قضايا

جامعة القاهرة على خطى طه حسين

عبد السلام فاروقلعلنا نذكر رواية (قنديل أم هاشم) للعبقري يحيي حقى.. تلك التى شهدت مواجهة بين العلم والجهل، أو بين الطب الحديث والطب الشعبي الموروث المرتكز على الحجامة والعطارة وأساليب العلاج البدائية. فى ذلك العهد البعيد منذ أكثر من مائة عام كان العلم قاصراً على الصفوة من القادرين، ولم تكن هناك سوى مدرسة طب واحدة أنشأها محمد على ثم أغلقها الخديوى محمد سعيد عام 1850. ومع تزايد صيحات المقاومة خلال فترة الاحتلال نادى مصطفى كامل بإنشاء جامعة وطنية عام 1904، ورفض الإنجليز . وقتها لم تكن هناك سوى بضعة مدارس عليا متخصصة لا يزيد عدد الدارسين بها جميعاً عن 1000 طالب! وكان الاعتماد حينئذ على المدارس الفنية والصناعية لتخريج الكوادر التى يحتاجها سوق العمل.

قويت النزعة الوطنية عقب حادثة دنشواى واستقالة اللورد كرومر، فأصر المصريون على افتتاح اكتتاب عام لإنشاء جامعة أهلية، فبادر وقتها أحد أثرياء بنى سويف هو  "مصطفى كامل الغمراوى" فتبرع بمبلغ خمسمائة جنيه، وأوقف ستة أفدنة لإقامة الجامعة المصرية  التى تم افتتاحها فى ديسمبر 1908، وبلغ إجمالى الدارسين بها من المنتظمين والمنتسبين نحو 2700 طالب!

بعد هذا التاريخ بنحو خمسين عاماً وصل عدد الكليات بالجامعة حوالى 12 كلية، وتم افتتاح فرع لها بالخرطوم عام 1955، وكان عدد الجامعات – عدا الأزهر-حينئذ 3 جامعات، بلغ إجمالى الدارسين بثلاثتهم نحو 58 ألف طالب.

تطور التعليم كثيراً خلال تلك الحقبة على يد الوطنيين والمثقفين المخلصين أمثال أحمد لطفى السيد، الذى كان أول رئيس لجامعة القاهرة بعد ثلاثة من الأمراء هم: (أحمد فؤاد، وحسين رشدى، ويوسف كمال). ثم (طه حسين) الذى تولى وزارة المعارف فى مطلع الخمسينات، فعمد لجعل التعليم الابتدائى مجانياً عام 1944، ثم أعلن مجانية التعليم الثانوى عام 1951، وتوسع فى إعفاء الطلبة الجامعيين من المصروفات.. ومنذ ثورة 1952 بات التعليم العالى تعليماً قومياً بعد أن كان قاصراً على فئة الأثرياء من علية القوم.

وخلال ما يقرب من سبعين عاماً تطور التعليم العالى وشهد توسعاً هائلاً أفقياً ورأسياً، حيث وصل عدد الكليات بجامعة القاهرة وحدها إلى نحو 30 كلية ومعهد متخصص، ونحو 150 ألف خريج سنوياً، هذا إلى جانب مراكز البحوث والدراسات المتخصصة التابعة للجامعة .

مؤخراً، وبالتحديد فى مارس من هذا العام، جاءت مبادرة رئيس جامعة القاهرة ودعوته لحث العقل الجمعى المصرى على التطور، من خلال مشاركات أكاديمية ومجتمعية وإعلامية موسعة. وعلى إثر تلك المبادرة أُقيمت عدة ندوات تناقش الموضوع الذى ما زال مطروحاً بأبعاده التنظيرية والبحثية، بحثاً عن أرضية تنفيذية له فى المستقبل.

تشكيل العقل الجمعى.. مهمة مَن؟

حسناً فعل الدكتور محمد عثمان الخشت بدعوته تلك.. لكن هل بإمكانه وحده القيام بمهمة تشكيل وعى مائة مليون مصرى أو حتى 10% من هذا العدد؟!

طه حسين كان وحده عندما قرر إعلان مجانية التعليم ليفتح الباب واسعاً أمام الجميع لينهلوا من بحور العلم كيفما شاءوا، لكن اتضح بعد مرور نصف قرن أن التعليم وحده لا يكفى، وأن أسواق العلم والعمل اليوم تتطلب ما هو أبعد من مجرد تكديس العقول بمعارف نظرية جامدة . نحن الآن تجاوزنا عصر الفضاء والثورة الصناعية إلى عصر الثورات التقنية والبيوكيميائية، وبعد أن ذهب انبهارنا بسرعة الطائرة والصاروخ، أفقنا على ثورة ليزرية تنطلق بسرعة الفيمتو ثانية، وليس ببعيد أن تنطلق بنا آلات الغد بسرعة الضوء لا بسرعة الصوت !

والسؤال الذى طرحه الدكتور عثمان الخشت هو : أين نحن من كل هذا؟ هل سنظل أبد الدهر عالماً ثالثاً يستهلك ولا ينتج؟ هل سنظل نخطو ونحن مكبلين بموروثات فكرية تشدنا إلى الوراء بينما العالم الأول تجاوزنا بتطوره التكنولوجى بآلاف الأميال، فمتى سنلاحقه؟

مبادرة الخشت تستحث الأفراد والمؤسسات المعنية بالتعليم والثقافة للمشاركة فى نهضة مجتمعية تنطلق من وعى المجتمع بالتحديات المستقبلية . ومنها التحدى الاقتصادى . فالنهضة الاقتصادية لا يمكنها أن تنطلق إلا من خلال الأساس العلمى والتقنى.

هو مشروع طموح متعدد الأبعاد والرؤى والمآلات، وهو فى حاجة إلى تضافر الجهود وتشابك الأيدى والعزم على الاستمرار رغم العراقيل. وكل مشروع طموح لا بد أن يواجه فى بدايته متاعب ومشكلات، ومهمته الكبري تكمن فى مواجهة المشكلات وتجاوز العراقيل.

لم تكن جامعة القاهرة وحدها حين بادرت ودعت، فهناك من استجاب، وهناك جهود أخرى فردية من هنا وهناك .. جامعة الأزهر على سبيل المثال، أخذت على عاتقها أن تشارك بما تستطيع فى إعادة توجيه الفكر الدينى نحو الاتجاه الوسطى المعتدل، وهى خطوة أولى ضرورية من أجل تهيئة الفكر الجمعى لفكرة العولمة وضرورة مواكبة حركة التطور العلمية والتقنية الهائلة.

هناك جهود ثقافية تقوم بها مؤسسات ثقافية عدة، كالهيئة العامة للكتاب، وهيئة قصور الثقافة، من أجل امتصاص الطاقات الإبداعية للشباب، وبث الفكر التنويري الحداثى.. لكنها ما تزال أدوار،مهما عظمت، مشتتة وقاصرة عن إحداث حراك مجتمعى ملموس.

الدور الإعلامى.. أخطر الأدوار وأشدها نفاذية

العالم بأسره يتجه اليوم نحو الفكر التفاعلى .

لا أحد بإمكانه أن ينزوى فى ركن قصي يقرأ ويؤلف ويبدع ويخترع، ثم يخرج على الناس بشئ جديد . العلم المعاصر هو علم تبادلى متجاوز للحدود، وبإمكان العامل فى الصين أن يتقن صناعة أدق تكنولوجية أمريكية دون الحاجة للسفر أو مغادرة مقعده . فالعلم يأتيه سهلاً ميسوراً، والتجربة وحدها هى التى تمنحه الخبرة، وحينما يطور أدواته ويضيف للصناعة الأمريكية التى اقتبسها بالأمس فكرة جديدة  فإنها تنتقل بسرعة عبر الأثير الإليكترونى وتتلقفها الأيدى العاملة فى كل مكان . هكذا تتطور الصناعات التكنولوجية بشكل يومى عبر الحدود بسرعة خرافية، بحيث نشهد فى كل ساعة منتجات أكثر تطوراً وحداثة.

مؤسسات الصحافة ومعها دور النشر المحلية والعالمية باتت تخشى أن يأتى اليوم الذى تختفى فيه الكتب المقروءة اكتفاءً بالكتاب الإليكترونى. حتى أن التعليم فى أكثر من دولة بات يعتمد على الكتاب الإليكترونى التفاعلى . فلا حاجة الآن للتلقين والتلقى السلبي، بل لا بد من المشاركة والتعاون والتفاعل والبحث والتساؤل، حتى لا ينفصل طالب العلم عن واقعه المعاصر، ويغدو فى النهاية كياناً جامداً يلفظه سوق العمل الذى لا يعترف سوى بالكفاءة العملية والخبرة التجريبية.

الإعلام يتمتع بمزايا لا يحوزها غيره، كمؤسسة تثقيفية وفكرية بعيدة الأثر. وأخطر مزاياه قدرته على إنشاء جسور تفاعلية بينه وبين الجمهور، سواءً كان الجمهور قارئاً أو مستمعاً أو مشاهداً.

المشاركة المجتمعية والدور الإنسانى الفعال

يكمن السر فى خطورة الدور الإعلامى أن بإمكانه دائماً تحريك الرأى العام .

هناك كتاب مهم تُرجم مؤخراً بعنوان: (الأخبار والرأى العام، تأثير الإعلام على الحياة المدنية) يؤكد أن الأخبار اليومية  لها دور فى تشكيل الوعى، ناهيك عما تتضمنه الصحف من محتوى تثقيفى وأدبى وفنى . ولو عدنا القهقرى لليوم الذى قرر فيه المجتمع المصرى أن يكتتب لينشئ جامعة وطنية أهلية تكون نواة لتعليم جامعى راقى، لا بد حينئذ أن نتساءل: هل فعلها المصريون فجأة، أم بفضل دعوة قديمة لمصطفى كامل تناولتها الصحف والمنابر حتى وصلت إلى مواطن سويفي قرر أن يأخذ زمام المبادرة ويخلد اسمه بمثل هذه المشاركة الفاعلة.

مبادرة الخشت لا ينبغى لها أن تحجل على قدم واحدة، بل لا بد لها من ألف ساق أخرى تركض بها إلى عالم الواقع، فتتحول إلى مشروع تنفيذى ينهض به المجتمع ذاته دون انتظار لقرار وزارى أو تمويل حكومى قد لا يوجد.

إن مشروع تطوير العقول كما أفهمه ليس مشروعاً تثقيفياً فوقياً يلعب فيه المثقفون دوراً تنظيرياً متعالياً، بل هو مشروع شعبي عملى يهدف للقضاء على البطالة بتحويل مصر إلى عقل صناعى تقنى كبير.

إنها مبادرة للبحث عن طريقة لملاحقة الرَكب الحضارى، ولتحسين أحوال الناس المعيشية بإنشاء مشروع قومى عام يستوعب طاقات المصريين الإبداعية والفكرية والبدنية . فتطوير العقل المصري الجمعى معناه حسن استغلال اللحظة الحاضرة للاتجاه للمستقبل.

لماذا الخشت؟ ولماذا الآن؟

مما لا شك فيه أن مصر، بل ومنطقة الشرق الأوسط بأسرها، مقبلة على وضع إقليمي ودولى مختلف وغامض. هناك قوى عالمية تأفل وتضعف، وقوى أخرى تصعد وتستحوذ لنفسها على مساحات جديدة من النفوذ . والأحداث الإقليمية الملتهبة المتقلبة تفرض على الراغب للبقاء قوياً ثابتاً أن يبحث لنفسه عن مستقبل.

الآن وليس فى الغد ولا بعد غد.. فلا وقت هناك للتوانى والتخاذل والتردد فى اتخاذ القرارات ووضعها موضع التنفيذ. مصر تبحث لنفسها عن موضع قدم فى الخارطة الصناعية والتقنية العالمية، ولن يحدث مثل هذا الأمر من تلقاء ذاته، بل لا بد من فعل ملموس وحقيقي يحقق مثل هذه النقلة .

الدكتور محمد عثمان الخشت لم يكن بعيداً عن مثل هذه الفكرة ولم تطرأ له فجأة، بل كانت تشغله منذ بداية حياته الفكرية، منذ أن كتب عدة مؤلفات عن تطور الأديان، وعن المجتمع المدنى وتفاعلاته مع الدولة، وعن أخلاق التقدم . ما دفع الباحثين لإصدار دراسة مستفيضة عن الخشت ومشروعه الفكرى لتجديد العقل الديني فى 2018، أعدها نحو 24 باحثا وباحثة مصريين وعرب تحت عنوان : " تجديد العقل الديني في مشروع الخشت الفكري"، وصدرت الدراسة فى كتاب من تحرير غيضان السيد.

هى إذن ليست مبادرة طارئة يراد لها أن تحقق بعض الصدى الإعلامى، بل مشروع فكرى منهجى يحتاج لتبنيه من جانب المثقفين والإعلاميين، لتحقيق حراك مجتمعى يهدف لتطوير العقل الجمعى المصرى تطويراً من شأنه أن يحدث نقلة نوعية فى الواقع الاقتصادى والمعيشي للمصريين .

لم تنطلق مبادرة الخشت فقط لكونه رئيس أكبر وأعرق جامعات مصر، بل لأنه قبل ذلك أستاذ فلسفة الأديان والمذاهب الحديثة، وله عدد كبير من المؤلفات فى شتى المجالات الفكرية والفلسفية والسياسية. ما يعنى أن مشروعه الفكرى ينبثق من مسئوليته كمفكر وقيادى فى الاضطلاع بدوره فى تشكيل الوعى القومى .

فضاءات التطوير وآفاق التعاون المشترك

أكبر العراقيل التى قد تصادف مشروعاً كهذا أننا لا نتمتع بثقافة العمل الجماعى .

المنظومة الإدارية التى جثمت عليها منذ الأزل أشباح الروتين والبيروقراطية والتزمُّت والفردية حوَّلت القطاعات الإدارية إلى جزر منعزلة لا تناغم أو تعاضد فيما بينها .

مشروع تطوير العقول مشروع جماعى يستلزم تكاملاً بين عدد من المؤسسات الفكرية والصحفية والثقافية والتعليمية والإعلامية من أجل تحقيق نهضة مجتمعية حقيقية.

هناك دعوة أُعلنت، وأبحاث كُتبت، وندوات أقيمت . فهل هذا يكفى؟

التعاون مطلوب من أجل توفير التمويل لوضع المقترحات المطروحة قيد التنفيذ .. ثم أن الاستمرارية والديمومة هى الفيصل بين أن يظل المشروع حياً ولو نظرياً لحين تنفيذه، وبين أن يُطوى فيُنسَى.

 

عبد السلام فاروق

 

 

في المثقف اليوم