قضايا

نحو نخبة جديدة (1): عودة الحرافيش.. آخر صيحات السوسيولوجيا المصرية!

عبد السلام فاروقكلام قديم جديد: حول عقم النخبة المثقفة عن أن "تلد" فكراً جديداً يواكب موجات التطور الهادرة التى تجتاح العالم من أدناه إلى أدناه. وعن حاجة تلك النخبة إلى أن " تئد" أفكارها القديمة وتعيد تقديم ذاتها بفكر مغاير مواكب لما هو قادم من تغيير . أو أن تفسح المجال لمن يستطيع!

 منذ أواخر القرن العشرين، ومع تحولات السياسة العالمية فى أعقاب حرب العراق والتهاب الأوضاع فى منطقة الشرق الأوسط، وانحسار اليسار أمام عنفوان التيار الليبرالى الهادر. بدأت مناقشات جدلية بيزنطية تدور فى دوائر وحلقات مفرغة من النقد والنقد المضاد حول ما يُدعَى "موت الأيديولوجيات" و"نهاية المثقف"، والسبب هو تداعِى دور المثقف وانهيار ثقة الجماهير فى النخبة الفكرية التى تتقدم الصفوف دون أن تقدم شيئاً.. تبلورت تلك المناقشات والأفكار فى عدة إصدارات مهمة كان أولها كتاب "صور المثقف" لإدوار سعيد، وكتاب "أوهام النخبة" لمؤلفه "على حرب" وكلاهما صدر فى عام 1997، وأثار الكتاب الأخير ردوداً واسعة من طوائف المثقفين والنخبويين المدافعين عن مواقعهم كقادة للرأى والفكر، حتى بعد ثبوت خواء مشروعهم الفكرى وانعدام قدرته على طرح حلول واقعية أو حتى نظرية مقنعة للناس.

 اليوم تعود المناقشات بشكل تدريجى وعلى استحياء، لكنها أقوى وأشد وقعاً من سابقتها التى اقتصرت فى السابق على منتديات الخاصة من المثقفين، بينما هى الآن تدور فى عقول أصحاب القرار، بل وعلى ألسنة العامة !

فلماذا تعود تلك الفكرة للظهور الآن؟ وما مآلاتها؟ 

انهيار الإيديولوجيات ..

أثبتت التجربة أن النضال الفكرى تجاه أباطرة الكربوقراط والرأسمالية الموجَّهة تحت غطاء صاروخى نووى نضال عبثى لا يفيد فى قليل أو كثير . وأن قوة الفكر تفتقر إلى فكر القوة، والقوة هنا هى قوة المادة والإمكانية والمنتَج والثروة. لهذا نرَى كيف أن التنين الصينى لا يعتمد فى مواجهة الإمبريالية الغربية والفكر المهيمن على الأسواق العالمية لدى الشركات الأمريكية العابرة للقارات سوى فكرة الطفرات الاقتصادية بمشاريع عملاقة كمشروع طريق الحرير الذى سيغير وجه التجارة والاقتصاد فى العالم كله. والحرب التجارية التى يشنها ترامب ضد الصين ليست إلا إرهاصات ذعر مستقبلى من هذا المشروع التجارى العملاق!

 السؤال الذى يعاود فرض نفسه بإلحاح: ما دور المثقف العربي فى هذه المعمعة ؟

دور المثقف باعتباره قارئ متحقق مدقق لا للواقع وللفكر الحديث فقط، بل هو قارئ بالأساس للمستقبل ومتنبئ بالأخطار المحدقة بمجتمعه استناداً لمعارفه الواسعة وقراءاته المتجددة، إنه يلعب دور أجهزة الاستشعار المناخية والجيولوجية، لكنها قراءة لجيولوجيا السياسة ومناخ الفكر الاجتماعى والاقتصادى والتنموى. مثل هذا الدور أين هو الآن فى بيئتنا الثقافية العربية المنشغلة بالنظر خلفها أو تحت قدميها ؟ أين المهتمون باستقراء الواقع انطلاقاً منه نحو الغد بدلاً من المهتمين بجيوبهم وأحوال ذويهم تحت شعار “أنا ومن بعدى الطوفان"؟!!

 الانفصال الذى حدث بين الطليعة والجمهور لم يحدث من فراغ، ولا حدث فجأة بين يومٍ وليلة. بل هو تدهور تراكمى مرجعه أن الجمهور لم يعد يثق فى رؤية النخبة ولا فيما تقدمه من أفكار مستهلكة بالية أو سريالية مغرقة فى الخيال والوهم. وفى خضم الواقع الاقتصادى الضاغط يكون من الطبيعي جداً أن يتخلى الجمهور عن نخبته الطليعية، لأنها بادرت بالتخلى عنه وعن متطلباته وتطلعاته.

القدامَى والجدد.. لا يوجد كشف نهائى!

قد يتبادر سؤال مُلحّ لدى المنتمين للثقافة وهم ليسوا من النخبة: مَن يمتلك كشف تعيين المثقفين النخبويين؟ وهل النخبوية هنا مصطلح أكاديمى أم بيروقراطى أم براجماتى؟ وهل يمكن للنخبة أن تعيِّن نفسها بنفسها وتكتسب صفة النخبوية قسراً فتفرض نفسها على الواقع الثقافى فرضاً؟ وكيف يحدث هذا؟ وما السبيل لإجراء عملية "إحلال وتجديد" لهذه النخبة؟!!

إن شجرة الثقافة العربية العتيقة لم تعد كالسابق، اختنقت الشجرة الأم وكادت ثمارها تنعدم وسط شبكة معقدة شديدة الالتفاف والتشابك من نباتات متسلقة دخيلة . وانقسمت الصورة إلى جيل قديم يحن إلى زمن سابق لعبت فيه مصر دوراً ريادياً فى مجال الثقافة، جيل يكاد يختنق ويأفل أمام جحافل المتسلقين وأشاوس المنتفعين الراغبين فى هدم كل ما هو جميل ليبقوا هم وما يقدمونه من قبح وخواء. والخطورة تكمن لا فى كونهم يمثلون صورة خاطئة ومغلوطة عن الثقافة المصرية، مجرد واجهة زائفة لحقيقة تستحى أن تعلن عن نفسها . لكن مكمن الخطورة الحقيقية أن النخبة الثقافية المهيمنة على الساحة الفكرية بإمكانها التحكم فى قنوات التدفق الفكرى بحيث تغلق جميع المنافذ التى تهدد وجودها . ما يعنى أن المنافسة غائبة بالضرورة، لأن الغث هو الذى يسود فوق ما هو أشد ضحالة، إنها منافسة بين أشباه المثقفين وأدعياء الفكر، حيث لا يبقَى فى الواجهة إلا ما يؤكد وجودهم وأحقيتهم فى هذا الوجود، وأنهم البديل الوحيد للفكر والثقافة . والسبب أنهم حجبوا أى بديل حقيقي ليبقوا هم .

غير أن الواقع الثقافى المفكك المتداعِى يشى بأن الأرض باتت قابلة لانغراس بذور جديدة جيدة وخصبة عساها بشئ من الإصرار والجهد المخلص أن تنمو وتثمر كأشجارٍ سامقة عالية القمة لا تعبأ بكمأة اللبلاب المتسلق المتهالك.

مناورات النخب

العقبة الكبرى التى واجهت محاولات تخليق نخبة ثقافية بديلة هى أن شيوخها ورموزها من أساطين التفلسف وكهنة الفكر امتلكوا أدوات الالتفاف وأسلحة المناورة ضد أى محاولة لزحزحتهم عن الساحة .

فبينهم مَن تمرَّس على الجدليات النضالية الفلسفية التى تبدأ من حيث تنتهى! باستطاعته أن يثبت الشئ وعكسه بسهولة ويسر ليثبت وجهة نظره ويؤكد خطأ الآخرين، ولديه من مفردات القاموس الفلسفى المغرق فى التعقيد ما يجعله قادراً على الدوران بالأفكار فى دوائر مفرغة تنهك مَن يقع فى شرَك الجدل معه!

صنف آخر من النخبة يبدو كالدب الشرس المدافع عن حماه والمتحفز ضد أى عدو يهدد منطقة نفوذه..وله فى ذلك المنحَى أسلحة وأنياب ومخالب. مبدؤه العام الإقصاء درءاً للمتاعب وإيثاراً للسلامة، لا يخاطر بالدخول فى أى منافسة من شأنها أن تكشف ضعف منطقه وزيف موهبته وضحالة ذاكرته المعرفية. يروج لسلعته الثقافية مهما كانت كاسدة بكل وسيلة، ويذود عن مكتسباته ومكانته بكل ما يملكه من قوة عقلية وبدنية. مثل هذا الصنف لا يمكنه السماح بوجود منافسين أو مناهضين لمشروعه الثقافى المزعوم، ولا يمكن مناقشته فى إمكانية وجود تنوع فى الحقل الثقافى لإحداث التوازن، مثل هذا الصنف هو الأسوأ والأكثر انتشاراً والأشد مقاومة لأى محاولة لتغيير بنية الهيكل الثقافى.

إن أسوأ خصال النخبة المثقفة أنها نخبة نرجسية متعالية تنظر للعامة والدهماء نظرة احتقار رغم ادعاء الدفاع عن الحريات والحقوق والمبادئ العليا. فهم الطليعة المختارة المصطفاة، وهم صفوة الصفوة وخاصة الخاصة، يرون أنفسهم أنبياء هذا العصر المبشِّرين بالعدل والقيم والحرية، العارفين بأسرار الحقيقة ومجاهلها، المدركين لمصالح الجماهير الكادحة أكثر من الجماهير أنفسهم! فهم الأعلم والأقدر والأوعَى والأسبق. إنها كذبة كبرى وفرية عظمى تنغمس فيها النخبة حتى الثمالة، يعيشونها فيصدقونها ويتلبسون بها!

لا تنتظر من المثقف النخبوى مناقشة موضوعية أو قدرة على تغيير ذاته ومراجعة نفسه وإعادة تدوير أفكاره الآسنة. لأنه مقتنع وموقن بأفضليته ونخبويته التى تجعل من مناقشته إياك انتقاصاً لمكانته!

إعادة بناء المجتمع الثقافى

عالم نجيب محفوظ الروائى زاخر بحكايات مصرية تراثية جسدت الشخصية المصرية البسيطة بكل ما فيها من مزايا وعيوب. غاصت رواياته فى دروب القاهرة وأحيائها، وغصّت بنماذج اجتماعية شتّى . واستأثر نموذج حرافيش القاهرة بالنصيب الأوفر من الوصف والإضاءة والتركيز، لأنه يمثل تجليات الشخصية المصرية بكل تناقضاتها وتعقيداتها المتراكمة عبر التاريخ .

المجتمع المصري يتميز تاريخياً بأنه مجتمع هاضم لكل الثقافات، حتى الثقافات الاستعمارية التى قامت باحتلاله لعدة عقود، هضمتها الشخصية المصرية وأعادت إفرازها وإنتاجها فى شكل فنون وأدبيات متباينة منوعة الاتجاهات والمشارب.

المُلاحَظ اليوم أن المجتمع المصري يعيد اكتشاف وتدوير نفسه بدءاً من القاع. فالفنون الشعبية الآن هى الأكثر رواجاً وانتشاراً، واللغة الشبابية المرنة هى الأكثر تداولاً أو "تلاسناً"، والعامية فى الأدب والرواية هى الأشد قَبولاً والأكثر مبيعاً. ما يبدو فى أنظار البعض فوضَى وارتباك هو عَين الانتظام والترتيب. فالمجتمع يقوم بعملية هضم جديدة يلوكُ فيها كل ما هو جديد، ليطرد ما لا يستساغ ويُبقِى ما يحب.

ومن بين المهام التى يقوم بها المجتمع اليوم مهمة الإزاحة الذكية والنبذ الهادئ للمجتمع النخبوى. بدأ الأمر منذ نحو عقد من الزمان مع ازدياد الوعى وانخراط الناس فى الواقع والأحداث. بدأ أولاً بسلاح التجاهل والانصراف عن الاستماع للخطاب الثقافى المكرر. ثم أتت موجة الأدب العامى والفن الشعبوى كتعبير عن رفض العامة للأدب النخبوى. إنه إعلان صامت له مغزى وصدى وتأثير. مفاده أن المجتمع يبحث عن أدب جديد وفن مختلف وطرق أخرى للتعبير لا يملك المثقفون المحنطون القدامَى شيئاً من أدواتها وآلياتها.

حرافيش القاهرة هم اليوم بناة المجتمع الثقافى النخبوى . أذواقهم الفنية والأدبية هى التى تفرض كلمتها على الساحة الثقافية الفارغة من أى مضمون الخالية من أى رؤية أو مغزى أو هدف. هؤلاء الحرافيش هم الأقدر على إزاحة النخبة المثقفة ونبذها على الطريقة المصرية.

نكون أو لا نكون..تلك هى المعضلة

مخطئ مَن يتصور أنه البديل المناسب للنخبة . فالحل الأمثل لإزاحة النخبة هو هدم مبدأ النخبوية من الأساس . لأنه مبدأ عنصري يخلق فروقاً طبقية بين أفراد المجتمع الواحد فيحوّل مجتمع الصفوة إلى ملائكة وأنبياء وبشر فوقيون يعيشون فى بروجهم العاجية بعيداً عن العامة والغوغاء. فيتحوّل الجمهور بالتبعية إلى قطيع يُساق .

مجتمع بلا نخبة هو مجتمع يعترف بالاختلاف والتنوع ويبغض التمايز والطبقية. واعتراف المثقفين أنهم لا يحتكرون الحقيقة ولا يملكون صولجان المعرفة ولا مفتاح الخلاص والنجاة هو بداية الطريق إلى خلق نخبة من صفوف الجماهير أنفسهم، حيث تصير النخبة والجمهور شيئاً واحداً لا تمايز فيه ولا اختلاف.

ثمّة أسس خمسة لبناء مجتمع ثقافى جديد سليم الرؤية والنزعة والاتجاه.. تلك الأسس هى:

1- المثقفون القُدامَى: عليهم أن يتحلوا بالشجاعة الأدبية من أجل الاعتراف بفشلهم الذريع فى إنتاج رؤية فكرية يبتلعها الجمهور وينقاد لها. ومن منطلق هذا الاعتراف يعيدون تقديم أنفسهم بإسهام جديد وثوب عقلى وفكرى مواكب للتغيرات الجذرية المجتمعية المعاصرة.

2- المثقفون الجدد: لديهم الحق فى ملء الساحة الثقافية لإزاحة النخبويين القُدامَى.. هذا حقهم، فالجيل القديم لا يريد أن يسلِّم الراية للجيل الجديد من المثقفين، وعلى الجيل الجديد أن ينتزع الراية انتزاعاً. ثم ينضم للجمهور وينطلق معه نحو بناء مجتمع ثقافى سليم الجسد والعقل.

3- المسئولون: لديهم الفرصة السانحة لتحقيق إرادة جمهور يئس من نخبته الثقافية الهشة ويتطلع لظهور وجوه جديدة وإنتاج أفكار متطورة مسايرة للعصر. المسئولون وحدهم قادرون على تحويل الفوضى الفكرية والمجتمعية إلى منظومة متكاملة فاعلة.

4- المفكرون والنقاد: من غير النخبة، لا بد لهم من الانخراط فى خلق حالة من النقاش الجاد حول تلك القضية الحيوية. والاستعداد للاشتباك الفكرى مع النخبة المثقفة التى لا بد أنها ستدافع عن مكتسباتها بكل قوة.

5- الجمهور: قادر دائماً على أن يكون رقماً ثقيلاً كبيراً فى معادلة الفاعلية والتأثير. ولا بد أن يختار الجمهور مَن يمثله ثقافياً فى مرحلة فارقة من تاريخ الأمة.

 

عبد السلام فاروق

 

 

في المثقف اليوم