قضايا

اليسار وجدل السياسة والدين

في يوم يبعد سنوات عديدة عن يومنا هذا وفي لقاء عام في منزل رئيس الوزراء في العهد الملكي المرحوم الدكتور فاضل الجمالي قال الأخير وهو يتحدث بشكل عابر عن شؤون السياسة أن الشيوعي ملحد بالضرورة، فعارضه أحد الحضور (من عائلة البصام) بأن ذلك غير صحيح معللا قوله بأن الكثير من الشيوعيين ليسوا بلمحدين فهم يؤمنون بالله ويمارس بعضهم الواجبات الدينية من صوم وصلاة. فرد عليه د. الجمالي بأن مثل هذا الشخص ليس بشيوعي.

إذا دققنا في رأي د. الحمالي - لنقل من وجهة نظر أصولية – سوف يتبين لنا أنه، وهو الموسوم بأنه يميني، أي مرادف ل "رجعي"، كان افضل فهما للماركسية من السيد لنسميه "التقدمي" (مبدأ أسبقية الوجود على الوعي). وإذا نظرنا للأمر من وجهة نظر واقعية فإن صاحبنا التقدمي ليس مخطئا كليا ذلك انه يستند بكلامه إلى واقع قائم.

وفي ضوء ذلك فإن السؤال الذي يطرق باب الذهن هو: إذا كان اليساري الذي يدين بالنظرية الماركسية قادر على الجمع بين نقيضين (الماركسية والدين)، فلماذا لا يستطيع الإسلامي –أو بلغة التحريم المتداولة "لا يحق" له - أن يشكل حزبا سياسيا فيجمع بين السياسة والدين اللذين هما أصلا غير نقيضين لبعضهما البعض؟إن القول بأن الدين هو شأن خاص والسياسة شأن عام هو قول لا تاريخي اي يتجاهل التاريخ إذ كان الدين شأنا عاما (سياسيا) في كل العصور ومنذ أن قام الرسول (ص) بتاسيس دولة المدينة (يثرب) ولو لم يكن شأنا سياسيا لما كنا رأينا الجيوش الإسلامية تنداح خارج الجزيرة العربية لتؤسس في بضعة عقود واحدة من أعظم الأمبراطوريات في التاريخ ولبقي الدين شأنا عائليا يتداول شؤونه في ساعات السمر الليلي.

وفي حقيقة الأمر فإن الإسلامي عندما يشكل حزبا ويضع نصب عينيه الفوز بالسلطة السياسية فإنه يفعل ما يفعله الماركسي أو اي صاحب فكر، اي أن يعمل على نقل الفكرة (الأيديولوجيا) من حيزها المجرد إلى حيز الواقع. وهما، أي الإسلامي واليساري، يشتركان بهدف واحد وهو إقامة نظام العدالة، وفيما نظام العدالة يقوم عند اليساري (الأصولي) على إلغاء الملكية الخاصة وبالتالي إلغاء الطبقات كشرط لازم لإحقاقها يقوم عند الإسلامي على أخذ فائض أموال الأغنياء ومنحها للفقراء. و لا يمكن لأي منهما، أو غيرهما، ان يكونا قادرين على تحقيق هدف كهذا دون أن يكونا في موقع السلطة ذلك ان اخذ فائض أموال الأغنياء لمنحها للفقراء هي مهمة الدولة، وهل من سبيل لذك غير عبر السياسة؟ ومن الناحية الواقعية فإن الصيغة الإسلامية للعدالة هي أقرب للواقع الدولي المعاش حاليا (نظام الضريبة في الدول الغربية) من الصيغة اليسارية التي جعلتها التطورات لتي حصلت خلال العقد الأخير من القرن العشرين صيغة خيالية.

نعم الديالكتيك الماركسي له قواعده والماركسية نظرية في الاقتصاد والاجتماع وغيرها، وهو ما لا يملكه الدين غير أنه هنا تكمن أحد عناصر قوته وليس ضعفه لأن ذلك يجعله مفتوحا على كل النظريات والأفكار والتجارب التي لا تتعارض مع جوهر الدين. وكما خرج من بطن الدين فلاسفة الإسلام العظام مثل الفارابي والغزالي وابن سينا والرازي وابن رشد و ابن خلدون وغيرهم فيمكن لهذا الدين أن يخرج منظرين اقتصاديين واجتماعيين في ظروف مؤاتية وأهما التحدي الفكري الذي، مع الأسف، لم تعد النظرية الاشتراكية تمثله وكذلك تحدي السلطة.

وهذا لا يعني أن الساحة العراقية والساحة العربية عموما خالية من التحديات بل بالعكس وأهما تحدي متطلبات السلطة حيث يكون يكون هناك حزب إسلامي يشارك في الحكم وتحدي آخر بالغ الخطورة هو تحدي الفكر التفكيري وممارساته وما أنتجه من خراب باسم الدين والذي لم ينته بعد. هنا بالتحديد يجب التذكير أن أحدا (عدا متطرفي الغرب) لم يضع اللوم على الدين الإسلامي بسبب ما حصل في سوريا والعراق وما يحصل في مصر الآن بل كلهم أجمعوا أن ذلك لا يمثل الدين. ودفع العشرات من رجال الدين الشرفاء في الأنبار والموصل وصلاح الدين وديالى وغيرها من المدن العراقية حياتهم ثمنا لمواقفهم الرافضة لهذه الصيغة الغريبة عن الدين كما يعرفه العراقيون ولم نسمع يساريا واحدا قتل على يد داعش لأن معارك اليسار كانت في مكان آخر على الهامش خارج دائرة هذا الصراع الوجودي.

نحن لم نر اليسار يأخذ على عاتقه - مساندا حكومة منتخبة وليس حزبا ما- أن يتصدى دون لبس للفكر التكفيري ويعتبره يمثل أكبر خطر فكري ومادي على العراق والمنطقة وأن النضال ضده يجب أن يحتل الأولوية ويتطلب تعبئة كافة الجهود الوطنية ونبذ الخلاقات. إن من تولى هذه المهمة هم المقاتلون الفقراء على الأرض مدفوعين بالعاطفة الدينية ورجال دين على مستوى الفكر.

في ساحات المعارك دفع الحشد الشعبي أكثر من 37 ألف شهيد وعدد أكبر من ذلك من الجرحى منهم من ترك أم ثكلى أو زوجة تنتظر أول وليد لها أو أطفالا صغارا لا معيل لهم بينما انشغل اليسار بالنضال اليومي انطلاقا من ساحة التحرير. ألم يكن هؤلاء المضحين قد قاموا بما قاموا به بدافع ديني؟ ولو كان هذا الدافع غائبا ما هو الدافع الذي كان سوف يحل محله؟ هنا قد نسمع "وطنيا" يرد: "إنه الدافع الوطني". ولكن لو كان الدافع الوطني موجودا في العراق بالوفرة الموجودة في دماغ هذا الوطني هل كان بإمكان بضعة آلاف من المسلحين أن يستولواعلى ثلث مساحة العراق؟ من دحر هؤلاء غير الوازع الديني أم تراهم ولوا الأدبار عندما شاهدوا شعارات اليسار في ساحة التحرير؟

قال لي "مثقف" أن هؤلاء المضحين إنما ذهبوا للقتال مدفوعين ليس بوازع وطني بل من أجل التضحية في سبيل الحسين (عليه السلام). أرجو المعذرة إن قلت أن هناك نوعا من "العصبية الثقافية" يمتاز بها هذا النوع من المثقفين إذ يظن هذا المثقف أنه قال شيئا ينتقص من قيمة ما قام به هؤلاء عندما جعل من "الدافع الحسيني" أدنى مرتبة من الدافع الوطني بينما الدافع الحسيني، كما أراه، هو ليس دافعا طائفيا كما في أذهان هذا النوع من المثقفين بل دافعا إنسانيا شموليا يتجاوز مفهوم الوطنية والقومية، يتمثل بالدفاع ليس عن أرض بحدود معينة تسكنها مجموعة بشرية مشاركة بالجغرافيا بل دفاع عن من تعرض لظلم على يد ظالمين سواء كانوا من داخل الجغرافيا المشتركة أو جاءوا من خارجها.

في منتصف السبعينات عندما اشتد الصراع المسلح بين الحركة الكردية ونظام الحكم شكل الشيوعيون– وكانوا متحالفين مع البعث- كتائب مسلحة قاتلت الحركة الكردية إلى جانب الجيش العراقي وعندما احتلت داعش ثلث مساحة العراق وهبت جموع الناس لقتالهم لم يقف اليساريون عموما مساندين حتى ولو بالدرجة الثانية من الإيمان (اللسان)، بل أن بعض "المثقفين" القريبين من اليسار عاطفيا جعل من المشروع الداعشي كله ذي الأبعاد الإقليمية والدولية (مئات آلاف المقاتلين في العراق وسوريا من جميع أنحاء العالم تقريبا) مسؤولا عنه شخص واحد وكان (أي المثقف) لا يشعر بالارتياح عندما يسمع أن الحكومة تحرز تقدما ضد الإرهاب فعجز الحكومة كان ضروريا بالنسبة له ليثبت أن المأساة الداعشية ولدتها الأحزاب الدينية وهو ما درج الإعلام الخليجي (يدخل في ذلك الإعلام العراقي الممول من قبلهم) على إقناع المشاهد العربي به وحقق بذلك نجاحا كبيرا. و لا غرابة في ذلك إذ كان زاد من أمثال هؤلاء المثقفين من الأخبار والتحليلات مستقى برمته من وسائل الإعلام هذه فما بالك بالمواطن العادي. أن تشويه صورة العراق لدى العربي يشارك فيه مشاركة فعالة من أمثال هؤلاء المثقفين فهم كانوا بأحاديثم يجترون ما تنقله عن العراق وسائل الإعلام الخليجية وأخرى غير خليجية ممولة من قبلهم.

وينظر اليسار، ليس في العراق وحسب، إلى الأحزاب الدينية وكأنها ظاهرة غريبة جاءت من العدم ودخلت دون إنذار على المسرح السياسي وهذا هو الخطأ الكبير الذي يؤدي بالضرورة إلى سوء الفهم ومنه إلى سوء الاستنتاج وبالتالي سوء تقدير طبيعة الصراع في المرحلة الراهنة (مهما كانت طبيعته مؤقته) ناهيك عن سوء التحالفات. يعتبر اليسار العراقي أن انتظامه في حزب قد أملته الضرورة الموضوعية أي وجود طبقة عاملة مستغلة (بفتح الغاء) وطبقة بورجوازية مستغلة (بكسره) وبالتالي وجود صراع طبقي يحتم وجود حزب يمثل الطبقة العاملة. ويدور الحديث هنا بالتحديد عن فترة الثلاثينات من القرن العشرين في وقت لم يكن هناك أي تركز لا لرأس المال و لا لطبقة عاملة بل اقتصر وجود هذه الأخيرة على صناعة النفط وبعض المعامل والورشات البسيطة ومؤسسات تخدم بريطانيا كالنقل وكان من العسير الحديث عن نخب عمالية أو ممثليهم تملك من الأهلية الفكرية ما يجعلها قادرة على صياغة تصور واقعي عن طبيعة الصراع (الطبقي) والحلول الممكنة خارج إطار النضال ضد الاستعمار البريطاني والذي هو صراع ذو طابع وطني خالص.وإذا أخذنا بالاعتبار مؤسس الحزب ومفكره ومنظره (يكاد يكون الوحيد الذي له شأن) فهد فهنا لا بد وأن نورد ما قاله "عدو لدود للحزب الشيوعي" مالك سيف في كتابه "للتاريخ لسان" الصادر في بيروت سنة 1983 عن فهد. أنقل عنه تقييمه لفهد وأنا مدرك للهدف المتعدد الجوانب الذي قف وراء إصدار الكتاب في تلك الفترة. إن ما حداني إلى إيراد التقييم هو اعتقادي أنه ليس من اختلاق الكاتب رغم أن ما فيه يمكن تفسيره بأنه لخدمة الهدف المذكور. يقول التقييم أن فهد "أكمل دراسته الشيوعية المكثفة في الجامعة الشيوعية لكادحي الشرق....فاستوعب بعمق الماركسية اللينينية ودرس التاريخ العربي-الإسلامي وفق المنظور الشيوعي ليوظف ما استوعب من هذا التاريخ ما يعينه على التعامل مع أبناء الشعب العراقي وفق الخصائص والأوضاع التي تعيشها الأقليات القومية والدينية والمذهبية في العراق...إلخ".

. ما هي العناصر المهمة في هذا التقييم؟

أولا: دراسته للتاريخ العربي-الإسلامي وفق المنظور الشيوعي. (كم من قائد أو عضو بارز طوال تاريخ الحزب يمتلك إلماما بالتاريخ العربي-الإسلامي حيث الثقافة العربية الإسلامية هي جزء أساسي في تكوين الشخصية العراقية، تفكيرها، نهجها في الحياة، تصوراتها عن العالم والتي هي نتاج مزيج من ثقافة أصلية (محلية) قديمة وثقافة إسلامية وغير إسلامية وافدة أو متلاقحة، ثقافات أخرى جاءت مع الفاتحين المسلمين ..إلخ؟

ثانيا: أنه وظف ما استوعب (اي لم يكن ناقلا ومرددا لما يقوله "الرفاق السوفيت"). إن كلمة "وظف" مهمة هنا ويبدو لي أنها مختارة بعناية لأنها تعبرعن الإبداع .

ثالثا: اهتم بالخصائص القومية والدينية والمذهبية..إلخ.

لنلاحظ أن فهد لم يحاول القفز على تلك الخصائص من باب اعتبارها متخلفة يتوجب إزالتها أو التصرف وكأنها غير موجودة أو اعتبرها من صنع أحزاب دينية رجعية. وما شأنه بالخصائص المذكورة ليدرسها لو كان همه إحلال ثقافة جديدة كليا تقوم بإزاحتها لو كانت بنظره تمثل التخلف و لا غير التخلف؟أليس من المنطقي الافتراض أنه وجد من الضروري البحث في تلك الخصائص عما هو مرن يكون بابا لدخول الفكر التقدمي؟ ذلك أنه لا يمكن لأي فكر جديد أن يدخل عقل إنسان إلا من خلال الجانب المرن والمتحرك من منظومة الأفكار التي يحملها هذا الإنسان والتي يشكل المعتقد الديني جزءا أساسيا منها.

بمعنى آخر اعتبر فهد أن الثقافة العربية الإسلامية وكذلك الخصائص القومية والدينية والمذهبية هي من صنع التاريخ وبالتالي فأن لها وجودا موضوعيا بالتعبير الفلسفي إن جاز لي القول. كما لا يمكن تصور أنها تطورت خارج دائرة الصراع، وحسب فهمي فإن كل صراع يدخل فيه جانبان واحد تقدمي وآخر رجعي في نفس الظاهرة الفكرية. صحيح أنها (هذه الثقافة والخصائص) جزء من البنية الفوقية ولكن لها وجودا مستقلا نسبيا خاصة عندما تصبح هذه الخصائص في فترة ما بذاتها موضوعا للصراع وليس المصالح المادية التي تقف وراءها. يحدث ذلك عندما تتجمد العقيدة وتصبح إسلوب حياة للفرد ويقف موقف الرفض لأي فكرة يمكن ان تمثل تحديا لها. مثالا توضيحيا: أي مصلحة مادية تقف وراء إصرار الفرد الكردي العادي في مواجهة العربي، الشيعي في مواجهة السني، المسيحي في مواجهة غير المسيحي..إلخ، كل منهم على أنه صاحب الحق وما هو مقياس صواب هذا في مواجهة ذاك؟

لذلك استطيع القول إن تشكيل الأحزاب الدينية هو أيضا كان بدافع ضرورة موضوعية أملاها التحدي الذي كان يواجهه مفكري الدين أو المذهب قبل ان يقرروا تشكيل حزب. وقد نجد من يقول إني بقولي هذا إنما أتحدث عن "ضرورة موضوعية" موجودة في دماغ المفكر الديني وليس في الظروف الخارجية (أي أني قلبت "الذاتي" إلى "موضوعي") فيكون جوابي أن الفكر أيضا يمكن أن يتخذ وجودا موضوعيا في عملية التأثير. دعونا نفترض أن حزبا شيوعيا لم يتشكل في العراق استجابة لما يعتبر ضرورة موضوعية مادية (وجود طبقة عمالية وطبقة صناعية) فمن الذي يستطيع أن يثبت أن وضع العراق عندها سيكون أكثر سوءا من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والفكرية عما هو عليه في أية فترة لاحقة لتشكيل الحزب؟ وإذا نظرنا إلى الجانب الفكري كمؤشر على التطور فسنجد إن العراق كان و لا يزال دون مصر ولبنان وسوريا والمغرب في انتاج مفكرين وهي بلدان كانت الأحزاب الشيوعية فيها اضعف بكثير من الحزب الشيوعي العراقي من حيث الجماهيرية. وإذا نظرنا إلى التاريخ سنجد أن الفلسفة اليونانية (كوافد) التي دخلت العراق بقوة في العصر العباسي الأول قد تركت تأثيرا عميقا في التفكير العربي الإسلامي مما أدى إلى ظهور فلاسفة ومفكرين عظام في فترة وجيزة أوردت أسماء بعضهم فيما مضى. ماذا ولد الفكر الماركسي لدينا منذ بداية دخوله للعراق قبل قرابة مائة سنة على مستوى الفكر بشكل عام؟ إنه قليل جدا إن لم يكن معدوما و لا يمكن مقارنته بأي وجه مع ما لدى البلدان العربية التي ذكرت. وبالنسبة لي ليس لأن منظومة الفكر الماركسية بذاتها قاصرة بل لأسباب أخرى أذكر فقط منها أن من قدموا نفسه ممثلين له كانوا على درجة كبيرة من القصورالفكري ولا يمتلكون المعرفة الكافية بالفكر العربي والعالمي الزاخر بالتنوع واقتصرت معرفة الغالبية منهم على بعض كلاسيكيات الماركسية الممكنة الفهم للشخص المتوسط القدرة. بالمقابل (وأكاد أن أكون جازما) لم يتصد للقضايا الفكرية من مفكري الإسلام أناس قاصرون بل كانوا كلهم متمكنين من موضوعاتهم وأكثر من ذلك أن معظمهم، إن لم يكن جميعهم، كانوا على معرفة جيدة بالنظرية الماركسية. كم ماركسي في العراق يستطيع أن يدعي معرفة جيدة بالثقافة العربية الإسلامية ومنها (وربما أهمها) الفلسفة الإسلامية؟

وبالعودة إلى مسألة التحدي نسأل: ما هو التحدي الفكري الذي واجهه مفكرو الإسلام العراقيين والذي اعتبرته ضرورة موضوعية فأجيب: أنه تحدي الصراع الذي نشأ بين القوميين والشيوعيين وفكرة كل طرف حول جملة مسائل أهما طبيعة النظام الاقتصادي الذي يجب أن يبنى (فكرة الاشتراكية على النمط السوفياتي وفكرة الاشتراكية كما عند البعث أو عند عبد الناصر). وكما هو معروف عند الإسلامي فهو وإن كان يرفض بقوة الفكر الماركسي بسبب إلحادية هذا الفكر فأنه لا يقف بنفس القوة ضد موضوعة الإشتراكية من باب أنها تقترب من الإسلام في فكرة العدالة الاجتماعية أما موضوع القومية أو فكرة العروبة فإن الإسلامي وإن لم يظهر رفضا صريحا للفكرة إلا أنه يجدها مناقضة لمفهوم التضامن الإسلامي. وبشكل عام يعتبر الإسلامي فكرتي الاشتراكية بنسختها اليسارية أو القومية بعيدتين عن التصور الإسلامي. وبالطبع كان هناك رجال دين اعتبروا الاشتراكية بكل تلاوينها كفرا وعلى هذا الأساس كانوا يقفون موقفا معاديا لليساريين وللقوميين على حد سواء.

وأعتقد أن الاضطهاد الذي مارسته الأحزاب القومية ضد الإسلاميين (مصر، العراق، سوريا) جعلهتم يظهرون، من ناحية الخطاب والممارسة وليس من ناحية الفكر، عداء لهذه الأحزاب أكثر من عدائهم للشيوعيين ذلك أن الأحزاب القومية ناصبت الإثنين نفس درجة العداء الأمر الذي في رأيي خلق ظروفا موضوعية للتقارب بين الإسلاميين والشيوعيين والتفاهم على أهداف عامة تتعلق بالديمقراطية وبناء دولة تكون للجميع أي خارج هيمنة الحزب الحاكم وهذا برأيي ما لم يعطيه اليساريون الأهمية التي تستحق.

و للاستدلال على كلامي بشأن موضوع التحدي الفكري أود أن أشير إلى نموذج واحد وهو كتاب " اقتصادنا" للمرحو السيد محمد باقر الصدر. لم يقع الكتاب بين يدي لأقرأه ولكن عدم قراءته لا يحرم علي السؤال: لماذا يعمد مفكر إسلامي إلى تأليف كتاب حول الاقتصاد واضح من عنوانه (نا) أن المقصود به اقتصاد من وحي الإسلام؟ أليس بسبب انشغاله في موضوع الصراع الدائر على المستوى القطري والدولي في ذلك الزمن بين نظريتين بالاقتصاد واحدة اشتراكية وأخرى رأسمالية وأنه يعتقد أن لا هذه ولا تلك تناسب الواقع العراقي لذلك لا بد من وجود نظرية ثالثة مستوحاة من الإسلام؟إذا- ما لم تتوفر حجة تبطل أصل السؤال - نحن أزاء محاولة جريئة لصياغة نظرية اقتصادية من منظور إسلامي.

والآن بوجود أحزاب إسلامية مشاركة في السلطة (العراق، تونس، المغرب) فهل أن مقتضيات السلطة من تحسين مستوى معيشة الناس وبناء اقتصاد مكتف وتطوير أنظمة الإدارة..وغيرها من المهام من شأنه أن يعرقل عملية التطور الفكري لهذه الأحزاب؟إن هذا السؤال يستمد مشروعيته من ملاحظة أن الأحزاب الشيوعية (في الأنظمة الإشتراكية المنحلة) والقومية (العراق وسوريا) تحولت بطول الزمن إلى دكتاتوريات حزبية حاكمة غاب عنها الإبداع والتطوير الفكري لينتهي بها الأمر إلى الركود ثم التداعي. أحد اسباب - وربما السبب الرئيسي - في ذلك، فيما يبدو لي، هو أن هاجس الحفاظ على السلطة لدى هذه الأحزاب كأولوية لا يعلو عليها شئ هي الأساس في التسبب بالوصول إلى هذه النتيجة.

لذلك،كخاتمة، أعتقد أن وجود معارضة إيجابية تفكر ليس بموقف الضد الحزبي الضيق بل بثقافة الضد الفكري الواسع وتعمل على طرح تحديات ذات طابع عصري تتعلق ببناء اقتصاد كفؤء يوازن بين مسؤولية الدولة ومسؤولية القطاع الخاص ونظام إدارة ونظام تعليمي حديثين وأي تصور مدروس من اختصاصيين يعتمدهم الحزب المعارض يتعلق بالنمو الاقتصادي والاجتماعي المتكافئ وغيرها من القضايا التي يواجهها العراق هي التي من شأنها أن تمثل تحديا حقيقيا لأحزاب السلطة وتجبرها على تطوير نفسها على مستوى الفكر وعلى مستوى إدارة الدولة.

إن فكرة العداء- الكراهية فكرة مدمرة نال العراقيون قسطهم منها وما يزيد خاصة بين القومية واليسار ولا حاجة بنا لاختلاق صراع جديد يكون بين اليسار والأحزاب الدينية.

وأن البحث عن حلول إقصائية مأخوذة من الموروث الثقافي الغربي عبث لا طائل منه.

 

ثامر حميد

 

 

في المثقف اليوم