قضايا

حجابُ بلا عزلة وسفورُ بلا تبرج (5)

عصمت نصارلم يلق «المنفلوطي» بمسئولية تثقيف المرأة وتربيتها على كاهل الوالدين فقط، بل جعل المجتمع بكل ما فيه من قيمٍ وعادات وتقاليد ونظم شريكًا في تلك المسئولية. ولم يساير الكتاب المحافظين الذين ردوا مجون النساء وفساد أخلاق بعضهن وميلهن للتبرج والخلاعة والميوعة إلى نقصٍ في عقولهن أو ميلٍ للذائذ المادية أو إفراطٍ في عشق للمتعة الجسدية.

بل كان الرجل على الرغم من إلحاحه على ضرورة التزام المرأة بفضيلة العفة وعدم إفراطها في التحرّر من قيود المخالطة طمعًا في مساواتها بالرجل في اختيار الأصدقاء والصحاب من الجنسين، كان يعتقد أن رقتها وعواطفها تؤثر على ذكائها الذى يمكنها من كشف معادن الرجال ونواياهم ويغلب حسن الظن فيهم.

فقد أكد «المنفلوطي» في غير موضع من كتابته على أن حيل الرجال للإيقاع بالمرأة في حبائلهم - باسم الحب تارة أو الصداقة العذرية - لا تنتهي، وذهب على لسان إحدى بطلات روايته (الضحية) إلى تبيان أن الساقطات أو الخليعات من السافرات لم تقدم على الفحش وممارسة الرذيلة بإرادتها بل دفعها إلى ذلك فساد المجتمع والثقافة السائدة، فتقول «ويح لكم يا معشر الرجال، ما كنت أطلب منكم باسم الفضيلة والشرف إلا رغيفًا واحدًا لغدائي وآخر لعشائي، فأبيتموهما علي، فلما طلبت منكم باسم الرذيلة جميع ما تملك أيديكم من مال بذلتموه لي طائعين مختارين فما أصغر نفوسكم وأخس أقداركم. ولقد كان في استطاعة أصغركم شأنًا، وأهونكم على نفسه وعلى الناس جميعًا أن يشترى منى جسمي وقلبي وحياتي بلا ثمن سوى الزواج منى وصيانة عرضي فلم تفعلوا، فها هم أولاء اليوم عظماؤكم وأشرافكم يجثون تحت قدمي جثى الكلب الذليل تحت مائدة سيده، فلا ينالون مني أكثر مما ينال منها. أحببتم المال حبًا جمًا فأبيتم إلا أن تتزوجوا ذات مال لتضموا طارفها إلى تليدكم، فابذلوا اليوم لامرأة مومس لا تمنحكم مالًا ولا حبًا جميع ما في أيديكم من فضة وذهب، حتى لا يبقى لكم شيء».

وأعتقد أن «المنفلوطي» في هذه القصة كان له السبق في مناقشة قضية عوز المرأة في المجتمع، فالمرأة الفقيرة واليتيمة والمطلقة والمغلوبة على أمرها في خدمة البكوات والباشوات، لم يحاول المجتمع حمايتها أو صيانة عرضها، رغم أن الديانة الإسلامية والمسيحية قد حثتا على رعايتهن وحمايتهن من مآلات العوز.

ويتعجب مفكرنا من قسوة ذلك المجتمع الذى يتشدق رجالاته بالحديث عن الشرف والعفة وحجاب المرأة وعدم سفورها، مع تجاهله ما ينبغي عليه أن يفعله تجاه تعليمها وحسن تربيتها ورعايتها وتأهيل العقل الجمعي لقبولها في سوق العمل والمشاركة الإيجابية في الأمور الحياتية. والأغرب أنه يرفض توبة التائبات منهن ويغالى المحافظون من قادة الرأي في ازدراء الساقطات ولعن المتبرجات ويقول «لو كان في استطاعة المرأة الساقطة أن تسترجع بتوبتها وإنابتها مكانتها في قلوب الناس وأن تمحو بصلاحها ما سلف من فسادها، لكانت هى أقرب النساء إلى التوبة والنزوع ولكن المجتمع الذى أسقطها وسلبها ذلك الرداء من الشرف التى كانت ترتديه، يأبى عليها أن يعيد إليها رداءها إن طلبته فلا بد لها من الاستمرار في سقوطها راضية أو كارهة وكذلك كان شأنها».

والجدير بالإشارة أن «المنفلوطي» لم يشارك في المساجلات التى دارت بين المثقفين حول قضية «السفور والحجاب» تلك التى حفلت بها صحيفتا (المقتطف والهلال) في مطلع العشرينيات من القرن الماضي (1920-1925). واكتفى بتلك الإشارات وهذه التلميحات الخاطفة - التى سوف نوردها بعد قليل - وذلك يرجع لحساسية عمله بدواوين الحكومة وخصومته مع أكابر الرجعيين الأتراك وعلى رأسهم «الشيخ مصطفى صبري (1869-1954)».

ويمكننا إيجاز موقفه من قضية تحرير المرأة في تلك الأقوال الموجزة التى أكد فيها : أنه يريد من المرأة المصرية أن تظل على عهدها المحافظ في لباسها على ألا تغالِ فيه فتنتقب أو تتبرقع وفى داخلها ميل للسفور وفى الوقت نفسه لا تتبرج شأن الأجنبيات، فتخالف بذلك ما تربت عليه وما ارتضته من آداب دينها ومجتمعها.

وأن تصبح ثورتها على الجهل والعوائد الفاسدة وتجتهد في أمرين أولهما المشاركة الإيجابية في تأسيس بيتًا تحسن فيه رعاية زوجها وتربية أطفالها دون جوّر من الرجل أو التنازل عن كرامتها.

وثانيها : أن تثبت للمجتمع أنها قادرة على الكسب والعمل الشريف، وأنها مؤهلة للمشاركة الإيجابية في الحياة العامة، دون أدنى تفريط منها في حيائها أو عفتها وألا تسمح بتجاوز الآخرين من الذكور في آداب معاملتها.

ومن أقواله في ذلك «نحب حرية المرأة ولكننا نكره فسقها وفجورها ونأخذ مواد المدنية والرقى من الأمم المتمدنة ولكننا لا نقلدها ونحب أدب الغربيين وعلمهم ونعجب بأدبائهم وعلمائهم ولكننا لا نحتقر من أجل ذلك رجالتنا وتاريخنا».

«يجب أن لا ينفتح قلب الفتاة لأحد من الناس قبل أن ينفتح لزوجها لتستطيع أن تعيش معه هانئة».

«يجب أن نحترم المرأة لتتعود احترام نفسها ومن احترم نفسه، فهو أبعد الناس عن الزلات والسقطات».

«لا يستطيع الرجل أن يكون رجلًا تام الرجولة حتى يجد إلى جانبه زوجة تبعث في نفسه روح الشهامة والهمّة وتغرس في قلبه كبرياء المسئولية وعظمتها».

وحسبنا أن نشير في هذا السياق إلى محاولة «المنفلوطي» الرائدة للتواصل مع الفتاة المصرية على وجه الخصوص بلغةٍ عاقلة بعيدًا عن لغة التلقين وأسلوب العنف الذى كانت تلاقيه من الأبوين ومن المجتمع عند التوجيه، وتشهد بذلك الأديبة اللبنانية «ماري يني (1895-1975)» التى وصفت مدى تأثرها بقصصه ومقالاته وما سرد فيها من أحداث، وتفاعلها مع المواقف الدرامية والقصص المأساوية والمواقف الاجتماعية التى كانت تعانيها المرأة الشرقية. كما بيّنت أنها كانت تُشكل الخطاب الواعي الحديث العاقل الذى كان يخاطب المرأة ناصحًا بلا إلزام ومناقشًا لقضاياها دون تعالٍ أو وصاية ذكورية فتقول «كنت لا أترك الكتاب إلا وأنا كتلة شعور تتجاذبها عوامل اليأس إلى حيث لا تجد لها مستقرًا تقف عنده، فيتمثل لي الشقاء بصوره المريعة وأظل تحت تأثيراته الموجعة منسحقة القلب، يائسة النفس إلى أن يحلني من هذا الموقف مشهد غريب الشكل والمعنى إلى سكينتي وهدوئى وراحتي». هذا هو (المنفلوطي) الذى يمتلك على قارئه شعوره، فلا يزال به إلى أن يجرده من شخصيته الحسيّة، ويحوله إلى شخصية معنوية غريبة كلها ألم ودموع. هذا هو الكاتب الذى يكتب ليصلح لا ليفسد والطبيب الذى يمد يد المواساة ليداوي لا ليسلب الجيوب».

وخليقٌ بي أن أتساءل هل في مقدور كاتباتنا قبل كُتَابِنا مخاطبة المرأة المصرية بلغة تُصلح من شأنها، عوضًا عما نراه من تمردٍ وقبحٍ في حديثها وسلوكها، وبخطابٍ يحد من عنتها وتبجحها، وأعتقد أنني لا أبالغ في زعمِ أن معظم شبيبتنا من الجنسين يحتاجون إلى كلمات «المنفلوطي».

وللحديث بقيّة في قضايا أخرى في خطاب «المنفلوطي».

 

بقلم : د. عصمت نصار

 

في المثقف اليوم