قضايا

استراتيجية الحوار بديلاً لحل الصراع

علي رسول الربيعييتَطـلبُ أوضاع المجتمعات التي تعاني من أنقسامات عميقة وصراع الهويات حواراً تجتمعُ حولهِ مكوًنات المجتمع ، ويكون جوهرهُ العملُ على تجاوزِ تلك الإنقسامات العميقة سواء طائفية وعرقية. ولكي يتمتع الحوار بالفاعليًة والإنجاز يتطلب تهيئة شـروطه المادية والفكرية إبتداءً من وسائله وإجراءاته الى تحديد مضمونه وقضاياه. وأن يأتي هذا من موقع تشخيص الأسباب الحقيقية للصراع والنقاط الجوهرية للإختلاف. إن من متطلبات هذا الحوار أن يأتي في سياق مشروع شامل يسوغ السلم الأهلي وفق صيغ وقواعد قانونية وأخلاقية متواضع عليها وخاضعة لضوابط قانونية يعترف بها الجميع، وأن يكون هناك إعتراف متبادل بين القوى التي يتألف منها الوجود الإجتماعي. فالمطلوب إدارة الحوار وفق مشروع مستقبلي لدولة ذات معطى يحدده منطقها الذي يطمح الى فضاء وطني إيجابي جديد والى "توافق أساسي" بين القناعات المتعددة . توافق لا يمكن للمجتمع أن يتجاهله إن أراد أن يستمر موحداً. ودولة لا تحاول أن تفرض هذا المعنى أو ذك النمط من الحياة .

حوار التوافق الأساس

تَقَعُ على الدولةِ المُتعـددةِ المكوناتٍ، حيث تجتمع تحت سقفها مفاهيم مختلفة وإرادات متنافسة، مهمة تجنبُ إنفجار الهويًات، وتوفير شروط مؤسسية لتعزيز الروابط الإجتماعية والثقافية. وكل ذلك يحتاج إبتداءً الى "توافق أساسي" تسهم في بنائه مفاهيم جديدة، لا من خلال توافقات مُتَصلِبة أو كُليًة بل طبقاً لتفاهمات متماسكة. ولكن الى أي حد سيتحقق هذا التفاهم ويستمـر؟ أنه يتوقف على أوضاع تاريخية وعوامل فاعلة ومتغيرات يحددها الحوار التوافقي ومنطق المشاركة السياسية. فالمشاركة تعني ضرورة يُأخَذْ كل طرف بنظرِ الأعتبارِ مواقفَ ومَصالحَ المُكونات الأجتماعية كافة من القضايا الأساسية ، والعمل على التوفيـق بينها، وقيام دور للقوى المُعْتَدِلة داخل هذه المكونات فذلك مما يُيسَّر من عمليًةِ التوافق. إن مشاركة المكونات الأجتماعية كافة في السلطة الفعلية تفترض تعينها بشخصيات ذات صفة تمثيلية في أوساطها ،وتحظى بتأييد المكونات الأخرى، وتتميز بالإعتدال والوعي السياسي القائم على رؤية سياسية.

فتحقيـق التعايــش السلمي في المجتمعات المتعددة يتوقف، الى حد كبير، على الأشخاص الذين يتولون إدارة شؤونه. كما يفترض منطق المشاركة تعاون المكون الأجتماعي ووقوفه بجانب القرارات التي تأتي كثمرة لهذا التعاون. إذن لابد من هذه الشراكة من أجل الحفاظ على مقومات التوازن والإجتماعي. إن "التوافق الأساسي" هو الأسلوب الذي يقود الى إقامة السلم الأهلي والإستقرار في المجتمعات المتعددة. أنه يتعلق بالعيش المشترك والإرادة المشتركة على حل الصراعات بطرق سلمية والقبول بالمؤسسات التي تضمنها. إن ممثلو المكونات الأجتماعية والايديولوجيات المختلفة مدعوون للتدرًبِ على التفكيرِ والعملِ ضمن روابط شاملة وإنفاذ مشروع للعدالة وتحقيقها بصفتها الشكلية والإجرائية ، وأن يتم التوصل الى أحكام لا تقوم على دوافع ذاتية أو فئوية، كالطائفة أو العرق أو العلاقة الشخصية أو المصلحة المادية، أو المزاج الشخصي، بوصف ذلك من أسباب التحيز في الأحكام وعوائق تحول دون تحقيق العدالة المجردة. وكذلك النهوض بحوار يبحث في سبل الإتفاق الوطني الشامل إبتداءً من تقديم الضمانات من قبل كل طرف للمساعدة في بناء الثقة المتبادلة بين كل الأطراف، وتهيئة الجو النفسي للوفاق الوطني ومواجهة الصعوبات بشكل عقلاني وشفاف. والعمل على كل ما يشعر المواطنين بما هو مشترك في تقاليدهم.

أستراتيجية الحوار

إن من مقوماتِ الحوار ِالناجحِ هو التفكيرُ في الأهدافِ التي تحملُ معنىً في سياقِ الوفاقِ طبقاً للوضع الراهن؛ و في القيًمِ التي تَضْمِنُ الوفاقَ و القناعاتَ التي يَمكنُ الإقرار بها. وبناءً عليه تقع على الحوار مهام يستدعي إنجازها، ومستحقات سياسية قائمة مطلوب النهوض بها، منها تقديم حلول عملية مستندة الى رؤية سياسية متماسكة، فإذا كانت السياسة في احد أوجهها إبتكار الصيغ والأفكار وإجرائها بالفعل لإدارة الشأن العام، فإن على أطراف الحوار مهمة صياغة ستراتيجية متكاملة تحل عقدة المشاركة من خلال رؤى متضمنة لمجمل مواقف مكونات المجتمع المتمثلة في أطرها السياسية وقياداتها الدينية والإجتماعية، وكذلك إقتراح وسائل فض النزاع وإدارة الإختلاف وصولاً الى تحقيق الإجماع العام حول القضايا الخلافية المطروحة في أولوياتها وفق منطق وبنية الدولة المنشودة. إذ من الأسس الموجهـة للحوار أن يدور الإهتمام بشكل الحكم بصرف النظر عمن يحكم. وأن يرافق هذا إستعداد نفسي وفعلي، ومن موقع المسؤولية التاريخية لإنجاح الحوار إبتداءً بتهيئة شروطه والقبول بحلول وسطى بعيداً عن حسابات الربح والخسارة القصيرة المدى، والجمع بين النزعات المتباينة، فعندما يطغى التصلًب والتعصًب فأنه لا يؤدي إلا الى التصادم والصراع. في حين من الضروري، في أجواء الحوار، أن يكون التباري كل طرف في القيام بممارسات أخلاقية ـ سياسية وإنجاز التسويات كي يتسنى لكل ممثلي المكون الإجتماعي تبني قيم على مستوى البلاد تتعلق بالسعي الحثيث لإحلال السلم الإجتماعي والسياسي . أي السعي لإحلال مشروع العدالة بين المواطنين، وإحترام الإنتماء الذاتي مذهبياً كان أم إجتماعياً أم سياسياً، والإعتراف بالتعددية المذهبية والفكرية والثقافية في المجتمع . فعلى الرغم من كل التوترات والإنقسامات الطائفية، ورغم كل ظواهر الأنقسام فإن إحتمالات التعاون الشاملة من أجل مصلحة الجميع د ائما قائمة ولها مسوغاتها، ومن هنا تأتي أهمية الحوار.

إن من مهام القوى المشاركة في الحوار إنجاز مشروع للسلم الأجتماعي يشخص مجمل العوامل المسببة للمشكلات الحادة القائمة وإقتراح الخيارات والبدائل وإجراءات الحل، بدأَ من عملية نقد شاملة للأوضاع القائمة وتجاوز العوائق التي تواجه تحقيق وحدة النسيج الإجتماعي وبناء الدولة. مشروع يطرح السؤال الأكثر إلحاحاً: ماهي الشروط الجوهرية التي تـُمَكًـن مجتمع ما من الإستمرار كشعب واحد ويعطي المنتمون اليه مظهراً وحدوياً لحياتهم الإجتماعية ؟ وما هو الشروط اللازمة التي يمكنها أن تنقذ البلاد المنقسمة على نفسها حتى تدخل تاريخ آخر ومختلف؟ ماهي المبادىء الأساسية التي ينبغي أن تسير بموجبها القوى السياسية والدينية والثقافية الفاعلة؟

المطلوب مشروع للسلم يتجاوز " الأتفاقات " الحاصلة التي توحد الإتجاهات المسببة للصراع والتي وتحصر هذه الأتفاقات بين طالبي النفوذ والسلطة فقط، من أجل قيام "توافق أساسي" على حد أدنى من القيًم والقواعد والمواقف الجماعيًة، والإعتراف المتبادل بين القوى التي يتألف منها الوجود الإجتماعي المعزز بالإرادة السياسية والشرعية والخاضع لضوابط قانونية يعترف بها الجميع. فلا مجال لحياة اجتماعية سلمية دون هذا الحد الأدنى الذي ينكشف دوماً من خلال الحوار التواصلي الفعّـال، ومن دون توافق أخلاقي و سياسي مسبق.

إنه من الصحيح على الدولة أن تلتزم الحياد إلا أنه لا يمكنها أن تتخلى عن القيام بتحقيق حد أدنى من "التوافق الأساسي"، خصوصاً فيما يتعلق في بعض القيم الأخلاقية والقواعد السياسية والمواقف الجوهرية، التي تأتي من خلال إصلاح مؤسساتها، ودمقرطة حياتها السياسية، وتنمية مجتمع مدني مستقل، والإعتراف بحقوق المساوات، والتوزيع العادل للثروة الوطنية. إن "التوافق الأساسي" لا يعني قطعاً توزيع سلطة الدولة على " ممثلي المكونات الطوائفية من أجلِ تدعيمِ كياناتها على حسابِ كيانِ الدولةِ، بلْ هو مشاركة أختلاف المكون الأجتماعي في السلطة بقصد إنشاء دولة لها القدرة والإجراء على إستيعاب المكونات كافة ، بحيث تتلاشى قوى الطوائف السياسية وتبقى مؤسساتها الدينية والإجتماعية.

أن هذا من مقدمات إيجاد طريقة للعمل السياسي تتجاوز ظاهرة ممارسة السياسة بغير أدواتها ووسائلها المعروفة؛ فمثل هذه الظاهرة هو ما يـُديم العنف وإستمرار الصراع ولا يدع للتنافس السياسي السلمي أي مكان، فلا بد من الإقلاع النهائي عن سياسة الإستئصال بوصفها حلاً أسوء من المشكلة ذاتها، إذ أنها تفرز إستبداد سياسي مما يؤدي الى دفع ثمن إنساني باهض. فالمطلوب من الحوار التفكير في كيفية إحلال قاعدة المساواة المعيارية الطابع مكان العلاقة غير المتوازية في ناموس القوة.

إن الحكم نظام وليس بعقد سياسي. فالعقد إذا تم بمعزل عن المجتمع، أي بين مجموعات " تتحاصص الحكم " توافقياً، لا يكون ملزماً إلا بما يتواطىء عليه فرقاءه الذين قد يغيًروا الشروط التي أجمعوا عليها أو يلغوا الإتفاق الذي عقدوه متى شاؤوا. لذا لا يكون العقد ملزماً بالتنفيذ ما لم تقم الدولة بضمان تلك الإتفاقات الشخصية بموجب قانون صريح. حيث تصبح العلاقة عامة آنذاك، أي بعيد عن وضع المحاصصة وخاضعة لقاعدة سابقة على عملية التعاقد .

الحاجة الى مشروع وطني شامل يحدد الأهداف التي تحمل معنى، والقيم التي تضمن الوفاق، ويحقق القناعات التي يمكن الإقرار بها. مشروع يحمله كل ممثلي المكون المجتمعي، ويحمل بدوره ستراتيجية واضحة وكليًة تنطلق من مسببات النزاع القائم نحو تحقيق السلم الدائم. فلا سلام إن لم يتفق على وجود حل للصراعات السياسية ـ الإجتماعية دون اللجوء الى العنف. كذلك لا نظام تشريعي من دون إرادة مشتركة تحترم الأنظمة والقوانين. ولا وجود للمؤسسات من دون عقد اجتماعي حقيقي. ومن الأهمية الإلتفات الى مسألة تهيئة الوسائل الفعالة لإشاعة ثقافة سياسية جديدة ومعاصرة تحمل قيم التعددية والتسامح في تهيئة شروطها على مستوى الإرادة والثقافة الجمعية والأنظمة القانونية للدولة. إن الحاجة ملحة لحوار وفاق وطني معزز بالشرعية الناتجة عن الإجماع العام بوصفها أحد أهم عوامل الإستقرار. وتثبت المجريات الفعلية للمشاركة السياسية المفتوحة بعيداً عن إستغلال المشاعر القبلية والعرقية من قبل مجموعة معينة أو المشاعر الطائفية من قبل مجموعة أخرى، وتكون المشاركة مفتوحة للجميع من خلال حق الحصول على الفرص المتكافئة للمساهمة في إدارة الشأن العام. إن أحد أهم المشاكل التي تقف عائقاً أمام تحقيق التوافق الوطني هو إعتبار الطائفة جماعة موحدة ذات مصالح واحدة من قبل السياسيين الذين يجهدوا في ترسيخ ذلك بين أفراد الطائفة بإستخدام مختلف وسائل التعبئة الطائفية، وأشكال الممارسات "السياسية" الطائفية، بالإضافة الى تقاسم مواقع السلطة في الدولة وفقاً لمحاصصات طائفية والنتيجة ينصرف ولاء المواطن بالدرجة الأولى الى طائفته لا الى الوطن، فيحصل الصراع الطائفي. ثم أن أي تدخل من قبل الهيئات الدينية في الشأن السياسي معناه تأجيج مواقف الأطراف الأخرى. وكذلك مايؤجج العنف الطائفي هو المشاريع السياسية الطائفية وعمل النخب السياسية على تطييف السياسة، وعلى نقل تاريخ الأختلاف المذهبي الديني الى مجريات أجتماعية وسياسية حاضرة مما يأزم الأجتماعي والسياسي.

مهمة الحوار الناجز

تقع على الأطراف المشاركة في الحوار مهام عديدة إبتداءً من تحديد المواقف وما يترتب عليها من تعيين مصالح كل طرف، وتحديد الخيارات المطروحة بالفعل، وضمن أيًة معايير مطروحة سلفاً، كأساس للتوصل الى إتفاق دائم. إن أحد أهم مهام الحوار هو أن يكون هدفه الوصول، الى تعزيز الهوية الوطنية من خلال بناء مجتمع يتقدم فيه الولاء للوطن على الولاء للجماعة، وكذلك الأنتقال من الصراع الطائفي الى توازن سياسي يتخطى الطوائف. وأن تقترن الممارسة السياسية بذهنية جديدة تضع المؤسسات فوق الأشخاص الذين يمارسون السلطة. وكذلك تقع على أطراف الحوار مهمة تشخيص المشكلات والعوائق التي تحول دون التحول الديمقراطي السلمي، أو ما يصطلح عليه في الفكر السياسي المعاصر.Problems of Democratic Transition and Consolidation .

إن وجود أهداف متناقضة ومتصارعة لا يلغي إمكانيات التعامل مع المشاكل الأساسية والحارقة إذا كانت الأطراف ملتزمة ومهيأ نفسياً للدخول في حوار إعتماداً على صفات سياسية ومواقع إجتماعية. إن هذا الحوار يستدعي تجاوز لما هو قائم والتعامل مع المشكلة مباشرةً بدون محاولة حلها بإمتيازات جوهرية. كذلك ضرورة توفر القابلية عند كل طرف على رؤية الوضع كما يراه الطرف الآخر. وأن يكون المتحاورون مستعدين ليحتفظوا بالحكم بينما يختبر كل طرف آراء الطرف الآخر ،حيث قد يعتقد كل طرف أن آراءه صحيحة بالقوة نفسها التي يمتلكها الطرف الآخر. لذلك المطلوب من المحاور تفهم وجهة نظر الآخرين مما قد يؤدي الى تعديل بعض آراءه وهذا ما قد يسمح بتقليص مساحة الصراع ويساعد في الوقت نفسه على تطوير تسويات وبلورة المصالح بشكل أفضل. فمن فضائل الحوار فسح المجال ليناقش كل طرف مدركات الطرف الآخر. إن أحد الطرق الناجحة للتعامل مع المدركات الأختلافية هي في توضيحها وتداولها مع الأطراف الأخرى بالتفصيل، فتوصيل قضايا يرغب المحاور في قولها وترغب الأطراف الأخرى سماعها بشكل علني ومقنع قد يكون أفضل الإستثمارات التي يستطيع أن يقدمها المحاور.

منطق إدارة الحوار الفعال

ليس الحوار جدلاً أو سجالاً ولا هو محاكمة بقدر ما هو إعتراف من قبل المتحاورين بأنهم يرون الموقف بشكل مختلف وعليهم الإستمرار في الحوار بوصفهم أمام مشكلة مشتركة، فعلى المتحاورين تجاوز مسألة شرح وإستنكار محفزات ونوايا الطرف الآخر، والتركيز على وصف المشكلة وتأثيرها على الطرف المتحدث لا على ما فعله الآخر ولماذا . فالمهم بالنسبة للمحاور الوصول الى غرض معين وواضح.

إن الطرق الفعالة لإدارة الحوار تأتي من خلال إنجاز مستحقاته التي تتمثل في أولاً، أن يركز المتحاورون على البحث عن المصالح لا عن المواقف، وثانياً، أن ينظر المتحاورين الى أنفسهم كشركاء في بحث واقعي من أجل التوصل الى إتفاق عادل ومفيد لكل الأطراف، وثالثاً، من المهم نقل طريقة الحوار من المواجهات المباشرة الى التعاون جنباً الى جنب وطرح المشاكل بشكل واضح . بمعنى أن يكون حاضراً عند الأطراف. إن عدم التوصل الى تحقيق المصالح المشتركة سيكون من الصعب على أي طرف تحقيق مصالحه الخاصة. فلابد من النظر الى الحوار كعملية مشتركة بين الأطراف كافة. فكلما تمكنت الأطراف من وضع أساس للثقة المتبادلة كان ذلك أولى خطوات الحوار الناجح. فضرورة بناء عملية الحوار بشكل يمثل فعالية مشتركة تتلاقى فيها الأطراف علـى إختلاف مفاهيمهم ومصالحهم.

إن محل النزاع من الثغرات الخطيرة في الحوار، وهو يجعل العلاقة المتوترة تتفاقم إلى أن تبلغ درجة بحيث يعتقد كل طرف أن الخلاف وجودي لا يمكن حسمه إلا بالإفناء والإلغاء. وتأسيسا على هذا تكون الخطوة الأولى في الحوار التواصلي هي تحرير محل النزاع، وتعيين وجه الخلاف حتى يُسد الطريق أمام أيً محاولة لتغيير سياق النقاش. وذلك حتى تنكب المناقشات والمحاورات على القضايا الأساسية.

إن المهمام الأساسية للحوار هي الكشف عن المصالح والمتطلبات الأساسية التي تكمن خلف المواقف المعلنة من قبل أطراف الحوار، والنظر في إمكانية تلبيتها لأن ذلك يضاعف من فرصة التوصل الى إتفاق تلتزم به الأطراف كافة. فالغرض من الحوار هو لتحقيق المصالح وأن الفرصة لحدوث ذلك سوف تزداد عند الكشف والإعلان عنها، فلربما لا يعرف أحد الأطراف بماهية مصالح الأطراف الأخرى على وجه التحديد. وبدلاً من العودة الى تظلمات قديمة لابد من التركيز على إهتمامات مستقبلية ومناقشة المصالح بطريقة بناءة وبدون التشبت بمواقف متصلبة. تقع على كل طرف مهمة أن يجعل الطرف الآخر مدركاً لأهمية وشرعية مصالحه عند الأطراف الأخرى. فجزء من التأثير على الجانب الآخر هو أن يؤسس كل طرف شرعية لمصالحه. ثم تقع على المتحاورين مهمة البحث في كيفية الإنتقال من تحديد المصالح الى تطوير خيارات للتوافق مع المحافظة على مرونة هذه الخيارات.

إن الحلول الأكثر حكمة هي الحلول التي تحقـق الوفاق وتـعود على أطراف الحوار بفائدة كبيرة مع أقل كلفة. يأتي ذلك بدفع المصالح الى السطح بشكل واضح مما يحفز على التفكير في إبتكار حلول ذات فائدة متبادلة. ثم أن المهارة في إبتكار خيارات متعددة هي واحدة من أكثر الأمور المفيدة التي على المحاور إمتلائها بكفاءة. كذلك من الأهمية تشخيص الحاجة الحقيقية لمجموعة الخيارات المطروحة. إذ قد تعتقد بعض أطراف الحوار بحوزتها الحل المناسب للنزاع، وإن وجهة نظرهم هي التي يجب أن تسود ولكن عند الدخول في مجريات عملية الحوار ستعرف أن عروض الآخرين تمتلك المعقولية والمشروعية أيضاً، والتفكير المبدع هو الذي يجترح الإقتراحات ويتجاوز الخلافات. إذ في أكثر الحوارات هناك عقبات رئيسية قد تقف عائقاً أمام إبتكار خيارات متعددة ومعظمها يتعلق بالأحكام المسبقة والإنغلاق المسبق. إنها عوائق لأنها توجه الحوار ومنذ البداية للبحث عن حل مثالي واحد مما سيضيع فرصة إيجاد الحل الأكثر واقعية ومقبولية. لذا على أطراف الحوار أن تجعل عملية التحاور والتفاوض وكأنها إختيار بين مجموعة كبيرة من الحلول الممكنة. فقلة وجود الخيارات المطروحة تدل على أن كل طرف يرى الموقف بشكل جوهري واحد وثابت، أي على أنه موضوع أما .. او، فأما أحصل على كل ما أتنازع من أجله أو تحصل عليه أنت.

من الطبيعي أن يوجه كل طرف إهتمامه للوصول الى إتفاق يحفظ مصالحه لكن هذا الوضع يتطلب تطويراً لحلول لا تأتي بدورها إلا من خلال حوار يحفظ مصالح الأطراف الأخرى أيضاً. قد تكون المصالح المشتركة في كل حوار تفاوضي مستترة بداية، لذا تقع على كل طرف مهمة التفكير بها والكشف عنها. فتشخيص هذه المصالح يساعد على إيجاد حلول تحظى بالقبول والإتفاق. وما يمكن أن تنتهي إليه .

ومن القضايا التي تتطلب الأهتمام في سياق الحوار بين الأطراف المتخالفة عموما، هي مسألة "التمثلات" بوصفها تلعب دورا كبيرا في إنجاح الحوار أو إفشاله، والمقصود بها الأفكار التي يؤمن بها كل طرف، والمبادئ التي يعتنقها وكذلك الصور الذهنية التي يحملها كل طرف عن الآخر. وتبلغ هذه التمثلات درجة من التعقيد والحساسية بحيث يتعذر في كثير من الأحيان الإمساك بخيوطها وفهم خلفياتها وتحديد منطقها، فهي عادة ما تكون مغرقة في طابعها الذاتي. وفي كثير من الأحيان تكون هذه التمثلات مجرد استيهامات لا أساس لها من الصحة أو الواقعية.

إن الحوار هو السبيل الأفضل لصياغة حلول مبتكرة تلبي مصالح الأطراف كافة. وإنه يمَكِّن من إدارة سلمية للإختلاف وتطوير علاقات مثمرة. إنه الوسيلة الأنجع للوصول الى تحقيق المصالح المشتركة وتطويرها مستقبلاً، وتأكيد المبادىء الأساسية في الحرية والعدالة وعدم المساس بالشخص المواطن. إنه يكشف عن ضرورة التضامن تجاه التحديات التي تواجه المجتمع بكافة مكوناته، ووضع حد للأوضاع التي تحتقر حقوق الإنسان والتعددية. وكذلك إيجاد طريق للمستقبل يقود الى المصالحة بين المذهبية والثقافية والتقاليد، ووضع حد للإنقسامات التي يغذيها التمييز الطائفي والدعوات المعادية للآخر في المجتمع العراقي. إن الأطراف كافة مدعوة للتعاون في تحقيق السلم الأهلي وإقامة دولة جديدة ومحايدة في مفهومها العام. دولة تتقبل الطوائف والأعراق من موقع المواطنة والآيديولوجيات المختلفة من موقع الحرية والمساواة.

 

الدّكتور عليّ رسول الرّبيعيّ

 

 

في المثقف اليوم