قضايا

مصعب قاسم عزاوي: مزالق الوعظ الفكري

مصعب قاسم عزاويقد يستقيم القول بشكل عقلاني صريح بأنه من غير الصالح أو المفيد الدخول في حالة من «الوعظ الأبوي فكرياً» لتلقين الآخرين ما يجب أن يفعلوه أو يقوموا به.؛ وذلك لسببين، الأول هو شبه استحالة تقديم أي مشروع فكري جامع مانع يمكن أن يلم بكل المتغيرات وعناصر الحركة في المجتمعات في سياق تفاعلها الذي لا ينقطع مع المؤثرات التي تتداخل في حركيتها وآلية سلوك أفراد تلك المجتمعات فيها. وذلك ليس لقصور علمي أو عقلي في ذهن ووجدان أي من المفكرين، وإنما لتعقد العوامل التي تتداخل وسوف تتداخل في تشكيل أي ظاهرة اجتماعية. فكما هو الحال في صعوبة وضع معادلة رياضية فيزيائية جامعة مانعة تشرح كل القوى المحركة والمقاومة لفعل سقوط حجر في نهر يجري، لعدم قدرتها على التنبؤ بكثافة الماء ومستوى الرواسب المحمولة فيه، وسرعة الرياح حين سقوط الحجر، ودرجة الحرارة والرطوبة الجوية عند وقوع ذلك الفعل، وحتى احتمال مرور شرغوف أو سمكة تحت الحجر حال سقوطه في النهر، وغير ذلك كثير من العناصر التي قد تغير من المسار الفيزيائي لفعل حركي ضئيل كسقوط ذلك الحجر في النهر الجاري، فما بالك بحركية وصيرورة المجتمعات التي يتداخل فيها المحسوس الواقعي بذلك المجرد، وذلك المتخيل المشتهى في وجدان بني البشر، ويسعون لتحقيقه بإراداتهم. وبشكل أكثر تشخيصاً أعتقد أن محاولة التفكر ورسم صورة لما يجب أن تكون عليه المجتمعات في المستقبل محاولة مكتوب لها الإخفاق لأسباب موضوعية تتعلق بأن منظار الحالة الراهنة مهما كان ثاقباً وحاذقاً لا يمكن له أن يلم بما سوف تكون عليه الأحوال الواقعية وشروطها، وما ينتج عنها من ميول وإرادات وأهواء واهتمامات لدى بني البشر جراء تفاعلها مع تلك الشروط في قابل الأيام.

ولذلك أعتقد أنه من الأجدى في ميدان التنوير الاجتهاد من كل القادرين لتأسيس وتوطيد وتأصيل مجموعة من المفاتيح المعرفية التي تمكن بني البشر من تفهم واقعهم ومشاكلهم التي يعانون منها بشكل يحترم قدرات عقول بني البشر الفائقة القادرة على استيعاب وفقه كل ما يجعل من حيواتها معاناة سرمدية إن تم تبسيطه وتكثيفه، بشكل يبتعد عن ذلك النموذج من «الوعي الثقافي الطبقي البغيض» الذي ينظر إلى المعرفة بأنها حكر «للمتعلمين والخبراء»، وبحيث تصبح تلك المفاتيح المعرفية أدوات يتسلح بها البشر لتفكيك مشاكلهم التي يواجهونها واتخاذ القرارات التي يعتقدون بأنها الأكثر صواباً وأخلاقية وجدوى لتحقيق أهدافهم الموضوعية في حيواتهم. وبشكل أكثر تبسيطاً لا يمكن أن تُعَلَّمَ إنساناً كيف لا بد أن يمشي في رمال الصحراء أو ثلوج الجبال أو مستنقعات الأهوار، وإنما تساعده لاستنهاض قدرات دماغه الفطرية المتبناة عضوياً في دارات قشرته الدماغية الفائقة ومخيخه الحاذق على فن التوازن واستخدام كل حواسه الأساسية وكل مستقبلات الوضعة في جسده بكفاءة، وذلك كفيل بتمكينه من خوض غمار الحياة بكل تغيراتها وتلاوينها بكفاءة من الغالب أن تمكنه من الوصول إلى بر الأمان، أو تُمَكَّنَ صنواً له من عَضْدِه إن زَلَّت قدمه؛ في استحضار جنيني لميل الإنسان الفطري للحفاظ على نفسه ونفوس الآخرين من البشر الذين قد يعضدونه في وقت ملمة في المستقبل أيضاً، وهو التوصيف الأكثر تبسيطاً عن أي حراك اجتماعي لبشر عاقلين يحتمل أن يفضي إلى ترقي ذلك المجتمع وتحسين مستوى حيوات أفراده الذين يتشاركون فيه.

ولزيادة التبئير فإني أعتقد بأنه لا يحق لأي مجتهدين في حقل المعرفة والتفكير مطالبة الآخرين بالقيام بأي فعل، كما المطالبة بالثورة أو مقارعة المستبدين أو غيرها من الخيارات الأخلاقية الواجبة والملحة في حيواتنا المعاصرة، إذ أن ذلك خيار مكلف من النواحي الجسدية المحضة والمعنوية، وقد يعني فناء الشخص وأسرته ومن يعيلهم من وجه البسيطة، وهو ما يعني أن مثل تلك الخيارات لا بد لصاحبها من اتخاذها بنفسه والتخطيط لتحمل عواقبها بإراداته المحضة حسب ظروفه الموضوعية بالاستناد إلى المفاتيح المعرفية السالفة الذكر والتي استبطنها في عقله ووجدانه، وذلك هو السبيل الوحيد لديمومة أي حراك اجتماعي وعدم انطفائه وخبوه كما كان الحال للأسف في الكثير من منعطفات الحراك الاجتماعي التاريخي عربياً وعالمياً.

 

مصعب قاسم عزاوي

 

في المثقف اليوم