قضايا

الميعَادُ والمَوتُ والمِيلاد

بليغ حمدي اسماعيليهتم المصريون في العادة بأخبار الموت ونهاية قرار الإنسانية أكثر من اهتمامهم بالحياة والمعيشة الحاضرة، وهذا الاهتمام ليس بغريب على المصريين لأنهم ورثوا حضارة الفراعنة العظام الذين كان جل أمرهم في صناعة الخلود الذي يعقب الموت طبقاً لمعتقداتهم ونظرياتهم التي صنعوها بأيديهم. ولقد احترف المصريون ـ بحق ـ فن إعداد المقابر وامتهروا في تزيينها والاهتمام بها والدقة في تكوينها بدءا من الأبواب الخارجية حتى غرف الدفن، ليس هذا في زمن الفراعنة القدماء بل حتى وقتنا الراهن، فالموت لدى المصريين مسألة احترافية تماثل المهارات التكنولوجية الرقمية لدى بعض الشعوب الأوروبية .

وهذا الاهتمام الاستثنائي لدى المصريين لم يفرق بين الغني منهم والفقير، أو بين النخبة المثقفة والمواطن الذي نال حظا فقيرا وبسيطا من المعرفة أو التعليم، لذلك تجد المثقف منهم يهتم بالصفحات التي تتضمن أخبار الوفيات، ومن مات ومن صعقه التيار الكهربائي، ومن فقدت ساقه في حادث سيارة. ومنهم من يهتم بأدوات صناعة الموت في حياته، فيهتم بإعداد مدفنه الخاص، ويقوم بتزيينه وتجديده وإعماره حتى يستقبل صاحبه.

وبالرغم من أننا كبشر نميل بطبعنا إلى الحياة والسعادة والظفر بألوان الابتهاج والفرح، إلا أن كل واحد منا تجده منجرفاً إلى فلسفة الانتهاء، وتجده يستقبل أخبار الموت وفقدان الأهل والأصدقاء والجيران بنوع من الانتشاء الداخلي ليس شماتة معاذ الله، بل لأنه ينتمي إلى ثقافة أمة شيدت حضارتها ومعالمها على فكرة الخلود والانتظار لحياة أخرى تجئ لاحقاً.

ويرى كثيرون من المصريين خيراً في الموت،حيث إنه نهاية لمن شغل بالدنيا، ولمن سرقته الحياة من نفسه وذاته، فأصبح ينتظر جديداً يفجؤه بغير ميعاد. وغريب من يخاف موته رغم أنه صنع حياته بتفاصيلها وأحداثها اليومية الحاسمة والفاصلة فيها، فعندما يموت ستموت الدنيا كلها معه لأنها من صنعه.

ورغم أن الموت أمر جلل وحدث عظيم في تاريخ الإنسانية إلا أنه أحد مظاهر العدل في هذا الكون الملئ بالصراعات والتحزبات والاتجاهات المتباينة، ذلك لأنه لا يفرق بين الفقير المعدم والغني المنعم . كما أنه يمثل راحة لكل منها ؛ للفقير الذي ظل يعاني طيلة حياته من الاستبعاد الاجتماعي والأدبي نتيجة لفقره، وللغني الذي عذبته أمواله وقيده ثراؤه، فتجده في الدنيا قلقاً مضطرباً متوتراً ماذا سيصنع في غده.  

وليتنا نفكر قليلاً في أمر ظهورنا على سطح الحياة، فكلنا يبكي عند ولادته، أما الموت فلا يبكي أحد منا، بل يبكي الجميع علينا، رغم أن معظمنا لم يصنع شيئاً للإنسانية يذكر مثلما فعل الخالدون كالنبي محمد صلى الله عليه وسلم. وبعيداً عن التفسيرات النفسية والطبية والشعبية عن هذه الظاهرة، ربما هذا البكاء المعلن اعتذار مسبق منا على ما سنفعله من سلوكيات وتصرفات بعضها مخزي والبعض الآخر يدعو إلى الخجل والعار.

وفي هذا الصدد قال الكاتب الأمريكي هنري : لقد عشت هارباً من الماضي الفاضح الذي حاولت باجتهاد أن أخفيه عن زوجاتي وأولادي وجيراني، أما الآن لا أريد أن أذهب إلى الحياة الأخرى كأنني هارب من حياتي الأولى الفاضحة، وأمر أهله بأن يضيئوا أنوار الحجرة فلم يعد ما يخافه الآن. وهذا حق فصناعة الحياة تعلم الخطيئة والخطيئة فضيحة وما أجمل أن يكف الإنسان عن الخطيئة فجأة.

 

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

 

في المثقف اليوم