قضايا

ضياء نافع: جامعة العلوم الانسانية في روسيا

توجد جامعات متخصصة لدراسة العلوم الانسانية فقط في العديد من بلدان العالم، بما فيها طبعا في بعض بلدان عالمنا العربي، ولكننا نريد التوقف في مقالتنا هذه عند جامعة العلوم الانسانية في روسيا بالذات، لاننا نتابع مسيرة التعليم العالي الروسي بكل ظواهره الايجابية والسلبيه، وذلك لأننا نظن، ان هذه المتابعة الدقيقة مفيدة لنا،  اذ ربما (نكرر – ربما) نستطيع ان نستخلص منها بعض الدروس والاستنتاجات المفيدة في حياتنا الجامعية العراقية، فالاطلاع على تجارب الاخرين في مسيرة التعليم العالي ضرورة  (ونحن بشكل عام لازلنا مبتدئين في هدا المجال،  فمسيرة التعليم العالي عندنا ترتبط زمنيّا ببداية القرن العشرين ليس الا)، والاطلاع على تجربة التعليم العالي في دولة مثل روسيا يعني، امكانيّة ان نأخذ بنظر الاعتبار ايجابيات تلك التجربة الجامعية (ولكن ليس بشكل تلقائي اعمى، وانما حسب واقعنا و ظروفنا وامكانياتنا طبعا)، وان نتذكّر دائما  سلبياتها و نتجنب تلك السلبيات قدر ما نستطيع، وهذه السلبيات ليست قليلة مع الاسف في الجامعات الروسيّة عموما (رغم كل ما قيل ويقال من هذا الجانب المؤيد او من الجانب الآخر المعاكس له، فالاقوال كثيرة ولكن الوقائع هي التي تحدد و تتكلم في نهاية المطاف، وهي التي يجب ان نستند عليها  عند التقييم الموضوعي العام  لمستوى تلك الجامعات) .

بدأ التفكير بتأسيس جامعة للعلوم الانسانية في روسيا في تسعينيات القرن العشرين من قبل بعض اعضاء اكاديمية العلوم الروسية، اذ لاحظ اعضاء الاكاديمية الوهن والضعف (ان صحّ التعبير) الذي اصاب المجتمع الروسي تجاه العلوم الانسانية حصرا، وقرروا معالجة هذا الجانب في المجتمع عن طريق تأسيس جامعة متخصصة تدرس العلوم الانسانية بالذات، وتحاول – بالتالي - الارتقاء بتلك العلوم وتوسيعها، كي تشغل هذه العلوم مكانتها الطبيعية في وعي المجتمع وتؤدي دورها المهم في مسيرته اللاحقة، وهي ملاحظة علمية صحيحة ودقيقة جدا في تلك المرحلة من تاريخ المجتمع الروسي وتشخيص موضوعي للخلل المرعب الذي اصاب الاوساط الاجتماعية الروسية، اذ انهارت الدولة السوفيتية عام 1991(وهو حدث هائل جدا محليا وعالميا !)، ولم تنهض بعد الدولة الجديدة و البديلة (اي روسيا الاتحادية) محلها كما يجب، وهي ظاهرة طبيعية في مثل تلك التحوّلات الاجتماعية الكبرى في تاريخ الامم والشعوب . وهكذا حققت اكاديمية العلوم الروسية افكارها تلك عام 1994 ضمن الامكانيات المتاحة لها آنذاك، واعلنت حكومة روسيا الاتحادية وفق أمر اداري رسمي  تأسيس - (جامعة العلوم الانسانية)، وقد تم تسجيل عدة صفات محددة في نفس التسمية تلك، منها – (الجامعة الحكومية الاكاديمية)، فهي (حكوميّة)، اي انها جامعة رسمية تكون  الدراسة فيها مجانا، وليست جامعة اهلية خاصة تعتمد على اجور الدراسة وتهدف للحصول على الربح من تلك الاجور (كما يحدث عندنا مع الاسف، وكذلك في بلدان اخرى في العالم، بما فيها روسيا)، وان هذه الجامعة (اكاديميّة)، اي تديرها اكاديمية العلوم الروسية وتابعة لها و وهي التي تشرف عليها، ولا علاقة لها مع اي مؤسسة اخرى . لقد اثبتت تجربة السنوات الاخيرة نجاح هذه الجامعة فعلا، فاعداد طلبتها كانت غير كبيرة، ويستمع طلبتها منذ البداية الى محاضرات يلقيها عليهم اكاديميون كبار متخصصون في تلك العلوم الانسانية، ولا تهدف الجامعة الى (تخريج!) موظفين هنا وهناك، وانما تسعى الى خلق متخصصين شباب في العلوم الانسانية، يعرفون قيمة تلك العلوم وكيفية استخدامها في مسيرة المجتمع الروسي واهميتها لهم ولمجتمعهم .

السؤال الذي يطرح نفسه بعد هذا التعريف الوجير بجامعة العلوم الانسانية في روسيا هو الآتي – هل يمكن للمجمع العلمي العراقي ان يقيم مثل هذه الجامعة في بغداد ؟ والجواب عن هذا السؤال – نعم (حسب اجتهادنا المتواضع)، فالمجمع العلمي العراقي يضم شخصيات علمية رفيعة المستوى، ويمتلك بناية كبيرة في قلب بغداد يمكن ان تستوعب المشروع، وليكن هذا المشروع في بدايتة مقتصرا على الدراسات العليا فقط، اي ان تكون هذه الجامعة مخصصة للحصول على شهادتي الماجستير والدكتوراه ليس الا، وان تكون اعداد طلبة الدراسات العليا هؤلاء ضمن الحد المعقول وفي اطار الاختصاصات المتوفرة  في المجمع العلمي العراقي، مثل اللغة العربية، او الادب العربي، او التاريخ، او الفلسفة، او الاقتصاد، او علم الاجتماع . او علم النفس ...الخ، ومن المؤكّد، ان ادارة المجمع العلمي (ذات التجربة الغنيّة) تستطيع تنظيم هذه الدراسة حسب الضوابط الجامعية المعمول بها في العراق من طريقة قبول الطلبة واعداد كورسات دراسية وامتحانات شاملة واشراف علمي على الاطاريح من قبل المتخصصين المرتبطين بالمجمع ومناقشة تلك الاطاريح .... .

ان خطوة تأسيس جامعة خاصة للعلوم الانسانية باشراف المجمع العلمي العراقي ستكون الاجابة العلمية الحقيقية على هذا (السيل !) من الجامعات الاهلية، التي (غمرت!) العراق في السنين الاخيرة، والتي زادت من مشاكله المتشابكة، اضافة الى (السيل الهائل الآخر!)، الذي غمرنا ايضا من جامعات تجارية او شبه وهميّة تأتينا الى بيوتنا عبر اجهزة الكترونية (ليلا ونهارا!) .

يا رجالات العلم في المجمع العلمي العراقي العتيد، اتمنى ان تحاولوا دراسة هذا المقترح واتخاذ قرار مناسب بشأنه، فجامعة مثل تلك ستؤدي الى بناء جسر فكريّ صلب بين المجمع العلمي والمجتمع العراقي يربط علومكم بابناء مجتمعكم ، ويمكن له ان يساهم في اصلاح مسيرة التعليم العالي في العراق.

***

ا. د. ضياء نافع

في المثقف اليوم