قضايا

مراد غريبي: مع الدكتور الرفاعي: بين ظاهرة الكراهية وانبعاث التمدن؟!

آخر مقال للدكتور عبد الجبار الرفاعي يسلط الضوء على ظاهرة خطيرة ومقلقة ترتبط براهنية المجتمع العربي والإسلامي على وجه الخصوص بشتى فضاءاته، كما أن الأفكار المتسلسلة في المقال تؤشر لإشكاليات مهمة ترتبط بحاضر العلوم الإنسانية والإجتماعية في واقع الحقول الأكاديمية والآفاق المعرفية وواقعيتها وأزمة المناهج التربوية والتعليمية وما هنالك من قضايا تعكس مشكلات تنمية الإنسان والمجتمع في الجغرافية العربية والاسلامية، في هذه السطور سنحاول قراءة المقال بشكل معمق عبر نقاط متعددة تفتح أفاقا أخرى أمام القارئ وتساعد في توسعة النقاش بما يتناسب وحاجتنا للمحبة والتسامح والمحبة والتعارف والتعايش وما هنالك من رافعات التمدن والنهضة والإصلاح والتجديد في فضاءاتنا السوسيوثقافية المريضة من البيت والمدرسة إلى الإدارة والإعلام والجامعة وحتى بيوت الله لم تسلم من معطلات السلام النفسي والاجتماعي العام:

1) بحث الكراهية كظاهرة نفس- اجتماعية أو كإنحراف أخلاقي على ضوء المقاربات الدينية يحتاج إلى ضبط منهجي لأن النظريات النفسانية والسوسيولوجية مهما بلغت من الدقة تبقى نسبية لعيناتها، وبالنسبة للتأصيلات الدينية هناك ضرورة لمعرفة الأوجه الأصولية والفقهية والتاريخية والكلامية كإحاطة معرفية تسعفنا في بلورة تصور أمثل نوعا ما، كل ذلك للوصول إلى صياغة التقرير العلمي القادر على رفد وعي الإشكالات والمشكلات المرتبطة بالكراهية كمفهوم متشابك وجدلي لتحديد المدخل السليم في التعامل ثقافيا ومجتمعيا..

2) هناك دراسة مهمة لصديقي الدكتور نادر كاظم من جامعة البحرين حول لماذا نكره؟ صدرت ككتاب قبل سنوات وهي تتقاطع في كثير من مطارحات المفكر الدكتور عبد الجبار الرفاعي، خصوصا في مدى ارتباط الكراهية كظاهرة اجتماعية بحالة الجنوح الغالبة بخصوص وعي ماهية الحريات وغلبة نزعة السيطرة الثقافية وتسقيط كل آفاق تشكل التمدن..

3) ضمن فلسفة الأخلاق المعاصرة وعلاقتها بالعلوم الإنسانية والاجتماعية المعاصرة تبدو الكراهية كرد فعل اجتماعي لأن الأخلاق المادية فرضت أنماطا سلوكية تستمد صحتها من حركة الأفكار والثقافة الغالبة في سوق الحياة، هذا ما يدفع الكثيرين لتبرير الكراهية كحق وممانعة ضد مهددات سوسيولوجية...

4) الكراهية دينيا مرفوضة غالبا بل تماما لكن بحسب تعبير الدكتور الرفاعي المحبة معلنة لكن الكراهية مكبوتة لا تعلن ولا تكتشف إلا بآثارها، وكما عبر بأن الأضداد طبيعية في الحياة وبها تتجدد وتتطور الحياة الإنسانية، تكون الكراهية دينيا مرفوضة ليس كأثر فقط بل كفكرة وكثقافة وكأيديولوجية وهذا المبحث استراتيجي في تحرير الفهم الديني من نزعة السيطرة بالكراهية حيث أصل الدين وآفاقه وأهدافه ومقاصده وأسسه هو " لا إكراه" وهذا مكمن وعي الحرية الإنسانية..

5) دينيا وفق الرؤية القرآنية الكراهية ذات ارتباط وثيق بمشروع الشيطان في افساد الوعي الايماني والتوازن الاخلاقي والسلام الإنساني والتمدن السلوكي على ضوء القلب السليم من النزعات الفاسدة، على هذا الأساس ضمن نطاق فلسفة الدين هناك حاجة ثقافية ملحة لدراسة ماهية مفهوم الشيطان قرآنيا ضمن الوجه المعرفي الكلامي الجديد وتأسيسا لتفكيك معادلة الكراهية في أبعادها النفسية والاجتماعية بما يتواءم مع بناء تصورات تغييرية واقعية وذات مرجعية معرفية قرآنية معمقة ..

6) فلسفيا هناك اشتغال معرفي بهذا الشأن وقد حاول العديد من الفلاسفة في الغرب سبر أغوار الكراهية نفسانيا واجتماعيا لكن القاعدة كانت ضمن المركزية الغربية، ولعل مبادرة الدكتور الرفاعي في مناقشة الكراهية كحاجة أو كظاهرة، بدل التركيز في لماذا الكراهية ؟ الدكتور سبق وأن ناقش الحب والمحبة والسلام والتسامح، وكما يعبر أهل الصلاح الحقيقة المرة خير ألف مرة من الوهم المريح، لذا ضروري بحث الكراهية من قبيل دراسة الدكتور كاظم التي ذكرتها في أعلى المقال، لأن مقصد بحث فلسفة الكراهية وماهياتها وآثارها ليس للتبرير وإنما لبناء السلام فكرا وثقافة ونفسيا ومجتمعيا وتاريخيا كتمهيد لبلورة علمية من شأنها صناعة التمدن السليم وليس المغشوش..

7) نقطة جوهرية مهمة جدا ترتبط بموقعية العدالة في فهم الكراهية كحاجة وهذا إشكال فلسفي وديني بإمتياز، لا يمكننا أن نحكم على الكراهية حكما أبديا ونهائيا، ما يدفعنا لمراجعة دقيقة لفهمنا العام للأخلاق والدين كرافعة في مشوار التجديد والتغيير المنشودين، ما يضيف لإشكال المقال قوة وإثارة فلسفية هو هل الحاجة ضرورة مؤقتة أو دائمة، استثنائية أم عامة ؟؟

8) الطبيعة الإنسانية سبر أغوارها يحتاج إلى منظومة منهجية متناسقة، وهذه المنظومة ترتبط ارتباطا وثيقا بجدلية الوحي والعقل، وإشكاليات التعارض والتماهي ومعضلات علم الكلام القديم والجديد، بحث الكراهية كظاهرة إنسانية هل ذاتية أم تربوية اجتماعية، وهل هي مبحث أخلاقي أو هوياتي، هناك جدليات واقعية صاخبة تزيد الموضوع أهمية علمية وضرورة اجتماعية إستراتيجية، مما ينهض بواقع الدين والعلم كمنظومة أساسية في علاج مشكلات الثقافة الاجتماعية للأفراد والمجتمعات..

9) من خلال بحث الكراهية ضمن مبحث الأخلاق القرآنية، هناك معامل حيوي في بناء نظرية تربوية خلاقة للكرامة الإنسانية الواقعية وليس النظرية فقط، وهذا بدوره يحيلنا إلى مباحث هامة ضمن حقل تصحيح الثقافة الإسلامية وماهية التنمية القيّمية في حركة النبي (ص) والانبياء عليهم السلام على ضوء آيات القرآن الكريم وإشكاليات حقوق الإنسان إسلاميا ومشكلاتها في الزمن المعاصر، دون التغافل عن واقع التحوّر النفسي والاجتماعي في ظل التدين المغشوش..

10) الحاجة للكراهية قد تكون مصيرية عندما تبحث كموضوع وليس كذات، أي المقصد هو الخير الصادق وذلك متوقف على نفس الباحث وثقافته وتمثله للثقافة، وبالتالي الدكتور عبد الجبار الرفاعي رفع الله شأنه وزاده من فضله، ألقى بجمرة الكراهية لأولي الألباب والقابض على دينه كالقابض على الجمر..

أمتع ما يجذبك في الكاتب والمفكر المخلص لإنسانيتك، أنه يحاورك بصدق ويشخص الموضوع بمقاييس الطب المتطورة ويفتح أمامك الباب واسعا مضيّفا إياك لتفكر معه والحال تعالوا إلى كلمة سواء، والكلمة السواء لا تترسخ إلا بعد تحصيل حاصل المحبة والسلام واللقاء والإحترام والتعايش والتسامح، حيث تتضاءل نسب استثمار الكراهية، وهذا ديدن الدكتور المجدد عبد الجبار الرفاعي في جل إسهاماته الفكرية النقدية، حيث بناء الوعي الثقافي لا يتحقق بمداهنة الزيف والكبت والنفاق والغش لأن التمدن يؤسّس على الثقة كعقد أخلاقي اجتماعي، رسالة مقال المجدد الدكتور الرفاعي هي مدخل صدق من أجل مخرج عدل ومحبة وسلام...شكرا أستاذنا المبجل الدكتور عبد الجبار الرفاعي ونأمل أن يتسع الموضوع عبر بحث أبعاده وتحدياته الراهنة كأساس لصناعة وعي متجدد بإشكاليات ومشكلات ومخاطر الثقافة العلمية والتدين المغشوشة على الأمة وأجيالها الصاعدة...

 

غريبي مراد- باحث في الفكر

........................

للاطلاع

عبد الجبار الرفاعي: هل هناك حاجة للكراهية؟!

 

 

في المثقف اليوم