قضايا

لماذا يقولون إن الحب أعمى؟.. مزايا وعيوب!

منى زيتونتُنسب للإمام علي بن أبي طالب عبارة شهيرة، ربما توضح سبب العذاب العاطفي الذي يلاقيه كثير من بني آدم، يقول فيها: "زهدك في راغب فيك نقصان حظ، ورغبتك في زاهد فيك مذلة نفس". وهناك أشخاص رائعون نقابلهم في حياتنا، ليس من بينهم رجل يتلهى بمشاعر البنات، ولا بنت تتبذل من أجل أن تحظى بزوج، لكنهم مع ذلك يعانون لأجل الوصول إلى الشريك المثالي، وتكوين أسرة معه ترضيهم وتسعدهم. ولكن، كيف السبيل للحب الحقيقي؟

الحب الحقيقي يزيد الثقة بالنفس. يجعلك تحب ذاتك، ليس هو الذي يجعلك تستعظم عيوبك وتكره ذاتك؛ ربما كان أكثر من يفهم ذلك ويستشعره من تكون لغتهم للحب هي اللغة الأولى (كلمات التقدير والتشجيع)، ويستحيل أن تبقى علاقة ناجحة مع استمرار النقد من جانب أحد طرفي العلاقة، ومداومته على إثبات تقصير الطرف الآخر. في العلاقات الناجحة عندما يخطئ أي من طرفي العلاقة يعترف ويطلب الصفح طالما يريد للعلاقة أن تستمر؛ فالمحب الحقيقي لا يتوقف عند الأخطاء التي تبدر من شريكه في رحلة الحياة، ولا يراكمها ليعيد تذكيره بها، طالما اعتذر عنها.

لكن الأمر أكبر من ذلك. الحب الحقيقي ليس تغافلًا عن أخطاء الحبيب، بل هو نظرة إلى الحبيب تقترب من رؤيته كاملًا!

هل الحب أعمى أم بصير؟!

تقول إحدى أساطير الإغريق إن الآلهة قد تعاركت، وفقأ إله الجنون عيني إله الحب، فحكم زيوس كبير الآلهة على إله الجنون أن يقود إله الحب طوال عمره؛ ولأجل ذلك يقولون: الحب أعمى، ومن يُسيِّره مجنون!

لكن، هل الحب الحقيقي بالفعل أعمى؟

أنا أقول: بل الحب الناضج الحقيقي يتفهم العيوب. الحب الحقيقي هو حب يشترك فيه العقل والقلب والروح؛ لذا فإن الإدعاء أنك تحب شخصًا وأنت غير معجب بصفاته ادعاء كاذب، بل وعلى قدر درجة إعجابك بصفاته يكون حبك له. لكن أحيانًا لا يتفهم الإنسان نفسه، فيتصور أن هناك صفة تزعجه في إنسان وأنه يحبه بالرغم منها، والحقيقة إنه قد يكون يحبه لأجلها! أو على الأقل يحبه بمجمل صفاته كما هو، ومنها هذه الصفة.

قد تعرف شخصًا صراحته جارحة، وتتصور أنك تحبه بالرغم من هذه الصفة، والحقيقة أنك ترى ما وراء هذا العيب ميزة فيه هي صدقه العميق وعدم نفاقه، فأنت تحب هذه الصراحة التي قد تصل حد الوقاحة في نظر آخرين. أنت بالفعل تحبها، وربما لو لم تكن فيه هذه الصفة ما أحببته!

كمثال آخر: من يعتدّون بكرامتهم قد يبلغ بهم الأمر في كثير من المواقف مبلغ العناد، ومع ذلك لا يعدمون من يحبهم، وقد يكون عنادهم في مسائل الحق والكرامة ليس عيبًا في نظر من يحبونهم، بل هو من أشد ما يكبرونهم عليه!

لكن أغلب الناس تتصور أنها تتحمل عيوب أحبتها، وليس كل الناس لديها درجة من الوعي الكافي لتدرك أنهم قد يكونون يحبونهم كما هم، ولو لم يكونوا بهذه الصفات ما أحبوهم. ربما أيضًا أن المسألة ليست فقط مسألة وعي، بل إن الحب الحقيقي الذي يبلغ هذه الدرجة نادر وقليل.

الحب الحقيقي يعني أن ترى إنسانًا لا يضاهيه أحد ولا يماثله في نظرك أحد، لا تملك أن تفكر في غيره، ولا تشعر بغيره، ولا يؤثر فيك غيره. تحبه إجمالًا لا تجزئة. أما من يحب صفات ويكره أخرى فلم يبلغ مبلغ الحب الحقيقي، وهذا حال أغلب الناس؛ يحبون بعض المزايا وتعجبهم، ويتذمرون من صفات أخرى يرونها عيوبًا. والأدهى من ذلك عندما يكون ما يتذمرون منه هو صلب شخصية الشريك، فيشعرونه دومًا أنه معيب، ويبدأ الشعور بعدم التوافق.

الإشكالية إذًا ليست في الحب، لكن فيمن يدّعون الحب. كثيرًا ما تكون الصفات التي تتسبب في عدم التوافق واضحة تمامًا في فترة التعارف والخطبة، لكن كلا الطرفين قد يتغاضى عنها لأجل إتمام الزواج. وبعد الزواج، البنت تدعي المفاجأة بالصفات التي لا تعجبها في الرجل، وتبدأ الشكوى، والرجل يكون أكثر وضوحًا فيسعى لتغييرها في شريكته، وقد يعترف بأنه كان يرى العيوب قبل الزواج ولكنه كان واثقًا أن شريكته ستتغير من أجله! فهناك صنف متسلط وفاقد الثقة في نفسه في آن واحد، يريد أن يتزوج بشخصية ذات مزايا عديدة، ولا يرضيه أي عيوب يراها على قلتها، فيسعى أن يجري عليها بعض التعديلات ربما ساعده ذلك التسلط على تأكيد ذاته واكتساب مزيد من الثقة في نفسه، ويبدو أنه لا يفرق بين أن يتزوج إنسانًا/إنسانة ذا/ذات كيان واعتبار وبين أن يشتري سيارة بحاجة إلى تعديلات لتكون أفضل!

كما أن هناك صنف شاعري رومانسي للغاية لا يدرك معنى الحب الحقيقي وأهمية التوافق العقلي كجزء لا يُجتزأ منه، يسيء إلى نفسه بالانسياق وراء مشاعره تمامًا، ويمكن أن يضيع عمره سدى من أجل من لا يستحق. وقد يفكر في هذا الحب الحالم على أنه حب العمر الذي لا ولن يُنسى، ويصل حد التماهي معه والتلذذ بتعذيب النفس فيه، دون مبالاة بالكرامة أحيانًا.

شريك حياتك المثالي ينبغي أن يحبك كما تحبك أمك. يحبك بأخطائك وعيوبك قبل حسناتك ومزاياك. يقول نجيب محفوظ: "أقصى درجات السعادة هو أن نجد من يحبنا فعلاً. يحبنا على ما نحن عليه، أو بمعنى أدق يحبنا برغم ما نحن عليه".

يذكرني هذا بقصيدة كتبها أخي المهندس فداء الجندي في زوجته ورفيقة حياته يقول فيها:

أحبك مثلما أنتِ *** أحبكِ كيفما كنتِ

ومهما كان، مهما صار *** أنتِ حبيبتي أنتِ

وأنا أقول عندما تجد شخصًا يدعي محبتك ورغبته فيك، ولا يكف عن محاولة تغييرك اعلم أنه شخص مستبد لا يحبك بل يرغب في امتلاكك. من يحبك لا يُغيِّرك شكلًا ولا موضوعًا. من يحبك يريدك كما أنت، ويتقبلك كما أنت.

لا تجعل رغبتك في التكيف لمسايرة المحيطين بك تغيرك جذريًا بحيث تشكل ضغطًا عليك. في النهاية لن تكون سعيدًا إلا عندما تكون نفسك، لا بد أن تعيش الحياة التي تريدها وأن تشعر أن من حولك يتقبلونك كما أنت دون محاولات لتعديلك.

مزايا وعيوب

بالرغم من أن الحب الحقيقي لا يستشعر العيوب ولا يكاد يركز عليها، فإن لكل منا بالفعل مزاياه وعيوبه، وتفهم طباع شريك الحياة ومحاولة التكيف معها أساس رئيسي من أسس السعادة. ضع في اعتبارك أنه لن يمكنك أن تجد إنسانًا تتفق معه بنسبة 100% وإن وجدته لن تكون سعيدًا، فمساحة الاختلاف هامة لتشعرك أن هناك حياة.

والمزايا والعيوب تعني أن لكل صفة ما يناقضها، كما أنه كثيرًا ما تترتب الصفات بعضها على بعض، أو لنقل إن العيوب ما هي إلا درجة متطرفة من إحدى الصفات، وكل صفة إيجابية في البشر قد تتحول إلى سلبية فيهم إن تم الإفراط فيها.

ويمكن القول أيضًا إن أغلب صفات البشر هي صفات متصلة على تدريج، وليست صفات منفصلة، وهناك حدان للصفة ونقيضها؛ فالخير والشر ليسا صفتين منفصلتين بل هما حدا تدريج، لا يصل أي بشر منا إليه، فلسنا خير مطلق ولا شر مطلق، ودرجة الخير في داخل كل منا تحدد مكاننا على التدريج المتصل.

وينبغي التنبه لذلك التطرف في الصفات المسمى بالعيوب، وعدم إنكاره، وإلا فسيستمر كل منا في اعتبار نفسه كاملًا، ويرى النقص في الآخر فقط. ينبغي أن نزيد وعينا بأنفسنا، وليس فقط أن نديم تركيزنا على الآخرين لنرى القشة في أعينهم، ونتعامى عن لوح خشب في أعيننا.

ولنتذكر أن نجاح أي علاقة في حرص كلا الطرفين على المحافظة عليها، وليس لأنهما مثاليان بالنسبة لبعضهما، والعقلاء لا يهدمون علاقاتهم إلا لأسباب قوية. يقول الشاعر:

تمسك إن ظفرتَ بودِ حرٍ *** فإن الحرَ في الدنيا قليلُ

ومن أمثلة تطرف الصفة الإيجابية لتصير عيبًا:

- العاطفية والحنان والتفهم الزائد مزايا قد يتطرف الإنسان ليصل درجة أن يعيش في الخيال ويهرب من الواقع، وقد تصبح إرادته ضعيفة.

- التفاؤل أمر جيد لكنه أيضًا قد يصير معيقًا في كثير من الأوقات لإدراك الواقع.

- قوة الشخصية قد تؤدي إلى التصلب في الرأي، والصلابة قد تؤدي إلى العناد!

- القيادة المميزة قد تصل حد التسلط والإحساس بالعظمة.

- الإفراط في التنظيم والترتيب ومحبة الكمال ميزات، لكن كثيرًا ممن يملكونها لا يتقبلون النقد بتاتًا.

- الطموح وتحمل المسئولية والاجتهاد والمثابرة مزايا، لكن الإفراط فيهم يؤدي للبرود وقسوة القلب والتشاؤم والبحث عن المصلحة!

- الاستقلالية والاعتماد على الذات من الصفات العظيمة، لكن قد يعزلان الإنسان عن محيطه.

- الحماسة والجرأة والشجاعة في مواجهة المواقف قد يتطورون في الشخصية إلى سرعة انفعال وعنف ورغبة في الانتقام.

- الانتباه للتفاصيل والدقة أمر جيد، سواء في العمل أو الدراسة، وأحيانًا عند التعامل مع الناس، لكن قد يؤدي ذلك للقلق الشديد المعيق أو الشك في الآخرين أو الوسوسة.

- التفكير المتأني قد يتطرف ليصير ترددًا وعدم قدرة على الحسم، بينما سرعة الحسم قد تتطرف وتؤدي إلى اتخاذ قرارات غير مدروسة، فتصبح عجلة تجلب الندامة.

- حب العمل قد يصل حد الإرهاق وإهمال الحياة الشخصية.

- الحب أجمل ما في الوجود لكنه قد يتطرف ويصل حد الغيرة المفرطة وحب التملك.

- الإخلاص للجماعة التي ينتمي إليها الفرد أيًا كان نوعها قد يتطرف ويصل حد التعصب.

- الصراحة قد تصل إلى درجة الوقاحة.

- التمسك بالعادات والتقاليد الاجتماعية الحسنة شيء عظيم، لكن قد يتطرف بعض الناس لدرجة الرجعية والتمسك بتقاليد بالية، لا أصل لها في الدين، ولا قيمة حقيقية لها في المجتمع.

- حب الحياة قد يصل إلى الانهماك في الملذات، وربما حب الضوضاء، وربما أيضًا ضرر الصحة.

- ربما يكون حب الطبيعة المفرط سببًا في اعتزال الناس.

- الانفتاح على الآخرين وحب استكشاف العالم والمغامرة قد يصل حد المخاطرة.

- حب المنزل والعائلة الزائد قد يؤدي إلى فقدان فرص كثيرة في الحياة المهنية.

- الرضا يمكن أن يتطرف فيصير لا مبالاة!

- الكرم الزائد قد يصل حد الإسراف والتبذير.

 

شخصيتك تحدد نوعية الشخصية التي تكرهها

ينبغي التنبه أيضًا إلى الصفة السِمة؛ أي الصفة التي تغلف الشخصية، وتعتبر أظهر ما فيها؛ لأن ليست كل صفاتنا تكون بالدرجة المؤثرة نفسها في انطباع الآخرين عنا.

ويعتبر ارتباط شخصيتين ذاتا سِمتين ظاهرتين متعاكستين من أهم عوامل الفشل الذي يكون من الصعب تداركه أو تجاوزه وعدم الالتفات له، لذلك فإن تجنبه من البداية يجعلك لا تتكبد عناء تجربة ستكون على الأغلب فاشلة.

من أمثلة ذلك:

- الشخص الذي يكره القيود ومحاولة فرض السيطرة لا بد أن يبتعد عن الشخصيات التي تكثر الطلبات، لأنها شخصيات خانقة بالنسبة له.

- الشخص الذي يبحث عن الدعم وتنمية ثقته بنفسه وقدراته يكره الشخصيات كثيرة الانتقاد.

- الشخص العملي الطموح يكره الشخصيات المحبطة.

- الشخص المسالم الذي يحب الحياة الوادعة يكره الشخصية التي تعكر راحة باله وتخلق المشاكل حوله.

- الشخص العاطفي للغاية يكره الشخصيات الباردة.

- الشخص الواضح الصريح يكره الشخصيات الشكاكة التي تتمهل في تصديقه بلا سبب!

- الشخص الحساس يكره الشخصيات الوقحة.

- الشخص الذي يحب الخصوصية يكره الشخصيات المتطفلة.

- الشخص الرومانسي الحالم يكره الشخصيات الواقعية.

- الشخص المتحمس الذي يشتعل نشاطًا يكره الشخصيات البطيئة.

- الشخص المعتز برأيه يكره الشخصية المجادلة.

- الشخص الحيوي محب التغيير يكره الشخصية الروتينية الثابتة على المألوف في كل نواحي حياتها.

- الشخص المتزن لا يحب الشخصية الخفيفة التي تغير رأيها كل لحظة بلا سبب.

وأكرر أنه ينبغي إن أردنا إنجاح العلاقة أن نقر بالعيوب والأخطاء، ثم نحاول تلافيها، لا أن نصر عليها ونكررها، كما يُفضَّل من البداية الابتعاد عن أصحاب الشخصيات التي سِمتها الأساسية تناقض السِمة الرئيسية في شخصياتنا مهما كانت المزايا التي نراها فيهم.

الكِبر جذر كل الشرور

كثيرًا ما تنصلح العلاقة بين شخصين، ثم لا تلبث أن تسوء بعدها بفترة قصيرة. فما هي الأسباب التي تقف وراء ذلك؟

أحيانًا يرجع السبب إلى تمسك كل طرف من طرفي العلاقة أو أحدهما بالسمات الشخصية المعيبة لكل منهما، التي ينشأ ويتجدد عنها الخلاف.

في حالات أخرى، يقع الخطأ في المشكلة الأولى التي تنشب بين الطرفين على أحدهما دون الآخر، ويرجع سبب تجدد المشاكل إلى تألم الشخص المخطئ من رد فعل الطرف الآخر الذي لم يتقبل خطأه ولم يمرره دون حساب، وبمجرد أن ينصلح الحال نجد المخطئ يترصد أي تصرف للطرف الثاني ليلومه عليه باعتباره المخطئ هذه المرة! وتستمر حالة الترصد من كلا الطرفين لتنشأ سلسلة تكاد لا تنتهي من الخلافات، تتمرر بسببها العلاقة، ويتبعها بالضرورة قطع نهائي لها، أو الإبقاء عليها صوريًا إن كانت رابطة دم.

ولو دققنا سنجد أن جذر المشكلة يكمن في الحالة الأولى في رفض تغيير السمات المعيبة والسلوكيات الخاطئة سبب نشوء وتجدد المشاكل، وفي الحالة الثانية يكون جذرها هو رفض الإقرار بالخطأ من قِبل الطرف الأول، لمجرد انجراح صاحبه وتألمه من رد الفعل الذي قُوبل به، واعتباره رد فعل الطرف الثاني الذي سبب له الألم خطأ يستحق أن يبحث للطرف الثاني عن تلكيكة يرد بها عليه لينتقم ويرتاح باله!

وأتساءل، لماذا ننسى دائمًا أن الكِبر هو جذر كل الشرور، وأن الإقرار بالخطأ ومحاولة تهذيب النفس أهم سمات المؤمنين؟

 

د. منى زيتون

 

 

في المثقف اليوم