قضايا

الفلاسفة والحرب: كانط.. الأخلاق والحرب

علي رسول الربيعييأتي حديث كانط عن الحرب في سياق فلسفته عن الفرد بوصفه كائن مستقل وعقلاني يتم تحديد تصرفاته من خلال المعرفة العقلانية للآخرين الذين يشكلون الإنسانية حيث تتوافق حرية كل شخص في تعزيز أهدافه مع حرية متساوية لجميع الآخرين. وأن ما يفصل البشر عن الطبيعة هو قدرتهم على أن يكونوا أخلاقيين ولكي يكونوا هكذا عليهم أن يعترفوا بالمبادئ الأخلاقية العالمية والشاملة التي تستمد ليس من أخلاق مجتمعات محددة، ولكن من عالمية العقل.

تبدأ الرؤية الأنطولوجية عند كانط من تعريفه للفردية من حيث العقلانية أو ما ما يفصله عن نظام الطبيعة أو الغريزة. فقد سعى الفكر السياسي لكانط الى فهم العلاقة بين الفرد، الدولة والبشرية كمجتمع أخلاقي عالمي، وتصدر أفكاره حول هذه العلاقة من فلسفته النقدية. وقد أوضح في نقد العقل المحض أن قوانين الطبيعة ليست متأصلة في الطبيعة بل هي من تشييد العقل ويستعملها لغرض فهم الطبيعة. فيعتمد فهم التجارب الأخلاقية أو السياسية على بناء قضايا أو قواعد تتعلق بالحياة البشرية تكون قبلية ومنطقية وسابقة على التجربة. كما يعتمد فهم التجربة الإنسانية على افتراض العقلانية الكونية والفردية المستقلة. فتقوم رؤية كانط السياسية على اشتقاق المبادئ الأخلاقية من هذه العقل الذي تتقاسمه جميع الكائنات العقلانية. يتمايز نظام العقل عن نظام الطبيعة وهو يتضمن اساس السلوك الأخلاقي. يستلزم السلوك العقلاني -الأخلاقي- ثلاثة مبادئ، وهي العالمية أو الشمولية أولاً، معاملة الآخرين كأهداف في حد ذاتهم ثانياً، والعمل باستقلالية ثالثاً. يشير المبدأ الأول، مبدأ العالمية، إلى أن السلوك الأخلاقي لا يقتصر على حدود المجتمع أو الدولة التي يقطنها الفرد ولكن له قابلية التطبيق الشامل. علاوة على ذلك يعني التعامل الأخلاقي هو أن تتعامل مع الإنسانية، سواء في شخصك أو في" أي شخص آخر، ليس كوسيلة، ولكن كغاية دائمًا. إن الشخص عند كانط هو كائن مستقل تشكل إرادته، بوصفه كائن عقلاني، عالمية القانون. ويتضح هذا في قوله: ينتمي "الكائن العقلاني إلى مملكة الغايات [المجتمع الأخلاقي] كعضو فيها، و يكون هو نفسه خاضعاً لهذه القوانين، رغم أنه نفسه يضع هذه القوانين.

يتشكل المجتمع - وفقا لكانط – من أفراد أخلاقيين و مستقلين، يسعون إلى التصرف طبقا للمبادئ العقلانية التي لها قابلية تطبيق عالمية معززة بموافقة وجزاء القانون. إن هذه العالمية لا تنطبق على العلاقات بين الأفراد داخل المجتمع المحلي فقط ولكن على أيضاً على النظام الدولي. حيث يكون الإجماع على المبادئ الشرط اللازم للسلام الدائم.

تستند عالمية الأخلاق عند كانط إلى رؤية إنطولوجية تعرف الفردية فيها بأنها الإرادة الحرة العقلانية الأخلاقية التي فوق الميل الطبيعي. بوصف الإرادة الحرة الحق الوحيد والأصيل الذي ينتسب إلىه كل إنسان بحكم إنسانيته. وهنا من حق كل فرد أن يُعامل كغاية بذاته لا كوسيلة للوصول إلى غاية يحددها الآخرون. هناك صفات للأفراد داخل مجتمعات لغوية أو دينية أو ثقافية مميزة، الا أنهم يشتركون في صفات الانسانية التي تستند إلى العقلانية التي لا تعترف بأي حدود. وهنا تأتي الحرب لتنتهك هذه العالمية التي ينادي بها كانط.

إن حالة"السلام الدائم" بالنسبة لكانط هي إمكانية ، ولكن يجب خلقها من خلال العقل البشري: فحالة السلام بين البشر الذين يعيشون معا ليست هي حالة الطبيعة نفسها، لأن الحالة الطبيعية هي حالة حرب، وحتى ان لم تتضمن أعمالا عدائية، فإنها تنطوي على تهديد مستمر. لذلك لابد أن تؤسس حالة السلام رسميا وعرفيا، فتعليق الأعمال العدائية ليس في حد ذاته ضماناً للسلام.

يرى كانط في فكرته لتاريخ عام من أجل هدف عالمي (1784) ضرورة صنع السلام في ظروف تهيمن عليها العداوات تاريخياً بين الدول. وأن الطبيعة أرادت أن يتكفل الأنسان وبمبادرة خاصة منه بتكوين كل ما يتجاوز النظام الميكانيكي لوجوده الحيواني، وأنه لا ينبغي له أن يرنو الى أي سعادة أخرى غير الكمال من الذي حصل عليه بنفسه بدون غريزه من خلال عقله الخاص. ولذلك،المطلوب تشريع دستور مدني من خلال العقل، الذي مطلوب أن يحكم العلاقات الدولية ايضا.

يعتمد خلق السلام الدائم على عدد من الشروط المسبقة مطلوب الوفاء بها لأنها هي ما يغيًر الظروف التي تؤدي إلى الحرب. يعتقد كانط أن الحرب قد تفيد الحكام وهي في غير مصلحة المواطنين الأحرار الذين يعيشون داخل جمهورية، فالمواطنون يترددون في الشروع في هكذا مشروع خطير للغاية. لأن هذا من شأنه أن يستدعي كل بؤس الحرب. فالحرب تفرض عليهم القيام بالقتال بأنفسهم، وتوفير تكاليف الحرب من مواردهم الخاصة و تحمل عبء الديون وما يحل من خراب. ومع ذلك ، يمكن أيضاً أن يكون العقل هو أساس السلام بين الدول. بوصف العقل ، أعلى سلطة أخلاقية تشريعية. إنه يدين الحرب كاختبار للحقوق وينشئ السلام كواجب فوري. يتطلب أن يكون السلام آمنًا إنشاء "اتحاد فيدرالي" يضمن حقوق وحرية كل من الطرفين المتعاقدين.

ويمكن نقد آراء كانط حول الحرب في قوله أن الحرب قد تفيد الحكام، إلا أنها لا يمكن أن تكون في مصلحة المواطنين الأحرار.   فيبدو كانط كما لو لم يكن محيطا بالاجتياحات الجماعية. لحروب بين شعوب أو مدن بأكملها، مندفعة لإبادة أو استعباد بعضها بعضاً لأسباب اقتصادية أو ديموغرافية أو دينية أو عرقية.

ومع ذلك، بالنسبة لكانط، فإن كل الحروب تقف محكومًا عليها بالأدانة لخرقها العقل ولأخلاق العالمية ، إن إدانته للحرب مستمدة مباشرة من وجهة نظره حول العقلانية الإنسانية والنظام الأخلاقي العالمي. وبالتالي، فإنه بعيدًا عن تصور الحرب كعنصر تأسيسي في التكوين الاجتماعي، يعتبرها انحرافًا للعقل البشري والشرعية المطلوبة التي تدعم المجتمعات الحرة.

 

الدّكتور عليّ رسول الرّبيعيّ

 

 

في المثقف اليوم