قضايا

مريم لطفي: الطفل الداخلي.. التعسف الذاتي

"ان التواصل مع مشاعر وعواطف وافكار الطفولة من شانه ان يعزز فهمنا لانفسنا" كارل يونغ

يطلق مصطلح الطفل الداخلي في علم النفس على مرحلة الطفولة من الشخصية والذي يحمل التجارب والخبرات التي نمر بها وحتى مرحلة البلوغ متاثرا بعملية الكبت والكبت القسري الذي نحاول من خلالها ان نثبت للاخرين باننا قادرين بل وبالغين بما فيه الكفاية للاستغناء عن الرغبات والسمات الطفولية ، الامر الذي يتسبب بجرح الطفل الداخلي ونتيجة هذا الجرح تتحدد الخطوط العريضة لحياتنا.

ويعود الفضل باكتشاف مفهوم الطفل الداخلي الى كارل يونغ حيث طبق فكرة الطفل الداخلي على نفسه ليكتشف تاثير استعادة الطفولة على العواطف والمشاعر، كما اشار الى ذلك المفهوم فرويد حيث قال"ان معظم الاضطرابات العقلية وانماط السلوك المدمرة ترتبط الى حد ما بهذا الجزء اللاواعي من انفسنا- الطفل الداخلي- .

فهو اذن طفلنا الذي يعيش بداخلنا يغذينا ونغذيه بكل تفاصيل الحياة، وهو البصمة التي تركت فينا خطوطها الواضحة سلبا او ايجابا، وهوتعبير عن مخزون الذكريات والتجارب الطفولية التي اثرت ولازالت تؤثر علينا كبالغين، ومن الجدير بالذكران الكثير من ارباب السوابق والمجرمين ومدمني الكحول والمخدرات وممن يعانون من امراض نفسية متنوعة لديهم مشاكل وخيمة مع الطفل الداخلي.

وفي الغالب نحن نعيش ونستضيف ونضيف طفلنا الداخلي داخل جسدنا البالغ ومهما كبرنا يبقى ذلك الطفل الصغير بكل شقاوته مشاكله ومشاكساته، سلبياته وايجابياته هو الدينمو الذي يحركنا نحو الحياة وتفاصيلها التي تتضمن طريقة الاختيار ونوع الحياة والعمل، وعلاقتنا مع الله والاخرين، روابطنا الاسرية اذا كانت حميمية او مفككة، كل هذا واكثر اذاكان الطفل الداخلي قد عانى من الاهمال او فرط الاهتمام وهما وجهان لعملة واحدة يكون ريعها التمرد، اضف الى ذلك الشعور بالنقص، الفوبيا، التشرد، الاحتياج والفراغ العاطفي، الوحدة، الازدراء، التهميش، ويتعدى ذلك الى امراض نفسية فتاكة كالسادية والماسوخية والسايكوباثية والنرجسية المرضية، هذه الامور وغيرها ممايصعب على الانسان ان يتخلص منها لانها الحجر الاساس الذي تقوم عليه الحياة، وعليه فنحن نسبح اما في نهر رائق اومستنقع آسن فيه كل افكارنا ومعتقداتنا، مشاعرنا، مشاعر الخزي والفشل، المزاجية، الحدود واللاحدود، المنطقية وغير المنطقية، الوساوس، هذه الجراحات المفتوحة التي لم تطبب في حينها بقيت مفتوحة وعلى مر السنين ومر الفصول.

وككل بداية نبدأ بالاسرة، الناس المهمون في حياتنا، الاحداث المفرحة، المحزنة، التصدعات النفسية التي تعرضنا لها، القدوة، المثال السئ، الذكريات بمجملها والتي تبدأ منذ سن الولادة بل منذ كان الطفل جنينا فهو يتحسس الاصوات الوادعة من النشاز تبعا لاحاسيس امه وقد يخزن ذلك الصوت في ذاكرته وما ان يصادفه حتى يتفاعل معه سلبا اوايجابا كردة فعل للحدث، ويستمر الخزن حتى السادسة من العمر مبدئيا ولحد المراهقة ثم البلوغ، لكن السنين الخمس او الست الاولى هي التي تبلور شخصية الطفل، ويتم ذلك عن طريق العقل الباطن الذي يسجل كل صغيرة وكبيرة، كلنا تأثرنا ومنذ ان كنا اطفالاللحزن، للفرح، للهدوء، للغبطة، للماساة، للتشرذم، لمشاعر محزنة اومخجلة نتهيب البوح بها، نحن نتذكر كل شئ وكل التفاصيل بل ربما حتى السنة واليوم والساعة التي حدث فيها الحدث الذي ترك اثره بليغا في انفسنا ومع تراكم الاحداث في عقلنا الباطن الذي يبدو انه يتحمل اكثر من طاقته الاستعابية بكثيرفي وقت اننا في سن لايسمح لنا بمناقشة اي امر خارج نطاق المألوف او الحد الادنى من الطاقة الاستيعابية لثقافة الاسرة او المحيط.

نحن نبحر في عالم الطفولة الوديع/ الصاخب الملئ بالاحداث ومن خلال ابحارنا سنقف عند هذه الاسئلة:

- هل تعرضت بطفولتك لتشرذم الهوية لان الظروف اضطرتك لان تعيش هنا اوهناك مع الاهل تارة ومع الاقارب اخرى مع الجار يوما ومع الصديق آخر تبعا لظروف الحياة التي اضطرتك لتعدد الولاءات!

- هل تعرضت للتعنيف الجسدي والمعنوي في سن مبكرة وترك ذلك التعنيف وشوما وشروخا في نفسك!

- هل تعرضت للامبالاة والاهمال من قبل الوالدين لسبب اولاخر!

- هل كنت تشمئز من تصرف معين ولاتستطيع مواجهته!

- هل كنت موضع سخرية وتنابز بالالقاب من قبل الاخرين!

- هل جربت الوحدة والانعزال وكنت وحيدا راغبا اوراهبا!

- هل نشات في اسرة مفككة وعانيت ماعانيت من المشاكل الابوية التي لاتنتهي وتمنيت ان تحيا واو ليوم واحد بهدوء!

- هل كتمت فرحك من اجل ارضاء الاخرين، بل الاقسى هل كتمت حزنك وفضحتك دموعك، وكيف تتمكن من كتما ن دموعك! وذلك الاقسى من اي مشاعر!!

- هل تمنيت الصراخ باعلى صوتك للتعبير عن حالة نفسية اعترتك!

- هل اضطررت للاعتذار عن خطأ لم ترتكبه، بل وحملت وزرا لم تقترفه!

- هل رغبت بتكسير الاشياء لتنفس عن غضبك!

- هل كرهت نفسك يوما لسبب اولاخر!

- هل عشت مع زوج ام عنيف او زوجة اب قاسية!

- هل راودتك فكرة الهروب من المنزل بسبب الانتهاكات النفسية

التي تتعرض لها!

- هل تعرضت للتفرقة الاسرية بين الاخوة تحت اي بند وبقيت تلك التفرقة تنغص عليك!

- هل نلت حظك من السعادة ام انتزعت منك عنوة لسبب اولاخر!

- هل ساورتك فكرة الانتقام من احد الوالدين او اي فرد من افراد الاسرة او صديق اومعلم المدرسة بعد تعرضك للازدراء!

- هل استمعت لبكاء طفلك ونحيبه، ام انك ايضا اضطهدته وساهمت في قمعه!

- هل لازلت تقتني الالعاب والدمى واي مقتنيات لم تحصل عليها في حينها مبررا لنفسك وللاخرين اي تبريرمقنع!

هذه الامور وغيرها كل واحد منا مر بها اوباحدها فانعكست سلبا على حياته وتسببت بايلام طفلنا الداخلي الذي عانى ماعانى بسبب اضطهاد الاخرين له وبسبب مشاركتنا نحن ايضا باضطهاده وقمعه لسبب اولاخر وذلك هو التعسف الذاتي.

فاذا كنت ممن عانى من هذه الامور اوجزء منها او واحدة على الاقل لازالت تقظ مضجعك وتؤلمك فان لديك مشكلة مع طفلك الداخلي.

ان الاجحاف بحق الطفل الداخلي هو التعسف الذي نمارسه مع ذواتنا من دون شعور وينتج عن ذلك القمع مشاكلا وامراضا نفسية لاحصر لها تساهم في هدم او كسر الشخصية مهما كبرت ومهما حصدت من نجاحات فسيبقى شئ ما ينغص عليها متعة الحياة.

واذا نظرنا واقعيا الى اعراض اصابة الطفل الداخلي او الطفل الداخلي المجروح ان صح التعبير سنجد الاتي:

- الشعور الدائم بخلل ما او نقص ما ان صح التعبير ولكل شخصية نقص محدد تعاني منه تبعا لالية الحرمان التي تعرضت له.

- الشعور بالاختلاف مع الاخرين الامر الذي يتسبب بانخفاض الهوية او الشعور بالدونية ان صح التعبير.

- الشعور بان الحياة عبارة عن دوامة كبيرة والتعثر للوصول الى بداية السلم مع كثرة التشويش الذي يؤدي الى الاحباط.

- صعوبة التخلص من العلاقات المسيئة والسامة.

- الانتقاد الذاتي الجائر او "جلد الذات"بمعنى اصح مع الشعور بضعف الاداء.

- الخجل الدائم الذي يؤدي الى ضياع الكثير من الفرص والقرارات المهمة .

- صعوبة المواجهة خصوصا مع المتنمرين والذين يصطادون بالماء العكر.

- الانقياد القسري الذي يتولاه اي شريك اوقريب او صديق بل يتعدى الامر الى ان يكون الانسان منقادا لابنه ومستغلا بصورة مرضية وسهولة الانقياد مرض نفسي يسببه الاضطهاد والقمع في الطفولة.

- صعوبة ادارة المواقف وصعوبة الخوض في حوارات ومناقشات لابسبب الجهل بل بسبب التردد والخوف من المواجهة.

فهل فكرت يوما ايها القارئ الكريم كيف تربت على كتفي طفلك الداخلي وتضمد جراحه وتنقذه مما هو فيه!

ان كنت فكرت بذلك فانك على الطريق الصحيح وقد اتخذت اولى خطواتك في سبيل العلاج الذاتي .

ولانك انت المسؤول الاول عن طفلك الذي لازال يقودك بكل عقده التي باتت حملا ثقيلا عليك، فهل جربت الوصول الى مرحلة الفطام منه !وانه اصبح ناضجا بما فيه الكفاية لترويضه واحتواءه وتهدئته ومحاولة ايجاد اجوبة لكل الاسئلة التي كانت تشغله والتي نغصت عليكما متعة الحياة.

ولنقف على بعض الخطوات التي نتمكن من خلالها من علاج الطفل الداخلي والتي تتمثل بما ياتي:

- الاعتراف اولا بوجود الطفل الداخلي كجزء لايتجزء من الشخصية والسعي للوصول الى مرحلة البلوغ.

- العودة الى ذكريات الطفولة لاعادة استكشاف الاشياء التي كانت تمنحك السعادة والطمانينة وكذلك الاشياء المؤلمة والتي تجعلك حزينا، هذا التقييم من شانه ان يعيد اكتشاف الامور ووضعها في نصابها الحقيقي والتي بقيت عالقة متارجحة بين الطفولة والبلوغ.

- اشباع الرغبات على المستوى المادي والمعنوي لعلاج الحرمان الذي لازال ينغص عليك الحياة.

- تحديد انماط التخريب والهدم الذاتي كالغضب والانفعالات والابتزاز العاطفي والخوف والانطواء والتعامل معها عن طريق ضخ مفردات مغايرة.

- انت بحاجة لشخص مخلص تعتمد عليه ليخلصك من تلك الرواسب وهذاالشخص لابد ان يكون انت ولاباس من استشارة طبيب نفسي ان لزم الامر.

- انقاذ طفلك يترتب عليه ان تتصالح معه اولا وتحتويه لتستطيع ملأ الفراغ العاطفي الذي يعاني منه كلاكما، عن طريق تقمص دور الاب، اي ان تكون أبا لنفسك!

- خصص مكانا هادئا للاعتناء بنفسك حيث يمكنك ان تتواصل مع طفلك الداخلي بصوت محب وهادئ، اخبره انك تحبه وانه مهماً جدا عندك ومقدرا من قبل الاخرين.

- أعد الثقة اليه عن طريق التودد اليه واخباره بان عليه التوقف عن دفع "الديّة" عن اخطاء عفا عنها الزمن وبانه ليس مدينا لاحد باي شئ فوق طاقته.

- عليك اقناعه بانه كان في مكان لايصلح له وهو الان بغير مكان وهو كبيرا بما يكفي لحماية نفسه من اي موقف غير لائق، وهوالان يستطيع ان يقول "لا"بملئ فيهِ وتلك هي الانا الصحية التي يجب ان يتحلى بها.

ان محاولة طمس معالم الصورة الطفولية من شخصيتنا هي محاولة يائسة للاصرار على محو سمات –الطفل الداخلي- لانه حاضرا وواع بما يكفي موجودا وبقوة في العقل اللاواعي ويؤثر بقوة على العقل الواعي من خلال التصرفات والسلوكيات وانماط الحياة وان اي محاولة لاسكاته هي محاولة لذر الملح على الجرح، بل ان التواصل معه والتحدث اليه كطفل حقيقي باحترام ومحبة والسعي لعلاجه هو السبيل الوحيد للتصالح معه وهو اولى الخطوات للتصالح مع الذات.

واخيرا اقول:

كنت أصمت لتسير حياتي كما يشاء الاخرين، ليتني أفصحت عما بداخلي ولو مرة واحدة!!

 

مريم لطفي

 

في المثقف اليوم