا البرنامج وانتهت آثاره في وقتها (مثل الماضي التام في اللغة الانكليزية) لكن المخيف ان العائلة الواحدة أخذت تشك بالعائلة الأخرى وبنفسها مع بعضها البعض وأصبح الدخول من منفذ شك النساء هو اخطر ما في الموضوع .

هنا بإمكان هذا الشخص السيطرة على 4 ملايين فرد من العائلة العراقية، ويمكن أيضا زرع الشك والبغض (وبشكله الجماعي)، ويلعب الإعلام الدور المريع في هذه القضية ,حتى ان انغماس الناس في خدر الانتباه الى ذلك البرنامج او لكرة القدم سيكون وازعا لممارسة السراق السرقة وسط هذه الغفلة، ان هذا الخشوع في الانتباه لكرة القدم  لن تجده مطلقا في صلاة ممارسيه، وهو غيبوبة لا أكثر،فترى الكثير من الإخوة الأعزاء (خاشعا متصدعا من لعبة ما)

وكرة القدم فهي نتاج متصل من لعبة غرائز عالمية،خرجت من كونها لعبة بريئة وتحولت بفعل العولمة الحديثة الى لعبة غرائز يمكن من خلالها الهاء الأمم، وهذا النوع من السيطرة على الغرائز يتعلق بصورتين متناقضتين هي (أنا + الآخر) وهو شرط ضروري لديمومة هذا الصراع ، وهي ثنائية أيضا ترتبط بثنائية (النفس والجسد الإنساني) (وبثنائية الانتصار أو الخسارة) (وبثنائية الموافق لي أو المخالف) (وبثنائية الأنا أو اللانا) (وبثنائية الحسد والغيرة)(أو بثنائية التكبر والذل) .

ولو كررت هذه العملية فان التشجيع بكرة القدم يتحول بفعل عوامل عديدة من مشاهدة بريئة الى صراع بين طرفين متصارعين، وفق ثنائيات النفس الإنسانية التي تبحث عن التفوق .

إذا فالصراع ليس بين فريقين ولمجرد الجمال أو اللعب الجميل بل يتحول الى صراع غرائز بين شخصين أو مجموعتين أو مجموعتين ينتصر كل منهم الى طرف، وهؤلاء لا ينتصرون إلا الى أنفسهم، لان خسران فريقهم يشكل ذلة من قبل مشجع الآخر وانتصار فريقهم يعني عزة لهم وهي من دون شك عزة وذله وهمية لا وجود لها، وكلنا يعرف ان بعض الناس لا تجد لقمة لأطفالها ومع هذا تقضي اغلب الأوقات بالدفاع عن فرق تؤمن على أطراف لاعبيها بمئات الملايين .

إن المتعة التي يطلبها  الكثير من هؤلاء (وجلهم إخوة وأصدقاء) هي نوع من أنواع الوهم الوجودي، فكيانهم يبنى على إحراز نصر لصرة ممتلئة بالهواء أو لفريق لا يمثل بلادهم، فان كانت مشاهدة من اجل الجمال فلا باس ولكنها لدى الأعم الأغلب لا علاقة لها بالجمال،لان لها غاية تثير لذة التشفي او الثائرية فيما بعد، وبغض النظر عن الطرق الإستراتيجية بالهجوم والدفاع والتغيير وأسلوب إدارة ما يمثل  معركة حقيقة، ولعله هروب من قبل الإخوة الأعزاء من سوء المظهر السياسي والاجتماعي والفكري والإداري والعسكري وهو تبرير فيه شيء من الصدق والواقعية، ولكن عليهم الاعتراف بأنه نوع من الإدمان الجماعي الذي يتحول شيئا فشيئا من نقطة محددة الى نقطة اللاعودة، فهم أشبه بالذي يهرب من إدمان السكائر الى إدمان المماحكة والتنابز والجدل وادخار والتوتر والتسابق على الانتصار لأنفسهم أولا، وإلا هل يعتقد هؤلاء ان هذه الدول أو هذه النوادي تهتم لهم .

وما يجعل هذه اللعبة لا تنتمي للجمال بمرور الوقت هو جانب التنافس الذي تحمله (الثنائية المتصارعة بداخلها) والتي تؤثر على الثنائيات الأخرى ببلدان أخرى، فهي ليست احد الأفلام التي تثير فيك المتعة مثلا وتنتهي بوقتها، فأثرها يمتد ويتجدد بطريقة ثائرية لا أكثر.

إن الصراع الثنائي يتحول الى مرض نفسي مبسط، ويتحول الى مرض بالتكرار، وقد يتشابه هذا الصراع مع الآلية التي يتبعها المتماحكون من الناس والمتجادلون في القضايا السياسية، فصراع طرفين أو شخصين انما لإثبات صدق احدهما على الآخر وتدعيم لاتخاذه وجهة نظر أكثر قوة، فهو يشعر باللذة لأنه يختار الأصح أو الحق وفق تصوره (هكذا بكل بساطة)

وهذه القضية لم تقف على جزئية أهل الرياضة (سيما كرة القدم من دون بقية الألعاب،لان كرة القدم مدعومة من قبل الأعلام، وأشياء أخرى) بل استطالت الى السياسة والى العشيرة وبعض المكونات الاجتماعية في وطن واحد (مثل أهل الجنوب وأهل الغربية) إلا ان الأكثر خطورة هي ثنائية الطائفية التي يغذيها الشعور بالغلبة أو صك الحق أو الركون الى أصلح الآراء، وكل هذا يجر الى سجالات مختلفة الفعل وردة الفعل .

اعتقد بان علاج هذا الإدمان النسبي الذي يرتفع وينخفض هنا وهناك والمتمثل بالتشجيع الالتهامي أو العنيف أو الانتقامي لكرة القدم، يجب ان يعالج بهدوء، فهو إدمان لا يمكن للفرد اي فرد إطفاء حريقه بقلعه مباشرة،ومن دون أسس، كما ان تغيير بعض أسباب الحزن في بلد حزين مثل العراق أو غيره قد يخفف من هذا الهياج، الذي يمتد في التشجيع الجارف، وهو يهرب من السوء السياسي والاجتماعي .

 

د. رحيم الساعدي

 

 

في المثقف اليوم