قضايا

التفكير في الحداثة السياسية أم في غيًابها

علي رسول الربيعيماذا يعني التفكير في الخطاب السياسي للحداثة في أوضاع تاريخية يمر بها العالم العربي تقع خارج تاريخ ومنطق هذه الحداثة، وأن الحداثة عموما والسياسية في أحد أوجهها مسالة تختص بالسياق الحضاري الغربي. لقد أقتضت الحداثة السياسية - كما حددها روبرتس وهايت (من الحداثة الى العولمة) - بعـقلنة السلطة واستبدال السلطات الدينية والعرقية بسلطة سياسية وطنية مفردة، واصرار على السيادة العليا الظاهرية للدولة الوطنية مقابل القوى المحلية، أنها تعني انسجاما وطنيا، ومركزة أو تجمع القوة في مؤسسات التشريع الوطنية المعترف بها. ويتطلب التحديث السياسي تمايزا في وظائف سياسية جديدة، وتطور بنى متخصصة لأنجاز هذه الوظائف. وتصبح مجالات الكفاءات الخاصة مفصولة عن عالم السياسة، ويتم توزيع الأدارة والسلطة حسب الكفاءة والأهلية لا حسب العلاقات القرابية والولائية. وكل هذا يمكن استلهامه نظريا وتبنيه تاريخيا رغم ماتبدو عليه العقلانية والأندماج والتمايزات طبقا للكفاءات ذات علاقة معتمة بالكامل مع الواقع .

نعم أن الحداثة نشأة في سياق غربي أذا ما نظرنا اليها بوصفها تعبير عن مرحلة تاريخية مرً بها الغرب ولكنها تمثل أيضا وفقا لتعريف "محمد أركون" أنفتاحا للروح البشرية تجاه مشكلات المعرفة والوجود. وفيها حتى الكلام الإلهي يتخلص من أشكال الهيمنة المُستندة على التقليد اكثر من أستنادها على التاريخ والتي تنشر الظلمات التي يتعين على الأنوار أن تقشعها أيضا، طبقا لتورين . فهي التي أنتجت على مستوى الوعي السياسي مفهوم الدول/الأمة، ودولة القانون، والنظام البروقراطي، والعلمنة، وأستقلال المجال السياسي، ومفهوم الديمقراطية، ومفهم المواطنة، والمجتمع المدني، وحقوق الأنسان؛ بالإضافة الى التفسير العقلاني والعلمي للطبيعة وأنجزت التكنولوجيا. لقد مرت الحداثة الغربية في سياق تاريخي طويل ملئ بالتحولات. وقد ميًز ليو ستروس ثلاث موجات متلاحقة للحداثة في الفلسفة السياسية : الاولى، تعد المؤسسة للتمثلات " الليبرالية " في الفكر والممارسة السياسية، وتبرز في مضادتها للفكر السياسي اللاهوتي والمشخصة في العمال الفكرية مكيافيللي. أما الثانية، فتحملها الأنوار أو عقل عصر التنوير الذي يضع الأيمان خارج نطاق هذا العقل؛ اي في خانة القداسة السحرية، وتضع لنفسها هدفا واضحا ومحددا الا وهو جعل العلم معتقدا شعبيا شائعا على نطاق واسع ، وتحمل في تعبيراتها موقفا نقديا اساسيا يلازم تطورها متجليا في فلسفة روسو. والثالثة ، متولدة عن النزعة الوضعية العلمية وعن النزعة التاريخانية المتجلية في خط هيجل وأوغست كونت .

أنً السؤال المطابق، لايتعلق في ما قيمة التفكير في مفاهيم الحداثة وقيًمها في الوقت الذي تغيب فيه عن المجال الحضاري العربي، أنما السؤال عن الأسباب التي منعت تطور الأوضاع التاريخية لقيام الحداثة السياسية هنا تحديدا. وأن القول بأننا لانزال في مرحلة ماقبل الحداثة والعقلانية، أيً في عصر الأستبداد، والمجتمع الذي تتحكم به الذهنية الطائفية والقبلية والفئوية، والنظرة السحرية والغيبية للوجود، وعدم الفصل بين المجتمع والدولة والسلطة، لايلغي أن نتأمل تجارب الأمم الأخرى أولا ونستلهم قيمها ونقوم بفعل التبني التاريخي لمنجزاتها ذات الصلاحيًة والفاعلية لأوضاعنا الأجتماعية، أي أن نستفيد منها وأن نتطلع لأن نحقق حداثتنا مستقبلا، طبعا لايعني ذالك أننا عندما نتفكر في سياقات تشكًل الحداثة الغربية بأننا نحتاج أن نعيد المسار نفسه، أي نرجع الى نقطة في التاريخ الغربي تعود الى أكثر من ثلاثمائة عام ولكن التفكير في ممكنات الدخول في الحداثة فورا. نعم هناك أستبداد متجذر وممتد طويلا في العالم العربي ولكنه مسألة تاريخية وليست حالة جوهرية قارة ؛ أيً أنها ليست ظاهرة ثابته وقدر محتوم لايمكن تغييره على كل حال.

صحيح لاتزال تجاربنا متعثرة منذ أواسط القرن التاسع عشر وحتى اليوم، وصحيح أخفقت مشاريع النهضة العربية، وفشلت الأيديولوجيات القومية، والأسلامية ، والماركسية، والليبرالية كافة؛ وفشلت الدعوات الوطنية والديمقراطية كافة، كما فشلنا في بناء الدولة الوطنية ذات السيادة الحقيقية، وفي تحقيق التنمية الأقتصادية، و العدالة والمساواة الأجتماعية والأقتصادية والحرية السياسية، ونكصنا عن بناء المواطنة القائمة على أساس القيم المشتركة والمصالح المشتركة واعتبرناها من باب تحصيل الحاصل، ومكر بنا التاريخ الذي تحدث عنه هيجل، فلم يتم الأنتقال من الفرد الطائفي الى الفرد المواطن. المشـكلة ان هـذه المجتمعات تجـد نفسها دائمـاً مشـدود دائما إلـى الخلف وتعاني مـن ظاهـرة الفشـل والإخفـاق بفعـل هيمنـة التسلطيـة السيـاسيـة سابقا والطائفية لاحقا. أن النظر في العوامـل الاجتماعية للاحتجاجات السيـاسيـة يكشف أنها ناتجـة عـن فشـل نمـوذج التحـديث الـذي توعـد بـه أنظمـة الحكـم منـذ أكثـر مـن نصـف قـرن وعـن إخفـاق هذه الأنظمـة فـي إدارة حيـاة سيـاسيـة سلميـة فقـد مارسـت تلك الأنظمة وهذه الحكم بطريقـة تسلطيًة عنيفة لاعقـلانيـة ومسـدودة الآفـاق.

إن هـذه الاحتجاجات العنيفـة والمتطرفـة التي يمر بها المجتمع لا يمكـن أن تعـزى إلـى عامـل وحيـد ولكنهـا تعـود إلـى عمـق المتناقضـات والتوتـرات الاجتماعية والسيـاسيـة التـي تنشـأ وتنمـو فـي جـو الأزمـة الشاملـة التـي تفتـك بالمواطنيـن والاقتصاد والـدولـة نتيجة سياسات فاشلة؛ أي جـو أزمـة النظـام الاجتماع,والأقتصادي والسياسي . إن هذه الحـركات تشـكل كمـا هائـلاً مـن المطـالب والتركيبات الأيديـولوجيـة التـي تحيلنـا إلـى مقـدرة الأيدولوجيا علـى تغذية المتخيـل الاجتماعي وإشعـال لهيبـه وعلـى الآليـة الوظائفيـة التـي يتجلـى بهـا هـذا المتخيـًل. همً النخبُ السياسيةُ الوحيد، عندنا، هو الصراع على السلطةِ بدون الأهتمام الجدي بتأسيس شكل للحكم يكون معيارا لشرعية السلطة ، فهيً فئات تُفكرُ في بناءِ تسلطيتها السياسية والدينية و شتان بين من يريد أن يؤسس لمنطق الدولة الحديثة ومن يريد ترسيخ تسلطيته وتأبيدها .

من مشكلاتنا، ايضاً، التعامل مع منجزات الحداثة بطريقة تسطيحية وهشة ولا تعبر عن خيارات فعليًة من أجلِ فتحِ تاريخ آخر ومختلف لمجتمعاتنا، والمثال الفاقع على ذلك تجربة العراق مع آليًات الديمقراطية ، لقد تمت أنتخابات كانت أشبه ببيعة طائفية ومزورة، وتم تشكيل حكومة المحاصصة "الوحدة الوطنية" وتشكيل "برلمان " و سنً " دستور" و" فصل بين السلطات " ولكن كل هذه الآليات والأجراءات الديمقراطية لم تخلًص المجتمع العراقي من الأستبداد .

المشكلة، أذن، لاتتعلق بالحداثة وسياقتها عموما ولكن تتعلق في طريقة تعاملنا مع هذه الحداثة، وطريقة تلقيها، وكيفية الأستفادة من منجزاتها، فليس من الممكن تعقله مثلا ان الغرب ينتقل الى مابعد الدولة/ الأمة ومجتمعاتنا تتراجع حتى عن المكتسبات التي حققتها على الأقل في المئة سنة الماضية، فتعود الى عصر ماقبل الدولة وهو تعبير عن غياب العقل الموضوعي أوالعقلانية؛ أي تعود الى دولة الفئات المتناحر والمجموعات الطائفية والعرقية فيما قبل تشكيل الدولة الوطنية.

 

الدّكتور عليّ رسول الرّبيعيّ

 

في المثقف اليوم