قضايا

أزْمَةُ البَحْثِ العِلْمِيِّ فِي الوَطَنِ العَرَبِيِّ

بليغ حمدي اسماعيلصاحب الهوس الإعلامي العربي الممزوج أحيانا بالكراهية والامتقاع والانحياز المؤقت ضد كل ما يخص مصر وشعبها وحكومتها وقت إعلان وزارة الصحة المصرية تزامنا مع منظمة الصحة العالمية بأن مصر خالية من فيروس كورونا الذي سينتهي قريبا حينما ترتفع درجة الحرارة على سطح الكرة الأرضية ، وبغير ادعاء متأخر بتوقع هزيمة كل القوى الداخلية والخارجية المعادية لمصر على وجه التحديد، فإن التعافي المصري على المستويين الاقتصادي والأمني هو مفاد هذه الهجمة المستعرة عليها .

ووسط ترقب إعلان نتائج جديدة بشأن وجود أية حالات مصرية مصابة بالفيروس العالمي المعد والمصنع وفق براءة اختراع أمريكية في العام 2015، يتوافد الصحافيون العرب والأجانب وأيضا بعض المهمشين المتواجدين على صفحات التواصل الاجتماعي بدعم وتمويل عربي من بعض الشخصيات والتيارات الدنيئة، ودعم آخر صهيوني من مؤسسات معروفة لدى الجهات الأمنية المصرية  وكأن هناك محاولة جادة ومساعٍ قوية لإعلان دخول مصر في زمرة الفيروس . وثمة حجج أخرى اخترعتها العقلية العربية وحدها واتبعتها كتائب إلكترونية أكثر بلادة في الرصد والتحليل بأن الإعلام المصري الرسمي اعتاد التحلي بتعتيم الأخبار السيئة عن المواطن وكأن هذا المواطن غير متفاعل مع كافة مصادر المعرفة .

إنها خيبة العرب وملايين المصريين في تصديق استطلاعات الرأي الكاذبة والمخابراتية التي صدرتها لنا الولايات المتحدة الأميركية للعالم يقينا منها بأن الشعوب العربية وبعض الأقلام والعقول المنتمية لهذه البيئات أكثر تأثرا وتأسيا أيضا بكل ما هو وافد أجنبي لكن الحقيقة المؤكدة أن شيفرة مصر العصية على الفهم لا يمكن اختزالها في بعض الوجوه التي تظهر على قنوات تنظيم الجماعة الإرهابي أو هؤلاء الذين يدعون الليبرالية وهم في حقيقة الأمر ويقينه أعتى أنصار الراديكالية المتطرفة أيضا.  بينما ذهبت برامج فضائية عربية كثيرة لا يمكن وصفها إلا بالفراغ والتربح الزمني ترصد وتسرد القصص الوهمية المريضة عن حقائق تحدث في مصر رغم أن الزعم باطل بتوكيد وجودهم خارج البلاد بل هم بالفعل خارج تفكير العباد في الداخل .

لكن على العقل المتأمل لهذا الفزع من الإصابة بفيروس كورونا الذي أصبح يمتلك صك العالمية بعد أن امتلك صاحبه صك براءة الاختراع العلمي كما ذكرت في 2015، أن يرجع لمناقشة الحالة العلمية الأكاديمية في مصر تحديدا بكليات الطب والعلوم والصيدلة، تلك الكليات وإن كانت كليات العلوم بحاجة إلى إعادة تفكير في قرارات إنشائها بدول عربية لا تزال تحارب الأمية وتتصارع مع مقومات تفشي الجهل بها .

فلقد من الله علينا ـ بجامعاتنا المصرية والعربية العريقة البعيدة عن التصنيف العالمي للجامعات ذات الجودة ناهيك عن تلك الإشارات المرجعية الكاذبة أغلب الوقت ـ بنعمة نحمد الله عليها، وندعوه بألا يحرمنا إياها، وهي وجود عيادات طبية مزودة ومجهزة بأفضل وأجود وأحدث وأكمل الأدوات والمواد الطبية. وبالتأكيد تشرف كل عيادة طبية بتلك الكليات بطبيب أو طبيبة أكاد أجزم بأنه لا ولم يدخل غرفة عمليات منذ تعيينه بالعيادة الجامعية، وطبعاً هذا الطبيب منوط به الكشف عن حالات الاشتباه بفيروس أنفلونزا كورونا، مستخدماً في ذلك أدواته الطبية التي تتطابق مع مؤهلاته العلمية.

ووسط تلك المخاوف المرضية السائدة حول الإصابة المتوقعة بفيروس كورونا،  استوقفني طالب جامعي / ووجه لي سؤالاً بريئاً، وأقسم بالله أن السؤال برئ مثل صاحبه، وكان لماذا لا تتوقف الدراسة بالجامعات احترازاً لتقليل خطر الإصابة بفيروس كورونا .

وقبيل الإجابة عن هذا السؤال الذي أراه بريئا، فكرت في أن مصر آمنة بفضل تدينها الضارب في القدم، نظرا لأن من مسببات الإصابة هو إصابة الشخص بنقص اكتساب المناعة الطبيعية،  فقلت له إن عدم تعليق الدراسة بالجامعات له فوائد جمة وكثيرة، ومتنوعة عند البعض، فمنها أن بعض الطلاب يعيشون آلاف قصص الحب والغرام مع زميلاتهم بأروقة وساحات الدراسة، بدلاً من هوس البحث عن صداقات وهمية عبر الفيس بوك وخلافه، كذلك تصوير الفتيات لأنفسهن وهن يرقصن على أغاني المهرجانات العشوائية وإعادة تحميل هذه الفيديوهات المصورة على مواقع التواصل الاجتماعي بغير هدف سوى تكريس ثقافة الذاتوية التي ستودي بهم حتفا إلى التوحد ومن ثم الإقصاء عن مجتمعاتهم. كما أن في حالة إغلاق الدراسة بالجامعات  ستصبح الفرصة سانحة لأصحاب الفرق والجماعات الهدامة لاستقطاب عدد كبير من الطلاب الذين يعانون ثمة إحباطات عاطفية وسياسية ومجتمعية واقتصادية وأسرية؛ فيبثون فيهم أفكارهم الهدامة والتكفيرية للمجتمع وفئاته المختلفة.

كما أن البعض من الطلاب لن ولا يجدوا متنفساً لهم سوى الجلوس على المقاهي العامة أو في المقاهي الإليكترونية (سايبر) التي تعد خطوة أولى نحو الإدمان وضعف الاتصال المباشر مع الآخرين.

لكن هذا الطالب أدهشني حينما ذكر لي أن جميع الفوائد السابقة لا تنطبق عليه، ولا يطمح لتحقيقها، فهو طالب يحب قاعات الدرس، ويتنفس رائحتها، ويعشق الكتاب لأنه مصدر للعلم والمعرفة والحقيقة. وحينما سألته عن الموضوعات التي يدرسها في مادة الحضارة الإسلامية فاجأني بأنه يدرس كتابا للدكتور (فلان) وأشار إلى مذكرة صغيرة بيده، وهنا أيقنت أن هذا الطالب وزملاءه بالدرس الجامعي في خطر حقيقي أشرس من هؤلاء الذين تحدثت عنهم سابقاً. فمن الطبيعي أن تصبح المادة التدريسية في أيدي الطلاب الجامعيين مادة علمية إبداعية، تقدم لهم خلاصة البحث العلمي في حقل علمي معين، وطاقة منهجية وتربوية تحرض فيهم القدرات والطاقات الذهنية العقلية ليستوعبوا تلك الخلاصة أولاً، وليبدعوا ما يتممها ثانياً.

وعلى ذلك فمهمة المادة الدراسية تكمن في تكوين الشخصية الطلابية التي يجب أن تتسم بعدة سمات أبرزها العقلية النقدية المبدعة. لكن هذا بالطبع لا يحدث في أغلب جامعاتنا العربية الكبيرة جدا غير المصنفة عالمياً طبقاً لتصنيف جامعة شنغهاي ؛ حيث يسهم الكتاب الجامعي الأوحد في هيمنة العقل، أي جعل الطلاب ذوي بعد تفكيري واحد. وإذا أردت أن تعرف سبب تصدع التعليم العالي في مصر فاسأل عن مصدر المعرفة لدى هؤلاء الطلاب الذي لا يخرج عن مجموعة من الصحائف التي هي في الأصل جزء من رسالة الدكتوراه الخاصة بأستاذ المادة.

وإذا كان فيروس كورونا الراهن يتحور ويتخذ أشكالاً وصوراً وألواناً وكمامات أيضا، فإن الكتاب الجامعي أيضاً ينافسه في التمحور والتشكل، بدءاً من بصورة الكتاب التقليدية، ومروراً بأشكال المذكرة، والملزمة، وكراسة المراجعة النهائية، انتهاءً بالنشرات العلمية وأوراق العمل.

وثمة أمر ذي أهمية خاصة يدعنا نلح على ضرورة تنويع وتطوير شكل المادة العلمية، وعدم اقتصارها على صورة الكتاب الجامعي ذي الصفحات المحدودة، ذلك هو أن العمل والأداء العلمي ذاته يقتضي وجود رؤية متسعة للمعرفة، وخلق طبيعة جدلية تجاوزية تنطلق من أن الحقيقة العلمية لا يمكن أن يختزلها كتاب واحد، مهما كان مهماً وعميقاً.

إن الاهتمام بالاقتصار على كتاب واحد للطلاب بالجامعة في علم معين لهو جدير أن يخلق طلاباً ملفقين مبتذلين، ومفتقدين للتماسك المنطقي والعمق الفكري المنهجي. والتجربة الشخصية لي ولكثيرين من زملاء الدراسة والعمل الأكاديمي تبرهن على أن اقتصار الأستاذ الجامعي على كتاب واحد محدد لهو قتل لدوره النقدي التنويري الذي كان من الأحرى أن يمارسه، ولهو ـ أيضاً ـ تدمير لطاقات الطلاب المتجددة، فكيف يوجه الطلاب أسئلة تتعلق بصفحات هي فكر الأستاذ نفسه، وبعد ذلك يتساءلون لماذا لا ننافس الجامعات العالمية المبدعة؟.

ولعل أدق وصف قرأته بخصوص هذا الموضوع أن الطالب والأستاذ في ظل هيمنة الكتاب الواحد يشبهان حصانين كلاهما يسيران إلى الأمام فقط، ولا يريان الجانبين والخلف. ويا حسرتاه على طالب ساذج يصدق أستاذه حينما يؤكد له على أن هذه المذكرة هي عصارة الفكر في علم معين.

وإذا كان فيروس كورونا غير رحيم بنا وبأولادنا وبطلابنا، فعلى أساتذة الجامعات غير المصنفة عالمياً أن يتسموا بالرحمة، ليس هذا فقط، بل وبتطعيم عقول طلابهم بأمصال متعددة للمعرفة لمقاومة وضعية التخلف الراهنة، وذلك حتى لا يذهب مثل هذا الطالب بعيداً عن قاعات الدرس والمكتبة، ولا يجد أمامه سوى مصادقة فتاة دون هدف، أو الانتماء إلى جماعات هدامة، أو الجلوس على مقهى لمتابعة المنضمين حديثاً لمعسكر المنتخب في مباراته القادمة.

أما هؤلاء الأكاديميون الذين ينتسبوا لكليات العلوم والذين يتباهون بأبحاثهم المنشورة عالميا بمجلات معظمها إلكترونية، فهم كُثر، ولا شك أن أبحاثهم عظيمة الشأن وذات قيمة علمية عالية، في السويد ونيجيريا وطوكيو وجزر المالديف، لكن برجهم العاجي والعالي البعيد عن مطالب أمة جعلهم بمنأى عن الاحتكاك بمتطلبات الواقع، ويتحدثون دوما عن أساسيات العلم وضرورة اكتساب الطالب مبادئ علمية رصينة وإلزامية وهي بلا شك وبحكم تخصصهم ضرورية في بدء التعلم، لكنها بحق غير مرتبطة بمستقبل الوطن ورؤيته المعروفة إعلاميا برؤية مصر 2030 .

وعشرات الجوائز العالمية ومئات التكريمات التي يظفر بها هؤلاء الأكاديميون بأبحاثهم التي تتوافق مع مجتمعات وبيئات مختلفة، لكن العلاقة بين تلك الأبحاث وآلاف الأطروحات العلمية في مجالات الكيمياء والفيزياء وعلوم الحيوان والجيولوجيا والأحياء وقضايا الوطن وهمومة مبتورة ومقطوعة ولا صلة بينهما . الأمر الذي يلزم التنبيه على أولئك العلماء الأجلاء أن يربطوا أبحاثهم بواقع فعلي أو بقضايا مستقبلية شديدة الصلة بمتطلبات الوطن، فالنصيحة التي أرجو من الله أن تصل إلى عقولهم أن المحك الرئيس للعلم هو الوظيفية والنفع الحقيقي، اللهم انفعنا بما علمتنا .

 

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

 

في المثقف اليوم