قضايا

آدم وحواء وقضية الخطيئة الأولى

عصمت نصارلقد أشرنا في المقالات السابقة إلى أن قضايا فلسفة الجنس تتصل اتصالا مباشرًا بالكثير من المباحث العقيدية من جهة، والتراث الأسطوري من جهة ثانية، والأبحاث العلمية التجريبية من جهة ثالثة، والنظريات الجامعة بين السياقات العلمية والثقافات السائدة من جهة رابعة. وتعدُّ قضية وجود آدم وحواء على الأرض من أهم تلك القضايا التي يطرحها السياق الذي نحن بصدده ألا وهو الحكم على فعل الجنس بوصفه مقدسا أو مدنسًا، ولتشعب الركام المعرفي حول هذه القضية سوف نحاول في عجالة إيجاز ما طرح حولها للكشف عن ماهية الرغبة الجنسية التي قام بها آدم وحواء معًا متتبعين السياقات والبنيات الثقافية الموروثة التي جعلت من الممارسة الجنسية الأولى بين آدم وحواء خطيئة استوجبت العقاب باعتبارها دنس، وهى في الوقت نفسه ينظر إليها على إنها قدر إلهي محاط بالبركة والقداسة لأنه يحقق المشيئة الإلهية على الأرض.

تروي الأساطير السومارية الموغلة في القدم أن الملائكة وصغار الآلهة أعيتهم كثرة الأعمال المكلفين بها من قبل الآلهة الكبار  فسألوا الإلهة "نمو" (وهي الإلهة الأم الأولى التي أوجدت سائر الأرباب وهي تمثل الخضم المائي السرمدي الأزلي الأبدي المسئول عن الخلق والقدر، ومن أبنائها "آن" إله السماء و"كي" إلهة الأرض، وابنهما الإله "أنليل" إله الهواء وهو ابن السماء والأرض").

فرقت لدموع الملائكة تلك التي ملأت كفها واستشارت أبنائها فاقترحوا خلق كائن جديد من الطين مزود بقدرات فائقة ومجمل بصورة تشبه الآلهة ليحمل عبء تنفيذ الأوامر الإلهية التي لم تقدر عليها الملائكة (حمل الأمانة). وبالفعل اجتمع مجلس الآلهة وتعاونوا في خلق ابن الطين والماء بشرا (ذكرا وأنثى).

وتروي بعض الأساطير المستنسخة من أسطورة سومر أن الآلهة شكلت الإنسان من طين ودم إله العقل والذكاء والحكمة الذي يدعى "إيول" وعليه جمع الإنسان بين الجسد الترابي وقبس من نور الحكمة الإلهية (جسم وروح).

وفي رواية ثانية قيل أن الأنثى البشرية (حواء) قد خلقت من ضلع الذكر الأول (آدم) بعد التهامه بعض النباتات التي زرعتها إلهة الخلق. وإذا انتقلنا إلى الأساطير الكنعانية فسوف نجدها تروي: أن الإله "إيل" الرب الخالق قد أرسل (آدم) إلى الأرض ليتتبع الشيطان الذي طرد من الفردوس الأعلى لتمرده على الإله الأعظم وذلك عندما وضع السم في شجرة الخلد. غير أن الشيطان (حورون) رأى آدم وهو يبحث عنه، فتلبس جسمه حية فلدغت (آدم) فحرمه بذلك من صفة الخلود التي يختص بها الأرباب، فأسفت ربة الشمس لما وقع (بآدم) فوهبته أنثى على شاكلته غاية في الرقة والجمال ليضاجعها ويستمر نسله بذلك في الأرض عوضًا عن صفة الخلود التي فقدها.

وعلى الرغم من غرابة وقائع الأسطورة، فيمكننا أن نؤكد أن وجود آدم وحواء يخلو تماما من الخطيئة بل أن الرغبة الجنسية التي غرست فيهما كانت بمثابة رحمة وعوض لهما من قبل الآلهة، ومن ثم يصبح الجنس في هذا السياق فعلا مقدسَا.

ولا تختلف الأساطير البابلية عن الأساطير السومارية والكنعانية في الواقعات الرئيسة فتروي أن الإله "إينليل" - حامي ألواح القدر - الذي استجاب لشكوى صغار الآلهة من كثرة أعباء العمل وأمر "إنكي" بخلق إنسانا من صلصال ودم الرب "كينجو" زوج الأفعى الكبرى وممثل قوى الدهاء والشر ليكتب لهذا الإنسان الخلود عن طريق التنسال بالفعل الجنسي فجعله (ذكرا وأنثى).

وتروي الأساطير الزرادشتية أن كبير الآلهة أو الإله الخالق "أهرامزدا" قد خلق إنسانًا عاقلا جميلا على صورته النورانية روحًا بلا جسد وأطلق عليه اسم "غايومارت " وظل على هذا النحو 3000 عام،  ثم أراد الإله أن يصنع له جسدًا فصوره على هيئة شاب وسيم. الأمر الذي أثار غضبة  وحقد الشيطان "أهرامان" على هذا المخلوق الجديد الذي يفوقه حسنًا وجمالا فكاد له فوسوس للجنية العاهرة "جي" لإغوائه وفتنته بجمالها التي أمرته باقتطاف بعض الثمار من شجرة ملعونة قد قام "أهرمان" بتسميمها بسُم الأفعى الشريرة، فقتل "غايومارت" وهو في سن الثلاثين بعد مضاجعته لـ "جي" والتي حملت منه بطفلين هما "ماشي وميشيان" فغضب الإله "أهرامزدا" عليهما أيضًا وطردهما من معيته وجنته لانصياعهما لغواية الشيطان (الخطيئة الأولى).

وتشير الدراسات المقارنة المعاصرة إلى أن هذه الأسطورة الفارسية ترجع أصولها إلى أسطورة بابلية نقشت على جدران المعابد تصور رجل وامرأة جالسين متقابلين وبينهما نخلة مثمرة وتقف أفعى كبيرة وراء المرأة.

ويضيف المؤرخون أن هاتين الأسطورتين قد لعبتا الدور الرئيس في القصة التي وردت (آدم وحواء) في سفر التكوين ويبررون ذلك بتشابه الأحداث والوقائع ويؤكدون في الوقت نفسه أن عقيدة الخطيئة الأولى التي حملوا عواقبها للحية والمرأة التي روي أنها خلقت من ضلع أعوج، وعليه يمكننا أن نقرر أن الأثر الميثولوجي هو المسئول الأول عن قيمتي المقدس والمدنس حيال العملية الجنسية.

ولعل الأساطير المصرية التي  - يعدها معظم المؤرخين الأقدم والأعرق-  تجيب صراحة على السؤال المطروح: هل الإرادة الجنسية وفعل الجماع مقدس أم مدنس؟

فأسطورة الخلق في آثار عين شمس (التاسوع) وأساطير أشمون (الثامون) وكذا أساطير منف عن "بتاح" الإله المبدع الحكيم لا تحوي التفاصيل التي وردت في النسيج الأسطوري السومري، بيد أنها تؤكد أن خلق الإنسان ذكرا وأنثى سنة كونية استنها الإله الخالق "أتوم" من الخضم المائي الأزلي المقدس "نون" الذي يمثل قوة القدر، ولم تفرق الأساطير المصرية بين الذكر والأنثى في التكوين البشري لوجود كل منهما، فقد صنعهما صانع الفخار "خنوم" وهو الإله الجامع بين قوى العناصر الطبيعية والمسئول عن صنع الكائنات الحية من الذكور والإناث على دولاب الفخار من الصلصال وقد زودهما بتسعة عناصر هي (الجسم، القرين، الروح، العقل، القلب، الطاقة الروحية، الاسم، الجسد الروحاني).

وإذا ما انتقلنا إلى أقدم الأساطير الإغريقية التي تعرضت لقصة وجود الإنسان فسوف نجدها مختلفة إلى حد كبير عن الأساطير الشرقية، إذ إنها تحمل بين طياتها الكثير من الأفكار والمعتقدات اليونانية.

فتروي الأسطورة أن الإله "برومثيوس" - وهو من صغار الإلهة الأخيار المسئولين عن حكم الأرض ومن عليها من كائنات - قد أسف على حال البشر الذين سكنوا الأرض وما هم فيه من جهل وجمود عقلي، الأمر الذي أقعدهم عن الخروج من الكهف الذي ألقاهم فيه "زيوس" بعد خروج أسلافهم من العالم النوراني حيث السعادة والتأمل والتجريد، فصعد الإله "برومثيوس" الطيب إلى قمة جبال الأوليمب وسرق شعلة المعرفة وحملها إلى الكهف فأضاءت جنباته وأيقظت العقول الخملة فانطلق المسجونون - وهم من الرجال فقط - من الكهف ليتعرفوا على العالم الخارجي فأدرك "زيوس" فعلة "بورميثيوس" فصلبه فوق الجبل وأمر الجوارح من الطيور بأكل كبده الذي كان يجدده له كل صباح إمعانًا في تعذيبه؛ حتى جاء "هرقل" (وكان نصف إله وهو ابن زيوس من إحدى الإنسيات) فخلصه من قيوده وأنزله من فوق الجبل ففرح بعودته سكان الأرض - الذكور الذين أصبحوا بفضل نيرانه علماء ومبدعين - الأمر الذي أغضب "زيوس" فجمع آلهة الأوليمب ليفكرون في عقابٍ ينكل بـ "برميثيوس" والبشر معًا.

 

وانتهى جمعهم إلى صنع إنسية (حواء)  فقام الإله "هيفايستوس" إله النار والحدادة، بصناعتها من الماء والتراب (الطين) وزودتها الآلهة المجتمعة بالعديد من الصفات (الفتنة، والجمال، والعشق، وبعض الحكمة والدهاء، والجسارة، والتهور، والفضول) وأطلقوا عليها اسم "باندورا" فحاولت إغراء الإله "بريمثيوس" غير أنه تمنع عليها فراودت أخاه "إبيمثيوس" (العاقل العاشق للجمال) ففرح بها وافترشت له فسعدا بالحب والعشق والمتعة الجنسية زمنًا.

فأراد "زيوس" أن يكمل مكيدته فأرسل للعروسين صندوقًا سحريًا مرصع بأنفس اللآلئ والجواهر، وقد ارتاب "إبيمثيوس" في هدية "زيوس" وسأل أخاه "بريمثيوس" فنصحه بألا يفتح الصندوق ففعل، غير أن فضول "باندورا" كان يدفعها مرارا - طوال ساعات النهار في غيبة "إيبيمثيوس" - إلى فتح الصندوق لتكشف عما بداخله، ولاسيما بعد سماعها لأصوات تخرج من جوفه تعدها بالنعيم والسعادة والخلود، وذات يوم فتحت "باندورا" الصندوق؛ فحل الظلام على الأرض وخرجت منه كل أشكال الشرور والأحقاد والشهوات والعنف، فسارعت "باندورا" بغلق الصندوق وهرول "إيبمثيوس" إلى بيته؛ ليعرف حقيقة ما كان فأسف على فعلتها فطلب منه أخوه "بيرميثيوس" أن يفتح الصندوق ثانية ليطلق الأمل الذي لم يبقى سواه في الصندوق حتى يصبح هناك متسع على الأرض لعودة السعادة والوئام ثانيةً لبني البشر.

وإذا ما أردنا تحليل هذه البنيات الأسطورية؛ فيمكننا أن ننتهي إلى عدة ثوابت: أولها: أن وجود آدم وحواء كان قدرًا وفعلا إلاهيًا خالصًا. وثانيها: أن وجودهما على هذا النحو (ذكر وأنثى) يخلو تماما من الدنس. وثالثها: أن ليست هناك ثمة فارق بينهما في البنية الجسدية أو البنية العقلية إلا في التميز الجنسي العضوي فوجودهما الإنساني واحد. ورابعها: أن الغاية من وجودهما كانت معروفة ومقصودة من قبل القوة الخالقة ألا وهى إعمار الأرض وحمل الأمانة وتنفيذ الأوامر الإلهية. وخامسها: أن الرغبة الجنسية عندهما جينية لا اختلاف في قوتها عند أحدهما وأن العقل يوجهها بوصفها فعل إرادي.

وتشير إلى ذلك بعض المقاطع الشعرية التي وردت في الآثار السومرية تلك التي تحدثت عن الخصيان والعواقر والشيوخ غير القادرين على ممارسة الجنس باعتبارهم نماذج إنسانية غير كاملة. أما المواضع التي صورت (حواء) بأنها أعظم شهوة وأكثر شرًا وأقل ذكائًا من الرجل، وكذا الأحداث التي ألقت على عاتقها الخطيئة الأولى والإصغاء للشيطان. وكذا غضب الآلهة على الفعل الجنسي كل ذلك يمكننا رده إلى تطور الثقافة المنتجة للنسيج الأسطوري؛ فعشرات الأساطير قد تحرّفت وتبدلت تبعًا للقيم والمعارف والأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة، ويتضح ذلك جليًا في نظرة الأساطير اليونانية إلى المرأة واتهامها بأنها أصل الشرور، ذلك على الرغم من تسليمنا بوجود بعض المؤثرات الكنعانية والأقاصيص البابلية التي عدلت وحرفت الأساطير السومارية والفرعونية في الفترة الممتدة من 2700 إلى 600 ق. م، وذلك بحسب ما ورد في الدراسات المعاصرة المقارنة بين القصص الأسطوري وأسفار التوراة.

وحري بنا الإشارة إلى أن قضية الخطيئة الأولى قد لعبت دورًا كبيرًا في بناء العديد من السياقات الفلسفية؛ نذكر منها النسق الغنوصي الذي اعتبر هبوط الإنسان على الأرض ما هو إلا عقابٌ استحقه على عشقه للمادة والأمور المحسوسة وانصرافه عن لذة التأمل العقلي. أضف إلى ذلك نظرة الفكر اليوناني بخاصة سقراط وأرسطو وأفلاطون، والفلسفة الغربية بعامة إلى المرأة تلك التي كانت تعتبرها إنسانًا ناقص لا يقدر على استيعاب الحكمة العقلية أو النهوض بأعباء السياسة والحكم وحماية المدينة، أما قضية اتهام (حواء) بالغواية وحادثة طردها مع (آدم) من الجنة وعقيدة الخلاص وغير ذلك من الأقاصيص التي حملتها الكتب المقدسة فسوف نتناوله بشيء من التفصيل فيما سيأتي من مقالات تالية. ولا يفوتني أن أنبه القارئ على ضرورة مراعاة خصوصية السياق السردي الذي لا يجوز إطلاقه أو تعميمه أو نقضه اعتمادًا على الموروث العقدي.

 

بقلم: د. عصمت نصار

  

في المثقف اليوم