قضايا

المفكر والمثقف العميل

رحيم الساعدي(الفلسفة صنعت الدولة التي شغلت الفلسفة ضمن دوائرها فيما بعد)

قد تكون فكرة نسبية ان يوصف المثقف او المفكر بالعمالة، لان إيمانه بمبادئ معينة يعني إخلاصه لها ولقضيته او دولته، لذا فلا يجب ان يوصف بهذا النحو بصفة يرفضها الجميع فهي قيمة أخلاقية واطئة المنسوب .

ربما يكون هذا صحيحا على نحو ما، ولكن صفة العمالة توصف بصورة دقيقة لمن يخدم ويوظف ويدس ويصنع الأفكار الجيدة للحكام السيئين او الطغاة (وهي عبارة دقيقة تعني فئة الدكتاتور او فئة الحاكم الضعيف)، أكان مؤمنا بهم ام مجبورا، علم مسبقا بحقيقتهم ام لم يعلم، أكان عمله بشكل سري او لم يكن، استمر على ديدنه ام لم يستمر . وسوف أتجنب الحديث عن الفراغ المهول الذي يقع به هؤلاء سيما الذين فقدوا وجود السلطة، وعاش بعضهم بفراغ من نوعين (وأنا هنا أحاول استبطان نفسياتهم) اما التحسر على ما مضى او الإحساس بالحرية الواهمة التي تنزعج من تذكر ماضيها .

في عام 1985، أعلنت وكالة المخابرات الأمريكية عن برنامج ممول تقدمه للعديد من دور النشر، لنشر الكتب المؤيدة لسياسات الولايات المتحدة، والغاية هي تحويل الفكر العام باتجاه معين، ويعرف أن المفكرين وأصحاب الفكر الفلسفي لا يملكون تأثيرا حقيقيا على المسائل السياسية، فاستخدمت العقول المثقفة وهي تخوض حربا ثقافية للتأثير الإيديولوجي، وأنشأت مؤسسات كاملة ومكاتب في بلدان مختلفة، ليكون لها سلسلة متنوعة من الأنشطة الثقافية والفنية، فهي تنشر المجلات المهمة وتنظم مؤتمرات عالمية، وتنسق حفلات لتقديم جوائز ومنح لكل الواجهات الثقافية التي تخدم هدفها ، وذلك لا يعني ان الشرق بمعزل عن تلك الآلية الاصطيادية، والفخ الثقافي، فالدول الشرقية استخدمت فضلا عن الفنانين والرياضيين والشخصيات العامة، العديد من المثقفين والمفكرين وأنصاف المثقفين فأرسلتهم بمسارب لا يعلمها الا الله، للتأثير في الرأي العام او لزرعها حتى يحين قطافها .

وقد تحدثت بمقال قديم عن الفلسفة والمخابرات، والمفهوم الأخير لا يعني جزئية المؤسسة المتابعة لشؤون دولة ما بقدر ما يعني منظومة شاملة تتعلق بالاختراق أو التجسس أو التوجيه للسلوك أو تشابه الأساليب والدراسة أو طريقة لفهم الآخرين أو خاصية تخليق الأفكار لإنعاش وديمومة المؤسسات المرتبطة بالدولة . ومسائل أخرى تتصل باستخدام المناهج واعتماد المنطق والمصفوفات المنطقية والاستدلال، والأكثر أهمية هو تشابه الشخصية المعنوية فالأبوة والقيادة والريادة ومسك زمام الأمور ومراقبة الجميع بشكل شمولي وواثق ، وهو ما تصبو له الفلسفة وتعتمده وهي ذات الصفات التي تغلف مفاصل المنظومة المخابراتية  .

 فكلاهما يشعر بوجوده بوصفه الأنا الكبرى داخل منظومة المعرفة، وهو نوع من الانتلجنسيا العليا تشابه تماما ما يشعر به الأفراد من التحسس من الذوات الأخرى التي لديها مساحة من التميز أو الحضور، واقصد الشخصية المعنوية الفكرية أو غير الفكرية وعلاقاتها مع بعضها البعض، فهذا التصور عموما لدى كل من الفلسفة والمخابرات هو شعور بالتميز أو الاختلاف عن المؤسسات الأخرى .وشعور بالفوقية والسيطرة، وهناك تشابه بين المؤسسة أو المنظومة وبين الأفراد، أي بين المؤسسة (التعليمية أو الفكرية والمنظومة المخابراتية) والأفراد (من المثال، النموذج، القادة والمتميزين) فتلاحظ الشعور بالتميز لكل من أفراد هذين الصنفين .

إن الحديث في صورة المفكر العميل يعني أيضا السؤال عن مديات قرب الفلسفة او الفكر من الدولة (التي تعني المنظومة الأمنية وغير الأمنية بالتأكيد)، وهو موضوع مهم عند الدخول بتفاصيله (ليس عن أمومة الفلسفة للدولة، بل عن علاقة متضادة بين الدولة والفلسفة) اقصد عن تبعية الدولة للفلسفة وتبعية فروع الفلسفة مثل فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع للدولة وأيهما انتصر (وكأنها علاقة بين السيد والعبد)، فالفلسفة صنعت الدولة ثم الدولة أصبحت السيدة الأولى وتبنت وشغلت الفلسفة ضمن دوائرها، وهذا جانب مهم أيضا يجب أن يبحثه طلبة العلم لإعادة إنتاج وتكرير الفكر. وهذا ما نلمسه قديما وحديثا سواء في الحضارات القديمة او في بناء الدولة الحديثة .

إن الفلسفة أو الفكر أحيانا كان عاملا مهما في هيجان أو خدمة الطغاة، وأتذكر في العراق مثلا ان الدولة اعتمدت على الأفكار النفسية لبعض الخبراء الألمان، لانتزاع اعترافات السجناء العراقيين (السياسيين منهم )، وهذه القاعدة طبقت بشكل واسع ومهم في الحروب الحديثة، فالمفكر في خدمة الحرب أحيانا وفي حاشية الطاغية غالبا، ولا أريد هنا اتهام أرسطو والفارابي وغيرهم بالتقرب من السلطان والعمل ضمن المنظومة الأمنية الاستخبارية التي تذلل العقبات للسلطان، فان هذا الموضوع يحتاج معرفة ما هو حجم استفادة الاسكندر أو سيف الدولة أو من هذين الفيلسوفين على المستوى السياسي وما الذي أمكن تطبيقه في الدولة من الأفكار وهل تضرر المجتمع أم انتفع ، وما مدى معرفة الحكام مثل جنكيز خان من كل الشيخ الطوسي أو هتلر من غوبلز أو الغزالي من التصاقه بالمنظومة النظامية أو ابن سينا من الأمراء أو توينبي من التقارير الاستخبارية في الحرب العالمية الثانية أو استفادة الفلاسفة الأوربيين من التصاقهم بالملوك في عصر النهضة أو الفلسفة الحديثة والمعاصرة، وهذا يشمل كل من اشتغل بالفكر من العرب واتكأ على الدولة أو الطاغية . وهي مسالة نسبية أحيانا .

ولو تجاوزنا هذه النقطة فان دخول المفكر أو الفيلسوف على خط نقد الدولة يجعلنا أمام تصورات منها :

الأول : أن يكون الفيلسوف أو المفكر فعلا ضد الدولة ومناهض لأسلوبها اللاعادل ولديه الثبات والعزيمة لنقدها .

الثاني : أن يكون مع الدولة بطريقتين منها تبعيته الطائعة واستثماره فهو فخ لغيره يستخدم بصورة استكشاف آراء الغير، ومنهم المفكرون والفلاسفة والمنظمات الفكرية الكبيرة ومراكز الدراسات .

ثالثا :هناك من يحاول تلافي أخطاء الدولة والدفاع عنها وتقديم أفضل الحيل لمشاكلها سواء بوجودها أو بعد ذهابها وهؤلاء غالبا أتباع السلطان المنمقين لوجوده، والذائبين بمبادئه، وأقسى اللحظات التي تمر على هؤلاء هو سقوط الدولة (أقول الدولة وليس الحكومة، لان النظام الشمولي الذي يطغى هو دولة لا حكومة، ويتوجب تغيير هيكل وأسس بنيانه) وشعور هؤلاء (كما أتخيله بتأثير الدراما التي أشاهدها) هو مزيج من الفقدان والمرارة والتعالي الوهمي واللاواقعية والتبرير لما فقدوه، والانعزال بشكل ما إلى فترة محددة ثم العودة للعمل اما بنسيان الماضي أو باعتماد التحريض المبطن، وهذه القضية توجد لدى العرب والعراق بشكل عام أكثر من غيره .

من زاوية أخرى فان المعلومات الدقيقة التي يقدمها المفكرون والفلاسفة والمعنيين بالاقتصاد والمؤسسات العامة في الدولة تمثل مادة فكرية مهمة لتشكيل المنظومة الأمنية والإستراتيجية للدولة أساسها القدرة على التحليل أو إظهار القبضة القوية للدولة أو تلافي أخطاء الملوك والرؤساء باستئصال معارضيهم وهي آلية متشعبة من الفكر والتطبيق والاستشارة .

ويمكن إجمال البعض من الأفكار الفكرية التي تعد بيئة مثالية للدخول إلى مفهوم المفكر العميل، التي تنتمي إلى جزء من الفلسفة وهي السياسة لا إلى أسس الفلسفة المتمثلة بالوجود والمعرفة والميتافيزيقا والجمال والأخلاق أو المنطق .وهي منظومة واسعة تحتاج إلى تفصيل، في أبحاث أخرى، ويبرز لدينا :

1- نظرية المؤامرة .

2- نهاية التاريخ .

3- صراع الحضارات .

4- تنظيرات رسم السيناريو والياته الموجبة والسالبة في الدراسات المستقبلية .

5- النظريات السياسية والأفكار الخاصة بالفوضى الخلاقة .

6- نظريات مدارس المخابرات وغسل العقول .

7- النظريات الفكرية والاقتصادية.

وسوف أتحدث بمقال آخر عن بعض تطبيقات المفكر والمثقف العميل ان شاء الله

 

الدكتور رحيم الساعدي

 

في المثقف اليوم