قضايا

لماذا نحتفل بالعيد العالمي للمرأة؟!

وضع المرأة ومكانتها هي معيار رقي وحضارة المجتمعات!  

احتفلت اليوم معظم شعوب العالم بما بات يسمى بالعيد العالمي للنساء وهو تقليد معاصر يتكرر كل عام بتاريخ الثامن من مارس، ونحن في عدن احتفلنا بالمناسبة على طريقتنا بفعاليتين متزامنتين، الأولى نظمها مركز عدن للدراسات التاريخية بعقد مؤتمر العلمي الأولى عن حياة المرأة العدنية إبان الاستعمار الانجليزي في فندق كورال. والثانية نظمتها كلية الآداب بجامعة عدن لتكريم العاملات المتميزات ممن مضى على توظيفهن أكثر من خمس سنوات في ادارتها، وربما شهدت عدن فعاليات مماثلة أخرى لا أعلمها، ولما كنت أحد أنصار المرأة والداعين الى تمكينها وتكريمها بوصفها إنساناً كامل الإنسانية وجديرة بمنحها المكانة والقيمة والاهمية التي حرمت منها في تاريخها الطويل، فقد حرصت على تلبية دعوة رئيس مركز عدن للدراسات التاريخية الدكتور محمود السالمي لحضور افتتاحية مؤتمره العلمي الأول، واعتذرت عن المشاركة في جلسات المؤتمر، لانشغالي المهني بحفل تكريم العاملات في كليتنا الحانية. عدت الى الكلية في منتصف حفل التكريم في المدرج الكبير، كان حفلا بهيجا وسعدت برؤية الآنسات والسيدات العزيزات من موظفات كليتنا وهن يحملن شهادات التكريم بفرح واعتزاز ، وشكرت السيد العميد على هذه المبادرة الطيبة. 

وبعد انتهاء الحفل اختليت بنفسي في مكتبي وخطرتي لك فكرة المقال هذه  إذ وجدت أن الناس ينساقون للاحتفالات بقوة التقليد والعادة. ولا يكترثون بمعرفة وفهم معاني ودلالات الاحتفالات التي ينجذبوا اليها بحماسة مبهجة. وحينما سألت بعض المحتفلين والمحتفلات بالعيد العالمي للمرأة، صباح الْيَوْمَ؛ عن ماذا يعنى لك هذا الاحتفال؟! صمت بعضهم وتلعثم الأخر، ولم أَجِد إجابة مقنعة نابعة من دراية ومعرفة بالأمر! وهذا ما جعلني على طريقة سقراط الحكيم أتأمل الاحتفال وأبذل المحاولة لنقله من لحظة الانفعال العابر الى لحظة العقل الفعّال. بحافر الإحساس بالواجب المعرفي وتحت إلحاح البحث عن المعنى العقلاني فيما وراء الظاهرة.ولاشيء في عالم ما تحت فلك القمر، عالم الانسان والاشياء يحدث دون سبب من الأسباب، والأسباب أربعة: ظاهرة وخفية قريبة وبعيدة. 

وظاهرة الاحتفال الأممي بيوم المرأة العالمي لها شروطها وأسبابها في عالم الناس المعاصر. وكما تعلمون مضى زمن طويل منذ أن بدأت حياة الكائن الإنساني بنصفيه آدم  وحواء على كوكب الأرض، لم تكن فيه المرأة "حواء" شيئاً مذكوراً أو جدير بالقيمة والاعتبار بذاته ولذاته ومن أجل ذاته، بل كان الرجل الذكر هو سيد الموقف، وصانع التاريخ وخليفة الله سبحانه وتعالى في الأرض، ومبدع الثقافة وباني الحضارة وحامل الأمانة المقدسة، وحافظ الأسرار والمعارف والعلوم والفنون ومروض الوحوش، وصاحب الحكمة والعقل والخلق والدين والملاحم والبطولات...الخ إذ كانت كل الصفات الايجابية التي تدل على الفعل والفعالية والقوة والنشاط والإنتاجية والإنجاز والانتصار والعنف والحرب تلصق بالرجل الذي ظل يتربع على مسرح التاريخ الإنساني حتى وقت قريبا وظل مفهوم الإنسان يطلق على البطريرك الرجل السيد  وكانت كل الكائنات والأشياء والطيبات بما فيها ذلك الكائن الإنساني الأخر الشبيه به تماماً- أي المرأة الأنثى- تدور حول فلكه الذكوري وتسخر لخدمته وتخضع لمشيئته البطريركية، وعلى مدى ملايين من السنين من تجربة العلاقة الاجتماعية والممارسة التاريخية لحياة الرجل والمرأة ترسخت الهيمنة الذكورية والثقافة البطريركية عند مختلف الشعوب والمجتمعات حتى اكتسبت صورة الضرورة الطبيعية البيولوجية والمسلمة البديهية التي لم تعد تثير الشك والتساؤل عن حقيقة مشروعيتها الاجتماعية، وأسبابها التاريخية رغم أننا نعلم أن قصة استبعاد المرأة وتهميشها وقمعها وإقصائها وتحقيرها وسحقها وقهرها وإخفائها من عالم الإنسان "الرجل" يعود إلى جملة من الأسباب والشروط التاريخية والاجتماعية في الأزمنة البدائية جداً، إلا أن استمرار هذه الحالة المؤسفة حتى العصر الراهن  يثير الحيرة والعجب. وهذا يعود في نظرنا إلى خطورة الاعتقادات والتصورات والآراء والأوهام والعادات التي تترسخ في حياة الناس ويتوارثوها جيل بعد جيل كأنماط ونماذج للسلوك، أو " الهابيتوسات" حسب عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو، يقول عالم النفس التربوي الأمريكي " أرثر كوفر" في كتابه " خرافات في التربية" "يسلك الناس وفقاً لما يعتقدون. فإذا اعتقدت أن شخصاً أمين فسوف أثق به، وإذا اعتقدت أنه غير أمين فلن أثق به. إننا نسلك وفقاً لما نعتقد .وحينما تكون معتقداتنا صحيحة وصادقة، نستطيع أن نحدث قدراً كبيراً من التقدم. أما إذا  كانت معتقداتنا خاطئة فإنها تعوق هذا التقدم وتحبط آمالنا، وتعرض الحياة الإنسانية ذاتها إلى الخطر"، ولقد ذهب كل جيل ضحية لمعتقداته ولخرافاته وأوهامه وأساطيره،  فحينما أعتقد الصينيون أن الكون ينقسم إلى الين واليانج، أي الأنوثة والذكورة الـyang يرمز إلى مبدأ الذكورة والعنصر الايجابي الفعال المنتج السماوي وعنصر الضوء والحرارة والحياة، والـ yin ويرمز إلى الأنوثة العنصر السلبي المنفعل، الأرضي عنصر الظلمة والبرودة والموت. والحقائق كلها يمكن ردها إلى تعارض واتحاد العاملين الأساسيين في الكون، الذكورة الأنوثة أي اليانج والين. كان من شأن هذا الاعتقاد الأسطوري، أن يعمق الهوة بين الرجل والمرأة ويمنح الرجل الذكر مكانه أرفع من مكانة المرأة الأنثى. وحينما أعتقد أهل اليونان أن العقل يحكم الكون، وأن الرجل هو الكائن العاقل الوحيد، وأن المرأة كائن حسي غير عاقل، برروا النظرة الدونية للمرأة. وحينما اعتقد العرب قبل الإسلام بان الأنثى كائن يجلب العار ويضعف الرجال، شرعوا عادة وأد البنات... وحينما يعتقد مجتمع من المجتمعات بان جسد المرأة وصوتها ووجهها من العورات! فلابد أن تختفي عن الأنظار وتحتجب عن الغرباء من الرجال.

هذا معناه أن سلوك الناس وتفاعلاتهم وعاداتهم وتفضيلاتهم وأفعالهم وردود أفعالهم ومؤسساتهم ونظمهم وتقاليدهم لا يمكن تفسيرها وفهمها من خلال تمظهراتها المباشرة، بل لابد من الذهاب إلى ما ورائها، من المنطلقات والأسس العقيدية واللاهوتية أو الفلسفية، كما أن اعتقادات الناس في أي زمان ومكان ليس مجرد أفكار أو تصورات معنوية وكلمات ومفاهيم معرفية مجردة، بل هي نتاج قوى اجتماعية وسياسية وثقافية نشأت وترسخت عبر مسار طويل من الخبرات والتجارب والممارسات في أنماط سلوك وعادات وخبرات أو هابتوس (Habitus) عادة أو طبع أو نسق الاستعدادات والتصورات اللاشعورية. 

  وفي سبيل التعرف وفهم خطاب النوع الاجتماعي المعاصر والكشف عن دلالاته ومعانية الظاهرة والمضمرة لابد لنا من التوقف عند الاسس الفكرية للثقافة الحداثية التي شكلت السياق  الحاضن لميلاد  ونمو وازدهار خطاب المرأة وحقوقها وكرامتها وحريتها وخطاب الاحتفال بعيدها في السياق التاريخي الحديث والمعاصر. إذ كان لهذه الموجة العاصفة من الاهتمام العالمي بالمرأة؛ إنسانيتها وتمكينها  وحقوقها وهويتها وحريتها ومشكلاتها. منذ منتصف القرن العشرين، بما حملته من سيل منهمر من الدراسات والنظريات والآراء والمفاهيم والمصطلحات الجديدة التي لم نعهدها من قبل: الجندر، الجنوسة، الجنس الآخر، الجنسانية، الذكورة والأنوثة، الحركة السنوية وحرية المرأة، وحقوق المرأة والأدب النسوي ومشاركة المرأة، وتمكين المرأة والهوية الأنثوية، والقمع الذكوري، والمجتمع البطريركي، والنوع الاجتماعي ...الخ، وقد احدث هذا الخطاب النسوي في مجتمعاتنا العربية الإسلامية الأبوية التقليدية ولازال يحدث حالة من الارتباك والقلق وسؤ الفهم بل والتوتر والصراعات العنيفة كما حدث قبل سنوات في جامعة صنعاء بشأن مفهوم" الجندر" ومعناه. إذ نرى أن هناك مشكلة حقيقية في نمط  تلقفنا لخطاب تمكين وتكريم المرأة  وتحولاته وتعريفه وتأويله وسياقات دلالاته  وهذا ناجم عن اختلاف السياق الثقافي التاريخي لمجتمعنا التقليدي عن سياق المجتمع الحديث الذي صاغ المفهوم وعرفه ونشره وتقبله وفهمه بعده مفهوم ينتمي إلى فضاء ابسمولوجي أو إلى باردايم محدد، أي نموذج تصوري وثقافي متكامل إذ أنه يصعب التوافر على فهم عميق لمعنى عيد المرأة العالمي  بمعزل عن السياقات التاريخي الذي مهد له وبرره وشرعنه.

ويمكن القول أن الاحتفال باليوم العالمي للنساء في الثامن من مارس من كل عام، هو احد ثمار  كفاح الحركة النسوية الحديثة التي بدأت نضالات استعادة حقوقها والمطالب بالاعتراف بها كائنا انسانيا كامل الأهلية والكرامة والقيمة مثلها مثل شقيقها وحبيبها ووليدها الرجل منذ القرن السادس عشر الميلاد، وخاضت نضالات مريرة وقاسية حتى أجبرت العالم المعاصر أن يمنحها بعض من الاعتراف والانصاف، وجعلت الأمم المتحدة تخصيص يوم الثامن من مارس يوما عالميا للمرأة في كل العالم. وهو حدث جاء على إثر عقد أول مؤتمر للاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي في باريس  في الثامن من مارس عام 1945. وهو اتحاد مدني للنساء حول العالم يتكون من المنظمات الرديفة للأحزاب اليسارية،  ومنذ ذلك العام التزمت الدول العاملة بهيئة الأمم المتحدة بالاحتفاء بالمرأة والاعتراف بها لللتدليل على الاحترام العام للنساء، وتأكيد تقدير وحب المرأة لإنجازاتها الاقتصادية، والسياسية والاجتماعية. وفي بعض الدول كالصين وروسيا وكوبا تحصل النساء على إجازة في هذا اليوم. في حين أن بعض الباحثين يرجح أن اليوم العالمي للمرأة كان على إثر بعض الإضرابات النسائية التي حدثت في الولايات المتحدة. في بعض الأماكن يتم التغاضي عن السمة السياسية التي تصحب يوم المرأة فيكون الإحتفال أشبه بخليط بيوم الأم، ويوم الحب. ولكن في أماكن أخرى غالباً ما صحب الاحتفال بملامح سياسية وشعارات إنسانية  لتأكيد دور المرأة الحيوي في التنمية الاجتماعية والثقافية المستدامة. وهكذا أخذ خطاب المرأة يحظى بحضور متزايد في مختلف الدوائر الثقافية والأكاديمية والأعلامية، حتى في البلدان التي لازالت تهيمن فيها العلاقات البطريركية الموغلة بالقدم والتخلف. وقد جاء في الإعلان العالمي بشأن القضاء على العنف ضد النساء المادة الثالثة مايلي:

"للمرأة الحق في التمتع، على قدم المساواة مع الرجل، بكل حقوق الإنسان وحرياته الأساسية وفي حماية هذه الحقوق والحريات، وذلك في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمدنية أو أي ميدان آخر ومن بين هذه الحقوق ما يلي: 

 ا - الحق في الحياة .٢- الحق في المساواة. ٣-الحق في الحرية والأمن الشخصي.٤- الحق في التمتع المتكافئ بحماية القانون.٤- الحق في عدم التعرض لأي شكل من أشكال التمييز.

٥- الحق في أعلى مستوى ممكن من الصحة البدنية. ٦-الحق في شروط عمل منصفه ومؤاتية.٧-الحق في أن تكون في مأمن من التعذيب أو المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهنية.  

ختاما دعوني أكرر القول: إذا مات كل رجال العالم فسوف تستمر  حياة الكائن البشري بفضل النساء الحوامل والعكس غير صحيح! وهكذا هي المرأة   ليست نصف الدنيا فحسب بل هي الدنيا كلها، وحمايتها وتمكينها وازدهارها يعني حماية الحياة والمجتمع والأطفال والمستقبل، فلا مجتمع سعيد بدون امرأة سعيدة. وقد اثبتت الدراسات العلمية الحقائق التالية:

- نسبة القهر والظلم الموجه ضد المرأة  تتناسب طردا مع نسبة الشرور التي تفتك بالمجتمع. 

- إن أردت أن تعرف حال مجتمع من المجتمعات فانظر الى حال نساءه.  

- المجتمعات التي تُحتقر فيها المرأة تظل مجتمعات حقيرة وعنيفة.

- امرأة سعيدة تعني مجتمع سعيد.

فهنيئا لسيدات العالم عيدهن العالمي

 

ا. د. قاسم المحبشي

 

في المثقف اليوم