قضايا

في العنف واللاعنف

احمد شحيمطيتفق العقلاء من الناس في تجريم العنف ونبذه من الممارسة لأضرار يتركها في الفرد والمجتمع. من كدمات وجروح نفسية ومادية . فالأسئلة التي تطرح في غمار العنف كظاهرة اجتماعية ونفسية وسياسية مشروعة للبحث عن مكامن الخلل ودوافع الأسباب في الذاتي والموضوعي. ويرصد الباحثون في مجال العلوم الإنسانية والتاريخ والفكر الفلسفي نزوع الناس نحو العنف وحق القوة ودراية الكل بالمخاطر من جراء الاستقواء في غياب ضوابط أخلاقية متينة وقوانين ردعية في المعاقبة . من هنا يبدو أن الاندفاع نحو العنف تشير إليه الشواهد المادية في معاينة وقائع للعنف والقتل والتدمير .من عنف السياسة والعنف الاجتماعي والنفسي والعنف الممارس باسم الطقوس والشعائر المختلفة . ظواهر العنف المادي والرمزي تثبتها الدراسات والتجارب والملاحظات من اليومي والتاريخي .حالات من العنف يستشري في الأسرة والعائلة .وفي المجتمع العام وفي أشكال التعذيب والتنكيل والاسترقاق . فالعالم يتقدم ويخطو خطوات كمية وكيفية للزيادة في التقنية والصورة والأخبار العابرة من القارات . وفي الوسائل الممكنة للحد من استفحال العنف في الشوارع والبيوت والملاعب والمدارس والفضاء العمومي. والزيادة في نشر الوعي وثقافة حقوق الإنسان والديمقراطية وتزايد التقارب العالمي في تعميم الأنماط الثقافية المكنة في صيانة الكرامة من خلال الانفتاح على الصورة العابرة المحملة بطرائق السلوك والممارسات العقلانية من عوالم مختلفة. العنف بالفعل آلية عقابية ووسيلة في إلحاق الضرر بالآخر . ووسيلة في انتزاع السيادة بالقوة أو تحقيق أغراض مميتة وقاتلة . الشدة والقسوة من آليات الممارسة والتنكيل .والتعذيب جرائم يعاقب عليها القانون الدولي . فالإساءة بالكلمات النابية والألفاظ الوضيعة من علامات العنف الرمزي والإرغام والاغتصاب وكل أنواع القهر والإكراه وما شابه ذلك من حالات لا إنسانية. فالسؤال الذي يطرح نفسه : من الذي يغذي العنف ؟ وهل العنف في تزايد أم في تناقص؟ وهل هناك عنف فردي معزول عن الجماعة والثقافة ؟

في التأمل والدراسات الميدانية من قلب المجتمعات المختلفة يصاب الإنسان باندهاش من دينامية العنف وانتقاله بسرعة كانتقال القيم والرموز والعلامات من مجتمع لآخر. ومن دون ادني شك أن عالم النفس يقدم لنا أسباب موجودة في النفس تتغذى من الشرخ في الفرد .ومن الأمراض النفسية المزمنة كالعصاب والاكتئاب والقلق المتزايد والعدوانية والسادية. ونفسية الإنسان المقهور من تربية غير سليمة ونوازع في النفس غير متوازنة .وسلوكات وأفعال ممتدة في ماضي الإنسان دوافعها اختلال التوازن بين غريزة الحياة وغريزة الموت والتدمير. تحليل الحروب والصراعات بالاندفاع والجموح في القضاء على منجزات الإنسانية . تحليل المحلل النفسي فرويد مثلا في عنف يعرف اختلال التوازن بين القوى العقلية الواعية والقوى اللاشعورية والتي تعتبر الأقوى في الاندفاع عن الهدم والتدمير . وفي انعدام الرقابة .وعدم التوازن بين الأنا الأعلى والهو وفي ضعف رقابة الأنا . وفي عمق التحليل الاجتماعي هناك ظواهر تخترق المجتمع سببها عوامل اجتماعية من تفسخ النسيج الاجتماعي وتحولات القيم في عالم اليوم رغم ما يبديه علماء الاجتماع من ملاحظات وقراءة استنادا على المقارنة التاريخية في الاعتراف بوجود العنف في التاريخ الموثق في ذاكرة الشعوب والوثائق .هذا العنف الأشد ضراوة وشراسة في الحروب التقليدية والدسائس وهيمنة الإمبراطوريات الكبرى . تمظهرات القوة والعنف في تباين  حسب العصور واستفحاله في أشكال جزئية وكلية يشير إلى وجوده بالفعل في الفرد والجماعة . ليس العنف فطري متأصل في الطبيعة الإنسانية. العنف متجذر في قواعد التنشئة الاجتماعية وميولات الفرد التي يتغذى من الجماعة والقيم السائدة المحرض الأكثر على العنف ضد الآخر المخالف والعابر من مكان بعيد . ومن منطق الدراسات الثقافية تميل الانثروبولوجيا للتعبير عن الشرخ في الثقافة الميالة للصلح والتسامح والثقافة الميالة للقوة والعنف ضد المخالف للقيم .وكل من يهدد وحدة الجماعة .

كتبت جوليا كريستيفا من فرنسا عن الغيرية وعلاقة الذات بالآخر وحاولت أن تنقل للقارئ الفرنسي والعالمي أن الانتقال بين الأمكنة والمكوث هناك لا يمكن بأي حال أن يولد الكراهية والتعصب والحقد في نفوس الناس من هواجس الغريب . وما يحمله الغريب القادم من مكان بعيد من شرور وعداوة السبب في انقسام الجماعة. ففي قلب الجماعة التي نعتقد أنها متماسكة ومتراصة شرخ عميق في صراع الأجيال والصراع على القيم. انقسامات بالجملة لا علاقة للغريب بها. جماعات متناحرة ومتصارعة في هويات غير متجانسة قبل أن يدخل الغريب لهذه المجتمعات ويتهم باعتباره طرفا أساسيا في الأزمة والصراعات التي يعيشها مجتمع متعدد الأهواء والمصالح . يولد الأبناء من جديد ويولد معهم نظام ثقافي وأفكار متناسبة والعصر. الغريب هو الذي يسكننا على نحو غريب . نحن غرباء عن أنفسنا والجماعة ليست متماسكة بفعل التشرذم والتصدع المرئي واللامرئي . أسبابها جمة في تضارب وتباين الرؤى والإيديولوجيات نحو إثبات المصالح والامتيازات . وفي ظل هذا الزخم من الصراعات يولد العنف . ويتشبث كل طرف بحقه في الوجود. أما في التأملات الفلسفية للعنف فان القضية أكثر من دراسات في العلوم الإنسانية تتمثل في الإحاطة بالعناصر المركبة للعنف المتجذر في الطبيعة الإنسانية. وفي عنف العالم . تحولات القيم وعدم التكافؤ في توزيع الخيرات بالمناصفة . تأملات في عقد الفرد وتمزق في وحدة الجماعة جراء تغير الأنماط الإنتاجية وقيم الجماعة . ومن الأسباب الطقوس والعادات القديمة الثابتة التي تغذيها دوافع الجماعات نحو تأجيج العنف والزيادة في ضراوته . والدفع بالصراع نحو الحروب الشاملة وسفك الدماء وشهوة التدمير التي لا حدود لها . فكم من المشاكل والأزمات في عالمنا تحتاج لضبط النفس والتسريع بالحوار والحكمة في التحلي بالحلول المستعجلة والمنصفة .لا يجنح الإنسان نحو العنف والقوة إلا لدوافع قصوى . فالإنسانية كما قال المؤرخ ول ديورانت تخلت عن حالة الطبيعة واللجوء للقوة بمجرد أن اهتدى الإنسان بالعقل نحو القبول باللجوء إلى كبير القوم في الاحتكام وطلب العدالة . ومن ثمة كان تفكير الإنسان في وضع قواعد جديدة للمجتمع المدني وحالة التمدن. تأملات الفلسفة في مرامي العنف ترك تجاوبا من الفلاسفة المعاصرين للبحث في مرامي العنف والتعنيف. وظهرت منظمات وجمعيات تدافع عن الكرامة والحرية. والضرب على أيدي المعتدين باللجوء للحق والمطالبة بالإنصاف .ظواهر من العسف والقمع والاعتداء والتجريح والآلام المصاحبة للضرر المادي سرع بالحاجة إلى ثقافة عالمية للتنديد والمطالبة بحماية الحقوق الطبيعية والمدنية وإلزام الدول في سن قوانين وضعية للمعاقبة والتهذيب . وإعادة التربية . ومن نتائجها إدخال ثقافة حقوق الإنسان في مناهج التربية والتعليم . والإعلام المرئي والمكتوب. وفي مقاربة العنف من وجهة نظر الفلاسفة " اريك فروم – حنا ارندت – بودريار – طوماس هوبس - اريك فايل. ادغار موران ..."

إن العنف ليس ظاهرة هامشية وعابرة . ولا يقبع العنف في الفرد دون أن تكون دوافعه موجودة في المجتمع والقيم. العنف لا يولد من السلطة لان الأخيرة بالفعل خيار وإستراتيجية في التنظيم والمراقبة والإرغام بطرق مادية وغير مادية .العنف المشروع الذي يعتبره عالم الاجتماع ماكس فيبر مقنن من طرف الدولة بدوافع سياسية وأمنية واجتماعية في الحفاظ على هيبة الدولة وحماية الممتلكات من الأخطار المهددة للدولة والمجتمع . العلاقة الحميمية بين العنف والدولة يطرح استفهامات عن جدارة الدولة العقلانية الديمقراطية في فلسفة قائمة على الحريات والحق والعدالة الاجتماعية . خيارات الدولة هنا غير منسجمة في أدبيات التأسيس نحو صيانة الحق والكرامة. فعندما يؤسس فيبر للعنف المشروع باسم القانون لا ينفي عقلانية الدولة بل يطرح الغايات والأهداف من اللجوء لهذا النوع من العنف .ويبرر المشروعية القانونية للدولة بدافع الحق والقانون في حماية المؤسسات والممتلكات. لا يمكن إغفال الخلفية الإيديولوجية المهيمنة في أعمال ماكس قيبر ضد التيارات اليسارية والماركسية في محاولة تقويض أسس الدولة الرأسمالية الليبرالية .والدفع أكثر بالمواجهات والصراعات وإحداث شرخ في بنية المجتمع الليبرالي .من هنا لاحظنا تزايد شرارة العنف في فرنسا وخروج السترات الصفراء وشريحة كبيرة من المجتمع المدني للتعبير عن الزيادة في الضرائب وأسعار المحروقات .في الصراع والمواجهات . تدخلت القوى الأمنية لإلزام الكل للتراجع والعودة للحياة الطبيعية . العنف الذي يسود العالم الآن من الغرب للشرق ويستشري في مفاصل الحياة. في سلسلة حروب لا تنتهي وفي ميلاد ظاهرة الإرهاب العابر للقارات .عنف الدولة والجماعات المسلحة وعنف الأفراد .وعودة الاحتجاج والتنديد بالسياسات في بعض دول العالم من أمريكا اللاتينية إلى أوروبا. إن العالم يعرف اختلالا وصراعات للهويات القاتلة والمدمرة .من عولمة لا إنسانية ولا أخلاقية .عولمة تبيح تعميم نمط ثقافي معين في الاقتصاد والاستهلاك والثقافة . وتنسى أن في العالم حضارات شيدت وفق قيم عريقة  لها تاريخ طويل .من يفهم هذا المنطق السائد يدرك لا محالة أن الصوت الرنان في العالم إرادة القوة بتعبير الفيلسوف نيتشه في سلطة مقسمة بالمركز والهوامش وأطراف تنمو وتقتات على الرفض والمنع لكل ما يرغمها في تغيير ثقافتها بالقسر والقوة . سلاح المجابهة للعنف العابر للقارات التسلح بثقافة اللاعنف .شعار رفعه الزعيم غاندي في الهند ضد الاستعمار البريطاني ومانديلا في جنوب إفريقيا من خلال ثقافة الصفح والتسامح وتفضيل العدالة الانتقالية على الانتقام وتصفية الحساب . ويتبنى كل الشرفاء في العالم خيار اللاعنف  لنيل الاعتراف وإرغام الآخر في قبول معيار التعدد الثقافي والدخول في عالم متنوع الأقطاب لأجل المثاقفة وانتزاع الحقوق من خلال جدارة الخطاب والتفاف الجماهير في إرغام الحكومات على تغيير القرارات الارتجالية .وتبادل المنافع المادية. وفي النهاية يمكن القول أن الفلسفة والتفكير الفلسفي صمام في مجابهة العنف بالتسامح وزرع قيم إنسانية وتربية الناس على الاختلاف والاستقامة في السلوك السوي. وتفضيل كل ما هو مشترك كالكرامة والإنسانية والالتقاء في الذوق والمعيش والإعلاء من حرية الإنسان وفكره في قهر الطبيعة والتغلب على أزمات العصر.

 الفلسفة ضد العنف بكل أشكاله وضد تبرير العنف مهما كانت دوافعه وأسبابه . فكر يرفع شعار اللاعنف في وجه الفاشية والنازية والإرهاب العابر للحدود والغلو الفكري . رسائل الفلسفة موجهة في إصلاح العقل وتحسينه . ورسائل في التسامح ونبذ التعصب الديني بين المذاهب الدينية المختلفة في الغرب والشرق معا . ورسائل في الأخلاق وإصلاح السياسة في شعارات ومبادئ مضمونها صيانة الإنسان من العنف وبنائه وفق منطق سليم يؤسس لإنسانية الإنسان . ورسائل الفلسفة اليوم في مجابهة بطش السياسة وتذويب الصراعات والكراهية في إمكانية البحث عن بدائل للعنف في الطقوس والقيم الثابتة وفي إرساء وحدة للمشترك المنسي بين الشعوب والحضارات . يبقى السؤال قائما هل الفلسفة ضد العنف ؟ من دون ادني شك الفلسفة كذلك ضد العنف بأشكاله المادي والرمزي . العنف المارس بذرائع والذي يستهدف تقويض التوازن النفسي بالدرجة الأولى . وميل الفلسفة في بناء القيم النبيلة دليل على تهافت القوة وإرادة الاندفاع والجموح نحو الحروب والتدمير .لا بد من العودة للذات وفحص نزوع الإنسان شهوته في سفك الدماء والتدمير للحضارات . في رفض قرارات السياسة الميالة للمصالح والمنافع . وفي استدعاء المنطق وتذكير الكل بآفة العنف والترهيب للآخر والحذر من الانزلاق نحو تصاعد العنف في غياب ثقافة الرفض وهيمنة العصيان وما شابه ذلك من أشكال الاحتجاج . قناعة الزعيم الهندي غادي باللاعنف في مواجهة الاستعمار البريطاني قناعة يولدها حاجة الهنود في الوحدة والانتباه لسياسة التفرقة بين الشعب الواحدة في صراعات دينية واجتماعية بدل تصويب الرفض نحو المستعمر . المجابهة بالكلمة اقوى من الرصاص لإقناع الآخر للجلوس وانتزاع الحق . 

 

بقلم: أحمد شحيمط - كاتب من المغرب

 

في المثقف اليوم