قضايا

لماذا لا يفهم الرجال النساء؟!

من أجمل ما قرأت عن الحب عبارة لسيمون دي بوفوار تقول فيها: "في الحب شيء من كل شيء؛ فيه شيء من القلب، وشيء من العقل، وشيء من الروح، وشيء من الجسد". فعندما يحدث التقارب القلبي والاقتناع العقلي والتآلف الروحي والانجذاب الجسدي معًا لن ترى عيناك سوى هذا الشخص. لكن، ما أصعب أن تجد هذا الحب، فإن وجدته ستكون أغبى إنسان على ظهر الأرض إن أضعته من يدك.

وبالرغم من حقيقة أن من أهم ما يميز الناجحين في حياتهم المهنية والشخصية القدرة على القيام بخطوة تقييمية في مراحل حاسمة؛ فإما الاستمرار وإما تغيير المسار، إلا أن ارتفاع أعداد حالات الطلاق في مصر صار مشكلة اجتماعية متفاقمة لا بد من محاولة فهم أسبابها وعلاجها.

صرنا نختار الحل الأسهل ونرحل ولا نعتني ببذل الجهد اللازم للحفاظ على علاقاتنا أو لإصلاح ما فسد بيننا، بينما العقلاء يرحلون فقط عندما يكون الرحيل مبررًا، عندما ييأسون من العلاقة، ويفتقدون السعادة، وتصبح العلاقة عبئًا نفسيًا عليهم؛ فلا ينبغي أن نصل في أي علاقة إلى حد أن نسأل أنفسنا إن كان استمرارها فيه إهانة لنا أم لا؟ وكما يقول مارك توين: لا غياب إلا غياب راحتك، ولا فقد إلا فقد ذاتك، وطبيعي أن نبحث عن الفهم والتقدير في علاقاتنا الاجتماعية، لكن بالرغم من ذلك كثيرًا ما نكون بحاجة للتجاوز والصفح للاحتفاظ بعلاقاتنا مع الأشخاص المهمين في حياتنا. هذه القدرة تؤسس لنجاحاتنا في الحياة.

ومما يساعد على تحقيق النجاح أن تكون أهدافنا في حياتنا الاجتماعية واضحة أمامنا، وأن نحرص ألا تتعارض سلوكياتنا معها. لا يمكن أن تجد عاقلًا يفسد علاقته بإنسان من خلال سلوكياته معه بينما هو يهدف إلى استمرار علاقته به! لكن أحيانًا يكون الإنسان نفسه هو السبب الرئيسي في إفساد علاقته بأكثر من يعنيه استمرار علاقته بهم، فيكون هو من يعطيهم المقص لقطع العلاقة وإنهائها. المشكلة أيضًا قد تكون في الطرف الآخر، عندما يصر على الخطأ متصورًا أن عطاء الآخرين وتسامحهم أبدي.

لقد أصبح ارتفاع أعداد حالات الطلاق سمة من سمات حياتنا المعاصرة، ربما أسهم في ذلك الاستسهال أن الطلاق لم يعد يُعتبر فشلًا بالنسبة لكثيرين! صار الزواج أشبه بتجربة تنتهي لتبدأ غيرها، وربما لا تبدأ! ولم يفلح ارتفاع تكاليف الزواج في جعل الزوجين يبذلان الجهد اللازم لإنجاحه، بينما كان الطلاق منذ عقود يُعتبر فشلًا ذريعًا، وكان الزوجان يحاربان ويجاهدان لأجل المحافظة على حياتهما الزوجية، ويرفضان الاستسلام للفشل فيها، وشيئًا فشيئًا ومع بذل مزيد من الجهد كان يتسنى لهما الوصول إلى قدر من الفهم للطرف الآخر وطبائعه واحتياجاته يمكنهما من الاستمرار.

ويمكن القول إن المرأة بطبيعتها –لو أرادت- أكثر قدرة على تحقيق الفهم للرجل، وهو ما لا يتسنى عكسه للرجال! وربما لأجل ذلك كثيرًا ما كان المجتمع يصب نظرته المنتقدة نحو المرأة المطلقة لأسباب تتعلق بسوء التفاهم بين الزوجين لأنها لم تقم بما كان يلزمها القيام به لأجل الحفاظ على زواجها.

أما الرجل فلا تتوفر له قدرات المرأة نفسها التي وهبها الله إياها التي تمكنه من فهمها، فلماذا لا يفهم الرجال النساء؟!

فروق بيولوجية!

بالرغم من أن تقسيم أجزاء المخ وتراكيبه تتماثل بين الرجال والنساء إلا أن هناك اختلافات في حجم وعدد الخلايا في كل جزء منه، مما يؤدي لاختلاف بين النوعين في تركيز المادة الرمادية Gray Matter في قشرة المخ، والتي تحتوي أنوية الخلايا العصبية، وكذلك تركيز المادة البيضاء White Matter التي تحتوي محاور الخلايا العصبية، والمسئولة عن التوصيل العصبي، والاختلاف أيضًا يوجد في أحجام التراكيب تحت قشرة المخ كالجهاز الحافي limbic System واللوزة والحصين، وتؤدي هذه الفروق التشريحية برُمتها إلى فروق كثيرة بين الجنسين في عمليات التواصل.

وبوجه عام فإن مخ المرأة يعالج المعلومات بشكل متعدد؛ حيث تتنقل بين أجزائه بسهولة كشبكة مترابطة، أو كما لو كان مخها منزلًا أبواب غرفه مفتحة على بعضها. يساعد على هذا أن الجسم الجاسئ المسئول عن ترابط النصفين المخيين الأيسر والأيمن ويسمح بتبادل الرسائل بينهما حجمه أكبر بدلالة لدى الإناث وفق أغلب الدراسات. بينما مخ الرجل يعالج المعلومات بشكل أحادي غير مترابط، فإذا ما كان بصدد معالجة معلومات متعلقة بقضية ما في العمل فهو يعالجها بشكل مستقل عن غيرها من المعلومات الخاصة بقضايا أخرى، وفي غرفة معينة مغلقة داخل مخه، ويكون مستغرقًا فيها حد الانعزال، ويصل انعزاله إلى درجة أنه يحتاج إلى تهيئة ووقت حتى يخرج من غرفته تلك، ليبدأ معالجة المعلومات الخاصة بقضية أخرى في غرفة أخرى من عقله!

إضافة إلى ذلك فمخ المرأة لا يتوقف نشاطه إطلاقًا، بينما يمكن للرجل أن يطفئ مصباح التفكير في مخه ولا تظهر أي إشارة كهربية على نشاط ولو محدود فيه، وهو ما أسماه بعض العلماء "غرفة اللا شيء"! وهذه الطريقة من أهم الطرق التي يستخدمها الرجل للتخلص من الضغوط. وقد تحدثنا بشكل أكثر تفصيلًا عن معالجة المعلومات عند ذكر مشاكل التواصل اللفظي بين الجنسين.

ولا شك أن للهرمونات أيضًا دورها الكبير وأثرها على السلوك والحالة المزاجية لكلا الجنسين، فالرجال تنتج أجسامهم أضعاف ما تنتجه أجسام النساء من التستوستيرون، يقدرها العلماء على الأقل بعشرة أضعاف مثيلاتها عند الإناث، وهذا يجعل أفعال الرجال أكثر مباشرة وأكثر عدوانية وأقل عاطفية، على العكس من النساء، كما أن أجسام الرجال تنتج نسبة أكبر من هرمون السعادة السيروتونين، وهذا يجعلهم أقل عرضة للاكتئاب وتبدل المزاج من النساء.

التنشئة الاجتماعية ودورها في تشكيل الفروق بين الذكور والإناث في مهارات التواصل

يولد الفرد صفحة بيضاء، ويتشرب قيم وعادات مجتمعه ويتعلم أدواره في المجتمع من خلال التنشئة الاجتماعية. ويُقصد بالتنشئة الاجتماعية تلك العملية التي تتم في كل مجتمع بهدف إكساب الأطفال والمراهقين المهارات والأدوار الاجتماعية التي تنقل السمات الثقافية للمجتمع، وإن كانت هناك نظرة أخرى ترى أن التنشئة الاجتماعية عملية أكثر استدامة يمر بها الفرد طوال حياته؛ فللراشدين نصيب منها كما للأطفال والمراهقين.

بالنسبة لمهارات التواصل؛ سجَّل بعض الباحثين ملاحظاتهم على أن التعبيرات الانفعالية للمواليد الذكور والإناث لا تختلف، بل ربما كان الذكور أكثر تعبيرًا عن الانفعالات منذ الميلاد وخلال الشهور الأولى من حياتهم، بينما لا يكون هذا صحيحًا عند وصف الذكور البالغين. وبما أن الأمر كذلك فإن نقص التعبير الانفعالي لدى البالغين من الرجال لا يمكن عزوه لأثر الجينات، وبالرغم من ظهور دلائل من أبحاث المخ تشير إلى اختلافات تؤثر في زيادة تعبيرية الإناث وزيادة الضبط الانفعالي لدى الذكور فإن الأمر لا يخلو من أثر التنشئة الاجتماعية، والتي تعمل على تحويل الطفل الذكر المعبر انفعاليًا إلى رجل غير قادر على التعبير عن انفعالاته ومشاعره على الأقل مقارنة بالنساء، وإن كان كثير من الرجال لا يشعرون بأن هناك مشكلة لديهم على الإطلاق أو لنقل لا يعترفون بوجود مشكلة.

فلأن هناك تمييزًا جنسيًا واضحًا في الانفعالات وكيفية التعبير عنها وضبطها؛ يبقى للتنشئة الاجتماعية دورها الذي لا يخفى في تشكيل الفروق الواضحة بين الرجال والنساء البالغين في مهارات التواصل الاجتماعي؛ فالطفل الذكر يُربى على ضرورة إظهار الخشونة وعدم التأثر أو التعاطف، فتقل مهارة الحساسية الانفعالية لديه، كما أنه غير مسموح له بالبكاء وإظهار الحزن أو الخوف، وينبغي أن يبدو جادًا ويقلل الابتسام، فلا يبتسم كثيرًا وإلا سيبدو كالفتيات، وهو ما ينعكس في ضعف مهارة التعبير الانفعالي لديه، وزيادة الضبط الانفعالي في المقابل. وعلى العكس يُسمح للفتيات بالتعبير عن مخاوفهن بالبكاء وربما الصراخ، كما تُربى الفتيات على ضرورة الابتسام وإظهار المرح والتفاؤل، لكن مع لفت نظرهن –في المجتمعات الشرقية- إلى تقليل تلك التعبيرية عند التعامل مع الرجال الغرباء.

وربما كان الانفعال الوحيد الذي ينعكس الوضع فيه بإمكانية التعبير عنه أو المطالبة بضبطه هو انفعال الغضب؛ فبينما لا يُسمح للنساء مطلقًا بالتعبير عنه بأكثر من الكلمات الهادئة، ويتعلمن ضبطه منذ الصغر، يستخدم الرجال كلمات قاسية ونبرة صوت أعلى وتعبيرات وجه أقوى للتعبير عن الغضب. وبينما يكون إظهار الغضب والتعبير عنه بقوة قولًا وفعلًا محاولة للسيطرة ومظهرًا من مظاهر الرجولة في الكثير من الثقافات، فعلى العكس يُعتبر تعبير المرأة المفرط عن الغضب فقدانًا للسيطرة ليس فقط على نفسها بل وعلى الموقف! أيًا كانت طبيعة الموقف.

إحدى الدراسات المسحية لايمي دور وآخرين (Aimee Dorr et al., 1995)  التي درست التعبير والضبط الانفعاليين لدى عدد كبير من الأطفال الأمريكيين الأوربيين (الأمريكيين البيض)، لاحظت أن هناك تغيرات عمرية بسيطة في التعبير والضبط للفتيات وفي الضبط للبنين، وأن البنين هبطوا مع السن في التعبير بشكل يمكن افتراضه والتسليم به، لأن عناصر التعبير تتضمن انفعالات مثل الخوف والحزن والابتهاج، مما يتوقع أن يكبتها الذكور عندما ينضجوا.

نتائج الدراسات المتواترة تشير أيضًا إلى أن الإناث بشكل خاص أكثر تفاعلًا عن طريق الوجه من الذكور، مثل دراسة مونيكا ثانبرج ويلف ديمبرج  (Monika Thunberg & Ulf Dimberg, 2000)  عن الفروق الجنسية في ردود الأفعال نحو المثيرات المتعلقة بالخوف وغير المتعلقة به. أظهرت النتائج -والتي تم قياسها باستجابة تجعد المنطقة العضلية الواقعة فوق العين- أن الإناث أكثر تفاعلًا وجهيًا من الذكور، بينما لم تكن هناك فروق بين الذكور والإناث عند قياس استجابات الجلد وتقديرات المفحوصين أنفسهم لدرجة شعورهم بعدم السرور. وهذه النتيجة الأخيرة تشير إلى أن الذكور وإن كانت وجوههم أقل تعبيرًا، إلا أنهم يشعرون بالخبرات الانفعالية رغم أنها لا تظهر على وجوههم، ويمكن التأكد من ردة فعلهم تجاهها بطرق أخرى.

أما التعبير عن الحب فالفروق لا يمكن قصرها على الفروق بين الجنسين؛ فهناك تفاوت ثقافي كبير بين الثقافات المختلفة بين ما هو مسموح به وما هو غير مسموح به قولًا وفعلًا.

إضافة إلى ما سبق تتم تنشئة الفتيات على ضرورة الترحيب بالضيوف والحديث إليهم، مع توخي الحذر عند النقاشات والمجادلات كي لا تفقدن حب الآخرين خاصة ذوي المكانة، فتنمو مهارات التواصل اللفظية الثلاث (التعبير والحساسية والضبط) اللفظيين إلى المستوى الذي يتحقق عنده المهارة؛ فلا إفراط ولا تفريط.

لكن بالرغم من أن الدراسات حول العالم تشير إلى أن النساء أعلى في التعبير اللفظي من الرجال إلا أن ذلك لا يمنع أن الإناث كثيرًا ما تتم تنشئتهن ليقللن الكلام عن الحد الذي يمكن أن تصله طلاقتهن اللفظية العالية، وذلك في المجموعات المختلطة من الجنسين، ومع ذلك فهن يتحدثن غالبًا أكثر من الرجال في الجماعات المختلطة، ويحافظن أكثر منهم على استمرار الحديث، ويمتاز كلامهن أنه أكثر اكتمالًا وأكثر تهذيبًا، كما أنهن أكثر إصغاءً لحديث الآخر.

وكلما تقدم الأطفال في العمر زاد الضغط عليهم لأجل التوافق مع متطلبات الدور الجنسي الذكري أو الأنثوي؛ وذلك بأن يتم تعزيز السلوك المتوافق مع ما يتقبله المجتمع من جنس الطفل، وما لا يتقبله.

وتلعب جماعات الأقران دورًا كبيرًا أيضًا في التنميط الاجتماعي؛ فبدءًا من مرحلة الطفولة المتوسطة والمتأخرة يميل الصغار إلى تكوين جماعات منفصلة الجنس، يمارسون من خلالها أنشطة تعزز هويتهم الجنسية، وتؤثر في تكوينهم الانفعالي بشكل خاص، وتواصلهم بوجه عام.

ألعاب الذكور منذ الصغر، تتم عادة في جماعات كبيرة، وتكون منظمة ولها قواعد تحكمها، يتعلمون منها الاستقلالية والمنافسة وعدم المساواة، وأن هناك مراتب يتفاوت على أساسها البشر، ويتعلمون مع ذلك وبسببه أن يتحرروا من الانفعالات. بينما الإناث غالبًا لا يُسمح لهن بأن ينتمين إلى جماعات كبيرة، بل تكون لكل واحدة منهن صديقة أو اثنتين تلعب معهن، ويحرصن على الحفاظ على العلاقات بين بعضهن أكثر من حرصهن على الانتصار، فهن يلعبن للتسلية وليس للفوز؛ فيتعلمن المشاركة والمساواة من ألعابهن، كما يتعلمن التعبير الانفعالي والتعاطف. ربما هذا يفسر كراهية الإناث أن تكون مديرتهن امرأة؛ كونهن لم يعتدن على وجود فروق في المكانة بين أقرانهن الإناث لغياب التنافسية.

ومن أشهر الاختلافات بين الجنسين في التعبير والحساسية الانفعاليين أن المرأة بوجه عام تفضل الاتصال البصري أثناء الحوار، وتُلاحَظ درجات عالية من الاتصال البصري في حوارات النساء، بينما عندما يكون طرفا الحوار رجلين لا توجد مثل هذه الدرجة العالية من الاتصال البصري، والاتصال البصري المستديم بين رجلين لا يُرى كعلامة على الاهتمام وإنما لإظهار السيطرة. ويظهر أثر التنميط جليًا في الأزواج المختلطة حيث يُرى الرجل يتجنب استدامة النظر إلى المرأة، ومن جهة أخرى فحساسيته تجاه تواصلها البصري المرتفع تجعله يسيئ تفسيره ويحسبه اهتمامًا! وأعتقد أن المحافظة على الدرجة المقبولة للاتصال البصري في الأزواج المختلطة هو من أصعب المهارات الفرعية المتطلبة من النساء في الضبط الانفعالي.

وكما توجد فروق ثقافية في المسافات الشخصية، توجد أيضًا فروق بين الجنسين؛ فالنساء أكثر تطلبًا وحرصًا على مسافاتهن الشخصية من الرجال في التفاعل الاجتماعي المختلط، ولا شك أن للتنشئة الاجتماعية دورها الكبير في ذلك، ولكن للبيولوجيا دورها أيضًا. كما أن وضع الاقتراب المناسب يختلف بين الرجال والنساء. من غير اللائق أن تقترب من امرأة من الجانب فذلك يشعرها بالانتهاك. إن أردت الاقتراب من امرأة لتحادثها في أي أمر عليك الاقتراب من الأمام بحيث تواجهها، مع الاحتفاظ بمسافة مناسبة. عادة لا تقبل النساء الوقوف بزاوية مع من تحادثه/تحادثها إلا في حال الشعور بالود الشديد، أما الرجال فيقفون في هذا الوضع بشكل دائم مع المقربين وغير المقربين، وعلى الرجال بوجه عام أن يكونوا أكثر حرصًا وتنبهًا وأقل عفوية عند الاقتراب من النساء.

والأمثلة أكثر من أن تُحصى على الفروق بين الجنسين والتي تكون غالبًا لصالح النساء. إحدى الدراسات أشارت في نتائجها إلى أن الرجال البالغين عامة أقل دقة مقارنة بالإناث في التعبير والحساسية اللفظيين، العجيب مع ذلك أنها أشارت أيضًا إلى أنهم أكثر ثقة في مهاراتهم تلك من الإناث! فهم يتصورون أنهم ماهرون في تواصلهم اللفظي بأعلى مما هم عليه في الحقيقة.

ومما أشارت إليه نتائج بعض الدراسات في المجال أن تلقي محاضرات لتحسين مهارات التواصل لا يكون مؤثرًا ما لم يتلق الأفراد تدريبًا عمليًا بغرض تحسينها.

إن اكتساب أي مهارة هو نتيجة لتفاعل عاملي الجنس والثقافة، فإذا كان للعوامل البيولوجية تأثيرها الذي لا يُنكر في إيجاد فروق بين الذكور والإناث، إلا أن جانبًا كبيرًا من تلك الفروق بين الجنسين ترجع إلى الاختلافات في التنشئة الاجتماعية بين الذكور والإناث، وما يتوقعه كل مجتمع من أفراده وفقًا لنوعهم؛ أي إن اختلاف الدور الجنسي للذكور والإناث يؤدي إلى تباينهم في مهارات التواصل الاجتماعي، كذلك يؤدي اختلاف التراث الحضاري والثقافي للمجتمعات –الذي فصَّلنا فيه في موضع آخر- إلى اختلاف الأدوار الجنسية للذكور والإناث فيها، ما ينعكس في بعض الفروق التي توجد بين أفراد الجنس الواحد عبر المجتمعات المختلفة، لكن ربما شملت الاختلافات أفراد المجتمع ككل مقارنة بالمجتمع الآخر عندما يكون عامل الثقافة هو الأقوى تأثيرًا.

لماذا تتذمر النساء كثيرًا من أفعال الرجال؟ ولماذا لا يفهم الرجال النساء؟

وهل لهذا علاقة بدرجة مهارات التواصل الاجتماعي لدى الجنسين؟

يهتم علماء النفس الاجتماعي بالعوامل التي تؤدي إلى اتخاذ أحكام دقيقة أو غير دقيقة على الحوادث الاجتماعية، كما أنهم يهتمون بالحالات الانفعالية لدى الأفراد، وبمقاصد وإدراكات الأفراد في الجماعات التي ينتمون إليها، وعندما نتحدث عن التواصل الاجتماعي تحديدًا فهناك قاعدة شهيرة تقول: "الرسالة كما تُرسل ليست بالضرورة هي الرسالة كما تُستقبل"!

ليس بالضرورة أن رسالتك اللفظية أو غير اللفظية التي أرسلتها لشخص ما تكون قد وصلت إليه كما أردتها، فمهارة التعبير شيء ومهارة الحساسية شيء آخر، وهذا غالبًا ما يحدث عند التفاعل بين الرجال والنساء.

فبناءً على الاختلافات البيولوجية في المخ وإفراز الهرمونات، وكذلك الاختلافات في التنشئة الاجتماعية توجد فروق عديدة بين الجنسين في مهاراتهم التواصلية حتى بين أبناء الثقافة الواحدة، وذلك في التعبير الانفعالي وإدراك المشاعر بأنواعها، ومنها نفهم لماذا تبدي النساء مشاعرًا بصورة أكثر بكثير من الرجال، ولماذا يكن أكثر حساسية بدلالة من الرجال تجاه مشاعر الآخرين. وتكاد تشير جميع الدراسات على مستوى العالم، وعلى اختلاف الثقافات، أن النساء أفضل بشكل دال في تفسير التلميحات غير اللفظية (الانفعالية) أثناء السلوك الاجتماعي، وكذلك في حساسيتهن اللفظية لمحتوى الحديث.

بالنسبة للتعبير اللفظي تحديدًا، تشير بعض دراسات المخ إلى أن مراكز اللغة والسمع لدى الإناث أكبر حجمًا مما هي عند الذكور. كما تكاد تجمع جميع الدراسات حول العالم على تفوق الإناث في النمو اللغوي عن الذكور منذ بداية اكتساب القدرة على الكلام.

كما أن الضبط الانفعالي يكون أعلى عند الذكور مع نقص في التعبير الانفعالي لأسباب بيولوجية وجيهة؛ وهناك دراسات تشير إلى أن تحكم الرجال في الانفعالات يتم داخل اللوزة، وهي جزء لا يرتبط مباشرة بالقشرة المخية، خاصة الفص الجبهي حيث مركز بروكا المسئول عن اللغة والتفكير، بينما النساء يعبرن لفظيًا وانفعاليًا أكثر، ويضبطن انفعالاتهن بدرجة أقل لأن ضبط الانفعالات لديهن يتم في منطقة بروكا في القشرة الجبهية، حيث تتم العمليات اللغوية والتفكير.

والخلاصة أن هناك مشكلة عالمية لدى الرجال في مختلف الثقافات تتمثل في نقص قدرتهم على التعبير بشكليه اللفظي وغير اللفظي، وهو ما يضايق النساء تمامًا، ويتسبب في سلوكيات نفور منهن لا يستطيع الرجال تفسيرها وفهمها؛ ذلك أن لدى الرجال أيضًا وفي مختلف الثقافات نقصًا في الحساسية اللفظية وغير اللفظية يؤدي إلى عدم فهمهم لما يصدر عن المرأة من إشارات لفظية وتلميحات غير لفظية.

على العكس من ذلك تفهم النساء الرجال، ويدركن الأسباب التي تجعلهم يتصرفون معهن على النحو الذي لم يعجبهن، وعلى الرغم من أن النساء يدركن هذا النقص والعيب الاجتماعي لدى الرجال ويفهمنه إلا أنهن لا يتقبلنه مطلقًا خاصة في السنوات الأولى من العلاقة حيث تكون توقعات المرأة العاطفية في أقصى درجاتها. أي إن المرأة قد تفهم لماذا يسلك الرجل على نحو ما عكس ما ترغب، تفهم أن الأمر لا يعدو كونه نقصانًا طبيعيًا في درجة الكفاءة الاجتماعية للرجل وأنه ليس إهمالًا لها، ولكن ليست كل النساء قادرات على تجاوز تلك التصرفات خاصة في المجتمعات التي أعطت مكانة للمرأة، فصارت لا تتقبل أي سلوك ينم ظاهريًا عن عدم احترام لها حتى مع إدراكها أنه ليس كذلك في واقع الأمر، وإذا استطاعت المرأة تجاوز تلك التصرفات ظاهريًا فإنها تبقى غير سعيدة، ولا تكون قادرة على أن تسعد الرجل، وسيتشكى دائمًا من قلة رحمتها له وقسوتها عليه ونفورها منه. بينما حتى وقت قريب لم تكن أمهاتنا وجداتنا يسلكن على النحو نفسه كرد فعل لتصرفات الرجال. لقد كُن أكثر تفهمًا وأكثر احتواءً وأكثر تقبلًا للفروق الطبيعية بين الجنسين، ربما لأن أجيال الآباء والأجداد أيضًا كانوا أكثر اعتناءً واهتمامًا بأسرهم.

فهل ظلمت الحضارة والمدنية الحديثة المرأة عندما جعلتها ترفع درجة توقعاتها من الرجل؟!

وهل جعلت الحضارة والمدنية الحديثة الأسرة آخر ما يفكر فيه الرجل؟!

 

د. منى زيتون

 

في المثقف اليوم