قضايا

الجَنُوبُ .. قِرَاءَةٌ فِي جَمَالِيَّاتِ الجُغْرَافيَا الثَّقَافِيَّةِ

بليغ حمدي اسماعيلأنت مضطر بفعل سطوة الثقافة أن تسير صوب الجنوب أينما تسافر إلى أي بقعة جغرافية من أجل اكتشاف كنه المكان وعبقريته لاسيما وإن كنت زائرا للمرة الأولى، هذه قاعدة اعترف بها الرحالة المتقدمون الذين جابوا الأرض والبحر شرقا وعمقا وغربا واتساعاً، وربما أن عالم الاجتماع العربي ابن خلدون لم يتنبه وهو يسطر مقدمته الخالدة الذكر إلى خصيصة رئيسة تميز العقل العربي وليست الثقافة العربية فحسب، وهي هوس الإنسان العربي بتراثه الشعبي الساكن في جنوب الأرض حتى استحالت حكاياه الشعبية التي أسهم في تأطيرها إلى جزء أصيل من عقيدته الاجتماعية التي تتحكم في سلوكه الفردي والاجتماعي والثقافي على السواء بنسب تكاد تكون متساوية، وربما ثراء التراث الشعبي الجنوبي بقصصه وحكاياه ونوادره وطرائفه المرتبطة بواقعه وماضيه هو الذي دفع هذا المواطن العربي ولا يزال يدفعه إلى أخذه ـ التراث الشعبي ـ أساسا راسخا متينا لثقافته التي تتحكم في دوافعه واتجاهاته ومن ثم استجاباته الاجتماعية.

والفرق الحقيقي بين الجنوب كبقعة سحرية جغرافية وبين الشمال ليس في طبائع السكان وانتماءاتهم الإثينية، بل جوهر الاختلاف هو نفسه المساحة غير البينية بين الثقافة والحضارة، وهذا الفرق يشكل اتساعا وعمقا يظهران في الاختلاف بين اتجاهات المجتمع صوب التوافد الغربي الأجنبي، فالجنوب بعادته صانع للحضارة ليس فقط الحضارة المادية المتمثلة في المعمار وبعض العادات المرتبطة بمظاهر الحياة اليومية المعيشية فحسب، لأن هذا الجزء يعد قاسما مشتركا بين الثقافة والحضارة، إنما الجنوب يختلف بأنه لا يهرول مسرعا خلف كل فكرة أو اتجاه وافد لا يعبر عن هويته الأصيلة التي يتوارثها الأجيال هناك وهذا ما جعل مهمة المستعمر في العصر الحديث صعبة ومستحيلة في السيطرة على المكان وتغيير الزمان بفضل تجلي الهوية بصورة واضحة مما جعل الجنوب بالنسبة للمستعمر متاهات يصعب الدخول إليها أو الخروج منها .

وبفضل الثورة المعلوماتية والتطور التكنولوجي والتثوير الاقتصادي الذي عرف بعد ذلك بمصطلح العولمة والاقتصاد الحر تم اعتبار الجغرافيا حقلاً معرفياً وتنظيرياً فقط لاسيما حينما تعامل الجغرافيون الأوروبيون مع الجنوب وتراثه الشعبي الذي لم يكن من السهل الفصل بينه وبين المكان وساكنيه أيضا، بل إن الجغرافيين اليوم وتحديداً منذ نكسة يونيو 1967 فشلوا في تحديد دور إيجابي لهم يربطهم بالمكان والحجم والموقع لأنهم باختصار أجهدوا أنفسهم في تحليلات وطروحات فكرية وصاروا رهن ما تنبئهم به الخريطة التي لم تعد كما كانت . وبعدما كانت الجغرافيا خريطة سهلة واضحة المعالم أصبحت اليوم بفضل التدفق البشري والتغيير الثقافي المرتبط بالسلع والمنتجات جغرافيات جديدة ومعقدة يصعب فهمها وتحليلها .

والحرب التي يخوضها الجنوب  اليوم هي حرب ضد العولمة، بل إن جل همه (أي الجنوب) التاريخي مناهضة العولمة وهي في صراع ضد العقل الذي لا يعترف بالقوميات أو بالهويات الوطنية بقدر ما يسمح بالتعدد والتنوع الثقافي المرتبط بالناحية الاقتصادية فحسب . ولا شك حينما نرى صوراً للاحتجاجات ضد العولمة تحديداً في سياتل عام 1990 نتوقع أن هذه ردة فعل تجاه طمس هوية الخريطة رغم أنها احتجاجات فوضوية وعنيفة ولم يقابلها على الشاطئ الآخر أي اكتراث أو اهتمام من الجغرافيين الأكاديميين وكأنهم استمرأوا حالات الغياب المقصودة عن مشهد الصراع .

وإذا كانت الحركة المناهضة للعولمة بدأت في سياتل 1990، أي أنها نشأت غربية إلا أن ظلالها امتدت إلى منطقتنا العربية، وصارت الخريطة العربية غير عربية وأقصد الخريطة الثقافية المتمثلة في عادات وطبائع المشرب والمأكل والملبس وطريقة الحياة اليومية التي نراها لا تختلف عن مثيلاتها في الغرب الأوروبي وأمريكا على وجه التحديد .وربما هذا التماثل كان نتيجة طبيعية لمدن شيدت على ثقافات سريعة بعكس الجنوب الذي تمر فيه الساعة ببطئ شديد رغم اجتاح التكنولوجيا إحداثياتها الشخصية وتفاصيلها اليومية لكن مع هذا الاجتياح التقني الذي لا يجاوز استتهلاك المنتوجات التكنولوجية من تليفزيون وكومبيوتر وهواتف خلوية بقي مواطن الجنوب محافظاً على وجوده التاريخي كجزء أصيل مرتبط بالأرض التي استحالت عرضه وماله وحياته.

وإذا كانت العولمة بمظاهرها وسماتها غير المحمودة تسعى منذ ظهورها الرأسمالي إلى انضغاط المفاهيم والثقافات الشعبية في منظومة واحدة لا تقبل الانصهار إلى ثقافات مجزأة، وتستهدف خلق خريطة ثقافية وحضارية جديدة للعالم كونه قرية صغيرة يحكمها المال وتداولية الثقافة العالمية فقط،لذلك وصفت هذه العولمة بالليبرالية المتوحشة التي تريد أن تغير معالم الزمان والمكان والمفاهيم الشعبية تحت مظلة الاقتصاد رغم حديثها عن الحريات واحترام حق الناس في التنوع، إلا أنها ـ العولمة ـ ظلت بمنأى بعيد نسبيا عن اختراق الجنوب بحضاراته التي لا تنقضي والتي لا تزول حتى بفعل الهجرة الداخلية والخارجية لسكانه وربما النزوح النهائي بغير عودة لبعضهم.

ومع هذا الحفاظ الرائع لكنه المكان لدى أهل الجنوب، استطاعت هذه البقعة الجغرافية بكافة بلداننا العربية أن تتمتع بقدر عال ومتمايز لقبول التنوع الثقافي في بيئاته أيضا، وهذه سمة فريدة تمتع بها الجنوب العربي التي عكست القدر الكبير من المرونة في استيعاب ثقافات متباينة ومختلفة دونما استلاب أو استقطاب الثقافة الأصيلة بل يمكن القول بإن هذه الثقافات انصهرت في ثقافة الجنوب مما أدى إلى بقائها في تسامح مستدام .

لذلك وبغير ادعاء كاذب، إذا أردت أن تبحث عن ملامح التنوع الثقافي الخلاقي مع الاحتفاظ بسمات للهوية فلا تعبأ بالتنقيب والتفتيش عن أمكنة متتعدة، بل عليك أن تذهب مباشرة نحو الجنوب، هذا الجنوب الذي يعد بقعة سحرية في جغرافيا الشعوب والدول العربية، لأنه المقام العمراني والجغرافي الوحيد الذي يصر على عدم الدخول في معركة البقاء التاريخي، لا لقصور أو عجز، بل لأنه بالفعل يغرد خارج السرب، ويغني منفرداً خارج السياق .

والمستقرئ لتاريخ الثقافات الجنوبية على مستوى العالم العربي يفطن إلى حقيقة مهمة، وهي أن الجنوب منذ ولادته على أرض الأوطان وهو في حفاظ أزلي للهوية، ليس فقط لهويته الثقافية المتفردة، بل لطبيعة الوطن ذاته، لذلك نجد ثمة رهان سياسي وثقافي من النظم السياسية الحاكمة على أولئك القاطنين بالجنوب لارتباطهم الشديد بالمكان وحرصهم على بقاء السمات المميزة لطبيعة الأجداد في حياتهم اليومية .

 ومن أحدث الكتب التي تناولت جغرافية الثقافة المكانية كتاب Geographies of Globalization  للأكاديمي النيوزلندي ورويك موراي (2013) والذي تناول العلاقة بين الجغرافيا الثقافية والعولمة، وهذا الكتاب صال وجال للبحث عن إجابة حصرية وحاسمة لسؤال : هل ماتت جغرافية المكان الثقافي ؟، وفي هذا الكتاب رصد حالة انخفاص الصلة بين علم الجغرافيا الأكاديمي والمحبوس في الكتب التنظيرية الجافة والأبحاث والدراسات الكاذبة التي لا تمت للواقع بصلة وبين العولمة التي تتصاعد حدتها ويتعالى نشاطها الاقتصادي والتنويري والاقتصادي . ولا شك أن الكتاب انتهى بنتائج غير سارة بالنسبة للجغرافية ومستقبلها المعاصر لاسيما لأهل الشمال الذين بدوا أكثر انفعالا بالاتجاهات والتيارات الأجنبية الوافدة على عكس الجنوب الذي احتفظ لنفسه بمكانة مميزة جعلته لا يستجيب بسرعة ويسر إلى الثقافات الوافدة .

وفي هذا الجنوب العربي نجد أركان ومقومات الثقافة متجسدة فعلياً بغير تنظيرات أو طروحات مكرورة ومملة، فاللغة تجد مهاداً خصباً لها بغير تصحيف أو تحريف، والموسيقى كجزء من الهوية الجنوبية نجدها تحتفظ بطبيعتها التي تبعد تمام البعد عن الصخب والضجيج وهي متلازمة مع أنماط الحياة السائدة هناك . وكذلك الملامح الثابتة التي لم تعبأ بهوس الاستلاب نحو التغريب كالمأكل والمشرب، ولعل كلمة السر في هذا كله هو تقديس الموروث .

ولم يفاجأ المثقفين مما جاء ثنايا تقرير التنمية البشرية لهذا العام الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الذي جاء بعنوان (نهضة الجنوب تقدم بشري في عالم متنوع)، لاسيما وأن النخبة على علم مستدام ومعرفة مستقرة بأن الجنوب في حالة مخاض مستمرة ورغم أنه يمر بطيئاً بالحياة إلا أنه الأكثر ثباتاً والأسعد تطبيقاً بالقانون العرفي، والبيئة الهادئة التي لا تكترث بجنون التغيير الذي يحيط بالكون .

وإذا كان العالم كله في حرب ضروس مع البطالة والحصول على المال وتخطي عقبات الفقر، فإن الجنوب يرى المعركة بفلسفة استثانية، فهو يقر حقيقة أن الحرب ضد الفقر لا تكون إلا من خلال التعليم، لذا نجد حرص الآباء والأجداد على تعليم أبنائهم وأحفادهم هو معركة بقاء لهم أنفسهم في المقام الأول، وأن التعليم هو بوابة سحرية لسبر أغوار العالم المغاير لطبيعة الجنوب لذا فهم في حرص رائع على التماس أسباب الحضارة مع اليقين بضرورة الماضي وأهميته.

وإذا كان تقرير البرنامج الإنمائي يشير إلى نهضة الجنوب التي مفادها التنوع والتعدد الثقافي مع الاحتفاظ بالهوية الأم، فإن هناك ثمة عوامل هي التي تحفظ لهذا الجنوب تنوعه أولاً وتفرده وتميزه الذي يعد استثنائياً، من أبرز تلك العوامل عدم اتباع السياسات الجاهزة المقدمة من الأنظمة الحاكمة، فللجنوب أعرافه وتقاليده السياسية، وهذه الأعراف لا يمككنا القول بإنها في قوة القانون الرسمي لأية دولة، بل هي أقوى من نصوص القانون ومواد الدستور نفسها، وربما حرص أبناء الجنوب على الالتزام بأعراف وقوانين الأجداد هو الذي ضمن لهذه البيئات الاستقرار السياسي والثبات الاجتماعي على مر العصور.

لذا فلن نجد حرجاً إذا أشرنا إلى أن معظم الأنظمة السياسية تطلب ود أهل الجنوب، نجد هذا في الدول العربية، وجنوب أوروبا على سبيل المثال، وقلما نجد دستوراً أو قراراً سيادياً لدولة ما لم يضع شيئاً بسيطاً لأهل الجنوب . وربما علم الأنظمة السياسية الحاكمة في العالم بسياسات وقوانين وأعراف الجنوب النابعة من ظروف البيئة وتراثها الثقافي هو الذي يدفعها دفعاً لمراعاة البعد الجغرافي والتاريخي لهم.

ولكن رغم أهمية الجنوب وتميزه وتفرده الثقافي وحفاظه الرائع على التقاليد الاجتماعية، هل واكبت هذه الأهمية اهتماماً خاصاً من الحكومات والأنظمة الحاكمة ؟ . وقد يبدو الكلام الآن مقتصراً على مصر دون غيرها من بلدان العالم، فالجنوب المصري الذي يبدأ جغرافياً من مدينة أسيوط منتهياً بالنوبة الجميلة لم يكن محظوظاً على امتداد الحكومات المتعاقبة بالاهتمام والرعاية والكشف عن سحره وجماله الثقافي .

واكتفت الحكومات بالإشادة بمباني الجنوب، وبموسيقاها، وبالملابس المميزة سواء كانت جلابيب أو أردية بيضاء ناصعة، دون الالتفات إلى ثقافة المواطن الجنوبي وأحلامه وطموحاته وأنه لا يعد كائناً منفصلاً عن الوطن، بل هو جزؤه الأصيل منه، ويكفي أن تعي الأنظمة السياسية إلى اختراق الثقافي للجنوب في كافة أنحاء مصر بخاصة والعالم بصفة عامة، والمتتبع للمنتج الجنوبي في الخارج يدرك على الفور أن حرص الأجنبي على شراء ما ينتجه الجنوب ليس مجرد هواية أو رغبة في اقتناء شئ دخيل، بل بسؤالهم تتبين حقيقة أن رغبة الشراء هي رغبة معرفة ومحاولة جادة في التقاط تفاصيل أكثر دقة عن الثقافة التي أنتجت هذه المصنوعات.

ويعد الملمح الأبرز في ثقافة الجنوب التسامح، والتسامح في الجنوب ثقافة ولغة وموسيقى وملابس سمحة، لكن المعالجة الرسمية لتلك الملامح باتت مكرورة وباهتة تمثلت في المسابقات الثقافية عن هذا الجزء الجغرافي، أو تصوير المطربين لأغنياتهم في مناطق النوبة، أو التقاط بعض المشاهد التمثيلية بها، الجنوب ليس بحاجة إلى تعاطف بقدر ما هو بحاجة إلى مزيد من مساحات للتسامح والاعتراف الرسمي بثقافاته وهويته .

 

الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

كلية التربية ـ جامعة المنيا

 

 

في المثقف اليوم