قضايا

الدِّيْنُ والدَّوْلَةُ.. جَدَلُ الاتِّصَالِ وَالانْفِصَالِ

بليغ حمدي اسماعيلملفت للنظر والاهتمام حينما يفاجئك أحد المنتمين للتيارات الراديكالية الأكثر تطرفا بأنه هناك ضرورة ما ـ من وجهة نظره المريضة ـ  لصناعة تظاهرات ووقفات احتجاجية  من شأنها تعطيل مصالح العباد والبلاد على السواء، بحثا عن منفذ لتعكير صفو الاستقرار الذي تعيشه مصر منذ فترة على المستويين الأمني والاقتصادي، والجدير بالاهتمام أكثر حينما يدهشك مريد تلك التيارات الغائبة عن المشهد الاجتماعي المصري أن المسألة لا تتعلق بعودة مكرورة لظهور هذه التيارات التي رفضهما المجتمع بغير أمل للعودة، بل إن حقيقة هذه الآمال والمطامح  ليس مفادها تكريس الديموقراطية والعدالة الاجتماعية واحترام رأي المواطن الذي صوَّت لصالح الوطن، بل لأغراض شديدة الخصوصية والتي تودي في نهاية الأمر بالإقصاء والتهميش والاستبعاد الاجتماعي تماما كما كان العهد أيام فترة حكم جماعة الإخوان المحظورة في مصر.

إذاً نحن بحق أمام ثلاثة مصطلحات هي من مكتسبات الثورة الشتائية في يناير 2011م وهي الشرعية والديموقراطية وصندوق الاقتراع، وبالتأكيد ليست هذه السطور رهن مناقشة ورصد دلالات المصطلحات الثلاثة التي وجدناها بحق في مظاهر شتى صوتية وعن طريق رسومات الجرافيتي، وخروج ملايين مطالبة بالإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي مندوب الجماعة لحكم مصر، أي باختصار يمكننا القول بإن الثورة نجحت نظرياً حينما أسقطت نظام مبارك العتيد، وتفوقت عملياً حينما قرر الشعب استخدام شفرة يناير للخروج في يونيو الأحمر 2013 في وجه محمد مرسي وتنظيمه الذي تأرجح بقوة وغضب بين العمل السري والعلني وكأنه تنظيم يأبى أن يجد استقراراً لهويته .

وربما لا يزال التطبيق العملي لمكتسبات ثورة يناير قائماً ومستمراً من خلال رد فعل الشارع تجاه أفكار تنظيم الإخوان واتجاهاتهم نحو إحداث الفوضى ببالشارع المصري، ولكن هذه المرة ليس عن طريق المظاهرات والوقفات الاحتجاجية والشعارات الزائفة، بل عن طريق بث أكبر قدر ممكن من الشائعات لإحداث بلبلة داخل نسيج المجتمع المصري . وإذا كانت المصطلحات السياسية الشرعية والديموقراطية وصندوق الاقتراع من أبجديات الدولة المدنية التي لا يمكن توصيفها بالعلمانية أو الليبرالية بل كما هي مدنية، فلماذا نجد أنصار التيارات الراديكالية التي  عادت سرياً على الورق وعلنياً في الشارع يصرون على جعل المعركة بين الذين أطاحوا بالرئيس المعزول وبينهم معركة تتصل بالدين وبمقوماته ومرتكزاته الرئيسة حتى وقتنا الراهن؟ . رغم أن مصر بدأت بالفعل مرحلة جديدة من تاريخها وبدت قوية متعافية استعادت مكانتها وقدرها التاريخي بين دول العالم، بدليل المكتسبات السياسية والاقتصادية التي تحققت في الفترة الأخيرة وما بذله الرئيس عبد الفتاح السيسي من سياسات اقتصادية وتحركات دبلوماسية على الأصعدة العربية والإفريقية والدولية.

وحقاً كلما مررت بذاكرتي التي لم يصبها فيروس كورونا حتى وقت الكتابة  بالتظاهرات التي كانت تندلع آنذاك صباح مساء  في مسيرات غاضبة محتدمة متسارعة ومتصارعة أيضا  للمطالبة بحق الرجوع إلى المشهد السياسي وليس الديني بالقطع والضرورة مرة ثانية وجدت أن هذه الدعوات كانت تشكل وقتئذ معادلا موضوعيا للدين وأن وجود تلك التيارات والجماعات والتنظيمات يرادف الحافظ على الشريعة الإسلامية في مصر، وهذا أمر يدعو ليس فقط للدهشة بل للريبة أيضاً، وذلك من عدة أسباب جميعها تتصل بجدلية العلاقة بين الدين والدولة وما تنتابها من حالات انفصال واتصال غير منقطعة . فبقراءة المشهد السياسي لمصر في عهد الرئيس المعزول بقوة الشعب محمد مرسي، علم المصريون جميعهم أنهم قاموا بانتخاب رجل سياسة وليس رجل دين لاسيما وأن الزعامة الدينية أو السلطة الروحية في الإسلام في مصر مقرها ومستودعها الأزهر الشريف وعلى رأسه فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، وإن جاز لنا الاهتمام بالعبارات والاستشهادات التي تخللت سياق الخطاب السياسي لرئيس الجماعة في الحكم محمد مرسي فهذا لا ينفي الصفة السياسية له ولا يؤكد السلطة الروحية لديه لوجود مؤسسة معنية بهذه الأمور والمسائل والقضايا .

السبب الثاني الذي يدعو للدهشة من موقف المعارضين للانتفاضة الشعبية المليونية التي هبت في يونيو الأحمر واستطاعت أن تطيح بعرش الرئيس المعزول ومن ثم تنظيمه هو التأويل السياسي لدور الدين، فطوال سنة كاملة هي فترة حكم الرئيس المعزول وجماعته وأهله وعشيرته المحظورة سياسيا واجتماعيا،  والمصريون كعهدهم الأزلي بالدين الإسلامي وبحق فالمصريون لديهم ولع وعلاقة أبدية بالتدين والاحتفاء بكافة المظاهر والشعائر الدينية منذ أن تم الفتح الإسلامي لمصر، وهذه السنة لم يُظهر لنا الرئيس السابق أية اهتمامات رسمية تجاه المؤسسة الدينية الرئيسة في مصر، أعني الأزهر الشريف، بل رصدنا أكثر من حالة تهميش لدور الأزهر وشيخه الجليل، ورغم ذلك الغياب فإن نفوذ الصبغة الدينية قد ساد وسيطر على مشهد التظاهرات التي قام بها أنصار تنظيم الإخوان، واعتبروا أن انتفاضة يونيو الأحمر ردة على الإسلام ونكوصاً وارتداداً لعصور الجاهلية الأولى .

وإذا كانت الجماعة المحظورة قد فشلت في إيجاد صيغة توافقية بين الديني والسياسي طيلة فترة حكمهم الوجيزة والبليدة سياسيا، والتي يؤيد أن يختزلها المصريون في موقف التصويت الانتخابي فقط، فإن أنصاره ومريدي هذا التنظيم  قد نجحوا في تداخل الديني بالسياسي حينما وصفوا ما تم في يونيو بالانقلاب على الشرعية وهم يقصدون بمعناها المعادل للشريعة حسب وصفهم، بل يعتبرون أنفسهم الآن في جهاد محموم ومستعر لحماية الشرع والدين . والحقيقة التي لا يشوبها شك أن تتويج العلاقة بين الديني والسياسي تم عقب عزل الرئيس محمد مرسي وتم صياغة وحياكة هذا التتويج بدقة، بالصورة التي جعلت الكثير من البسطاء يفكرون جليا أن مسألة إقصاء التنظيم والرئيس بمثابة حرب علنية على الإسلام حتى وإن خرجت الدعوات والخطب المنبرية الأزهرية لتنفي هذا الأمر، فكثير بل جميع أنصار الرئيس السابق يرون في مؤسسة الأزهر أنها تابعة للدولة وليس الشعب .

ولكن وهؤلاء وهم ينددون بعزل الرئيس السابق لم يعوا جيدا أن مثل هذه الممارسات تضفي شرعية على الملك والحكم، وهذ يجعل الدين دوما في حالة تبرير مستمرة لتناقضات الفعل السياسي، الذي هو بدوره فن الممكن والمستحيل ويقبل التجاوزات ويتيح قدراً كبيراً من المناورات السياسية التي قد تخالف بالطبع الشريعة السمحة . وثمة مشكلة أن نجعل الدين دوماً غطاءً سياسياً، وفكرة إفراغ الدين من دهاء السياسة أمر طبيعي للحفاظ على الدين نفسه وعدم المساس بقدسيته وطهارته، ولقد أشرت من قبل في كتابي بعنوان (فقه الخطاب الديني المعاصر) إلى السؤال الذي لا يزال يبحث عن إجابة حصرية له وهو هل الدين والسياسة لحظتان متعاقبتان؟، والقضية أكبر من المساجلات الدائرة بين فريقين؛ فريق يرى بضرورة فصل الدين عن السياسة أو الدولة، وفريق آخر يرى ضرورة الدمج واختلاق تجربة فريدة تجمع الديني بالسياسي، لكن الأمر يظل رهن الممارسات السياسية التي تتطلب تدخل سلطة الدين، لاسيما وأن الدين يتمتع بحضور استثنائي في كافة مناحي الحياة وأنشطتها، لكن المحك الرئيس في هذا الحضور هو طبيعة المستخدم له وهويته ونوازعه التي قد تحركه بعيداً عن شاطئ النجاة .

ويخطئ من يعتقد أن الدين مجرد تجربة معيشة وتمتلئ بها الحالة السياسية، وخصوصاً في مصر، لأن المصريين بطبيعتهم أمام تحد يومي إزاء أنفسهم أولاً ثم الآخرين، لأنهم يفرضون على أنفسهم سياجاً قوياً ومتيناً ومانعاً يقيهم شرور الفتنة ومثالبها، وكم من مؤرج طاف بالمحروسة وخرج باستقراء مفاده أن هذا الشعب متدين بالفطرة، بل يمكن الإضافة على هذا بأن المصريين لديهم امتلاء ديني لا يسمح بدخول أية معتقدات أو أفكار مغايرة لطبيعة وتعاليم ومبادئ وأحكام الشريعة، وهو الأمر الذي يغفل عنه أنصار تنظيم الإخوان، ومن أبرم معهم صفقة لإحياء عصر الجماعة من جديد . واليقين كل اليقين أن مصر الإسلامية والمتدينة ليست بحاجة إلى شروط جديدة للإيمان منها التسليم بشرعية رئيس أو جماعة أو فصيل، وليس منها أيضاً أن الذين أطاحوا بحكم ممثل التنظيم في الحكم انقلابيون .

هذه شروط دخيلة على إيمان المصريين بدينهم وبمعتقداتهم الدينية، فالدين لديهم في كل مكان، وربما يبقى الاستجداء السياسي بالدين في ممارسات مثل الانتخابات أو الحملات الدعائية السياسية من باب تطبيق شعار السياسة وحدها لا تكفي ! .

 

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

 

في المثقف اليوم