قضايا

حجابٌ بلا عزلة وسفورٌ بلا تبرُّج (5)

عصمت نصارلم يقتنع «المنفلوطي» بما كان يردّده العوام من الرجعيين تجاه المرأة، مثل اعتبارها مخلوقًاً ناقصًاً وضلعًاً أعوجَ لا سبيل لإصلاحه وعقلًاً أحمق لا يقودها إلّا لأبشع الرذائل بدايةً من النميمة والخبث والكذب والتطفل، وانتهاءً بالخيانة والعُهر، وأن تديّنها لن يعصمها من الكفر بالنعمة والتمرد على الضيق والشدائد، والطمع فيما يمتلكه الآخرون.

وقد صَرَّح بذلك خلال قصته (الزوجتان) تلك التى تحدث فيها عن إحدى الفتيات الصالحات التى تربّت في بيتٍ فاضلٍ وتعلمت من والدتها فن إدارة المنزل ورعاية الزوج والأطفال، ذلك فضلًا عن الأدب الجَم وجميل الطباع، فشَبّت متطلعة لزوجٍ تقى تشاركه في بناء بيت قوامه المحبّة وأساسه الرعاية والاحترام؛ فتخيّر لها والدها من بين خطابها رجلً ظن فيه التقوى والعلم والصلاح وعاش الزوجان في هناءٍ وسعة.

حتى تعرض الزوج لضائقة مالية؛ فلم تبخل عليه بمالها غير أنه راح ينفق ببذخٍ على المكروهات من اللذات وقاده شيطانه إلى التطلع على الأخريات من النساء وراح يقارن بين زوجته المحافظة وغيرها من المتعلمات والمتبرجات والمترددات على الصالونات الأدبية والبارعات في الحديث عن أمور الاجتماع والفن والسياسة.

فراح يندب سوء حظه في زوجته ولاسيما بعد أن رُقّيَ في عمله إلى منصب قيادي فهجر بيته دون راعٍ أو حارسٍ ولم يبالِ بمصير ابنته الرضيعة التى حملتها أمها بحثًاً عن أبيها الغائب فأرشدها بعض معارفه لمسكنه الجديد الذى تزوج فيه من إحدى الفتيات المتفرنجات.

ولم يُجابه الزوج الغائب عند رؤية زوجته إلا بالزجر واللوم على مطاردتها له ثم انتهى الأمر بتطليقها.

ثم رزقها الله برجلٍ أفضل منه، أمّا الزوج المتمرد فراح يتجرع كأسُ الغيرة ويعانى من الصراع النفسي من جرَّاء تصرفات زوجته التى انتحلت عوائد الأوروبيات.

ويخّلص مفكرنا من هذه الأقصوصة التى ساقها خلال حديثه عن طباع النساء إلى عدة حقائق أراد ترسيخها في العقل الجمعي عوضًاً عن الانطباعات الفاسدة والتصورات الخاطئة عن المرأة، فبيّن أن الثقافة والتربية والاستعداد النفسي من أهم العوامل التى تؤثر تأثيرًاً مباشرًاً في تنشئة الإنسان بوجه عام.

والمرأة لا تقل استعدادًاً عن الرجل للتشكُّل والتلوّن والتطبّع تبعًا للبيئة التى تنشأ فيها، بل إنّ المرأة في كثير من المواقف تكون أميل إلى الحسن من السلوك والجميل من الطباع وذلك تبعًاً لعواطفها ومشاعرها الراقية، ومن ثم لا مجال لاتهام المرأة بنعوتٍ لا تنطبق على الرجال؛ فكلاهما ابن البيئة والتربية والثقافة والممارسات والخبرات وتحصيل المعارف هو المعيار الذى يحتكم إليه للمفاضلة بين الجنسين.

ذلك هو ما أراده «المنفلوطي» ولخصه في مقولةٍ أوردها على لسان بطلة قصته التى تقول فيها «لا تغضب يا سيدي إنْ قلت لك إنّ قلب الرجل متقلب، متلون يسرع إلى البُغض كما يسرع إلى الحبّ، وإن هذه المرأة التى تحتقرونها وتزدرونها وتضربون بها الأمثال بخفة عقلها وضعف قلبها أوثق منه عقدًاً وأمتن ودًاً وأوفى عهدًاً ولو وفى الزوج لزوجته وفاءها له ما استطاع أن يفرِّق بين قلبيهما إلا حوادث الدهر».

ويناقش مفكرنا قضية الخيانات الزوجية وتطلع المرأة إلى آخر قد تعرّفت عليه ففاضلت بينه وبين حليلها، فوجدته أقدر على تلبية ما كانت تطمح إليه وتحلم به (الشباب، الوسامة، القوة، حلو الكلام، لطيف المعشر، رقيق المشاعر، السخاء، والثراء ...) وذلك في قصته (الحبّ والزواج).

وأكد أن مثل هذه الانحرافات لا تقع فيها النساء وحدها بل الرجال أيضًاً ويرجع ذلك لسوء الاختيار وعدم اكتمال عقل الجنسين الذى يُحتَكم إليه في المفاضلة والموازنة.

ذلك فضلًاً عن فساد البيئة وعدم تحمل مقتضيات الزواج ومسئولياته، أو تعلق أحد الزوجين بأفكار وعوائد وخصال الغرباء، الأمر الذى يفسد على الزوجين عيشهما ويبرّر لكليهما التمرد على الواقع المعيش بعد تشويهِه في أعينهما فيستبيح أحدهما الخيانة عوضًاً عن الطلاق وتبعاتِه أو المواجهة ومشكلاتها.

وقد وجّه «المنفلوطي» جُلَّ سهام النقد لأولئك الكتاب الذين برّروا في قصصهم وروايتهم الخيانة والعهر والانحراف الجنسي بحجة خلو بيت الزوجية من الحب والعشق والمرح واللذائذ المادية ووجودها في صحبة الآخرين، فها هو يعبر عن ذلك على لسان إحدى بطلات تلك الروايات التى قالت فيها «إنّ ما يسمّيه الناس بالزنا والخيانة هو في الحقيقة طهارة وأمانة لأن أساسه الحب، وكل ما أساسه الحب فهو طاهر شريف، وإن كان في أعين الناس عيبًا وعارًاً. وما الخيانة ولا الجريمة ولا الغش ولا الخداع إلا أن تعاشر المرأة زوجًاً تكرهه معاشرتها من تحبّه، فيفترشها الأول كما يفترشها الثاني، لأنها لا تكون في حكم العقل ولا نظر العدل زوجًاً له مادامت لا تحبه ولا تألف عشرته. ولو أدرك الناس أسرار الديانات وأغراضها لعرفوا أنها متفقة في هذه المسألة مع الشرائع الطبيعية وأنها ربما تَعُد المرأة في بيت زوجها زانية وفى بيت عشيقها طاهرة إذا كانت تكره الأول وتحبّ الثاني».

والغريب أن هذا الهُراء الفاحش بات يتردد على لسان الكثيرات منهن على شبكة التواصل الاجتماعي والقنوات التليفزيونية، والعجيب أن نجد بعض قادة الرأي من المشاهير يجابهون القضية بمنطق التصدي للعوارض أو الأمراض الموسمية التى تصيب الحياة الزوجية، والمثير للدهشة أن هذا التبرير يتكرّر بألفاظٍ مختلفة على لسان المثقفات والجاهلات والارستقراطيات والمعدومات والمحجبات والمنتقبات وحديثات الزواج وقديماته.

ولعلّ «المنفلوطي» قد اكتفى بتعقيبه على ذلك بنقده للمجتمع وتنبيِه الأذهان إلى هذا الخطر وذلك بقوله «لا بأس أن يتثبت الرجل قبل عقد الزواج من وجود الصفة المحبوبة لديه في المرأة التى يختارها لنفسه، ولا بأس أن تصنع المرأة صنيعه، ولكن لا يعنى ذلك أن يكون الحب الشهوى هو قاعدة الزواج يحيا بحياته ويموت بموته، فالقلوب متقلبة والأهواء نزّاعة بل بمعنى أن يكون كل منهما لصاحبه صديقًاً أكثر منه عشيقًاً، فالصداقة تنمو بالمودّة غرسها وتمتد ظلها أما الحبّ فظل يتنقل وحال يتحول».

والسؤال المطروح هل نعد مناقشة «المنفلوطي» لهذه القضية استشرافًاً وتوقعًاً أم عجز المرأة المصريّة المعاصرة عن تحمل مسئولية الحرية، أو سقوط ثوابتنا الأخلاقية وجميل عاداتنا الاجتماعية رغم تظاهرنا الزائف بالتديّن.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم : د. عصمت نصّار

 

في المثقف اليوم