قضايا

التفلسف بين جاذبية الفلسفة ومزالق تاريخها (1): علاقة الفلسفة في تاريخها

علي رسول الربيعيأبتداءً من الأخلاقيات العلمية الأعتراف بما أنجزه الآخرون وحفظ مكانتهم في السبق الفكري أهدي هذه الدراسة لرائد هذا الحقل الأستاذ د. حسن مجيد العبيدي، فأنا أول ما تعلمت عن العلاقة بين الفلسفة وتاريخ الفلسفة عندما كنت طالباً في المرحلة الجامعية الأولية، كانت من خلال قراءة دراسته المنشورة في مجلة "آفاق عربية" في ذاك الحين بعنوان:" موقف الفلاسفة من تاريخ الفلسفة"، ويُخيًل اليً أنه أول من افتتح النقاش في الفكر الفلسفي العربي عن هذا الموضوع.

التاريخ وفهمنا للفلسفة

إن التفكير في فلسفة الفلسفة وشروط التفلسف تأخذنا أحد روافده الكبرى الى العلاقة بين الفلسفة وتاريخها، وهذا بدوره يتطلب منا أن ننظر في معنى التاريخ وسياقاته هنا ومعنى التفلسف الذي يكون ذي صلة وثيقة بهذا التاريخ. لقد طرحت حول مسألة العلاقة بين الفلسفة وتاريخها وجهات نظر عديدة ومختلفة. مناقشة هذا يتطلب منا أن نتناول الموضوع بعقل مفتوح بدون التزام أيديلوجي أو دوغمائي بوجهة نظر مدرسة فلسفية بعينها ابتداء ومسبقاً. كذلك أن لانقف عند الخطاطات العامة لتصنيف الفلسفة الذي تتبنى وجهة نظر تقول أن "الفلسفة أما مادية الأتجاه أو مثالية الهوية والتفسير." وعليه سوف نتناول علاقة الفلسفة بتاريخها ونقلبها على أكثر من وجه، وأكثر من تفسير. فلا نريد أن نقفز الى خلاصات من البداية و اصدار أحكام نهائية بصدد هذه العلاقة.

نريد أن نفحص ونحلل ما هي أنواع المعرفة التاريخية التي تساهم في فهم الفلسفة والتفلسف، على عكس مجرد الفهم التاريخي البحت للفلسفة. قد نتفق بشكل عام على أن التاريخ الفكري هو مسعى مهم لأن يكشف لنا عن كيف فكرَ المفكرون وشيئًا عن كيفية اشتغال عقولهم عندما يفكرون فيما فكروا فيه. وقد نتفق أيضاً على أن الأستعراض التاريخي للفلسفة يُضئ جميع فروع التاريخ الثقافي الأخرى. أنه يقدم وصفا لرد الفعل الفكري للعقول البارزة الكبيرة (عقول الفلاسفة) أزاء الأحداث الثقافية الهامة الأخرى أو عليها، وأنه لايقف عن عرض الأفكار في عملية أشتغالها فقط، لكنه يصفها في عملها كما تدخل في أنشطة الأنسان الأخرى، وتؤثر على مسار تطور الوعي والتطور المؤسسي. وبالتالي يساعدنا على فهم أنفسنا، وثقافتنا، وعالمنا الفكري. أنه يلقي الضوء على الأسباب التي نكتشف بواسطتها الأفكار التي تتحكم في تفكيرنا، ويتيح لنا الفرصة لمزيد من التفكير حول استخدامها. يساعد تاريخ الأفكار الفلسفية في توضيح ماهية أفكارنا المتاحة. ولو أنه يقوم بهذا جزئيا فقط، الأً أنه ما يضيئه تاريخ أفكارنا هو ما كانت عليه أفكارنا، وما مكنت من فعل ما تمكن الناس من تحقيقه من خلال توظيفها حتى الآن. لكن لايمكن لهذا التاريخ أن يخبرنا بما يمكن أن تفعله تلك الأفكار في الحاضر، وما الذي يمكن أن نأمل في تحقيقها عن طريق استخدامها وربما إعادة هيكلتها. لأن ذلك لايعتمد على ماضي الأفكار بقدر ما يعتمد علينا، على ما لدينا من طرافة المحاولة وجدتها وقدرتنا على الاستمرار في التفكير. أنه يعتمد على ما يمكننا القيام به مع ما أكتشافناه من الأفكار. وهكذا يمكننا أن نقول إن التاريخ يكشف الكثير، لكن لا يُـعلم شيئًا. يكشف ما كان، ويضيء ما كان. لكنه لا يُـعلمنا ماذا سيكون.

يمكننا القول أن تاريخ الفلسفة قد ساهم في فهمنا للعديد من الأشياء في ثقافتنا. ولكن لا يزال بوسعنا أن نسأل – ويسـألنا العديد من طلاب الفلسفة اليوم - ما علاقة تاريخ أسلافنا من الفلاسفة بفلسفتنا في عصرنا؟ كان لهم مشاكلهم الخاصة بهم ولدينا مشاكلنا المختلفة اليوم. كان لديهم أساليب الفكرية الخاصة بهم. ولكن وجدنا أفضل منها. لماذا، إذن، لانستخدم أساليبنا الحديثة في مشاكلنا الفلسفية الخاصة، وننسى الماضي غير ذي الصلة بحاضرنا ؟ لماذا لا نستخدم التقنيات الجديدة القوية التي وضعناها الآن في المنطق الرمزي أو تحليل المقولات وفلسفة اللغة أو أي شيء يبدو أننا أنه يقدم وعدًا لتسوية أي من المشاكل التي جاءت من الماضي، مرة وإلى الأبد ،ثم انتقل إلى أسئلة جديدة؟

لماذا لا نتعلم من إجراءات العلم، ونأخذ هذه الإجراءات الناجحة كنموذج؟ أفلا تعتمد ممارسة الاستقصاء العلمي على تاريخ العلم. أليس الأمر كذلك وهو أن التفلسفة وممارسة الفلسفة ليست هي تاريخها؟ يمكننا أن نهتم في الماضي بمقاصده وسحره الخاص. ولكن على أن لا نخدع أنفسنا. عندما نبدأ في التفلسف بأنفسنا، علينا أن ندير ظهورنا بحزم للماضي وأن نتصدى لمشاكلنا الفكرية بشكل جديد ومباشر.

قد يبدو هذا التوجه جذابًا، وبالفعل قد لاقى قبولًا واسعًا بين طلاب الفلسفة اليوم لاسيما الذين يتبعون تقاليد الفلسفة الأنجلو- سكسونية. وربما يعود ذلك لسبب، إنه يعفيهم من الكثير من المسؤولية الفكرية عن متابعة المعرفة التي يجب أن تكون مهمة وعن العمل الكثير وبشكل مضني. بالطبع، يجب أن نكون مستعدين لمعالجة المشكلات الفكرية في عصرنا، وليس مجرد النظر في مشاكل الماضي. ومن المؤكد يجب علينا أن نستخدم أفضل الطرق التي وجدناها، مع كل الأفكار التي يمكننا اكتشافها أو تخيلها.

إنه من المهم ملاحظة، أن معظم أولئك الذين يرددون بصوت عالي أنهم يمتلكون طريقة فكرية جديدة اليوم، أنهم لا يستعملونها للتعامل مع مشاكل جديدة، أيً مع المشاكل والصراعات الفكرية والتوترات الكامنة في ثقافتنا اليوم. يبقدرما أنهم يطبقون طريقتهم أو منهجيتهم الفلسفية الجديدة هذه على صراعات المشاكل الموروثة والأخفاقات الماضية. يبدو أنهم يستعملونها، لا من أجل الوصول إلى حلول تفسيرية وعمليًة للصعوبات الفكرية التي تواجهنا بتحدي، ولكن للقول أن المفكرين السابقين توصلوا إلى إجابات مغلوطة وصاغوا الاستنتاجات الخاطئة. أنهم فقط يريدون أن يخبروننا بأنهم جديون في محاولات علاجية لتطهير أحشاء الماضي، وعلاجنا من القلق بشأنها. إنهم يزدرون مسؤولية وأهمية المحاولة الصعبة للكشف عن استشراف المستقبل وتوجيهه.

يبدأ المرء في شك من الراي القائل : يأتي الحل من أن ندير ظهرنا للماضي، فهو الذي يخلصنا من الوقوع في شراك الأهتمام بالمشاكل المروثة من ذاك الماضي التي غير ذات صلة بحاضرنا، والتعامل مع الأمور من جديد بتقنياتنا الجديدة التي تؤدي إلى وضع أكثر دقة تجاه الافتراضات الموروثة التي تشوه القضايا الفكرية الحالية. لذلك يبدأ المرء في التساؤل ما إذا كان ينبغي أن ننسى الماضي ونتبع الإجراءات الخاص بنموذج العلم! لكننا نتسـائل الاً يؤدي هذا الموقف المتأثر بالعلموية إلى فقدان الفلسفة الأكاديمية والتعليمية، أي وظيفة حقيقية في الحياة الفكرية اليوم!.

من المؤكد الآن، أن تركيز الأهتمام على الفلاسفة السابقين ومشاكلهم حصريًا بقصد أن نحدد مجال السعي وراء الفلسفة وطرق التفلسف الذي يأتي من خلال دراسة تاريخها، يعني التنازل عن شروط التفلسف وكذلك التخلي عن المشروع الفلسفي. في الواقع لقد كان ذلك الأهتمام الكثير سائدا في الفلسفة الأكاديمية في أواخر القرن التاسع عشر، ويأتي على رأس المهتمين أتباع هيجل أوالتقليد الالهيجلي في التفلسف ودراسة الفلسفة لاسيما بعد أن فقدت الفلسفة وعودها وتحفيزها الأصلي. وهذا يساعدنا على تفسير النفور ورد الفعل اللاحق ضد هذه العلاقة وهذه الطريقة في التفلسف. لدينا عديد الأمثلة على ذلك منها الأتجاهات الفلسفية ضد الهيجلية لاحقا، وكذلك ما يخبرنا تاريخ المعاصر عن ردود طلاب الفلسفة في الجامعات الفرنسية ضد الانشغال الحصري للغاية من قبل التدريس الجامعي وتقاليده الفكرية المهتمة بالعرض التاريخي للفلسفة، ونتيجة لهذا أن حدثت أزمة حقيقية في عام 1940، شعر معها طلاب الفلسفة بالحاجة للعمل، والتفكير في العمل.

ولكن لننظر الى كلا الحالين على قدم المساواة، يبدأ المرء في الشك، عندما يلاحظ فشل، محاولات التفلسف المتحررة كلياً من الكثير مما يتعلق بمعرفة الماضي؛ فيؤدي عدم تعلم كيفية استخدام ماضي الفلسفة الى تكرار أخطاء وحماقات ذلك الماضي. وبالمقابل أن استخدام التاريخ بوصفه البديل الوحيد يبقينا عبيداً للتاريخ. للتخلص من عبودية مستمرة إلى الماضي، علينا أن نفهم ذاك الماضي. وبهذه الحالة فقط يمكننا أن نجعله خادماً وأداة لنا، ولا ندعه يكون سيدنا علينا.

قد يكون للماضي هذا أو ذاك. هذا الماضي يعني هو ما يجب أن نعمل معه لأنه منحنا أفكارنا ومقولاتنا وافتراضاتنا ومناهجنا وتقنياتنا؛ والإجراءات المتاحة للاستفادة منها في حل مشاكلنا. إنه يتضمن مخزوننا الكامل من الموارد الفكرية فهو تراث لا مفر منه: إنه يجسد التاريخ نفسه؛ أن الماضي على قيد الحياة في الحاضر. إن هذا الماضي إنجاز إنساني، يحمل ودائع الصراع الفكري الطويل لعالمه. وهو ذاك ، فرغم أنه إنجاز الاً أنه إنجاز غير كامل. إنه محدود، انتقائي، من جانب واحد، غير مكتمل، ومشوّه. إنه بالتأكيد يشمل، أفكارًا خصبة، وطرقًا لوعود كبيرة، وافتراضات أظهرت قدرتها على أن تؤدي إلى نتائج مثمرة. ولكنه يشمل الأخطاء أيضًا، والمسارات الفاشلة التي لا تؤدي إلى أي مكان، وكذلك الى الأختلافات المضللة، والافتراضات التي قادت مرارًا وتكرارًا إلى الحواجز والأنفاق المسدودة ، وهي نماذج أنتهت ان تكون فارغة أو غير مثمرة. يمكن أن نميًز فقط من خلال الفهم الذي نحصل عليه بواسطة التاريخ ما قد نأمل أن نستخدمه بشكل مثمر في تفلسفنا الخاص، وما من الأفضل أن نتجاهله. ليس تحليل اللغة فقط هو الذي يمكن أن ينجز التحرر و يثبت العلاج. المعرفة التاريخية أيضاً هي أعظم المحررين من الأخطاء والتشوهات الذهنية، ومن طغيان الماضي.

لماذا، إذن، لا يمكن للفيلسوف مثل العالم أن يتجاهل تاريخ الأفكار التي يجدها مفيدة ويبدأ من الوضع الحالي للإنجاز الفلسفي، أين نقف نحن الآن؟ لماذا لا يكتفي الفيلسوف، مثل العالم، بالأنغماس وسط أو حاضر ما يقوم به؟ يعتبر نموذج المشروع العلمي في حد ذاته خادعًا للغاية الآن، ولا يفهمه العالم نفسه بشكل كافٍ دائمًا. وهذا أحد الأسباب التي تجعل من الضروري دائمًا أن يفسر الفيلسوف تغيير مشروع العلم إلى العالم نفسه، وليس فقط الشخص العادي. إن ما ظهر اليوم كحقل فلسفي مركزي ومهم، أقصد حقل فلسفة العلوم، ليس مجرد تبذير لما يعرفه كل عالم. إنه بالأحرى يمسك بالمرآة للعالم نفسه، وتركيز العدسة عليه وعلى أنشطته، مما سينتج عنه صورة أكثر وضوحًا وتميزًا لما يفعله العالم نفسه والذي يكون عادةً لايكون على قدر من الوعي بذلك . إن النموذج العلمي الذي طالب به الفلاسفة اليوم هو أمر صعب، لأنه في حين أن هناك تشابهات ملحوظة بين مشروع العالم وبين الفيلسوف، إلا أن هناك أسوارًا عالية مختلفة على قدم المساواة. من الضروري أن نكون واضحين بشأن كليهما

 

الدّكتور علي رسول الرّبيعي

 

 

في المثقف اليوم