قضايا

مراد غريبي: النخب الثقافية وأزمة وعي التجديد

لا شك ان اختزال النقاش في الفوارق والخلافات والقاسم الانعزالي إضعاف للتنمية الثقافية لدى أي أمة، دون التركيز على الأسس المشتركة والركائز الأساسية في تجديد الفاعلية الثقافية لدى إنسانها والأجيال الصاعدة، كون أن النخب لدى هذه الأمة في الكثير من الحالات، تبقى بعيدة عن الجواب على المشاغل الحقيقية لدى أبنائها . مما يخلق أزمات تزداد استفحالا يوما بعد يوم، لأن النخب تغرد بعيدا عن الواقع، وعليه يضعف النقاش الثقافي العام، وتتعمق الهوة بين المثقف والفقيه من جهة وجماهير الأمة وشبابها خصوصا من جهة أخرى!!

المشهد الثقافي وأزمة الوعي:

مع كل تحدي ثقافي يواجهه الاجتماع العربي العام، يحتدم الجدل بين النخب، والذي يعكس أزمة الوعي الموجودة والقائمة منذ عقود، وليست وليدة اليوم، إلا أنها تفاقمت في العقدين الأخيرين، بشكل لا يضر فقط بالمشهد الثقافي، ولكن كذلك بمناهج النقاش ومسارات التجديد في بناء هذا المشهد. وأعتقد انه أبرز صورة لذلك هي الحركات الإجتماعية والاحتجاجية كظاهرة سوسيوثقافية جديدة، لم تحسن النخب بكل توجهاتها قراءتها ومقاربتها، بل إنها في كثير من الأحيان، تجاهلتها أو عجزت عن صياغة فهم لخلفياتها وآفاقها ووانعكاساتها على المستقبل العربي، هذه التوترات لدى النخب زادت من المفارقات في اللغة والتحليل والمقاربة والنقد والتطلعات، ناهيك عن تغليب البوليتيك على الثقافي مما أوجد أزمة وعي أنتجت عدم الثقة في الخطاب الثقافي والرؤى النخبوية.

النخب وأزمة وعي التجديد:

 النخب في أي اجتماع تعتبر المرجعية الثقافية الاساسية والبنيوية لكل المشاريع الهادفة للنهوض بالتنمية الشاملة والتي تنعكس آليا في الفعل الثقافي العام للإنسان وعلى جميع صعد الحياة، ما يعني أنها مسؤولة في جانب كبير عن إدارة الأزمات..

أعتقد أن الطبقة المثقفة في العالم العربي بلا استثناء، كثيرا ما تبقى بعيدة عن موضوع الجواب على الأزمات الحقيقية للإنسان العربي، والتي يمكن تلخيصها في أزمات التعليم والعمل والسكن والصحة والإدارة، مما زاد المأزق الحضاري العربي تعقيدا، نظرا لغياب علاج سليم لأزمة الوعي المتكامل، ويكفي هنا الوقوف عند التناقضات المسجلة في مواقف النخب، ومن ضمنها النخب الدينية، التي انشغلت بالتجاذبات والصراعات الطائفية، بمواقف متناقضة ومتضاربة، هاربة من الجواب عن الأسئلة الملحة في تجديد الوعي الديني المناسب للوعي الحضاري المنشود... وهناك عنصر آخر أعتبره مدمرا للوعي الثقافي، إلى جانب التداخل بين الدين والتدين من جهة، والاستراتيجية الثقافية وإدارة أزمة الوعي من جهة ثانية، وهو ما أسميه النخب المتعددة الأبعاد، اعني التداخل بين الفعل الثقافي والمال والبوليتيك والإستشارات، والذي اعتبره الفيروس المحرف لدور النخب الثقافية في بناء الوعي السليم والمتكامل للقواعد الشعبية، إذ يصبح مع هذا الفيروس الفعل الثقافي للنخب شكليا لا غير، ورد الفعل المقاولاتي في ورش المال والمناصب والإستثمارات هي الحقيقة .

هذه الأزمة في الوعي الثقافي العربي، تجعلنا نستنتج أن المثقف والفقيه يحتاج إلى مراجعات معمقة لماهية المسؤولية والدور والفعل في حقل الثقافة، لأن المناعة الثقافية لأي نظام اجتماعي يريد أن ينهض حضاريا، هي تجاوز أزمة الوعي وإدارتها لبناء الرأي العام الناضج الذي يحمي الخيارات الاستراتيجية ويحتضن التطلعات الجامعة ويشكل صرح قيم الثقافة الحضارية لهذا النظام الإجتماعي.

بين تنمية الوعي ووعي التنمية:

 من أوجه المعضلة الثقافية العربية أو مثلما يسميها المفكر المرحوم مالك بن نبي مشكلة الثقافة، الخوض في جوانب التنمية عوض التداول في قضايا الوعي الثقافي الجوهرية. وللتذكير لقد ناقش كل من مالك بن نبي ومهدي منجرة وماجد الغرباوي وغازي القصيبي مفتاح بناء الوعي المتمثل في تفكيك مشكل الثقافة، مؤكدين أن التنمية قبل أن تكون تقنيات وأدوات هي وعي ثقافي ذاتي ومغاير يضم الأبعاد الإنسانية في الدين والسياسة والاقتصاد والاجتماع واستشراف المستقبل.

و الأكيد في المستوى الإستراتيجي، لا يوجد نظام تنموي قوي ومستدام، بدون وعي قوي، يتمتع بالحرية المسؤولة والمعرفة المتكاملة والفاعلية الهادفة للصالح العام والاختلاف المغني للتعاون، والقادر على إدارة الأزمات.

محنة المثقف والفقيه مع التجديد:

مع الأسف، توجه العديد من أهل التجديد من النخب الثقافية في العالم بالدعوة إلى التجديد المؤسس على الوعي وبدون خجل أو توجس من الصخب وصيحات حراس المعابد الوهمية، إلا أن الغالبية قاطعها آنذاك وإلى اليوم، دعوات من طنجة والجزائر وتونس والقاهرة وبيروت وبغداد ودمشق والخرطوم والقطيف والرياض ومسقط، حيث شارك كل من المثقفين الأكاديميين وعلماء الدين من جل المذاهب الإسلامية في مناقشة معضلة ثقافة الوعي بخيار التجديد، وانعقدت مؤتمرات ولقاءات طرحت رؤى وخطط ومقاربات توفرت على كل شروط الموضوعية والواقعية، بل حرص الجميع في اهتماماتهم وانشغالاتهم على أن يكون الوعي لحظة مكاشفة ومصارحة من زاوية الحرص المشترك على مستقبل الأمة.

 تنمية الوعي الذي نرجو

تعريف المثقف أو الفقيه يتحدد ويتبلور بالوعي الذي ينتجه، لأن المثقف أو الفقيه الذي لا يرسم معالم وابعاد صياغة وعي متجدد ويعتبر نفسه فيلسوف الوعي، للأسف ماهو سوى سمسار لمشكلة الثقافة ونواة أزمة بناء الوعي وللأسف هذا حال الكثير من النخب، عوض أن ينفتح على الواقع ويناقش في إطار شراكة التجديد، ينطلق من الاستغراق في الشكليات والهوامش دون خدش جوهر أزمة الوعي الحقيقي؟! الوعي المرتجى، يختزل في قيم ومبادئ ومناهج وآليات تضبط الخيارات ومساراتها، من أجل إبطال القابليات للتضليل والتوظيف ضد التنمية الحقيقية التي محورها كرامة الإنسان ومسؤوليته وتكامله النفسي والعلمي والعملي.

 تنمية الوعي كوظيفة مركزية في الفعل الثقافي للنخب تعني تيسير الفهم ورفع الغموض عن الأشياء والوقائع والتحديات التي غالبا لا تكون واضحة بما يكفي، لدى قمة الهرم وقواعده. وهذا لا يعني التخندق ولا الوساطة، وإنما تعبيد الطريق أمام التعاون الإبداعي، هنا تقع مسؤولية المثقف والفقيه، مسؤولية حضارية ونابعة من روح ثقافية متألقة بالقيم والمبادئ، تساهم في رسم مناهج التدبير والتجديد والاصلاح، وهذا هو الدور الذي يمنح النخب الاستقلالية في الموقع والفعل الثقافيين، لتبسيط وتيسير التفاهم والحوار الجاد حول قضايا التجديد والتنمية، إذا غاب عنها النقاش الموضوعي، إنه طبيب الوعي كل من المثقف أو الفقيه!!

 النخب بين التزاحم والتفهم:

أعتقد أن أساس مأزق الوعي لدى العديد من النخب والذي يشكل عنصر كبح للتحول التجديدي، هو الاشتغال والمناقشة والردود بمنطق المزاحمة، وهذا يظهر في الانتقادات الانفعالية الهادفة ليس لمناقشة الرأي بالرأي وإنما المزاحمة في الفضاء الاجتماعي، دون محاولة التفهم من أجل تجديد الوعي، وهذا ما يبرهن على رهانات التجديد الجامد او الموهوم لدى رواد التزاحم..

 وهذا الخلط سواء كان عن قصد او لا، لاريب أنه عن لاوعي وإلا المسمى وعي لكنه وعي تزاحم وتشنج وضوضاء على حساب مصلحة الأمة من تعثر تجديد الوعي التنموي والنهضوي. إنني أعتبر أن مسألة الوعي جوهريا هي مسألة تفهم، عكس ما يمكن أن يروج له من أن الوعي هي فقط مزاحمة الضد.

هذا هو المأزق التكويني الذي حدث في صناعة وعي الإسلاميين والعلمانيين على حد سواء في العالم العربي، حيث كان هناك كبح إيديولوجي للتصور العام عن التجديد يستمد فاعليته من زيوت التزاحم بدلا عن مرطبات التفهم،

أعتبر أن المسؤولية الكبرى في كبح نمو الوعي التجديدي في ربوع الأمة، تتحمله نخب التزاحم، من جراء انسدادات منهجية تعطل خيارات التفهم لديها،، وهذا الواقع يمكن أن يتجاوز عبر تنمية الوعي بأهمية التفهم في بناء التعاون التجديدي الإبداعي لدى النخب، فعوض التفكير بمنطق التزاحم ووضع العصا في عجلة التجديد، يتم اعتماد مقاربة التفهم التي تضع في المقام الأول مصلحة الأمة التي تتأسس على تجاوز أزمة وعي التجديد، وليس من زاوية مصالح النخب الثقافية المتزاحمة والمتصارعة بلا أدنى وعي للأزمات المحققة بإسم المصالح الوهمية...

 

غريبي مراد - كاتب وباحث في الفكر

 

في المثقف اليوم