قضايا

ملفات محروقة... سرديات اجتماعية

mahdi alsafi2كل شيء كان في العرف الاجتماعي والديني ممنوع الا التراث والعقائد وماوجد عن الاباء والاجداد وفي الشارع، كانت الجوامع والحسينيات والاماكن المقدسة هي طريق الحياة والنافذة الوحيدة التي نرى من خلالها العالم، كل ما نتعلمه هو الحلال والحرام، والعيب واحترام الكبار، والخوف من الدولة والشرطي، نسمع احاديث السياسة والخوف من خلال الهمس، الذي بدأ يكثر في بيوتنا جميعا، حتى صدقنا في الصغر الاحاديث المتداولة من ان رجال الامن عندما يمرون من امام البيت يمكن ان يسمعوا مايدور من حديث في داخله، ثم ازداد العنف السياسي والحكومي، وكثرت قصص الاعتقال والاعدام والهروب من الوطن، كان الشتاء اصعب فصول السنة علينا، فالجروح في البرد لاتطيب او تندمل بسهولة، فكيف بمن يقضون ايامهم عراة في زنزانات البعث الصدامي تحت سياط الجلاديقن، بل شهور وسنين طويلة من التعذيب والاهانة والاعتقال التعسفي، اكثر الاشياء حيرة ان الحياة في الشارع تبدوا اكثر من طبيعية، وكأن الشعب لايعنيه مايحصل في جبهات القتال وفي سجون الطاغية، والتي اشتدت ضراوتها بعد احتلال مدينة الفاو التابعة لمحافظة البصرة عام١٩٨٦، فقد كانت الجنائز تعبر من مديتنا الى بقية المحافظات، اضافة الى حصة محافظتنا الكبيرة، مدينة المليون عريف نسبة لكثرة اعداد المتطوعين في الجيش بداية استلام البعث للسلطة، فقد كان الراتب جيدا نسبة لحالة الفقر العامة المنتشرة فيها، واسباب اخرى كقلة الوظائف المتاحة لهم، وانعدام تقريبا فرص التعليم الجيد، وكانت من بين النعوش التي تأتي نعوش صامتة، لايسمع عويلا من اصوات النساء النائحات خلف توابيت الموتى، فقد كان يكتب في مقدمتها"خائن وهم اغلبهم من الجنود الفارين من الهجمات الايرانية الشرسة احيانا، فتعدمهم فرقة الاعدامات في الخطوط الخلفية للجبهات"، حيث كان انحطاط النظام عاليا جدا وبدأ بالتصاعد شيئا فشيئا، كان يطلب من اهالي الضحايا فلوس الطلقات التي التي يعدم بها ابناءهم...كما قلت كانت الحياة اليومية عبارة عن صحراء، اي بحر من الرمال المتحركة، دوائر ومراكز وموظفين ومدارس ومعاهد وجامعات واعلام واسواق وتجارة ووسائط نقل وطرق وجسور ورياضة وفن واعلام مجير بحب الطاغية الخ.

كانت بالفعال هناك دولة لكنها اشبه بمنطاد كبير جدا معلق في الهواء، فمظاهر وجود الدولة وتعايش الشعب معها لاتعني انها بالفعل دولة تشبه بقية دول العالم، بما فيها دول العالم الثالث القريبة منها، لانها مرتبط بسلطة الفرد وجيش من المنافقين والمغفلين والحمقى يحملون عرشها بقوة خستهم ودناءتهم، وهذه قوى هوائية لاتصمد امام ارادات الجماهير المقاومة..

الكراهية والخبث والصفات الاخلاقية والعادات والطبائع البشرية يبدوا انها متشابهة ومتقاربة بين بني البشر من بني ادم، فمن خلال الدراما والسينما والاعلام العالمي، تجد ان بعض الادوار للشخصيات التمثيلية الخاصة، يجلبها المخرج بشكل مقارب لشخصية الواقع، ولكن المدهش في الامر ان تلك الادوار يقتنع المشاهد بمطابقتها لما يدور في مخيلته في بلده، اي ان المخرج السينمائي في امريكا او فرنسا او ايران او مصر او اي دولة اخرى، اذا اراد رسم دور لشخصية مجرم خطير او مدير دائرة متزمت او رجل اعمال او تاجر فاسد اوسياسي بلا ضمير يقترب جميع المخرجين لتلك الدول على صياغة صورة نموذج واحد تقريبا، وهذه هي ملامح وخصائص انسانية مشتركة، فالطواغيت والجبابرة والانظمة المستبدة والقوى الامبريالية تتشابه ايضا في طموحاتها الشيطانية وغاياتها الشريرة تجاه الانسانية جميعا دون استثناء، ولهذا قالوا عنه انه نظام عالمي جديد...

اكثر مايؤلم في ذاكرة المعاناة الطويلة تحت حكم الانظمة الدكتاتورية هوظلم تلك الانظمة المتخلفة الهمجية للابرياء وملاحقتهم في رزقهم وحياتهم الصعبة، الذين ليس لهم اية اهتمامات غير كسب الرزق وتوفير لقمة العيش لعوائلهم، هؤلاء الذين يقال عنهم بالعربي الدارج يمشون الى جانب الحائط بصمت، ، اضافة الى خسارة سنين العمر للشباب بعيدا عن الحضارة العلمية والانسانية، وانغلاق افق الامل والطموح والابداع، فكل شيء كان مسخرا لخدمة قائد الضرورة، الذي كان يفتش عن المفكرين والمثقفين والمبدعين والسياسيين كما تفتش النملة عن السكر..

يتحول الرفاق البعثيين الى كلاب مسعورة في حالة طلب منهم تجهيز قواطع الجيش الشعبي المسيرة للجبهة، حيث كان اسيادهم يضغطون عليهم في السنوات الاخيرة بأنهم سيكملون القاطع بهم لو كان ناقصا، فكان هؤلاء الرفاق كصيادي السمك يبحثون عن اي ضحية يمكن ان يرسل للمحرقة، جبهة العبث، حتى في احد المرات جلب بعض الرفاق البعثيين سيارة حمل صغيرة(تيوتا بيك اب)محملة بالبصل والطماطا والخضرة ولبسوا اللباس المدني وبدأؤ ينادون بالبضاعة بأعلى اصواتهم في احد احياء المدينة... بصل بصل..طماطا طماطا بلاش بلاش اثنين كيلوا بربع ....فكانت مكيدة ومصيدة لمسك من يخرج لشراء البصل او الخضرة،

صار الناس يبحثون عن اي منفذ للخروج الى السوق او مكان عملهم، وينتظر الناس ايام واسابيع حتى تعود الحياة الى طبيعتها الحذرة، اي بعد ان يسمع اهالي المدينة ان القاطع اكتمل وذهب للمعركة، هكذا كانت دولة العشيرة البدوية تدير النظام والحكم والدولة...

منع النظام الدكتاتوري السفرمع بداية الحرب، وكان يحرم ويمنع كل شيء عن المواطنين، حتى مكيف الهواء، وجهاز الفيدوا، واية ملامح تكنولوجية اوعصرية، وحصرها به وعائلته وجلاوزته المقربين،، بل كان يتعمد حرمان الناس حتى من بعض الفاكهة، ويجعلها غالية الثمن في الاسواق المحلية كالموز مثلا،

الا ان الحياة والاعمار والبناء العمل كان متواصلا، بسبب استقدام العمالة المصرية بشكل لافت، وتسلم هؤلاء مهمة ابناء البلد في التعليم والاعمال الماهرة واليدوية، ووفر لهم النظام كل سبل الاقامة والعمل المتاح رسميا، وسهل ايضا عملية تحويل الاموال الى بلادهم بشكل مريح،

كان يعطي النظام لعائلة او زوجة المقاتل الذي يموت في الحرب سيارة واموال، ثم قلص المنحة وجعلها اموالا فقط، مما جعل السوق والتجارة والعمل نشطا، ولم تتأثر الحركة التجارية بالحرب وضراوتها، فالدولة ووفقا لنظريتها الاشتراكية في الحكم وهي احد اهداف الحزب، بدأت بفتح الوكالات التجارية العامة ولجميع السلع والبضائع، للامانة يمكن القول بأن بعض تلك البضائع المستوردة كانت عالية الجودة،

تسيطر الدولة على القطاع العام، وتشرك معه احيانا القطاع الخاص الاجنبي، وخصوصا في المشاريع الاستراتيجية(كالطرق والجسور والمطارات والمستشفيات والجامعات والمعاهد والمنشأت الصناعية والعسكرية، كل شيء كان يصنع محليا تقريبا، وفي الصناعات الثقيلة تستورد المكائن والمعدات ويجمع في مصانع البلاد، الا ان الدكتاتورية حتى لو جعلت شوارع المدن من ذهب تبقى كشبح ملك الموت جاثم على صدر ورقاب الشعب، لن يفلت من قبضته احد ان قرر الانقضاض على فريسته لاتفه الاسباب، فهو ينظر الى الشعب كقطيع اغنام لابد ان يتبع صاحبه حتى وان ادى بهم الى مقصلة الذبح او الجوع، فوق هذه المتاهات والتفرعات المخيفة في نظام القبضة الحديدية، بقيت نوافذ الامل بالخلاص منه مفتوحة، ولازلت اذكر بحرقة ملاحقة البعثيين لبيوت المعارضين (الذين يطلق عليهم الخونة الهاربين خارج البللد)، فالنظام وكما هو معروف كان يعامل اي شخص خارج العراق ولم يعد لبلده اكثر من سنتين يعد معارض للنظام وقد ذكرذلك بلسانه الطاغية هذا الامر وتفلسف بالموضع خاتما حديثه بعبارة مشهورة كان الناس يرددونها"كما ينبغي"، فقد كان الناس يطلقون عليه عدة القاب منها غليص وبطيحان، نسبة الى اسماء ابطال مسلسلات بدوية اشتهرت حينها، اقتربت شخصياتها من شخصية صدام الذي يعتبره الشعب ان غدر بمن قربه وجلبه الى السلطة اي الرئيس الماكر البكر...

انتهت الحرب عام١٩٨٨، وخرج الشعب بعفوية الى الشوارع، بعد ثمان سنوات من الحرب والموت والعنف، واعتقد الناس ان الامور الحياتية ستعود الى طبيعتها، سيتحسن الوضع المعاشي بشكل اكبر، وسترتفع قيمة الدينار العراقي، وسترفع قيود الدولة عن السفر، وسسيتسرح الجنود من الخدمة العسكرية بعد انقضاء المدة الالزامية، والعودة للتوظيف المركزي، كانت لغة التفاؤل والامل واضحة بين الشبلب في المجتمع، بينما بقيت المعارضة في الداخل والخارج في حيرة من امرها، فهذا النظام خرج بقوة وترسانة عسكرية هائلة، واصبح قوة مخيفة في المنطقة، واحتمالية السقوط عبر الانقلاب او الثورة بات ضعيفا بل مستحيلا، ولم تبقى وسيلة الا الدعاء على هذا النظام بالهلاك والسقوط والخلاص من شروره وكوارثه، ثمة امر بقي محيرا لي حينها على الاقل، لماذا يصر النظام البعثي على الاستمرار بفتح معسكرات التدريب الصيفي لطلاب الجامعات والمعاهد، واستمر كذلك ارتداء الدكتاتور لزيه العسكري، بعد اشهر على نهاية حرب الخليج الاولى، تغيرت القناعات البسيطة، وبدأت لغة التفاؤل بالتبخر، فقبضة النظام ازدادات صرامة وصلابة، واصبحت الاجهزة الامنية اكثر قوة ووحشية، حتى جاءت كارثة حرب الخليج الثانية١٩٩٠، حيث اقدم النظام وبأسلوب عشائري بدوي بأحتلال الجارة الكويت، جاعلا منها المحافظة التاسعة عشر، فعادت غيوم الحرب والقصف الجوي تحوم فوق رؤوس العراقيين، وفرضت القوى الامبريالية الحصار الاقتصادي على الشعب العراقي، بقرار لا انساني ولا اخلاقي ولا نظامي او امني، فعقوبة الحصار الشامل لن تؤثر في الانظمة السياسية واي طبقة حاكمة، انما من يدفع الثمن هو الشعب وبالاخص فقراءه، اسلوب الحصار الشامل كان معروفا في الحضارات القديمة، والعصور الغابرة، وذلك لاسقاط الامبراطوريات والمدن المحصنة، الا ان استخدامه في عصر الالكترون عصر العلوم والتكنولوجيا امر غريب ومثير للحيرة والدهشة، كيف تدعي تلك الامم بأنها امم انسانية متحضرة، وهي تنزل بأفعالها تلك الى هذا المستوى الوضيع في محاسبة الامم والشعوب الاخرى على اخطاء هم ليسوا طرفا فيها،

حصار اقتصادي حديدي بانت اثاره بسرعة، صار رغيف الخبز اسمر وصغيرالحجم، غابت مادة الطحين عن الاسوق، وكذلك اختفت العديد من المواد الغذائية من السوق، حتى وقود السيارات في بلد النفط والغاز صار الحصول عليه صعبا، وبدأ البيع في السوق السوداء، تصاعدت وتيرة الحرب سريعا، قصف جوي وصاروخي مكثف، طيران التحالف يتراقص في سماء المدينة فوق وبين قذاىف المضادات الارضية، دمرت الطرق والجسور والمعامل والمصانع، ومحطات الطاقة الكهربائية، وقطعت كيبلات الهواتف والبث التلفزيوني، حتى الاسواق لم تنجوا من القصف، كل شيء بات مظلما، حتى غيث السماء نزل مطرا اسود بفعل دخان حراىق مصافي النفط، لم يكن احد يعرف مالذي يجري، وهل سيرحل هذا النظام بالقوة، ام هي مجرد لعبة لتفريغ السلاح والجيش العراقي في الكويت، فالبعض يقول ان النظام واجهته مشكلة البطالة بعد نهاية الحرب، بعودة مئات الالاف من الجنود المسرحين الى حياتهم المدنية، فقد هبطت اسعار النفط الى مستويات متدنية جدا، ولم يعد بمقدور النظام استعياب هذه الاعداد الهائلة في دوائر الدولة، او توفير فرص عمل اخرى لهم، ولهذا ارسلهم الى الكويت ثم امرهم بالانسحاب، فحصدتهم طائرات التحالف الامريكي الدولي في طريق الانسحاب، بينما احتفظ هو بقوات الحرس الجمهوري في بغداد وتكريت وبقية المناطق الغربية...

بدات حرب الخليج الثانية، وانتهت بشكل خاطف، وبدأ رجل الكابوي الثاني بعد ريغان، بوش الاب بالحديث عن نيته في اسقاط نظام صدام ان انتفض الشعب عليه، وبعد الانسحاب المذل والهزيمة النكراء التي مني به هذا النظام الارعن، وهروب مئات الالاف من الجنود من الكويت وعاد الى المحافظات الجنوبية تحديدا البصرة والناصرية، ووقع العديد منهم في الاسر، خرج الشيعة في الجنوب بانتفاضة عارمة، ليس لها مثيل لا في تاريخ العراق القديم، ولا الحديث نسبة لحجم المشاركة وكمية السلاح الذي بحوزتهم، انتقلت كالنار في الهشيم ووصلت بعد ذلك الى شمال العراق، ومن ثم الى مدينة الصدر الثورة سابقا، وفي بعض المناطق من العاصمة بغداد، وكان الامر بات محسوما برحيل هذا النظام الدموي والمتهور، سرعان ماتغيرت الامور، وبدأت القوات الامريكية في سيطرة تل اللحم بين الناصرية والبصرة بنزع سلاح المنتفضين، وسمحت للجيش الصدامي رغم الحظر الجوي المفروض دوليا عليه من قبل قوات التحالف، بالسماح لطائرات الهليكوبتر بقصف المنتفضين والمدنيين على حد سواء، الوضع بات كعواصف التراب التي تغطي سماء الجنوب بين فترة واخرى في فصل الصيف، لاشيء غير الضباب والتعتيم والاخبار الكاذبة والاشاعات المتناثرة هنا وهناك، والكل ينتظر من الجارة ايران دولة ولاية الفقيه والتشيع الوحيدة في العالم، ان تتدخل او ان ترسل المعارضة العراقية على الاقل لقيادة الجماهير، لكنهم قالوا قبل انهيار الانتفاضة وفشلها ان صدام ضعيف خير من مصير مجهول، هم يعتقدون ان البديل قد يكون امريكا، وهم بالطبع لايريدون ذلك كونها الشيطان الاكبر بالنسبة لهم، فحصل ماكانوا يخشونه جاءت امريكا الى المنطقة بعد٢٠٠٣وبدأت تنفذ مشروع الشرق الاوسط الجديد بالقوة، على الرغم من ان روسيا بوتين لازالت تمسك بجدار الدولة السورية، ونظام بشار الاسد، فهي تعتقد ان سقوط النظام يعني ان الامريكان والغرب سيحاصران روسيا من جميع الجهات، وقد خدمها فشل الانقلاب العسكري التركي المثير للجدل، وعودة اردوغان للحلف الروسي الايراني القطري في مواجهة المشروع الامريكي الاسرائيلي السعودي الاماراتي في المنطقة، هذه الاحداث اصبحت كالزاد اليومي لشعوب تلك المناطق، لا احد يكترث بالفكر والثقافة والابداع، غابت مشاريع وطموحات وافاق المستقبل، حتى بات بسطاء المجتمع بالحديث عن قرب يوم القيامة، كما يعتقد الشيعة ان العلامات تشير الى قرب ظهور الامام الغائب، وهكذا بدأت تبرز الامور الغيبية الى السطح لاغلب الطوائف والاثنيات والاديان، ثم انتشرت ظواهر العنف الطائفي والعرقي والديني، وكأن احد ما او قوة عظمى تقف خلف تلك النزاعات والتوترات والثقافات العنصرية، عالم مليء بتلك الاحداث والمتغيرات المتسارعة، صراعات.. مؤامرات.. انقلابات.. اغتيالات.. فقر... اعدامات.. حروب.. هجرات جماعية... امية وجهل وتخلف... اطفال ومدنيين يموتون بالجملة..والديمقراطية الرأسمالية تسيطر على العالم بأسره..الحريات والحقوق في تراجع دائم..كيف يمكن ان يخرج الانسان سليما من كل تلك التحولات الخطيرة والكبيرة، يشعر الناس في الوطن العربي بالضياع، وان العالم ليس لديه عمل اخر غير النظر الى ثرواتهم ومواردهم الطبيعية وارضهم، ولعل القائل بأن الامبرواطورية المهيمنة على العالم لن يكتب لها هذا النصر الا بعد ان تمر بعواصم الدول العربية الثلاث بغداد ودمشق والقاهرة كان صائبا...

الحقيقة ان المجتمعات العربية تعاني من تداخل وتشابك وتناقض واضح في العادات والتقاليد والتراث والبداوة، والانتقال بين المدن الريفية، والمدنية والحضارة،

لازالت افكارهم واذهانهم مشدودة الى الماضي، فطريقة حياتهم كانت ولاتزال بحاجة دائمة الى الدكتاتور الشرس سواء كان قائد او حاكم او شيخ قبيلة او عشيرة ، والغليظ والسيء الطباع، وذو عيون ثاقبة في تمييز الولاءات والاتباع، لهذا يتملق ويتودد اليهم المنافقون، وهؤلاء هم من يصنع اي الشخصيات الفردية المطلقة اليد في القيادة والحكم، وهذا ما كان مشهور عندهم في العهد الامبراطوري العثماني، اذ كانت تنتشر ظاهرة الشقاوات والفتوات وقطاع الطرق والاقطاعيين وجلاوزتهم، وجماعات المقاومة، وذلك راجع لظلم العثمانيين، وغياب سلطة النظام والقانون في البلاد المحتلة من قبلهم، علما ان العنف وبشاعة الجندرمة وجيش السلطات العثمانية، قد وثقها التاريخ الحديث في عدة جرائم وحشية ارتكبت على غرار مجازر ابادة الارمن،

هذه التركات الثقيلة هي من صنعت المجتمعات العربية المضطربة الحديثة، بعد انهيار الامبراطورية العثمانية المريضة، كان نصيب بلادنا من العنف كثيرا وكبيرا، انقلابات واعدامات، وتعذيب واغتيالات، وهجرة وهدر بالثروات، لازالت وتيرتها متصاعدة بقوة وخصوصا مع عودة الثقافات العنصرية الاقصائية، واليمنية المتطرفة الى اغلب دول العالم،

بما فيها دول الحضارة والتطور والرفاهية، كان بلاء وسوء حظ العرب ان يصعد الاحمق صدام للحكم، ولايعرف الناس كيف ومن جاء به الى قمة هرم السلطة بهذه السهولة، لكنهم يلقون اللوم كله على القطار الامريكي البريطانية، وعلى عفلق مؤسس الحزب والبكر، وهناك قلة من الشعب يقولون كان الاولى ان يستلم الشيعة الحكم بعد نجاح ثورة العشرين، وكذلك بعد فرصة الاطاحة بالنظام الملكي على يد الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم، الذي تحول بعد عدة اشهر من نجاح انقلابه الى دكتاتور نزيه، رافضا دعوات تسليم الحكم الى سلطات مدنية مهنية، مع هذا فالشعب لازال يذكر عنه اصلاحاته واعماله الوطنية المعروفة، التي انصفت فقراء المجتمع وخصوصا الفلاحين، وكذلك موظفي الدولة، بينما التحسن الكبير في المستوى المعاشي والصحي والتعليمي والخدمي انتشر في عهد البعث، الا ان ضريبته القاسية كانت انهار من الدماء، ذهبت بلا ذنب، الا لان الحرب الباردة الاولى كانت بحاجة الى وقود فاعلة لتبقى مستمرة، بغية الترويج لبضاعتهم وصناعتهم العسكرية، كما يحصل اليوم في الحرب الباردة الثانية بعد٢٠٠٣في العراق وسوريا وليبيا واليمن، اصبح العالم يتصارع بلا قيود، وبلا مقدمات، او ضوابط وقواعد واسباب معروفة، وكأنهم اصبحوا عطاشى للدم، ومناظر القتل الجماعي، كي تزداد الرأسمالية امبريالية وثراء، ولهذا تم بناء مغارات وملاجئ يوم القيامة تحت الارض، يقال انها ستحميهم من احتمال اندلاع حرب نووية عالمية بين القوى العظمى...

السياسة بحر كما يقول شيوخ المقاهي الشعبية، فهؤلاء دائما مايضعون مع اي مجال صعب كلمة بحر، احيانا تراهم يقولون التجارة بحر، وتارة يصفون العلم والدين والسوق بنفس تلك العبارات، وذلك لان فرصتهم الوحيدة لكسب الرزق في عهد الاستعمار مهنة الصيد وركوب البحار...لعلها الامة الوحيدة الاكثر ثرثرة في العالم، فيومهم لايكاد يخلوا من حديث التاريخ والحروب والغزوات والثورات والبطولات والقصص والاساطير القديمة، حتى في شهر رمضان كانوا يجتمعون في المقاهي لسماع مايسمى بالحكواتي او الراوي للقصص والاساطير والروايات القديمة، ليست امة جاهلة انما ارضهم مهد الحضارات والاديان والطوائف وبداية الخلق والتاريخ، فهم داخل تلك الدائرة الكونية الشاملة الاكثر حيوية من بين الامم والشعوب الاخرى...

رحل نظام البعث في العراق، ولكن الشر لم يرحل معه، انما لبس ثوبا اخر، فتمثل بلباس الدين، فشاع الخراب والدمار والارهاب والتكفير، ظهرت جيفة العقول المتحجرة من بين العشوائيات المنتشرة في الدول العربية والاسلامية، عاد الحديث عن الخلافة الاسلامية وامراء القتل والذبح والتفجير، امبراطورية الجهلة المتوحشين، ينفخ فيهم قادة جيش الشيطان، حتى جعلوا منها اسطورة جيش لايقهر، تفجير هنا..وذبح هناك..وتعليق لرؤوس الضحايا في الساحات والاماكن العامة..وفتح اسواق الجواري والسبايا، ونكاح المشاع، وسيارات حور العين المفخخة، الغريب ان فساد الاسلاميين كان شاملا هذه المرة وعلنيا، فالسنة والشيعة في بلادنا ينهبون الثروات بشكل مستمر، وذلك بغية شراء المناصب الحكومية، ومقاعد الديمقراطية، ومع كل هذا الظلم، لازالت تجارة الدين رائجة، فالتطرف لم يقتصر على المذاهب السنية فقط، انما هناك فرق شيعية تكفيرية طقوسية بدأت تؤسس لها قواعد كبيرة في الاوساط الشعبية، كلها خرافات وروايات واحداث كاذبة، تضخ بقوة للشارع، بعدها يترك الجهلة يتناطحون فيما بينهم، والنتيجة لاغالب ولا مغلوب، هكذا كان شعار الامريكان في حرب الخليج الاولى..

بقيت ارضنا حتى بعد ان تخلص الناس من الدكتاتزرية تعاني من الفقر والجفاف والفساد السياسي والحكومي والاخلاقي العام، وفجأة اصبح رجال السياسة والدين يتحدثون عن الخصخصة، لان اغلبهم يمتلك شركات اهلية تستحوذ غالبا على المشاريع الحكومية المحالة للقطاع الخاص، فصار تعبيد الطرق بما فيها الفرعية الصغيرة تحال الى الشركات الاهلية، فرجال الدين يكرهون الاشتراكية لانها شعار شيوعي، وهم يكفرون الشيوعية، مع ان البعث ايضا كان اشتراكيا، وهكذا كان عبد الناصر وحافظ الاسد والقذافي، هؤلاء السياسيين الفاسدين باتوا لايمشون خطوة واحدة الى الامام دون استشارة البنك الدولي، الذي جرهم الى مستنقع الديون والتنمية الكاذبة...

وهذه المؤسسات الامبريالية صنعت من اجل محاصرة فقراء العالم والطبقات المتوسطة، لامتصاص مدخراتهم، ووضعها في جيوب الرأسمالية العالمية، وكأن صدى عبارة ملفات محروقة التي يقال ان طه الجزراوي القيادي في حزب البعث الصدامي المنحل، كان يقول لجلاوزة الامن والحرس الخاص عند التحقيق مع المعتقلين من ثوار انتفاضة ١٥شعبان، احرقوا ملفاتهم اي اعدموهم، وعندما تابعت قاموس تلك العبارة او هذا المصطلح الارهابي، وجدت ان له اثر في مصطلحات التصفيات الجسدية التي انتشرت في الحرب الاهلية الدموية الروسية-الاستالينية اوائل القرن الماضي، ولعل هتلر ومحاكم التفتيش قد احرقت العديد من ملفات الضحايا، عندما كان يراد تصفية المعارضين السياسيين وبقايا الطبقات البرجوازية والحكومية السابقة، ومن المحتمل ان الثورات والحروب الاهلية الامريكية والاوربية قد استعملت مصطلحات متقاربة لحرق ملفات العديد من الابرياء، هكذا هي النتائج البيضاء المصطنعة، تخفي دائما سواد تاريخ الافعال الانسانية البشعة، لتخرج بمنظر الانسان المتحضر، بينا يترك خلفه تلال من الجماجم والايتام والمعاقين والفقراء، وشرائح واسعة من الضحايا، الا ان عيون الناس دائما ما تتأثر بالاضواء الساطعة، تخطفها عن المأسي مشاهد الرأسمالية الشاهقة، سيبقى هؤلاء ارقاما هامشية عند طواغيت الامبريالية، مصفوفة بقوائم عديدة تحت عناوين ملفات محروقة، تنتظر التنفيذ وفقا للجدول الزمني المعد سلفا، انها اذا مسألة وقت، طوابير من الضحايا تقف امام اسياد العالم، حتى وان طال الانتظار عقودا طويلة، المهم ان ثرواتهم تتزايد وكذلك ضحاياهم، فهم مقتنعون بأن الزلازل سببها كثرة البشر، وهم بحاجة دائمة الى نزاعات وحروب لتقليل الاحمال على ظهر الكرة الارضية....

ستبقى كل الجبهات مشتعلة ولكن في الجانب الاخر من العالم هناك جيش من الامل قادم بمعاول الابداع لهدم معابد الجاهلية والاستبداد والدجل، فهي من يشعل تلك الحروب، وقد عرف الناس ان العقل السليم دين مقدس لايهزم ابدا من يتمسك به...

 

مهدي الصافي

 

في المثقف اليوم