قضايا

عبد الجبار الرفاعي: أنا مدين لكلِّ مَن يقرأ كتاباتي

بعض الكتّاب يريد من الكلِّ التصفيق له، بلا أن يعترف أو يحترم أو يحتفي بمنجز أحد. أعرف كتّابًا يغارون غيرةً عنيفة من الشباب الموهوبين. عندما يطلب كاتبٌ ناشئ منهم رأيًا بنصوصه، يتعاملون معه بغطرسة وازدراء، وأحيانًا يسمعونه كلماتٍ مميتة، ربما تقتل موهبتَه في مهدها. لا أتحدث عن النقد بمعناه الأدبي والثقافي والعلمي، ولا أتحدث عن خداع مَن لا يعرف الكتابة، ويصرّ على إقحام نفسه في هذه المهمة الوعرة، بلا موهبة، ولا صبر طويل، ولا تمارين مرهقة، ولا تكوين في الحقل الذي يكتب فيه، ولا ثقافة غنية. أتحدث عن الغيرة المرضية، والاستهزاء والازدراء والعنف اللفظي الذي يصدر من كتّاب يراهم مَن يطلب رأيَهم خبراء. قلّما تعرفت على كتّاب في مجتمعنا يمتلكون روحًا أبوية حانية، يبادرون بالعطاء والرعاية لذوي المواهب من الجيل الجديد. الإنسانُ بطبيعته يطلبُ الاعترافَ والدعمَ الذي يحفّزه على العمل والإنجاز. الشبابُ خاصة بحاجة شديدة للدعم العاطفي والرعاية والتحفيز. الاستثمارُ في إيقاظ عقول الشباب ورعايتهم عاطفيًا استثمارٌ في إيقاد طاقة الإبداع والتجديد الخلّاقة، وهو أثمنُ استثمارٍ للحاضر والمستقبل.

مِن دون قارئ يفتقر النصُ لانبعاث الحياة فيه، القراءة بقدر ما تحيي النصَ تجدده عبر الحوار النقدي للقارئ مع النص. القارئ مرآة توقظ معاني الكلمات، وتضيء ما هو مستتر من دلالاتها. الكاتب الحقيقي يستمدّ طاقتَه في الإبداع والمثابرة والاستمرار من القراء الأذكياء ذوي البصيرة المضيئة، ‏أجمل مكافأة للكاتب أن يرى صورتَه في هؤلاء القراء. طاقتي تتجدّد لحظة يتحدث لي قراء يتذوقون طعمَ الكلمات. القارئ يكرم الكاتبَ ويحفّزه ويوقد طاقتَه عندما يعلن ما يعيشه بتذوق ما تقوله وما تلمح إليه وما تضمره كلماتُه. الكاتب المخلص لصنعته يحاول أن يتعلّمَ من الكلّ، وفي الوقت ذاته يسعى أن يكون مختلفًا يمتلك صوتَه الخاص، لا أن يكون صدىً لغيره. يتعلّمُ من القراء المتسائلين وحتى المشاكسين أكثر مما يتعلّمُ من القراء المنحازين مسبقًا لكتابته. أقرأ تعليقات متنوعة بعد نشر ما أكتب، مَن يمتدح كتابتي يفرحني ويعزّز ثقتي بجهدي، خاصة وأنا قبل غيري لا أثق دائمًا فيها، إلا أنه لا يضيف لي ولا أتعلّم منه شيئًا، ولا يدعوني للتريّث وتمحيص ما أكتب. أحيانًا تكون تلك التعليقات نقدًا لاذعًا، وربما تضمن شيءٌ منها كلماتِ احتجاج منفعلة قاسية تخرج على النقد العلمي، ولا تخلو من تجريح أو تحريض ضدي. أعترف أني تعلّمت من هؤلاء النقّاد القساة ما لم أتعلمه ممن مدحوا كتاباتي. وإن كانت تعليقاتُهم تزعجني، إلا أنها كانت ومازالت حوافزَ تستفزني وتوقظني لأن أكون أشدَّ حرصًا ومثابرة على غربلة نصوصي وتدقيقها والتأمل فيها أكثر من مرة قبل نشرها. هذا الصنف من القراء يسهمون بإنضاجِ كتاباتك عبر تحديها، وحتى التحريض عليها. التحدي يرسخ كفاءةَ دفاعات الإنسان، ويستحثّه على مراكمةِ جهوده وتكثيفِها، والعملِ على ابتكار أدواته وتعزيزها.

أشعر بمسؤولية أخلاقية حيال القراء الكرام، أنا مدين لكلِّ مَن يقرأ كتاباتي، لا أستطيع وفاءَ هذه المديونية الكبيرة إلا بإنفاقِ كلِّ طاقتي، والإخلاصِ لهؤلاء القراء وأمثالهم في كلِّ كلمة أكتبها. لستُ مستعدّا للتنازل عن ضميري الأخلاقي، يقظةُ ضمير الكاتب تحميه من خيانةِ نفسه والقراء، والجنايةِ على عقله وعقولهم. تنازل الكاتب عن أخلاقه على مراتب، الحدُّ الأدنى يتمثل في إدمان المراوغة والتمويه في اللغة لتضليل القراء. الإخلاص للقارئ يعني إثارةَ عقله النقدي، ومحاولةَ استنطاق ما هو صامت في تفكيره، وتدريبَه على طرح أسئلة كبرى، والابتعادَ عن ‏تلقينه كلَّ شيء كالببغاء. يراسلني ‏بعضُ طلاب الماجستير والدكتوراه يطلبون أن أقترحَ عليهم عنوانًا، وبعد اقتراح العنوان يطلب بعضُهم أن أدّله على كلِّ شيء، وأفعل َكلَّ شيء نيابةً عنه، أكثرُهم يريد وضعَ الخطة نيابة عنه، وإعدادَ لائحة المراجع، وتحريرَ ما يكتب، وتتمادى طلبات جماعة منهم فيريد الكتابة نيابة عنه. أرفض حتى وضع الخطة لطلابي فضلًا عن غيرهم. بعضُ الناس يريدُك أن تقودَه كالأعمى، وأنا أرفض التقليد الأعمى، تتلخص مهمتي بالعملِ على تقويض الأغلال الراسخة في الذهن، وتحريرِ العقل من أصنامه ما أمكنني ذلك.

الإخلاص للقراء في الكتابة يعني طرحَ ما يستحثُّ العقلَ على التفكيرِ بموازاة الكتابة وضدّها، والانتقالَ بالتفكير خارج الأسوار المغلقة. لا تتجلى قيمةُ الكتابة فقط بمقدار ما تنتجُه من إجاباتٍ جديدة، ولا بما تكرّره من كلمات جاهزة. قيمةُ الكتابة في براعتِها بوضعِ عقل القارئ أمامَ مشكلاتٍ عميقة يتطلب الخوضُ فيها الكثيرَ من التأمل والنظر غير المتعجِّل. لا يجد القارئ الذكي عقلَه في بعضِ إجابات المؤلِّفين وآرائهم، يجده غالبًا فيما يحرضه على التفكيرِ المختلف، ويستحثّه على توليدِ أسئلةٍ موازية لأسئلةٍ كانت تشغله زمنًا طويلًا.

الكتابة لا تنتهي وتبلغ مدياتِها القصوى في أيِّ حقل يفكر فيه الإنسانُ ويتأمل بدقة وعمق، الكتابة يغذّيها القراء الأذكياء مثلما تغذّيهم. لا أظن الفهمَ المبسط للقول الشائع: بعض العلوم "نضج واحترق" دقيقًا. يمكن أن يكون القصدُ استنفادَ البحث على وفق منهجٍ معين وطريقةٍ محدّدة ونوعٍ خاص من الفهم في أحد العلوم، وإلا فكلّ علم ينفتح على إمكانات بحٍث متجدّد تبعا لتجدّدِ نوعِ المناهج وطرائقِ التفكير في قضاياه، وانبثاقِ أسئلة لم تكن حاضرةً في الذهن، واستثمارِ ما هو مسكوت عنه ومنسيّ أو ممنوع في عقل المشتغِل بهذا العلم. لا يتطور العلمُ ولا تحدث فيه منعطفاتٌ إن كان المشتغِل بالعلم يظن أن من سبقه أدرك الحقيقة، وتعرّف على كل وجوهها، واكتشف كلَّ الطرق المؤدية إليها، لا جديد يقوله هو أو غيره في أية مسألة. العلم تراكمي يتطور بتصويبِ أخطائه على الدوام، واختبارِ معطياته الموروثة، وتجديدِ أسئلته، وانفتاحِه وتفاعله مع العلوم الأخرى، وتوظيفِ ما يمكن توظيفه من أدواتها ومناهجها ومفاهيمها في إطار مباحثه.

رأيت أحدَ المتحدثين على التلفزيون يطلق أحكامًا نهائية فيقول: "إن كلَّ النظريات في علم اللغة الحديث قالها ابنُ جني، وهي معروفة في آثاره". يتكرّر مثلُ هذا الكلام في الحديث عن الفلسفة والعلوم الإنسانية الحديثة وغيرها، ويُعبّر عن هذه القناعات بأساليب متنوعة كلُّ أولئك الذين لا يستطيعون التفكيرَ خارج فضاء الهوية وأحلامها وأمانيها ورغباتها. لا يمكن إنكارُ كون ‏ابن جني رائدًا سبق عصرَه في هذا الحقل، إلا أن هذا الرجل الفذّ وأمثاله حلقةٌ في رحلة اكتشاف أبدية تضيف وتحذف، لا تتوقف عند نهايات مغلقة، ولا تمتلك القولَ الأخير في هذا العلم أو غيره.كلُّ علم بشري غير مكتمل، العلمُ مهما كان مرآةٌ لنقص الإنسان. لم تكتمل الفيزياء الحديثة عند نيوتن، ولا علم النفس عند فرويد أو يونغ أو ادلر أو لاكان، ولا الفلسفة عند بيكون أو ديكارت أو كانط أو هيغل. لم يبدأ علم اللغة مع ابن جني، ولم يتعطل عند زمن ابن جني أو غيره مهما كان عبقريًا. ليس هناك فيلسوف أو مفكر أو كاتب، مهما كان مقامه يبدأ وينتهي معه أيُّ علم أو معرفة بشرية. علم اللغة من العلوم الحيّة،كلُّ علم حيّ باب البحث فيه مفتوح لا ينغلق. في العصر الحديث انفتحت اللغة على مداخل متنوعة، وتفاعلت مع مختلف معطيات العلوم والمعارف. بحوث علم اللغة اليوم تتفاعل وتؤثر وتتأثر بـالفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والأنثربولوجيا وعلم الأعصاب وعلم الجينات، والذكاء الاصطناعي، وغير ذلك.

القراءة النقدية للقارئ الذكي رافد أساسي يثري الكاتبَ، ويفرض عليه الإخلاصَ للقراء، ويضيء للكاتب ما هو معتم من تفكيره، ويكشف له الواهنَ من آرائه، ويمدّ الكاتبَ وتفكيرَه بشيء من إكسير الحياة، بعد أن يكرّس حضورَ كتابته وفاعليتها.كلُّ كتاب خارج القراءة والمراجعة والنقد تحذفه ذاكرةُ الكتابة بالتدريج. لا قيمةَ لكتابٍ يكرّر ما هو مكرّر في لغته وأفكاره، ولا ينتج أسئلةً وجدلًا. لا قيمةَ لأفكار تنسخ الموروثَ والمتداولَ والمألوف وتمجده. كما لا أثر لكلمةٍ ولدت بعد فوات أوانها، لا فاعلية لكلمةٍ تولد قبل وقتها. الكاتبُ الحاذق يعرف أن لكلِّ كتابة أجلًا لحضورها وفاعليتها.كلُّ كلمة تولد قبل وقتها تختنق بما يحيط صاحبَها بضجيج مَن يستهجنها، وربما لا تجد من ينصت إليها. إلا أن ذلك لا يعفي الكاتبَ من إعلانها بلغة عقلانية غير مستفزّة، لعله يرى وهو حيّ لحظةَ فاعليتها، وتسابقَ الناس للإعلان عنها، وادعاء السبق بقولها.

الحجر الذي يكسر صمتَ البركة يحدث ضجيجاً، الكتابُ الحقيقي يكتبُ تاريخَه الخاص، امتلاكُ المؤلف للكتاب ينتهي لحظةَ انتقاله للقراء، ولا يعود باستطاعته التحكمُ بمصائره التي تفرضها سياقاتُ تلقي القراء، ومواقفُهم المضادّة أو المتفقة معه. يحكي لنا تاريخُ الكتابة أن المواقفَ المضادّة لأيّ كتاب تكرّس حضورَه وتمنحه عمراً طويلاً، وربما تخلّده، في حين ليس للمواقف المتفقة مع الكتاب مثلُ هذا الأثر. ثمة كتب محظوظة يتلقاها الناشرون والقراء باحتفاء أكبر من قيمتها الحقيقية، وثمة كتب على الرغم من أهميتها الفائقة تظل مجهولة، فتلبث سنوات خارج التداول.كلُّ كتابٍ يكتبُ تاريخَه الخاص بعد نشره، يبدأ تاريخُه منذ قراءة القارئ الأول له. أكثرُ الكتاباتِ تحتمي بهالة اسم كاتبها وضجيج القراء غير الخبراء من حوله، لحظة يموت الكاتبُ تنكشفُ أعماله للقراء، فيختبر القراء قدرتها لتدافع عن نفسها في حلبة الصراع، وطالما فضح الناقدُ الخبير مواطنَ وهنها وقوتها، وثغراتِها ورصانتِها، وقدرةَ كلماتها وأفكارها على البقاء برغم ما تتلقاه من نقد، وأحيانًا مواقف انتقام لئيمة من كاتبها وهو في قبره. للكتب الجادّة حياةٌ يتحكمُ في مآلاتها القرّاءُ والنقّادُ، وتحدّد أعمارَها ومصيرَها مواقفُهم وانطباعاتُهم، ونوعُ تلقيهم لمضمونها، وكيفيةُ قراءتهم لنصوصها. القارئ المحترف تقوده متعة الدهشة للظفر بالكتب الثمينة، هو مَنْ ينبغي أن يكتشفَ لا أن يقوده غيرُهُ كأعمى. يمتلك القرّاءُ مصائر الكتب بعد قراءتها، ربما تدخلُ بعضُ الكتب كهوفَ النسيان بعد صدورها مباشرةً على الرغم من أهميتها، ثم يأتي مَنْ يُخرِجها من الظلام ويسلّط الضوءَ عليها بعدَ مدة، وربما يتلقى القراءُ كتبًا أخرى لحظةَ صدورها بثقةٍ واهتمام، مع أنها ليست ذاتَ قيمة علمية. لا يمكث من الكلمات إلا ما يتواصل تأثيرُه في القراء، ويمتلك إمكانات مقاومة وتحدٍ في غياب كاتبه.

***

د. عبد الجبار الرفاعي 

 

 

في المثقف اليوم