قضايا

إيمان شمس الدين: خــارج السّـرب

إن المشاكل الأسرية عرضة لجهات عدة في الاستشارة:

- مراكز الاستشارات؛ والتي أغلبها لا تنطبق عليها المعايير والضوابط المطلوبة، والتي تتناسب والأسس العلمية والشرعية في هذا المجال؛

- مؤسسات المجتمع المدني، التي تتذرع بالثغرات الموجودة في المحاكم الشرعية، وتستغلها لتدخل على خط الأسرة وخاصة المرأة، لتجد ضالتها فيها، فتستغل مظلومية بعضهن، للترويج لأفكارهم، وقناعاتهم العلمانية والنسوية المتعلقة بالمرأة، وتجدها فرصة لمواجهة الدين بحجة عدم عدالته مع المرأة، وتعلي مطالبها في تحرير المرأة بذريعة ظلم الدين والمجتمع بعاداته وتقاليده للمرأة؛

- المحاكم الشرعية، والتي أغلبها بات يفتقر للتجديد والمراجعة بما يتناسب وفاعلية الدين والشّريعة، وتحقيق العدالة المتعلقة بالأسرة والمجتمع.

فلعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن كثيرا من المتصديين في الساحات الاجتماعية للاستشارات الأسرية غير مؤهلين بما يكفي في هذا المجال، بل بعض هؤلاء يكون سببا في دمار الأسرة بدل أن يكون سببا في تذليل العقبات بين الطرفين. وفتح الساحة بهذا الشكل دون رقيب ومتابعة من قبل الجهات المعنية، لكفاءة هؤلاء في حل مشكلات الأسرة، يجعل الساحة فوضوية، ويزيد من تعقيد المشهد الأسري والاجتماعي.

خاصة أولئك الذين يسطحون المشكلة بتشخيصات ما أنزل الله بها من سلطان، ووفق فهمهم المحدود للنصوص الدينية والأخلاقية من جهة، أو للحقوق والواجبات من جهة أخرى، دون بذل جهد واقعي في فهم التشابكات بينهما، وفهم آليات التشخيص والتطبيق، وغلبة العاطفة في التشخيص على العقلانية والرشد والحكمة والإنصاف والعدالة النفسية.

إن المؤسسة الأسرية من المؤسسات المهمة جدا، وحينما نرى حجم اهتمام الإسلام بها، يوجب ذلك علينا إيلاء اهتمام مضاعف للأسرة، ولتأهيل المقبلين على الزواج، ولتصدي الكفاءات العلمية المحيطة بالأسس الدينية الشرعية وبالنظريات المتعلقة بالأسرة والزواج، فلا يكفي أن تكون رجل دين لتصبح مؤهلا للاستشارات الأسرية، وحل مشاكلها، ولا يكفي أن تكون أكاديميا في مجالات علم النفس والأسرة لتصبح مؤهلا في ذلك.

إن الكفاءة تعني جامعية الشخص لفهم الدين وفق مقتضيات ومتطلبات العصر، وفهم إشكاليات الواقع المعاصر وتحدياته، وقدرته على تحليلها وتشخيصها، وتمكنه من آخر النظريات المتعلقة بالأسرة ومتطلباتها كافة، و قدرته على تطبيق العدالة إجرائيا في المجال الأسري، دون قراءة تجزيئية للأحكام الشرعية من جهة، ودون تبسيط وتسطيح للمشكلة من جهة أخرى، ودون بخس لطرف لحساب طرف آخر من جهة ثالثة، بل يمتلك قدرة على إدراك موارد التزاحم، والترجيحات، والقدرة على إدراك مصلحة كل حالة ومعالجتها وفق ما يقتضي حالها. أي قدرة تشخيصية في فهم المشكلة وأبعادها، ومن ثم تشخيص العلاج من حيث الأدوات، هل هي أدوات حقوقية، أو أخلاقية، أو مزيج منهما، وقدرته على التطبيق الإجرائي للعدالة في هذا الصدد.

فالملاحظ في بعض من يتصدى للاستشارات الأسرية تعميمه للمشكلات، وبالتالي تعميمه للحلول، وهو ما يعقد المشهد، إذ إن الأصل هو دراسة كل حالة على حدة، وقدرة على تحليل وتشخيص الحالة نفسها، وفهم تعقيداتها والبناء على الشيء مقتضاه.

وهذا ينطبق أيضا على كثير من مؤسسات المجتمع المدني، والتي تستغل الثغرات المفتوحة في جروح المشاكل الأسرية، التي لا تجد لها حلا وعلاجا عند من يجب أن يعالجها، فيلجأ كثيرين وخاصة النساء إلى هذه المؤسسات التي لديها أجندة تستهدف هوية المجتمع وثوابته وهويته، وتستهدف المؤسسة الأسرية برمتها تحت شعار حقوق الإنسان وحقوق المرأة. وهي تشكل أيضا خطرا آخرا يضاف إلى الأخطار التي تواجه الأسرة، وبدل أن تقدم حلولا في الأعم الأغلب، تعقد المسألة وتكرس مسار تفتيت الأسرة والدعوة لما يسمى تحرير المرأة وفق فهمهم للتحرير.

كذلك الحال ينطبق على محاكم الأحوال الشخصية، حيث يزداد تعقيد المشهد الأسري داخل أروقتها، وعدم فعالية القوانين المتعلقة بالأحوال الشخصية، والتي يعود جلها كتقنين إلى عام ١٩٢٣م، دون تَجَشّم العناء في إعادة النظر بهذه القوانين وتطويرها، أو حتى الوقوف على الإشكاليّات والتحديّات المعاصرة التي تواجه الأسرة.

بل نجد أغلب هذه المحاكم تزيد من الظلم بدل أن تحقق العدالة، وتعقد المشهد الأسري بدل أن تحل عقده، وتحولت إلى معول هدم للأسرة لا بناء غالبا. وتتعرض المرأة في هذه المحاكم للظلم أكثر من الرجل، دون أن يكون هناك وقفة حقيقية لقوانين الأحوال الشخصية وإعادة النظر فيها لتحقيق العدالة، ثم حينما تلجأ المرأة لمؤسسات المجتمع المدني، وخاصة المؤسسات النسوية منها، يتم رميها بكل التهم، ويتحول المجتمع إلى سبع ضار ينهش بها، فقط لأنها لم تجد العدالة عند من يفترض به أن يحققها، ولجأت نتيجة التقصير والقصور في هذه المحاكم، إلى من يقدم لها حلولا وإن كانت للأسف حلولا غير عادلة، ولا تتوافق ومبادئ التشريع الديني، وبدل أن تتصدى نخب المجتمع لمواجهة هذه الإشكاليات ومعالجتها، والضغط على المعنيين لحل تعقيدات المشهد، فإن أغلب هذه النخب في المجتمع والمجتمع بذاته، تكونان معولا من معاول الهدم الأسري.

والأنكى من ذلك نجد بعض العاملين في هذه المحاكم من الذين يتصدرون المشهد الاجتماعي، سواء من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، أو المنصات الإعلامية كالتلفاز والإذاعة والصحف، ليوزعوا النصائح الأسرية، رغم أنهم أحد أهم أسباب هدمها بمعول القضاء.

بل جلّهم يصيح ليله ونهاره عن اختراق المجتمع وقيمه، واختراق الأسرة وتهديد وجودها، دون أن يتجشّم عناء تشخيص الأسباب ورسم صورة ومنهج لمعالجة الثغرات وردمها، لمنع هذا الاختراق، بل دون حتى أن يعترف بأن أغلب هذه المحاكم هي أحد أهم هذه الثغرات التي تسبب توسيع الاختراق، وتؤدي إلى هذا التسريب القاتل للوجود الأسري، والمفاقم للمشكلة.

فحينما لا يتم مواجهة المشكلة وتشخيص العلل بشكل صريح وجريء ومنصف، والاقتناع الوهمي بما هو موجود من قوانين وحلول ترقيعية سطحية، فإن الاختراق والتسرب سيكون البديل للمجتمع وللمقبلين على الزواج، ولأفراد الأسرة، لأنهم سيجدون في الثقافة البديلة المخترِقة حلول بديلة، وهو ما فقدوه عند من يفترض أن يكونوا مرجعية تحقيق العدل، والرشد، وتقوية مرتكزات الأسرة، وإن كانت هذه الحلول وهمية تعمل عمل مسكن الآلام، لا هي العلاج الناجع للمرض، الذي يجتزه من جذوره.

فعند فقدان العلاج عند أهله، فإن المريض سيذهب إلى البدائل التي غالبا ما تكون ترقيعية ووهمية ومسكنة لآلامه لا معالجة لها.

إن مواجهة المشكلة تكون أولا بالاعتراف بوجودها وبحجمها، وبتشخيصها وفق مقتضيات الواقع وتحدياته، ووضع الحلول المناسبة لها، لا المناسبة للعادات والتقاليد والأعراف، وأمزجة القائمين على حلها.

ويكفينا كشاهد على إخفاق أغلب هذه المحاكم، مشكلة المعلّقات من النساء، والتي قد تبقى معلّقة دون زواج ودون طلاق لعقد أو أكثر من الزمن، وهي مشكلة بدأت تزداد وتتفاقم مع الأيام، دون تصدي حقيقي من المعنيين لحل هذه القضية، وما يترتب عليها من مفسدة كبيرة على المجتمع. فيكتفي أكثرهم بالمشاهدة، أو مواجهة من تحاول منهن تخليص نفسها من هذا الوضع السّاكن، والمعيق لحركتها كإنسان نحو الله، فيصبح هؤلاء حوائط صد عن الله، بدل أن يكونوا جسورا يعبرها الإنسان نحو الله تعالى بسبب فهم أغلبهم التوقيفي للدين، لا العابر بتطبيق الدين إلى كل العصور والأزمان.

وهذا الموضوع (موضوع الاستشارات الأسرية والمحاكم الأسرية) يحتاج إفراد بحث مستقل له، لحجم إشكالياته، ولدوره في تعقيد المشهد الأسري، بدل أن يكون الأقدر على تفكيك العُقَد، وحلها وفق العدالة والإنصاف.

***

أ.إيمان شمس الدين

كاتبة و أكاديمية من الكويت

في المثقف اليوم