قضايا

الأعتراض على نظرية الأوامر الالهية الأخلاقية: أعتراض الأستقلالية

علي رسول الربيعيأريد أن أناقش هنا أحد الأعتراضات على نظرية الأوامر الالهية الأخلاقية، اي النظرية التي تقول أن الأفعال في حسنها وقبحها الأخلاقي تعتمد على أوامر الله وأحكامه التي يبلغها لنا عن طريق انبياءه وكتبه.

يعترض العديد من النقاد على ما تقول نظرية الأوامر الإلهية بخصوص الالتزامات الأخلاقية، ويرون أن ماتقوله هذه النظرية غير مقبول أو أن هذه الألتزامات غير مقبولة لأنها تقوض استقلالية البشر ويعتقدون أن مثل هذا الأستقلال الذاتي للبشر ضروري للأخلاق. ولنأخذ عن سبيل المثال راي جيمس راشيلز في كتابه:

Rachels, The Elements of Moral Philosophy,

حيث يقول لايمكن أعتبار نظرية الأوامر الالهية نظرية أخلاقية لأن الأخلاق تتطلب فاعلين يقومومن بأفعالهم أو أعمالهم على اسباب وحجج أعترفوا بها بشكل مستقل وليس مفروضة عليهم كأوامر من سلطة عليًا. وقد يعترف الناقد بأن نظرية الأوامر الالهية هي نظرية أخلاقية لكنها نظرية سيئة، لأنها تصورنا كمخلوقات طفولية غير قادرين على تقرير مصائرنا أو أمور مهمة بالنسبة لنا، فنحتاج الى من يخبرنا بما يجب علينا فعله.

Patrick Nowell-Smith, "Morality: Religious and Secular," in Baruch Brody (ed.), Readings in the Philosophy of Religion (Englewood Cliffs, NJ: Prentice-Hall, 1974(.

تُثير هذه الاعتراضات، من موقع مطالبتهم باستقلالية الفاعل الأخلاقي، قضايا مختلفة وبالتالي أريد مناقشة هذه الاعتراضات والرد عليها هنا. طبعا الرد عليهما ليس بقصد الأنتصار النهائي لنظرية الأوامر الالهية ولكن لأبين مواطن الضعف فيهما وبالتالي نكون بحاجة الى نقد أقوى وأكثر صرامة لنظرية الأوامر الالهية.

دعني ابدا بالادعاء الذي يقول بأن مصطلح نظرية الأوامر الالهية لايعبر عن نظرية أخلاقية لأن النظرية الأخلاقية الحقيقية يجب أن تفسح المجال للأخلاق في المبادئ و / أو الحجج التي يمكن للفاعل أن يعترف بها كصحيحة و / أو سليمة بنفسه. النقطة الأولى التي نقوم بها هنا هي أنه ليس من الضروري للشخص الاعتراف بالالتزام ألاخلاقي كأمر الهي لكي يكون لديه معرفة أو على الأقل مبرر الاعتقاد بأنه عليه التزام بها. من الصعب، هنا، أن نرى كيف يمكن أن تنطبق حجة راشيلز على الأفراد الذين لا يدركون اصلا أن التزاماتهم الأخلاقية هي أوامر إلهية. يدرك هؤلاء الناس التزاماتهم الأخلاقية، ويفترضون أنها هي نفسها التي يتبعها الآخرون، فيبدو هنا من الصعب رؤية كيف أن حقيقة أن تلك الالتزامات التي هي أوامر إلهية يمكن أن تقوض الأستقلال الذاتي للاشخاص، وذلك يعود بكل بساطة الى انهم يجهلون هذه الحقيقة، حقيقة انها أوامر الهية.

لذا على حجة راتشيلز أن تكشف أن الالتزامات الأخلاقية الناتجة عن الأوامر الإلهية تقوض الاستقلال الذاتي للشخص. صحيح أن نظرية الأوامر الالهية تشير إلى أن هناك مبادئ أخلاقية موضوعية (أو على الأقل مبدأ واحد) يجب على الشخص اتباعها. لكن مجرد القبول بنظرية أخلاقية تعني ضمناً أن هناك مثل هذه المبادئ ولا تنتهك الاستقلالية، فالعديد من النظريات الأخلاقية (النفعية، عن سبيل المثال) تقول – كما تقول نظرية الاوامر الالهية- أيضاً أن هناك مبادئ أخلاقية موضوعية يجب على الشخص اتباعها. إذا افترض المرء أن شخصاً قد تقبل نظرية الأوامر الالهية على أساس حجة فلسفية (عن سبيل المثال، يقول أحد ما أن نظرية الأوامر الالهية تفسر الأخلاق بشكل أفضل من أي نظرية منافسة)، فمن الصعب أن نرى كيف يمكن أن يؤدي ذلك إلى تقويض الأستقلالية الأخلاقية للشخص. متطلبات راشيل أن الفرد يشكل المعتقدات الأخلاقية على أساس العقل و / أو الحجج التي اعتبرها الفرد لنفسه قد تم الوفاء بها.

ولعل رايتشلز، أو أي شخص آخر أعجب باعتراض الاستقلالية، قد يجادل بأن الأمور مختلفة عندما تأتي المبادئ الأخلاقية الموضوعية من الله. لماذا قد يكون هذا الأمر كذلك؟ ربما تكون الفكرة هي أن مجرد اتباع إملاءات شخص آخر لن يحسب كمبادئ أخلاقية على الإطلاق. قد يجادل الناقد على النحو التالي: يمكن للمرء أن يتخيل جاري محمد يعطيني أوامر حول كيفية أعيش حياتي. إذا كنت أعتقد أن محمد شخص حكيم للغاية ويتفهم الأخلاق بعمق، فقد يكون من المنطقي بالنسبة لي أن أتبع مطلبه. لا أعتبر في هذه الحالة بأن محمد يمتلك سلطة عملية، ولكن سلطة معرفية. أتبع ارشاداته لأنه خبير أخلاقي ويعرف أفضل مما أعرفه. حتى في هذه الحالة، يمكن المجادلة إن الفرد الذي يتبع ما يرشد به محمد لا يعيش بشكل مستقل، حيث يمكن القول إن الفاعل الأخلاقي يجب أن يسعى بنفسه لفهم لماذا يجب أن يتبع المبادئ التي يتبعها. ومع ذلك، إذا افترضنا أني اعتبر أن محمد يتمتع بسلطة عملية حقيقية، مثل أن محمد في الواقع هو من يحدد واجباتي الأخلاقية من خلال أوامره ، فإن الأمور في هذه الحالة تصبح أسوأ. في الواقع عندما يقول لي محمد أن اقوم بهذا الفعل فهو لا يعطيني أي سبب أخلاقي للقيام بذلك، ما لم تكن هناك بعض الظروف الخاصة التي تعطي محمد بعض من السلطة عليً.

كل هذا يبدو صحيحا في حالة محمد الجار. لكن حالة محمد تختلف كثيرا عن حالة الله. حتى في حالة محمد ، في بعض الحالات، قد تكون أوامر محمد التزامات أخلاقية. لنفترض، عن سبيل المثال ، أنه قد تم تعيين محمد، في زمن الحرب، كمراقب للهجوم الجوي، وأعطته السلطة ليأمر الناس في الحي بإطفاء الأنوار وقت الغارات الجوية. في هذا الموقف، فإن أمر محمد بإطفاء أضوائي يخلق التزامًا أخلاقيًا لإطفاء الأنوار. وبالمثل يجب أن يتمتع الله بسلطة أخلاقية حقيقية حتى تمثل أوامره التزامات أخلاقية. ومع ذلك، إذا كان لدي أسباب وجيهة للاعتقاد بأن الله لديه هذه السلطة الأخلاقية، وأيضاً أسباب وجيهة للاعتقاد بأنه قد أصدر الأوامر، عندها سيكون لدي سبب وجيه لاتباع أوامر الله. إذا كان لدي أسباب وجيهة للاعتقاد بأن جميع الالتزامات الأخلاقية التي لدي هي في الواقع أوامر الله، وهذا جزء من وضع هذه الأوامر الأخلاقي كواجبات تنتج عن هذا الأمر، عندها سيكون لدي سبب وجيه للأعتقاد بنظرية الأوامر الالهية. وكل هذا متوافق تماما مع معن الأستقلال الذاتي للفرد الحكم عند راشيلز.

دعوني الآن أفكر في الشكل الثاني مما يُعرف بأعتراض الاستقلالية، التي لا تقول أن الأوامر الإلهية لا تتوافق مع الاستقلالية التي يجب أن يكون عليها الفاعل الأخلاقي، بل تقول أن اتباع الأوامر الإلهية سيكون نوعا من الصبيانية الأخلاقية. في الواقع، الانتقاد في هذه الحالة معناه: هو أن الله الذي يتوقع منا أن نعيش وفقا لأوامره سيكون إلهًا لا يحترمنا حقًا، يعتبرنا كأطفال صغار غير قادرين على اتخاذ قرارات جيدة وخيرة. أو ربما يعتقد الناقد أن المشكلة تكمن في الشخص الذي يقبل نظرية الأوامر الالهية؛ فمثل هذا الشخص يكتفي بالموقف الأخلاقي للطفل ويخشى من المسؤولية التي تقع على عاتق الكبار.

في الرد على هذا الأمر، سترك الرد السهل والشائع الذي يقول بان البشر البالغين غالباً ما يتصرفون بطفولة خاصة إذا ما قورنوا بالله بوصفه الكمال الأخلاقي والكلي العلم. وبدلاً من ذلك ، سأبدأ بالإشارة إلى أن الإله الذي يعطي الإنسان حرية الإرادة فأنه بالتأكيد سوف يضع مكانة قيمة لتلك الحرية، وبالتالي يحترمها. وعلى اساس هذا الافتراض، حتى لو أعطانا الله الأوامر، فانه من خلال ما منحنا من حرية طاعة أو عصيان أوامره يعاملنا ككائنات اخلاقية لديهم الفرصة بحرية لأتباع مبادئه. وهكذا لدينا كرامة كوننا مشاركين احرار في خطة الله العظيمة للحياة، ولم نكن بيادق عاجزة أو عبيد جاهلة.

ومع ذلك، من السهل أن نرى أن الله لا يقوم بالضرورة بتجنيد البشر من خلال منحهم الأوامر المتعلقة بكيفية العيش. وسواء كان شيئًا كهذا صحيحًا، فسيعتمد ذلك على طبيعة الأوامر التي يمنحها الله. ربما إذا أعطى الله تعليمات تفصيلية للإنسان على أسس دقيقة لكل تفصيلات عن حياتهم فإن هذا النقد سيكون له وزن. في هذه الحالة، لن يحتاج الأشخاص إلى استخدام قواهم العقلية أو تطويرها من أجل معرفة كيفية العيش. المهمة ستكون ببساطة الاستماع إلى تعليمات الله المستمرة وأتباعها.

   إذا افترضنا أن الله لا يعطي مثل هذه الأوامر، ولكنه يعطي أوامر بشرية اجمالية وعمومية بطبيعتها تخيل، عن سبيل المثال، أن الله أعطى البشر مجرد أمر واحد، "أن يحبوا جيرانهم كما يحبون أنفسهم". هذا الأمر عام للغاية ومجرّد، وسيتطلّب ذلك من البشر إشراك قواهم العقلانية بشكل كامل لفهم آثارها وتطبيقها. حتى لو افترضنا أن الله يعطي أوامر متعددة (كما نجد الكثير منها في القرآن أو كما هو الحال في الوصايا العشر لموسى مثلا) فإن هذه الأوامر لا يزال يتعين تفسيرها وتطبيقها وآثارها من خلال التفكير.

قد يقرر الله أن يعطي الأوامر بهذه الطبيعة فانه فقط لكي يطلب من البشر تطوير القدرات التي منحها لهم. وبطريقة مماثلة، يعطي الآباء الحكيمون والحسنون قواعد أبنائهم للعيش بها، ولكن عندما ينمو أطفالهم ويصبحون ناضجين، فإن هذه القواعد تتطلب حكمًا جيدًا لتفسيرها وتطبيقها. قد يعترض المرء على أن الآباء الجيدين في نهاية المطاف يريدون أن يكون الأطفال مستقلين بشكل كامل، وهذا قد يعني أن الله يجب أن يرغب في أن نتحرر من سلطته في نهاية المطاف. ربما يبدو هذا صحيحًا بشكل خاص إذا اعتبرنا أن هناك عدم تناظر مهم بين العلاقة بين الوالدين والطفل وبين علاقة مخلوق الخالق. في نهاية المطاف يصبح الأطفال بالغين ويأمل الآباء في أن يصبحوا متساوين في الذكاء والبصيرة الأخلاقية. ومع ذلك ، فإن البشر لا يتساوون أبداً مع الله سواء في الذكاء أو البصيرة الأخلاقية، ويبقى هناك شعور صحيح يفكر فيه حتى الكبار الراشدين بحق وهو أنهم أقل شأناً من الله في كل من المعرفة الأخلاقية والرغبات. هناك بالتالي سبب وجيه للاعتقاد أنه حتى البالغين الراشدين يجب أن يرحّبوا بأوامر الله، لأن هذه الأوامر تأتي من واحد لديه أفضل فهم ممكن للحياة البشرية والخير، والذي يعطي الأوامر لمساعدتنا في إحراز تقدم نحو تملك الخير النهائي. الشيء المذهل ليس أن الله يعطينا الأوامر، ولكن، على الرغم من أننا بشر متناهيا، خاطئين، فإنه يمنحنا كرامة أن نصبح مشاركين في الخطة الإلهية للحياة.

 

الدّكتور عليّ رسول الرّبيعيّ

 

في المثقف اليوم