قضايا

تأويل الفِعل الاجتماعي لغويًّا وزمنيًّا

إن اللغة مجتمع قائم بذاته، ومنظومة فكرية قادرة على المُوازنة بين التصريح والتلميح، والمُواءمة بين الإشارة والرمز، وتوليد الأفكار الغامضة، وصناعة المشاعر العميقة. وهذه التراكيب مُجتمعة تَدفع باتجاه إعادة تعريف الفِعل الاجتماعية في ضوء اللغة باعتبارها قُوَّةً اجتماعية، وركيزة نفسية، لأن الفِعل الاجتماعي هو ابن اللغة الشرعي، الذي يَرِثُ أدواتها الرمزية والواقعية. والإشكاليةُ المركزية في حياة الأفراد والجماعات، تكمن في تفسير الفِعل الاجتماعي كأداء ميكانيكي، مُجرَّد مِن رمزيته السِّرية وخَلفيته الغامضة. وهذا وهم قاتل، نتج عن فكرة ساذجة مُفادها أن الإنسان مُجرَّد كائن يأكل ويشرب ويتكاثر ويموت. وهذه السطحية في التفكير أدَّت إلى سُوء تأويل الفِعل الاجتماعي. مِمَّا انعكسَ سلبًا على حركة الأفكار والمشاعر في أحلامِ الفرد، وآمالِ الجماعة، وطموحاتِ المجتمع. وللخروج من هذا المأزق الصادم، ينبغي إحداث ثورة في فهم طبيعة الأفكار الغامضة التي تسيطر على الفرد، وتدفعه إلى اتخاذ قرارات مُعيَّنة دُون غيرها. والفردُ لا يتحرَّك بحثًا عن الطعام والشراب فقط. إن هناك منظومة رمزية شديدة التعقيد تتكرَّس كمنهج إنساني حياتي، وتتحكَّم بأفعال الفرد وعواطفه وقراراته . وهذه المنظومة مُتشابكة مع أحلام الطفولة، ومُتماهية مع تحديات الواقع المُعاش، ومترابطة مع الخوف من المستقبل .

2

هناك خلط بين النَّواة الاجتماعية البدائية الأوَّلِيَّة، والفكرِ المُتخلِّف الساذج . وسبب الخلط هو اعتقاد الكثيرين أن البدائية والتخلف وجهان لعُملة واحدة . وهذا الرؤية المُضلِّلة قائمة على اعتبار الزمن هو الحاكم المُسيطر على الأفكار والمشاعر والبُنى الاجتماعية . وفي واقع الأمر، إن علاقة الزمن محصورة في المجالات المادية التقنية فقط. فعلى سبيل المثال، كان الإنسانُ قديمًا يَستخدم الحمارَ كوسيلة نقل، أمَّا الآن فيستخدم السيارةَ. إن السيارة وسيلة نقل مُتقدِّمة مُقارنةً مع الحمار،ولكن هذا لا يستلزم أن يكون راكب السيارة أكثر تقدُّمًا ورُقِيًّا من راكب الحمار. وهذا المَثَل الذي يبدو بسيطًا، يُشير بوضوح إلى أن حركة الزمن تؤثِّر في الأدوات والتقنيات والتكنولوجيا، ولكنها لا تؤثِّر في تكوين الإنسان الروحي والفكري، لأن تكوين الإنسان قائم على الخبرات المُتراكمة الناتجة عن البيئة والمجتمع وأفكار الآخرين وسلوكياتهم . ومفهومُ الأوَّلِيَّة مُرتبط بالعفوية وبداية التكوين، والتأسيس لنقطة الانطلاق نحو المستقبل، أمَّا مفهوم التخلُّف فمرتبط بالانتكاسة والانهيار والرجوع إلى الوراء . ولا يمكن تكوين حضارة إلا بوجود نواة بدائية، تكون بمثابة الجنين الذي يسعى إلى اكتشاف الحياة . ولا يمكن تكون مدنية إلا بوجود نُقطة أولية تكون بمثابة الركيزة التي يتم الوقوف عليها من أجل الانطلاق إلى الأمام .

3

الزمنُ المُجرَّد المحصور في الحركة الميكانيكية لعقارب الساعة، ليس له أيَّة أهمية، ولا يَعني شيئًا . وأهميةُ الزمن تنبع من الإنجازات البشرية في تاريخ الحضارة . وهذا يعني أن الزمن تابع لمركزية الإنسان في الوجود، وإسهاماته في إعمار الأرض معنويًّا وماديًّا . كما أن العِلْم المُجرَّد المحصور في الكتب، ليس له أيَّة أهمية، ولا فائدة مِنه . وإنما العِبرة كامنة في العمل بالعِلْم النافع، وتطبيقه على أرض الواقع لتغييره إلى الأفضل. وإذا أردنا إنشاءَ حراك اجتماعي إيجابي وفعَّال في المجتمع، فلا بُد من توظيف الزمن لخدمة العِلْم، وتوظيف العِلْم لتحسين الواقع . وضمن هذه المنظومة، يُصبح للزمن ماهية اعتبارية، ويُصبح للعِلْم وظيفة اجتماعية، فتتحوَّل القواعدُ الاجتماعية الجامدة إلى تيار حيوي وحركة تصحيح، وتعود الأشياءُ التي ماتت في الإنسان إلى الحياة، ويعود الإنسانُ إلى اكتشاف شخصيته ومعنى وجوده .

 

إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

 

في المثقف اليوم