قضايا

علي عبد الرازق: إصلاحيًة اسلامية بروح ليبراليًة (3)

علي رسول الربيعيدعوة دينية لا دولة سياسية

وضع عبد الرازق كتابه "الاسلام واصول الحكم" بقصد المساهمة في ايجاد اجوبة عن الاسئلة الصعبة التي تطرح عن الخلافة ومبادئ الحكم في الدولة، وما اذا كانت رسالة النبي دينية ام سياسية؟ ام دينية وسياسية في الوقت نفسه؟ هل جمع النبي محمد بين الرسالة والحكم أم أن مهمته انحصرت كلها في الرسالة فقط؟ وهل كان تأسيسه للمملكة الاسلامية وتصرفه في ذلك الجانب شيئا خارجا عن حدود رسالته أم كان جزءا مما بعثه الله له وأوحى به اليه؟ (عبد الرزاق، 1925، 48، 55)

لم يعترض عبد الرازق على القائلين بان الحكومة النبوية كان فيها بعض أوجه شبه من بعض مظاهر ومهام الحكومة السياسية، مثل الجهاد، الذي لايكون لمجرد الدعوة الى الدين بل لتثبيت السلطان وتوسيع الملك. ومثل جمع المال، الذي هو اهم مقومات الحكومات، وهو خارج عن وظيفة الرسالة. فقواعد الاسلام ومعنى الرسالة وروح التشريع لا تنكر بأن يكون للرسول عمل خارج وظيفة الرسالة. لكنه ينفي الراي الإسلامي الشائع من أن الاسلام دون غيره من الملل، جمع بين الدعوة الدينية والدنيوية .

ويرى لا توجد مهمة واحدة من هذه المهمات ذات صلة مباشرة بالسياسة و الدعوة الى الإسلام، وان كل ما يعتبر من اركان الحكومة المدنية، وانظمة الدولة، واساس الحكم، هي في حقيقتها امور غير واجبة للدين، والقول أن المملكة النبوية جزء من عمل الرسالة قول بلا دليل ولايوجد له سند في الإسلام، " وهو على ذلك ينافي معنى الرسالة، ولايتلائم مع ما تقضي به طبيعة الدعوة الدينية "  (عبد الرازق، 1978،122) التي لاتتطلب الاكراه اذ (لا اكراه في الدين) بل تستلزم الاقناع،بينما الحكم يعني القهر والغلبة، فليس بدعة وليس كفرا القول " ان المملكة النبوية عمل منفصل عن دعوة الاسلام وخارج عن حدود الرسالة، فذلك رأي لانعرف في مذاهب المسلمين مايماثله، ولانذكر في كلامهم مايدل عليه، وهو في ذلك رأي صالح لان يذهب اليه، ولانرى القول به يكون كفرا ولا الحادا " (عبد الرزاق، 1978، 119- 120).

واما الذين يدعون بان الحكومة النبوية قد بلغت غاية الكمال، فكيف يفسرون خلو " دولته من كثير من اركان الدولة ودعائم الحكم؟ ولماذا لم يعرف نظامه في تعيين القضاة والولاة؟ ولماذا لم يتحدث الى رعيته في نظام الملك وفي قواعد الشورى؟ ولماذا ترك العلماء في حيرة واضطراب من امر النظام الحكومي في زمنه" (عبد الرزاق، 1978، 122).

ثم يسأل عبد الرزاق الذين يقولون بأن حكومة النبي كانت حكومة البساطة الفطرية،" هل من سلامة الفطرة وبساطة الطبع مثلا ان لا يكون لدولة من الدول ميزانية تقيد ايرادها ومصروفاتها، او ان لا يكون لها دواوين تضبط مختلف شؤونها الداخلية والخارجية، الى غير ذلك؟ " (عبد الرزاق، 1978،129). أن هذه الحكومة – على مايرى عبد الرازق - لم تصل الى مستوى الدولة لأنها كانت خالية من المؤسسات التي لا يمكن تصور الدولة بدونها، وكذلك، من أجل التدليل على صحة رأيه، يقارن بين ولاية الرسول وولاية الحاكم، تكون ولاية الرسول على قومه ولاية روحية منشؤها ايمان القلب وخضوع المسلم خضوعا روحيا يتبعه خضوع الجسم بينما ولاية الحاكم ولاية مادية تعتمد على إخضاع الجسم من غير أن يكون لها بالقلب صلة (عبد الرزاق، 1925 ، 69)

ثم يعود عبد الرازق الى طرح مجموعة من الأسئلة الدقيقة حول هذا الموضوع فيتساءل، هل كان للنبي صفة غير صفة مُبلغ الرسالة يصح معها القول إنه أسس فعلا أو شَـرعَ في تأسيس وحدة سياسية أم لا؟ و" هل كانت مظاهر الولاية التي نراها أحيانا في سيرة النبي من مظاهر دولة سياسية أم مظاهر رياسة دينية فقط؟ وهل كانت الوحدة التي أقامها وحدة حكومة ودولة أم وحدة دينية صرفة لا سياسية؟ وأخيرا هل محمد كان رسولا فقط أم كان ملكا رسولا؟ "عبد الرزاق، 1925، 69 – 71)

ينطلق عبد الرازق من مقدمة تقول: ان الرسالة غير الحكم، وانه ليس بينهما شيء من التلازم، وان الرسالة حالة والحكم حالة أخرى مختلفة، فكم من ملك ليس نبيا وكم من رسل لم يكونوا ملوكا. (عبد الرازق، 1978، 112) ومع ذلك فأن عامة المسلمين، وجمهورا من العلماء المسلمين، يميلون الى الاعتقاد " ان النبي ... كان ملكا، وانه اسس بالاسلام دولة سياسية مدنية، كان هو ملكها وسيدها " (عبد الرزاق، 1978، 113) في حين أن القرآن لم يؤكد ذلك، بل قال أن محمدا رسول وأنه لم يكلف شيئا غير إبلاغ رسالة الله الى الناس، وليس عليه أن يجبر الناس على الإيمان بما جاءهم به (عبد الرزاق، 1925، 73).

وبناء عليًه ميز عبد الرازق بين زعامة الرسالة النبوية وزعامة الحكم، وأكد أنً محمدأ لم يكن قائدا سياسيا ولم يسع الى اقامة دولة، بل كان نبيا يحمل دعوة دينية للعالم كله، وان خضوع المسلمين له كان خضوع عقيدة وايمان، لا خضوع حكومة وسلطان ولم يشر الى شيء يسمى دولة اسلامية، ولو انه اراد ذلك لكان وضع لها كل ما يلزمها من الانظمة والقوانين. ومثلما اتم قواعد الدين كان يجب ان يتم قواعد السياسة، فلو " كان من عملة ان ينشئ دولة، فكيف يترك امر تلك الدولة مبهما على المسلمين، ليرجعوا سريعا من بعده حيارى يضرب بعضهم رقاب بعض! وكيف لا يتعرض لامر من يقوم بالدولة بعده، وذلك اول ما ينبغي ان يتعرض له بناء الدولة قديما وحديثا؟ "(عبد الرزاق، 1978، 175)

ويضيف مؤكدا:" انما كانت ولاية النبي على المؤمنين ولاية الرسالة غير مشوبة بشيء من الحكم... فلم يكن ثمة حكومة ولادولة، ولاشيء من نزعات السياسة، ولا اغراض الملوك والامراء " (عبد الرزاق، 1978، 155-156) . بل كان نبيا منذرا مهمته الابلاغ والتبشير، صاحب رسالة لا حكم، ورئيس دين لا دولة. وقد نقل عنه قوله للذين جاؤوا يسألونه عن امور الدنيا ((انتم اعلم بشؤون دنياكم)). وكل مايظنه البعض عملا حكوميا او مظهرا للملك والدولة، فليس الاوسيلة من الوسائل التي كان يلجأ اليها النبي تثبيتا للدين وتأييدا للدعوة. (عبد الرزاق، 1978، 150)

وبناءً على ذلك، أن الحكومة والملك من أغراض الدنيا ولا دخل للرسول بها لأن رياسته كانت دينية فقط وانتهت بموته. وأن الواقع التاريخي للحكومات الاسلامية يظهر ان كثيرا من الاحكام الشرعية كانت مبهمة او مجملة، وان كثيرا من الحالات الطارئة لم يكن في الكتاب نص على كيفية التصدي لها.

بعد كل ما تقدم، يخلص عبد الرازق الى نتيجة تدحض التنظيم بالذات للسلطة من قبل النبي ففي رايه ان المملكة النبوية عمل منفصل عن دعوة الدين، والنبي محمد " لم يكن الا رسولا لدعوة دينية خالصة، لا تشوبها نزعة حكم، وانه لم يكن للنبي حكومة، ولم يقم بتاسيس مملكة بالمعنى السياسي، فلم يكن الا رسولا كاخوانه السابقين  من الرسل، وما كان ملكا ولا مؤسس دولة، ولا داعيا الى ملك "(عبد الرزاق، 1978، 136).

يحذر عبد الرازق المسلمين من الخلط بين زعامة الرسالة الدينية وزعامة الحكم، ذلك ان زعامة الرسالة تستلزم لصاحبها نوعا من الكمال الحسي، والكمال الروحي، وكثيرا من التميًـز الاجتماعي بين قومه، كما تستلزم نوعا من القوة التي تعده لان يكون نافذ القول، مُجاب الدعوة ؛ ولكن هذه القوة هي اعظم من قوة القهر التي يمارسها الحاكم على المحكومين. فللرسول عمل ظاهري في سياستة العامة، وله ايضا عمل خفي يتعلق بتدبير أمور الروح، فله رعاية الظاهر والباطن، وتدبير امور الجسم، والروح، (عبد الرزاق، 1978، 139)

زعامة النبوة مؤيدة من الله تعالى، وزعامة الملك مؤيدة بقوة بطش صاحبها. فالله هو الذي اختار النبي وكلفه ان يدعو الناس الى رسالته، لذلك فان له " من الكمال اقصى ما تسمو اليه الطبيعة البشريه، ومن القوة النفسية منتهى ما قدر الله لرسله المصطفين، ومن تاييد الله ما يتناسب مع تلك الدعوة الكبيرة العامة (عبد الرزاق، 1978، 139).

فلا عجب اذا كان سلطان النبي قد امتد الى كل ما تمتد اليه يد الحاكم، ولكن له وحده وظيفة لا شريك له فيها، وله وحده قوة قدسية ترسلها السماء لمن اختص بالوحي وابلاغ الرسالة، اين منها قوة الحكام والسلاطين. فالفرق كبير بين ولاية الرسول وولاية الملوك والامراء: " ولاية الرسول على قومه ولاية روحية، منشؤها ايمان القلب، وخضوعه خضوعا صادقا تاما يتبعه خضوع الجسم، وولاية الحاكم ولاية مادية، تعتمد اخضاع الجسم من غير ان يكون لها بالقلوب اتصال، تلك ولاية هداية الى الله وارشاد اليه، وهذه ولاية تدبير لمصالح الحياة وعمارة الارض، تلك للدين، وهذه للدنيا، تلك لله، وهذه للناس، تلك زعامة دينية، وهذه زعامة، سياسية، ويا بعد ما بين السياسة والدين "(عبد الرزاق، 1978، 141).

الزعامة السياسية يمارسها الحاكم على امة ذات وحدة سياسية مدنية محدودة جغرافيا، و انه يستحيل ان يكون العالم كله وحدة سياسية، او ان يكون تحت رئاسة واحدة. اما الزعامة الدينية فيمارسها النبي على وحدة دينية تضم كل المسلمين اين ما كانوا، تهدف الى جعل الناس كلهم امة واحدة ويعبدون الها واحدا، وقد عمل النبي من أجل هذه الوحدة الدينية وأتمها بالفعل قبل وفاته، وكان إمامها الاوحد وكان له من السلطان على امته لا يخالف له قول. وهي " دعوة معقولة، وفي طبيعة البشر استعداد لتحقيقها ويمكن أن تنتظم البشرية كلها في وحدة دينية، لكن لايمكن أن يُحكم العالم كله بحكومة واحدة، وجمعه تحت وحدة سياسية مشتركة، فذلك مما يوشك ان يكون خارجا عن الطبيعة البشرية (عبد الرزاق، 1978،، 142-143، 151- 153).

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

.......................

عبد الرزاق، علي (1925): الاسلام واصول الحكم، البحث في الخلافة والحكومة في الاسلام، القاهرة، مطبعة مصر.

عبد الرازق، علي (1978): الاسلام واصول الحكم، بحث في الخلافة والحكومة في الاسلام، نقل وتعليق ممدوح حقي، بيروت، دار مكتبة الحياة.

 

 

في المثقف اليوم