قضايا

المنحني والمستقيم بين التاريخ والمجتمع والمستقبل

raheem alsaidiبين التخطيط والتصميم والتطبيق علاقة تنهزم أحيانا بفعل معوقات مختلفة، وتصمد طويلا في احيان عديدة، من يطلع على عشوائيات التخطيط في اغلب بيوتنا سيدرك ذلك ومن يركز في عشوائيات التخطيط في مدننا أو عشوائيات المدينة الظل (وهو تعبير مخفف من تسمية أشباه المدن) سيدرك ذلك أيضا، والقضية وحلها أمر طويل المدى، فالمعادلة تقول ان عليك ان تخرج النسبة الأغلب من أهل النزاهة والمعرفة الحقيقية لتبني وطنك ومدينتك، تربي المربين ليربوا فيما بعد الأفضل، وتربي الصالحين ليصلحوا، اما تربية الغباء فسوف يثمر غباء، فعليك ان تخرج مهندسا نزيها وطبيبا نزيها ومعلما نزيها ... وما شئت فعدد من أهل هذا الصنف الذي أخشى انقراضه، اما إذا خرج لك السياسي غير النزيه، فاترك حديث التخطيط الى لحظة اقتلاعهم أو (شلعهم)، فالسياسي غير النزيه أو المغمور أو النفعي أو البليد أو الحقود أو الذي يجعل أناسه ووطنه مشروعا ثانويا (لن تجد له جارة) وهو مشروع اعوجاج مستمر .

ومما يسترعي انتباهي من تقابل بين المستقيم والمنحني هو عشوائيات مقابرنا، فالقبور وهندستها تشير الى حضارة ما، ميتة كانت أو حية، منظمة أم لا فهي بقتامة توزيعها تحاكي النفس السسيولوجية المضطربة لمجتمع معين ينهزم في داخله أو يتأزم، فبغض النظر عن التخطيط الذي حدث مؤخرا لبعض المقابر إلا ان البؤس هو ما نراه من عشوائية تخطيط القبور في العراق سيما في النجف، فالحاجة هي من تدعو الى طريقة بائسة لتداخل القبور فلا تجد العقل أو التخطيط الإداري الذي لا يضيع لك الوقت أو الجهد، وعندما أقول انها الحاجة فلعلها الحاجة ذاتها التي وسمت أفرع المدينة النجف القديمة بشوارع متداخلة ضيقة سببها احتراز من هجوم الارهاب الوهابي على تلك المناطق المقدسة، فقاد الفكر أو الحاجة الى ان مرور دواب الغزاة من تلك الشوارع الضيقة يمكن المدافعين من إخراج رماحهم أو أسلحتهم من النوافذ والابواب او الاسطح لقتل الغزاة، ولست ادري هل هي الحاجة الجماعية أم ان احدهم فكر بهذه الصورة الدفاعية، وهي ذات الصورة التي استخدمها المقاومون البواسل في معركة النجف ضد الأمريكان بعد 2003م  بعد سقوط النظام الذي قتل شعبه  عشرات المرات بالإضافة الى جيرانهم .

إن آلية المنحني التي تتسلل الى الذهن الإنساني دائما، ترافق نية أو إرادة الإنسان أو بداية لحضة الوعي (الزائف منه أو الصالح) وشروعه بعمل ما، والإنسان واحد  كما ان العقل واحد سواء أكان في إفريقيا أم في جنوب العراق أم في الغرب وأمريكا واليابان، لكن الخيال والمخيلة  تختلف إي ان الإبداع أو المغاير أو المختلف يبدأ من لحظة السيطرة على نقطة البداية أو الانتباه لها، مثال ذلك أنت متعب، او مشوش او خائف وقمت برسم  هندسي خاطئ فسوف يقودك الى مجموعة من الأخطاء،وهو بداية الخطأ الذي سيستمر طويلا، وهي مسالة مرت علينا بصورتها المعوجة مئات المرات في حياتنا، فالتربية الخطأ والانتماء الخطا والصداقة الخطا والتعليم الخطأ في بيوتنا قادت الى خطا دائم والزواج الخاطئ كذلك ...الخ .

ولا ضير من توظيف المنحني في دائرة الخط المستقيم العامة إذا كان ينتمي الى النسق العام، كما في وجود القوس أو الأقواس في هندسة العمران أو توظيف المنحني ضمن نسق العمران لما بعد الحداثة عند زها حديد، ولكن الإشكالية تكمن في العكس من هذا فيصار الى توظيف المستقيم في خدمة المنحني والعشوائي وهو التوافق الخاطئ الذي لن يقدم إلا الترهل وخفض قيمة الزمن المستقبلي .

والقول ان استخدام أسلوب الاعوجاج في الغرب قد يرد فلأنه كان السائد حتى صححوه، وإلا فانك لن تقنعني ان ألمانيا الهوجاء بقناع الجيرمان القديم أو بريطانيا وغيرها هي بذاك العقل والتصرف الذي قادها الى ان تخطط المدن وتبني الاقتصاد، لا فالاستحالة التي عليها ألمانيا وغيرها اليوم تقول ان سياسة الخط المستقيم طبقت على مستويات الاقتصاد والعمران والتخطيط مع ان المنحني سياسة لازالت تستخدم لديهم ولكن مع أبناء العالم الثالث . بل ان المنحني السياسي كان متزامنا مع سياسة الاعوجاج القديمة الحديثة فالسيطرة على الدول والعالم بالحربين الأولى والثانية كانت تمثل الخط المنحني السياسي وقبلها وما بعدها أيضا، وهكذا يمكن القياس على حروب نبوخذنصر والفراعنة والصين وجنكيز خان وحروب الفتوح وغيرها، وما يميز حرب أو سياسة المنحني عن المستقيم ان الأولى ذاتية فيها نزعة أنانية وإلا فان بعض الحروب حق لأنها تحاول استئصال خطا أو شر أو ظلم أو باطل أو لا منطق .

وبالإمكان النظر من الأعلى الى تنظيم المدن الحضارية الغربية وتقاطعات طرقهم وهندسة حقولهم وضربات فرشاة لوحاتهم والية بناء البيوت وتناسق الألوان، وتجميع وهندسة مكائن سيارتهم وعبورهم الشارع ومد الأرصفة وزوايا بناء بيوتهم وألوانها، لتعرف كم ان حضارة الخط المستقيم توفر الجهد وتشعرك بالارتياح وتضفي عليك صفة العقل أو العقلانية وتمنحك الهدوء، فهي إدارية أولا وفكرية ثانيا واقتصادية ثالثا وهذه هي عناصر الحضارة لو تأملنا قليلا ؟. حتى انك لتعجب من تخطيط قارة برمتها مثل أمريكا الى مربعات مثلت مدنا كبيرة جدا، وكان عملاقا قام بالنظر الى قطعة ارض مثلت قارة كبيرة وخططها .

 ذلك طبعا بصرف النظر عن القيمة الأخلاقية لهؤلاء البنائين الذين عودونا على البناء الجميل لبيوتهم بمقابل تحطيم بيوت وحضارات الآخرين وهو منهج اقرب الى مفردة (حسد الحضارات) والى صورة الحقد أو الغل الإيديولوجي وهو حمولة يقودها عقل الهوية أو هوية العقل الغربي، الذي يشعر بان عليه تعويض صورة ابنه المقتول (وهو الدين) الذي قتله الابن الآخر للحضارة الغربية (وهو العلم) في معركة قديمة  رسمت منهج حركة  الفكر الغربي وامتهانه التخصص بقضية  محددة، نتج عنها تربية الذائقة الغربية وتحديد  الأولويات وسد منافذ الجدل الديني ليحل محله الجدل العلمي، ولتكبر هذه التركة أو لتتغير قواعد المعركة من  حرب الدين الى حرب العلم، فيما لا يزال  العرب يعيشون هذه الصورة القديمة، يعيشون  محنة تشابك المنحني  على مستوى العمران والسياسة والفكر والعلم، والقول بسد منافذ المنحني في الجدل الديني لا يعني هجران الدين، بل ترك جدله فقط .

إن المستقبل هو رسم تخطيطي افتراضي يمثل اما صورة هندسية متكاملة او عشوائية، هادمة وقاتلة للزمن الانساني . وما احوجنا الى امتهان استراتيجية الخط المستقيم في امورنا الادارية والعلمية والسياسة والعمرانية .

 

د. رحيم الساعدي

 

 

 

في المثقف اليوم