قضايا

حول الدين والمدنية والعلمانية وقضايا أخرى

لطالما استعملت العامة ولا تزال لفظ "مدني" بمعنى "غير عسكري" ولم تستخدمه يوما ليعني "غير ديني". كما يحلو للبعض استخدامه اليوم اعتمادا على المعنى القاموسي كترجمة لكلمة civil.

إن تعبير "المدنية" بلفظه ومدلوله العربي مشتق من "المدينة" وبهذا المعنى فإن المدني هو ابن المدينة تعارضا مع ابن الريف. وفي حقيقة الأمر فإن المسالة بمنظورها العام لا تتعلق بالمكان بشكله المطلق أي "ريف" و"ومدينة" بل بمسألتين: الأولى هي المهنة حيث أن ابن الريف يمارس مهنة الزراعة والتي ينظر إليها ابن المدينة على أنها أدنى قيمة من المهن التي تمارسها المدينة كمهنة التجارة أو الصناعة الحرفية أو أي مهنة أخرى هي من اختصاص المدينة، والمسألة الثانية تتعلق بالمنظومة القيمية التي يحملها كل منهما وهنا أيضا فإن ابن المدينة ينظر لقيم الريف على أنها بمجملها متخلفة حتى ولو كان بعضها يحمل مغزى عاما مفيدا للمجتمع كالنخوة والإجارة والعون وغيرها من قيم العشيرة التي عادة ما تسود في المجتمع الريفي.

ويمكن أن نضيف إلى ذلك عاملا آخر يعد من أسباب "استعلاء" المدينة على الريف هو أن العمل الفكري والإبداعي هو بمجمله من نتاج أهل المدينة وما الريف إلا مستهلك لهذا العمل الفكري والإبداعي ومنه طبعا أساليب هندسة وتطوير الزراعة على سبيل المثال ووسائل المعرفة النظرية الأخرى فابن المدينة يملك من وسائل المعرفة ما لا يملكه ابن الريف. ذلك لا يعني أن ابن الريف لا يملك معارف مبنية على التجربة العملية خاصة في حقل الزراعة غير أن العمل الفكري كحقل من حقول النشاط الإنساني يكاد يكون محتكرا من قبل ابن المدينة. ونرى انتقال المعرفة من المدينة إلى الريف على يد ابن المدينة أو ابن الريف الذي علمته المدينة ومع هذه المعرفة بالطبع تنتقل بعض عادات وتقاليد المدينة. ومع التطور (التصنيع ومكننة الزراعة) تميل الفوارق بينهما إلى التضاؤل كما يحدث في البلدان الغربية المتطورة.

والعقائد بمجملها بما في ذلك العقائد التي تؤمن بالعالم الآخر هي من نتاج الفكر الذي هو حقل من حقول نشاط ابن المدينة كما أسلفت وبالتالي فإنه نتاج المدينة والمدنية. وابتداء من الحضارات الشرقأوسطية القديمة كالسومرية والبابلية والآشورية والفرعونية والكنعانية حيث الأشكال الأولية للعبادة فوق البشرية وانتهاء بالديانات التوحيدية الكبرى كاليهودية والمسيحية والإسلام فإن جميعها قد ظهرت ونمت في المدن وبرز الكهنة ورعاة الأماكن المقدسة ورجال الدين ووالأنبياء من صلب المدينة ومن بين أبناءها الذين كانوا يمثلون النخب الفكرية لذلك الزمان كالأنبياء موسى والمسيح عليهما السلام، الأول بين حواضر فلسطين ومصر والثاني من حاضرة بيت لحم الفلسطينية والنبي محمد (ص) من مكة التي كانت تمثل مركزا تجاريا دوليا فكل هؤلاء هم أبناء المدينة ومن صفوتها. وكما لاحظنا في الدين الإسلامي فإن أوائل من اعتنقوه هم تجار المدينة الكبار مثل أبي بكر الصديق وعثمان ابن عفان وزوجة الرسول خديجة (رض) ومعهم "مفكرو" ذلك العصر ونخبه مثل ورقة بن نوفل وسلمان الفارسي وعبد الله ابن أبي سرح والعديد ممن كانوا على معرفة بالديانات التوحيدية التي سبقت الإسلام.

وعمل الدين الإسلامي، بقيمه التي تمثل قطيعة مع قيم البادية حيث الثأر والإغارة وغيرها، على نقل قيم المدينة إلى البادية أي قيم الجماعة بمفهوم الأمة كبديل لمفهوم العصبية الفردية والقبلية واستطاع الانتشار بسرعة بفضل قوة هذه القيم المدينية التي وجدت ما ينسجم معها ويتقبلها في حواضر الشرق الكبرى كالعراق والشام ومصر. واستوعب هذا الدين أبان حكم الخلفاء الأمويين وبشكل أقوى خلال فترة حكم الخلفاء العباسيين وبيسر، قيم وتقاليد المدينة المأخوذة من الحضارات الكبرى الأخرى التي كانت سائدة في ذلك الزمن ومنها الحضارة الفارسية. وفي ظل مراكز المدن الإسلامية الكبرى تم الاطلاع على ومعرفة الانجازات الفكرية الكبرى للشعوب الأخرى بما فيها المنجز الفكري للثقافة اليونانية والتي استخدمها المسلمون العرب ونخبهم الفكرية كالمعتزلة وأخوان الصفا في جدلهم والدفاع عن أطروحاتهم المتعلقة بمجملها بالإمامة أي الحكم والحاكم وبذلك يكون مفكرو الإسلام الأوائل، إذا صح وصفهم بذلك، قد دخلوا حقل السياسية منذ ذلك الزمن. وتحت راية الدين بنى بنو أمية في الأندلس واحدة من أعظم الحضارات الإنسانية ولم يكن هؤلاء أبناء بادية بل أبناء المدينة وذرية تجارها الكبار من أبناء مكة والمدينة والطائف.

بالمقابل فإن مظاهر العصيان والارتداد عن الدين كانت تخرج من البادية وكان دور المدينة أن حافظت على الدين وتمثل حروب الردة في زمن الخليفة ابي بكر من أوائل الأمثلة على ذلك. وكان الدين يدب فيه الضعف وتعم الصراعات كلما ضعفت الحواضر والذي عادة ما يبدأ بضعف مركز الخليفة وما ينتج عنه من تدهور التجارة والصناعات والحرف والذي ينعكس بدوره على الإنتاج الفكري الذي يشهد هو بدوره تدهورا. حينذاك نجد أن قيم البادية تطل برأسها من جديد وتزيد الوضع خرابا.

وإذا نظرنا إلى تاريخ الفكر والمفكرين في العالم العربي والإسلامي المعاصر فإن صفوة المثقفين والمفكرين قد نشأت من عائلات دينية وأنتجت المراكز الدينية في العراق ككربلاء والنجف وسامراء ومدينة الأعظمية وآلوس والكاظمية..إلخ خيرة مفكري ومثقفي العراق من بينهم حملة راية الحداثة وكذلك الحال مع الأدباء والشعراء الكبار فكثير من هؤلاء كانوا من عائلات دينية مدينية والعملاق الجواهري واحد منهم.

بمعنى آخر أن الدين والمدينة كانوا لصيقين وكانا بمثابة الأم والأب للنتاج الحضاري والثقافي للأمة العربية والإسلامية لذلك فإن من يسعى اليوم تحت راية "المدنية" ليصور المدنية كنقيض للدين لا يملك فهم ديالكتيكيا للعلاقة التاريخية بينهما ولا للتاريخ العربي الإسلامي الذي لا أدعي معرفة عميقة به.

وقد سبق وقلت في مقالة سابقة أن رواد التغيير والتفكير الثوري في العالم العربي جاءوا من صلب العائلات الدينية الكبيرة كجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبدة ورشيد رضا في وقت لم يكن لمفهوم العلمانية الغربي ناهيك عن الماركسية أي وجود في المنطقة ونحن نتحدث عن فترة نهاية القرن التاسع عشر حيث ظهر هؤلاء الرواد. وترك مفكرون إسلاميون أثرا عميقا في الناس وبذلوا جهدا فكريا كبيرا للإجابة على العديد من المسائل الملحة التي تتعلق بأسباب تأخر العالم العربي والإسلامي عن الركب الحضاري وشخصوا المشكلة بشكل صحيح وأكدوا أنها تتعلق بالعلاقة بين الحاكم والمحكوم وأنه ليس هناك تفويض لحاكم باسم الدين والتفويض يأتي من الشعب. وقد أكد المفكر الإسلامي علي عبد الرازق (1888-1966) في كتابه "الإسلام وأصول الحكم" (صدر في 1925) أنه ليس هناك في الشرع ما يثبت وجود شكل محدد للحكم في الإسلام وأن المسلمين أحرار في اختيار شكل الحكم الذي يناسبهم. لقد قوض هؤلاء المفكرون الإسلاميون أساس التبرير الديني التقليدي الذي يقوم عليه الاستبداد ولم نر في ذلك الزمن مفكرا علمانيا واحدا ترك أثرا كالذي تركه هؤلاء في تصورات الناس السياسية واقتصر تأثيرهم على مجاميع من المثقفين. ويمكن للمرء أن يلاحظ متسائلا كيف أن الأنظمة العربية الملكية التي كانت سائدة في منتصف القرن العشرين، ومنها العراق، كانت تحجب كتابات المفكرين الإسلاميين عن الشارع وعن المدرسة لأنها كانت ثورية ليس بمعيار زمنها فحسب بل وأصبحت ثورية بمعيار اليوم (مع الأسف) حيث تحاول أطراف عربية رجعية معروفة أن تروج لنسخة إسلامية تكفيرية.

أما "مفكرو" العراق من ماركسيي الأمس و"مدنيي" اليوم فلا أثر لأي انجاز فكري فلسفي أو اقتصادي أو اجتماعي قدموه للعراقيين. وإذا أردنا النزول بالنقاش إلى مستوى أدنى من ذلك نسأل: ما هي الأطروحات الفكرية لمثال الالوسي وفائق الشيخ علي وشروق العبايجي حول مفهوم المدنية والدولة المدنية وهلي يقترحون صيغة حكم مختلفة عن الصيغة البرلمانية الحالية القائمة على تعدد السلطات واستقلالية كل منهما والتي هي صيغة غربية تمثل بنظري قمة نتاج المدنية الغربية؟ ثم لماذا لا يبينون للناس أين يكمن خلافهم الفكري مع الأحزاب الدينية؟ هم لا يستطيعون الإجابة على هذه الأسئلة لأنهم غير مؤهلين معرفيا للإجابة عليها.

في مقابلة له نشرت في مجلة "الثقافة الجديدة" (عدد 397 لسنة 2018) يخاطب الباحث العراقي الراحل الدكتور فالح عبد الجبار محاوره بالقول: "فأنتم أيها اليسار الجديد تقولون أن هذه الدولة مدنية، طيب حللوا لنا ما هي الدولة المدنية، حللوا لنا ما هي الطائفية، حللوا لنا التجارب العالمية أو إطلعوا على تحليلاتها بعدها تتوصلون إلى استنتاجات تسترشدون بها...". وإني أسأل مسترشدا بأسئلة عبد الجبار:هل عكف من اشرت إليهم بالأسماء فيما سبق على تحليل الواقع العراقي الحالي من حيث هو نتاج الظروف التاريخية  التي مر بها العراق (على الأقل منذ 1968) وتوصلوا إلى استنتاجات معينة قبل تقديم طبق المدنية الغربي الجاهز على أنه علاج لأزمة النظام السياسي؟. إن أبرز ما يمكن أن يلاحظه المرء في السباق الانتخابي في تونس حيث يتنافس 26 مرشحا على منصب الرئيس هو أن العديد من المرشحين قد نبه إلى أن تجربة "الشراكة" مع أوربا لم تحل مشاكل البلد بل فاقمتها وبأن العالم قد تغير وأن مستقبل هذا العالم سوف يرسمه دول الشرق الكبرى كالصين وروسيا والهند وغيرها من دول آسيا مع ملاحظة أن تونس كانت علمانية (على الطريقة الغربية) طوال تاريخها الحديث.

في منتدى الشرق الذي عقدته روسيا مؤخرا والذي حضره إلى جانب الرئيس الروسي رئيس وزراء الهند واليابان وماليزيا قال بوتين "إن زمن هيمنة الغرب على العالم قد انتهى". وليس الشرقيون لوحدهم هم من يقولون ذلك بل ويعتقد العديد من مفكري الغرب أن الحضارة الرأسمالية الغربية في طريقها إلى الأفول. لماذا؟ لأنهم يشاهدون بأعينهم ما يجري في العالم من تحولات ليست اقتصادية وحسب بل وثقافية حيث الثقافة الشرقية تدخل في وضح النهار إلى المجتمعات الغربية التي بنيت على تمجيد الفردية باسم الحرية والتي تتهاوى الآن بفعل ما نراه من حركات اجتماعية جديدة في أوربا ومنا حركة "الستر الصفراء" في فرنسا. إن الأساس الذي تقوم عليه هذه الحركة هي تحدي النظام السياسي القائم على تحالف الرأسمال والأحزاب السياسية الحاكمة وإخضاع مصالح بلدانهم الوطنية لمصالح الرأسمال العالمي الذي تتزعمه الولايات المتحدة وهذه المسألة ظاهرة من إجبار الولايات المتحدة "حلفائها" الغربيين على تأييد حتى السياسات الأمريكية الطائشة وأبرزها حاليا ما يسمى بالملف النووي الإيراني. أن ما نراه أحيانا من تململ بعض حكومات الغرب كما الفرنسية ليست بنظري أكثر من محاولة إلهاء لشعوبهم ذلك أن تهديدات الرئيس ترامب بفرض عقوبات قد طالت حتى حلفاءه ايضا فقد هدد بفرض ضرائب على صناعة النبيذ والأجبان الفرنسية وكان أول من استخدم هذا التهديد هو الرئيس جورج بوش الأب عشية غزو العراق بسبب رفض فرنسا في زمن شيراك الانضمام للحلف الذي شكله قبل الغزو.

والآن، كيف يقرأ "مفكرو" العلمانية والمدنية العراقيون ما يجري من تحولات في هذا العالم؟ هل خطت الصين هذه الخطوات الجبارة في زمن وجيز ومعها الهند وروسيا وغيرها من بلدان آسيا باتباعها نظاما سياسيا قائما على شعارات المدنية والعلمانية؟ وإذا كان هناك من يقول "ولكن ليس لديهم أحزاب دينية" فهل درس القائل المفترض تاثير العقيدة السائدة في هذه البلدان وكيف استخدمتها الطبقة الحاكمة في تحقيق وحدة الهدف والمصير لدى شعوبها؟ لقد أحيا بوتين تقاليد الكنيسة الروسية الأرثذوكسية بعد أن شهدت قمعا طوال العهد الشيوعي وأعتبر دورها عاملا مهما في توحيد الشعب الروسي ولا ينفك يلتقي بالزعماء الكنسيين الروس في كل مناسبة تتطلب ذلك.

إن واحدة من أهم أسباب ما رأيناه بعد 2003 من فوضى في كل مرافق الحياة هو الإرث الاجتماعي الذي تركه النظام الساابق والذي تمثل ب "ترييف" المدينة من خلال تحالفه مع شيوخ عشائر معينة (حتى هذه بعضها انقلب عليه فتحالف مع أخرى) ثم وفي مرحلة لاحقة لبس لبوسا إسلاميا تمثل في ما سمي ب "الحملة الإيمانية". لماذا فعل ذلك؟ لأن القاعدة الحزبية العريضة التي كان يستند إليها النظام والتي ساعدته على إحكام السيطرة على البلد قد أنهكت وتآكلت بسبب الحروب والصراعات التي خاضها النظام على الأصعدة المختلفة ثم جاء الحصار الاقتصادي ليجهز على ما تبقى منها حيث تحولت علاقتها (أي القاعدة الحزبية) بالجماهير من علاقة سيطرة إلى علاقة مساواة في المعاناة فهيمنت علاقة المنفعة والمصالح ولم يتبق من ينعم بالثروة غير دائرة ضيقة من كبارالمسؤولين وبعض الأثرياء الجدد الذين أنتجهم الحصار. لذلك راح النظام يبحث عن قاعدة جديدة لاسناده فوجد في بعض شيوخ العشائر هذا الاسناد قبل أن يتحول نحو الدين. هذا "التحالف" مع شيوخ العشائر لا بد وان يكون له أدواته وبكلمة مجازية "ديكوره" المناسب فكان أن ساد لدى الصفوة الحزبية عادة لبس "العقال" وإقامة المضايف فكان بداية إحياء تقاليد العشيرة الذي لم يضرب الريف وحسب (وقد كان قد تحرر إلى حد كبير منها بسبب انتشار التعليم) بل وضرب المدينة. ويتذكر من زار العراق بعد 2003 فإن أبرز ما يلاحظة المرء هو انتشار لبس العقال بين أناس لم يكن يتوقع منهم ذلك ومنهم شيوعيين قدماء.

وإنصافا للعشيرة لا بد من التأكيد أن هدف السلطة في ذلك الوقت من هذا التحالف ليس إشاعة القيم النبيلة للعشيرة بل إستحداث أساليب جديدة للبقاء وذلك من خلال البحث عن مصادر جديدة للولاء تؤمن السيطرة : الشيخ يسيطر على عشيرته ويسيطر "القائد" على الشيوخ بواسطة الجمع بين التخويف والعطاء. هنا نحن أزاء عودة إلى الوراء في مسألة الانتظام الاجتماعي أي من حالة الحزب والنقابة والمهنة كأساس للتنظيم الاجتماعي إلى العشيرة كوحدة أساسية لهذا الانتظام. وقد رأينا كيف أن "القائد" قد ألغى نقابات العمال كشكل من أشكال الانتظام الاجتماعي العليا لأنها ترمز إلى الانتماء إلى فكرة التضامن والتعاون والولاء لمجموعة وقيادتها المنتخبة وليس الولاء لحزب حاكم. وبما أن النقابات المهنية هي من مكونات المجتمع المدني فإنه بحل هذه النقابات يكون قد وجه ضربة قاتلة للمجتمع المدني. وبالطبع مع صعود نجم العشيرة أو بالأحرى شيخها يعاد إحياء تقاليد العشيرة بما في ذلك تقليد الثأر والفصل على سبيل المثال.

ويسيئ مروجو العملانية والمدنية إلى مغزى هذين المفهومين عندما يمارسون عملية إسقاط ميكانيكية للظروف التاريخية في الغرب والتي انتجت هذين المفهومين على الظرف العراقي الحالي الذي لا يشبه بشئ. فهم من أجل ذلك يستخدمون مفهوم العلمانية القائل بفصل الدين عن الدولة ليعني أنه لا يجب أن تكون هناك أحزاب دينية. وهذا تضليل لأن العملانية تعني فصل سلطة الدولة ومؤسساتها عن تأثير السلطة الدينية ومؤسساتها وأن القوانين والقرارات التي تصدر عن المؤسسة السياسية لا يجب أن تخضع لتأثير الدين وأن الدولة تعامل مواطنيها عل قدم المساواة بغض النظر عن عقيدتهم بما في ذلك من لا يؤمن بعقيدة دينية.

وإذا نظرنا إلى الواقع العراقي بناء على ذلك يبرز السؤال: هل هناك مؤسسة دينية في العراق تملك سلطة على ما تقرره الدولة ومؤسساتها؟ في حقيقة الأمر ليس هناك مؤسسة دينية في العراق بالمعنى المعروف في القرون الوسطى في أوربا حين كان للكنيسة دور مقرر في اختيار من يحكم. وإذا كان هناك من يعتبر المرجعية الدينية الشيعية مؤسسة فهي لا تملك سلطة ملزمة على مؤسسات الدولة وقراراتها ويقتصر عملها على النصح والإرشاد. إن سلطتها روحية بالدرجة الأولى وهذه أيضا ليست ملزمة إلا بمن يدين بالولاء لها ذلك أن الإلزام يعني القدرة على إنزال القصاص بمن يخالف.هل رأينا المرجعية اقتصت من أحد تحت ذريعة مخالفة تعليماتها؟في الغرب كانت الكنيسة تقصي المخالفين لتعلمياتها وتعتبرهم هراطقة وتكفرهم وتحلل إعدامهم. ويمكننا هنا أن نلاحظ أن الشيوعيين تعرضوا لحملات تشهير بأنهم "كفرة" أبان الحكم الملكي العلماني بينما لم نسمع حزب أو رجل دين في هذا الزمن "كفرهم" غير النسخة الداعشية ذات العقيدة المعروفة القادمة من بلد مجاور. وقد رأينا كيف أن جميع القرارات الحكومية والقوانين البرلمانية تمرر دون أن تعرض على أية سلطة دينية من أجل الموافقة عليها بينما كان نظام مبارك الذي يصنف علمانيا ( كان يمنع نشاط الأحزاب الدينية)  يعرض الكثير من القوانين على الأزهر طلبا للموافقة بل كان الأزهر ولا يزال يتدخل في الموافقة أو الرفض لبعض المؤلفات وحتى أفلام السينما ويمنع نشرها أو انتاجها. بالطبع نحن هنا أزاء مثال على تجيير نظام علماني لمؤسسة دينية لصالحه وهو بالطبع ما ترفضه العملانية الغربية لأنها تعني أيضا حماية الدين من استغلال السلطة السياسية له.

أما بالنسبة لمفهوم "المدنية" كنظام سياسي فإن مروجيه يفهمونه فهما "قاموسيا" على أنه مضاد لسلطة العسكر أوسلطة رجال الدين بينما هو يعني، بمفهومه المعاصر، وجود مجموعات (منظمات) تمارس نشاطا لفائدة المجتمع مستقلا عن السلطة السياسية أو سلطة الشركات (رأس المال). وتدخل المنظمات غير الحكومية ضمن هذ التعريف. ويكتسب هذا المفهوم بعدا آخر في الزمن الحاضر على ضوء حقيقة أن السلطة السياسية في العالم الرأسمالي الغربي هي ممثلة الرأسمال والمدافعة عن مصالحه وهذا ما أشرت إليه ضمنا عندما تحدثت عن "السترات الصفر". أي أن المجتمع المدني يدافع عن مصالح المجتمع عندما تتعرض للتهديد من طرف السلطة السياسية أو سلطة الرأسمال وهذا يظهر، على سبيل المثال، في نشاط منظمات المجتمع المدني المدافعة عن البيئة وضد المنتجات الزراعية المحورة جينيا واستخدام المبيدات السامة وغيرها كثير من القضايا التي هي حقل من حقول نشاط الرأسمال الباحث عن الربح.

 لذلك كله فإن إغراق الوعي العادي بصراع ثانوي اسمه ديني لا ديني سوف لن ينجر عنه سوى خلق حالة تضاد موهومة وهنا مكمن الخطر لأن ذلك هو المكان الذي يلعب فيه الجهل لعبته التخريبية ذلك إن خلق التضاد هو لعبة استعمارية بامتياز وكلنا نتذكر ما ساد العراق من صراع يساري قومي أغرق البلد بالدماء وعطل تطوره وهو ما يعمل البعض على إحياءه بصورة جديدة ويوهم الناس العاديين به مستغلا تذمرهم. ومن الغريب في الأمر هو أننا لا زلنا قد خرجنا للتو منتصرين على محاولة شقنا على اساس مذهبي فتبرز لنا هذه الشعارات المفرقة.

غير أن الذي يبعث على الاطمئنان هو أن الأحزاب الدينية، ليس في العراق وحسب، لم تسمح لنفسها بالانجرار نحو معركة مفتعلة رغم ما تتعرض له من هجوم لا ينقطع. قال أحد زعماء حركة النهضة التونسية (حركة إسلامية) في مقابلة تلفزيونية جمعته مع "علمانيين" و"مدنيين" معروفين بتهجماتهم اليومية عليها:

 لو كانت "النهضة" غير موجودة في الحياة السياسية لجلس أكثر من 80 بالمائة ممن يمتهنون السياسة ومن المحللين السياسيين في منازلهم لأنهم سوف لن يجدوا شيئا يتحدثون عنه.

 

ثامر حميد

 

في المثقف اليوم