قضايا

الأخلاق الالكترونية أو مقدمة لمفهوم الأخلاق السبرانية

raheem alsaidiالخوض باصطلاح الأخلاق الالكترونية قد يكون اجتراحا لا يتفاعل معه العديد من الباحثين، ولكن إذا كان علم الأخلاق يشير الى دراسة الفلسفة أو الفكر الأخلاقي لمنظومة القيم أو السلوكيات المختلفة، والحديث عن الخير والشر والفضيلة واللذة والسعادة وفعل ما يجب أو ما ينبغي ....الخ فإننا في عالم الأخلاق الالكترونية نحاول فهم خارطة تلك الأخلاق المشيرة الى دائرة مهمة من فعل الإنسان الأخلاقي المتصل بالواسطة الالكترونية فتصبح وكأنها البرزخ الذي يتبلور فيه الفعل الأخلاقي الإنساني ويجنح وفق قواعده الجديدة الى وجود الآلة، والذي يتصل أيضا بالواسطة الخاضعة الى الذات الأخرى لكي يفهم أو يصار الى تأويله وفق تأثيرات تلك الآلات الموجودة في الطرف الآخر .

ويعني أيضا انه ذلك (الفعل الأخلاقي للانا الإنسانية) وهو يتواصل باتجاهه الى الواسطة الالكترونية وبمرور الوقت التكنولوجي المتطور الكافي سوف يتحول ويتغير معناه عند مروره أو تداخله مع الواسطة المقابلة أو التابعة  للذات الأخرى .

فنصبح أمام ذاتين ولكل ذات ما يمكن وصفه بالسكرتير المخادع أو الطموح الذي يحاول ان يبرز باعتباره ذاتا أيضا، فتصبح الصورة اقرب الى العولمة الإنسانية الداخلية التي يستحيل فيها الأطراف (اعني كل من ذاتي وذاتك) الى هامش بينما تصبح المركزية والنواة والقوة والحل والعقد، إنما لذاتين موشورين وسيطين هما كل من آلتينا اللتان تتصلان بشكل متماس (آلة متماسة مع الاخرى)، واللتان تتجاوزان الكثير من العقبات والإخفاقات بمرور الوقت، الى درجة ان أفلام الخيال العلمي وهي الممول الرسمي لذلك الرعب التكنولوجي أشارت الى وجود ذوات بديلة (وهي نسخة طبق الأصل منا) وسوف توجد في المستقبل لتقوم بانجاز المهام  الاجتماعية وغيرها بدلا عنا .

وسيصار وفق هذا الى قواعد أخلاقية مختلفة أو جديدة تتكيف والوضع التكنولوجي القادم ومتغيراته، وهو أجراء ينمو ويتطور باستمرار ويتقولب وقد لا يمكن إيقافه تبعا لتطور التكنولوجيا، وعلى هذا فنحن أمام تعريف جديد لفهم الأخلاق الالكترونية أو التكنولوجية، قد يقترب من أخلاقيات الجانب البواتيقي  التي  تبحث في الأخلاقيات العملية العلمية المتوشجة بالعلم وتأثيرات الطب والبيئة ومختلف العلوم في قواعد الأخلاق ، لكن الحديث عن التطبيقات الأخلاقية الالكترونية هنا انما هو وفق متغيراتها وقوة التأثيرات التكنولوجية البعيدة المدى وهي تحاصر الفعل الأخلاقي للذات الإنسانية .

والمتتبع لتاريخ تطور الآلة على مر تاريخ الإنسانية سيعرف ان لا طفرة في كل التاريخ وصلت الى ما وصلت إليه الحضارة العجولة اليوم .

أنها عملية أشبه بقضية عملة ال بيتكوين (Bitcoin) الالكترونية وهي عملة يمكن مقارنتها بالعملات الأخرى مثل الدولار أو اليورو، لكن مع عدة فوارق أساسية، وهي عملة إلكترونية بشكل كامل تتداول عبر الإنترنت فقط من دون وجود فيزيائي لها. كما أنها تختلف عن العملات التقليدية بعدم وجود هيئة تنظيمية مركزية تقف خلفها، لكن يمكن استخدامها كأي عملة أخرى للشراء عبر الإنترنت أو في متاجر تدعم الدفع باستخدام بطاقات بيتكوين أو حتى تحويلها إلى العملات التقليدية.

انه التحول من 1- التناول الواقعي واستخدام الأدوات الواقعية التي تفعل شيئا (مثل تداول القيمة المادية بكافة أنواعها من المادة لتحقيق فعل واقعي على الأرض) الى 2- التناول الالكتروني غير الملموس واستخدام اللاملموس (مثل تشغيل عملة البيتكوين الالكترونية) لتحقيق فعل واقعي وله حضور وتأثير .

ويمكن السؤال هل تجدي المحاولة لتعريف الأخلاق وفق المنظومة القيمية الظل (اقصد المتوارية خلف أو بداخل التكنولوجيا) والتي لا نعني بها أخلاقا ثانوية بل الأخلاق من موشور غير مباشر .

ويمكن تقريب الصورة بين الأخلاق التي تتحدث عنها الفلسفة والأخلاق المتوارية خلف جدار الحداثة والتكنولوجيا، فالوسطية الأخلاقية التي بثها أرسطو بكتبه قد تذوب وفق وجود البعد الثالث للإنسان المولف من المشاعر والقيم واللذة والتفاصيل الأخلاقية المعبئة في (الوجود الالكتروني) في العالم الالكتروني الثابت القدم،  وإذ تحدثت في مقال سابق عن الانطولوجيا الجديدة وعنيت بها مستقبل البشرية أو النهائي في عالم مختلف في البيئة والمنطق والعلوم فإنني هنا أيضا أحاول استبطان الوجود الأخلاقي الالكتروني .

والذي تبدو غايته بالتشضي فهو رهين المنتجين للتكنولوجيا والذين يحاولون بصبر ودأب ونهم ودراسة مراوغة، ثلم السيستم الأخلاقي، وقد يعيق تقدم الأخلاق الالكترونية التي تسير مثل نهر لا يهدا، هو وجود المنظومة القيمية الاجتماعية والدينية في العالم الإسلامي التي تعتمد آلية التكرار والنشر والأعلام الديني .

ويمكن وصف طبيعة الأخلاق الالكترونية، بالذاتية الكاذبة فالآلة لا تترك للإنسان مساحة من الذاتية وان تصور ذلك، فيمكن ان نرى ذواتنا تختفي أو تذوب في غيبوبة وتنسحب الى بعدين أساسيين أو أكثر الأول هو الآلة (الموبايل مثلا) والثاني هو (شبكات التواصل بشكل عام) وربما تدخلت الألعاب والوسائل التعليمية والتدريبية ودخول وسائل الخدمات في البيوت وتصنيع الروبرتات ومنظومة الذكاء الآلي وهذه هي وسيلة نمو الأخلاق الالكترونية وطبيعتها، فالقوانين الأخلاقية  الجديدة سوف تزاحم (بحكم الضرورة والتطور) القوانين الكلاسيكية التي نعرفها عن الأخلاق، وما الهزة في إعادة هيكلة المفاهيم الأخلاقية التي أحدثتها البواتيقا، إلا الخطوة الأولى للاتجاه نحو الأخلاق الالكترونية أو علم ألأخلاق السبرانية .

قد يحدد البعض أبعاد الإنسان الكامل بثلاثة أبعاد منها النفسي والجسدي والروحي،ولكن تلك الأبعاد تذبل عند المرور من موشور التكنولوجيا . فهل يمكن للسلوكيات والأخلاقيات التي تتعامل بالتكنولوجيا  ان تحل محل الأسس الأخلاقية التي تعرفها وتتبناها الفلسفة .

أظن اننا بحاجة الى المؤشرات التالية للحديث عن أخلاقيات الفضاء السيبراني أو الأخلاق الالكترونية :

1. مناقشة المرجعيات الفكرية للفعل الأخلاقي المرحل إلينا من التعامل مع الآخر بالواسطة (التلفون وغيره ) وفهم دور وبنية الأخلاق فيما إذا كان الإحساس أم العقل أم كلاهما أم غياب الجميع  أم ان هناك محاور مختلفة مثل القانون أو العلم أو المصفوفة الهندسية

2. مناقشة مستقبل ثبات أو نسبية  القيمة الأخلاقية أو مفاهيم الأخلاق وفق بنيتها الكلاسيكية أو القواعد الأخلاقية الجديدة .

3. هل يختلف السلوك الأخلاقي وفق الاختلاف التكنولوجي، بمعنى ان الأدوات المتطورة يمكنها تحديد أو تغيير أو ابتكار سلوك مغاير أو قوي أو نقي أو هامشي أو سلوك مريض، وهل يمكن لتطور الآلة تقديم بنية أخلاقية جديدة .

4. إذا قال هايدكر بالبعد الآخر للإنسان هل يمكن اعتبار الهاتف أو اللعبة أو الحاسوب أو سواهم هم البعد الثالث أو الرابع للإنسان، وما حجم نمو ذلك البعد، وتأثيره على المديين البعيد  والقريب .

5. الروبورت الآلي اليوم يستشعر أو في طريقه للاستشعار، هل يدخل ضمن المنظومة الأخلاقية الإنسانية، وإذا اخذ مساحة مساحته العلمية المتقدمة، كيف يمكننا عده موجودا أخلاقيا .

6. البديل الذي شاهدناه في الأفلام الافتراضية والذي يمكن له ان يقوم بأداء بعض الواجبات عوضا عن أصحابها وهو نسخة طبق الأصل مرقمة ومرخصة من الدولة، هل يمكننا إضافة سلوكها الذي تديره ببراعة الى سلوكنا، وما هو الحد الفاصل بين كونه نحن أو كونه هو هو فقط .ووفق هذا أيمكننا استبدال مفهوم هايدكر القائل،الإنسان هو موضوع الانطولوجيا،وهو الكائن الوحيد الذي له علاقة مع ذاته وهو  ظاهرة من ظواهر الوجود .

7. مناقشة وتحديد مصير الكثير من المفاهيم التي تقف في هامش المنظومة الأخلاقية العامة ومنها الملكية الالكترونية فضلا مفهوم الهوية وتشعباتها وتداخل الحكم الأخلاقي مع بنية القرصنة الالكترونية ونسخ الهويات وتباين الذات في صورتيها الالكترونية أو الذات الحقيقية .

8. ومن الممتع حقا الحديث عن الذات الالكترونية فهي بناء ونسيج يبدو انه يملك من الخصائص ما يجعله شخصية معنوية لها وجودها الذي يظهرها وكأنها تختلف عن ذاتها الأصلية .

9. إن هذه الانجراف التخيلي قد يقودنا الى إعادة فهرسة النظريات التي عرفناها من خلال أساطين الفلسفة من سقراط وأفلاطون وأرسطو الى الفلسفة الإسلامية الى الفلسفة الحديثة والمعاصرة، والتي حددت الفكر الإنساني بالعقل أو بالحواس، فمع الذكاء الصناعي الذي ينمو باستمرار يصار الى إعادة الفهم لبعض ما نتج عن نظرية المعرفة خلال الآلاف من السنوات، وهذا ينطبق تماما على مفاهيم الأخلاق والجمال أيضا، والذي يبدو الأقرب للتغيير وفق نشاط وطموح موجة ما بعد الحداثة التي تحاول تحطيم النسق أو قيود اللعبة الجمالية وحتى المعرفية والأخلاقية، وسوف يكون للفضاء السبراني الدور المهم في هذه الانتقالات .

 

د. رحيم الساعدي

 

 

في المثقف اليوم