قضايا

الإسلام الوراثي والإسلام الذاتي عند جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

لا يمكن لأيّ حضارَةٍ أن تنمُو في مُحِيطٍ مُنْغَلِقٍ مُتَقَوْقِعٍ مَعْزُولٍ

هاهي الأمم تدفع ثمن أخطائها وجرائمها، لأنها لم تضع البرامج المشروعة التي تتكفل بمواجهة التحديات ولم تساهم في صياغة عالم جديد تتعايش فيه الأفكار والهويات والمذاهب والأديان، الوصية التي تركها عقلاء هي أن يكون الإنسان عميق التفكير قبل ان يهاجم الآخر، ثاقب النظر وعقلاني التحليل، عادل في معالجة القضايا وتحليلها والفصل فيها، قبل ان يصدر أحكاما مسبقة على الآخر، لأن القاضي العادل يسمع لكلا الطرفين لا لطرف دون الآخر

إن ما أقدم عليه الإحتلال الفرنسي بغلق المساجد والأوقاف والمدارس لزرع التخلف ونشر الجهل والأمية دفع علماء الدين في الجزائر الذين تخرجوا من الزيتونة في البحث عن مكانة لهم والمطالبة بفصل الدين عن الدولة وكانت فعلا هذه المطالب السايسية للرحكة الوطنية التي تزعهما راد النهضة الإسلامية العلامة الإمام عبد الحميد ابن باديس في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لتطبيق قانون فصل الدين عن الدولة على الجميع مسلمين مسيحيين ويهود وانتزاع إدارة المؤسسات الدينية الإسلامية من الإدارة الفرنسية وغسنادها لهيئات جزلئرية مسلمة خاصة وأن رجال الإصلاح الديني لم يكونوا منغلقين، فقد فتحوا باب "الإجتهاد"، حتى يتحرر المسلمون من التقليد الأعمى كونه لا يخدم المرحلة الراهينة، إلا أن خصوم المدرسة الباديسية تمسكوا بأطروحة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لإيهام الشباب المسلم أنها اصطبغت بصبغة علمانية، دون أن تتدارك أن هذه المطالب كانت لمرحلة معينة ولم تجعلها قاعدة أساسية لكيى تستمر مدى الدهر.

فالإسلام في نظر ابن باديس وصحبه كان أحد العناصر الأساسية للشخصية الوطنية، فابن باديس يرى أن هناك إسلامين: الإسلام الوراثي والإسلام الذاتي، والإسلام الوراثي له إيجابيات وله سلبيات، فمن إيجابياته أن الإسلام الوراثي حفظ على الأمم الضعيفة المتمسكة به وخصوصا العربية منها شخصيتها والأخلاق ترجع به، أما سلبياته لخصها ابن باديس في قوله: " لكن هذا الإسلام الوراثي لا يمكن أن ينهض بالأمم، لأن الأمم لا يمكن أن تنهض إلا بعد تنبيه أفكاره وتفتح أنظارها، والإسلام الوراثي مبني على الجمود والتقليد فلا فكر فيه لا نظر، ويقصد عبد الحميد ابن باديس بالنظر " الإجتهاد" الذي يحاول بعض الإسلاميين تجاهله بل إلغاؤه.

أما الإسلام الذاتي فهو إسلامُ من يفهم قواعد الإسلام ويدرك محاسن الإسلام في عقائده وأخلاقه وآدابه وأحكامه وأعماله، الإسلام الذاتي هو أن يتفقه المسلم -حسب طاقاته-، فلا يتعصب لفلان أو يكن العدائية لمن يخالفه الرأي أو المذهب ويبني ذلك كله على الفكر والنظر، فيفرق بين الطيب والخبيث فيحيا حياة فكر وإيمان وعمل، ذلك ما يحدث الآن والصراع القائم بين الشمال والجنوب سواء ما تعلق بالفكر أو الدين أو الإقتصاد، خاصة بعد سقوط حائط برلين، رفع فيه أهل الجنوب شعار "الإسلام هو الحل" دون أن يفكروا في عواقب ما يمكن حدوثه على كل المستويات استغلوا على الخصوص أمية الجماهير المهمشة والسطحية الفكرية التي تولدت عن ضعف مستوى التعليم وانتشار الأمية والفقر.

 ويمكن القول أنه حتى بعض الإسلاميين "المأجورين" (بدون تعميم طبعا) الذين ينشرون الفكر المتطرف العدائي ويحرضون، كانوا ولا زالوا يعملون بتعليمات القوى الضاغطه من الجماعات الإسلاموية، أي اللوبي الإسلاموي (القاعدة ثم داعش) فتحوّلوا إلى دواعش، القتل عندهم كشرب الماء، فكان الإنفجار الديني الإيديولوجي دافعا قويا لإسقاط المقدسات والحضارات والقيم الإنسانية والإسلامية، جعلت الكثير من أبناء الجيل الحديث يكفرون بالدين وبكل المقدسات، تمثل ذلك في انهيار القضايا الجوهرية التي كانت كما يقول محمد الميلي في مذكراته تمثل اللحمة بين الأمم وحتى بين أبناء البلد الواحد، وهاهي الأمم تدفع ثمن أخطائها وجرائمها، لأنها لم تضع البرامج المشروعة التي تتكفل بمواجهة التحديات ولم تساهم في صياغة عالم جديد تتعايش فيه الأفكار والهويات والمذاهب والأديان.

لقد أعطى المؤرخ الجزائري محمد الميلي مفهوما للإجتهاد، فقال: إنه يعني أن الإنسان مُخَوَّلٌ لأن يصوغ الحلول الملائمة لمشاكل عصره، وإذا كان عليه أن يهتدي بالمبادئ الكبرى للفلسفة القرآنية، فإن عليه ايضا أن لا يتقيد باجتهادات وفتاوي بشرية، لأنها إذا كانت تصلح لزمن سبق، فقد لا تكون صالحة لزمن لاحق في مواجهة متغيرات لم يكن السابقون قد تصوروا إمكانية حدوثها، والإجتهاد حسبه هو أن تشغل عقلك وتحلل ما يحيط بك من أفكار، أي انك تشخص واقع مجتمع ما من خلال فقه الواقع، فأفلاطون أوّل أفكاره في حواراته حتى أصبح إنسانه قادرا على امتلاك مصيره وحتى لا يبقى خارج دارة التاريخ، يقول المؤرخ محمد الميلي: " تتعزز اللاعقلانية عندما تهمش الثقافات الوطنية في حين أن العصر الحالي يتطلب من كل مسعى مجتمعي أن يرقى إلى المستقبل.

فالإجتهاد إذًا هو أن تحلل الواقع القائم والوقوف على أسباب الأزمة التي تتخبط فيها البشرية من خلال تفسير العلاقات الإجتماعية ولا نقول العلاقات الإنسانية، لأن إنسان هذا العصر مسخ نفسه ولم يعد ذلك الإنسان الذي حدد الله طريقه وأكرمه فزوده بنعمة "العقل" ليجعل منه ميزانا يزن به الأمور ويكون في خدمة البشرية حيث جعله خليفة في الأرض، لكن ما فعل هذا الإنسان؟، فقد عاث في الأرض فسادا وسفك الدماء وأهلك الحرث والنسل بتعصبه الفكري وجبروته وطغيانه وأنانيته وفردانيته، (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين،قال الملائكة أتجعل من يفسد فيها يسفك الدماء ونحن نقدسك ونسبح لك؟ قال إني أعلم مالا تعلمون فسجد الملائكة كلهم إلى إبليس أبى وستكبر ..الخ)، فالنقاشات التي تدار حايا - كدليل- عبر مختلف المواقع والمؤسسات وفي إطار حوار الثقافات والحضارات وحوار الأديان، فلولا نزعة الشك لما حدثت هذه النقاشات التي توسعت شيئا فشيئا مع التطور التكنولوجي وظهور مواقع التواصل الإجتماعي، ظن الإنسان أن حريته في هذا الفضاء تسمح له للطعن في الآخر وعلى المباشر.

 فغالبا ما تنتهي هذه النقاشات بالفشل لأن عنصر الحوار مغيب تماما، أو أن طرف من الأطراف المختلفة لم يلتزم بآداب الحوار، فيتحول إلى حيوان مفترس يهاجم بممارسته ثقافة الغاب، فيخرج عن الخط في محاولة منه إسقاط خصمه، فتنكشف نواياه الخبيثة، لأنه اختار الوتر الحساس في خصمه (في الباط) وصديقه (في الظاهر) دون أن يراعي مبدأ احترام الآخر والتعايش معه، لأن ثقافة العنف تغلبت على ثقافة التسامح وثقافة السلام، من هذا المنطلق يمكن القول أن غياب ثقافة السّلام في أيّ مجتمع تعود أساسا إلى الواقع الذي عاشه ذلك المجتمع الذي مرّ بمراحل جعلت البعض يشكك في نوايا الآخر أو يُكِنُّ له الكراهية والعدائية لمجرد أنه يختلف معه في الأفكار أو في المذهب، أو بينهما حساسيات حزبية، فيصدر ضده أحكاما قاسية، وقد يُشِنُّ عليه حربا كلامية لمجرد أنه انتقد مرجعيته الدينية أو انتصر لمرجيعة هو مختلف معها، وقد تتطور وتمتد إلى حد التصفية الجسدية.

 فسياسة المكيالين والميزانين تحكمت في توجيه العلقات الإجتماعية، لأن طرف ما يسعى إلى تقزيم الآخر وهدر جهده وتجاهل اجتهاده، فهذا الطرف لا شك أنه يفتقر إلى قابلية التطور والتفاعل مع الحاضر، فتجده يتحدث عن حدث وقع دون تحليل ذلك الحدث وتقديم سبب وقوعه، مثلما نقرأه في "نكبة الرشيد للبرامكة" في قصة العبّاسة أخته مع جعفر بن يحي بن خالد مولاه، وقدد حلل هذا الحدث المحلل اللبناي مهدي عامل في تحليله للفكر الخلدوني، فالسبب حدث نفسي (الغضب) والأثر حدث تاريخي (نكبة البرامكة وغبعادهم عن السلطة السياسية) إلا أن بعض المؤرخين لم يعالجوا هذا الحدث معالجة علمية، ولكن ابن خلدون تطرق غليها بشيئ من التحليل، يقول المؤرخ محمد الميلي في مذكراته: " إن كل حضارة إنسانية مهما كان العصر الذي تتطور فيه لا يمكن أن تنمو في محيط منغلق متقوقع معزول، ولم يأخذ بتجربة من سبقوه في صنع حقب زاهرة من الحضارات الإنسانية.

الوصية التي تركها العقلاء، نقول العقلاءو ليس الإندفاعيين المتهورين إنه من الضروري أن نكون جدّ حذرين عندما يثار موضوع التعصب والتسامح في حواراتنا مع بعضنا البعض، فقد تعودنا جميعا على التقاط عينات أو أكثر من حوادث التاريخ تبهر الإنسان فتفصلها عن محيطها وتشتشهد بها على انها قاعدة عامة مطردة في الوقت الذي تسكت فيه عن أحداث التعصب والتعنت وترفض الآخر، إن هذه المسائل تتعلق أساسا بشكل الإنسان وجوهره، فأحيانا يكون الجوهر فاسدا لكنه في شكله يبدو حسنا بل مثاليا، فالإلتزام في المظهر يظل ناقصا ويحتاج إلى شيئ يكمله، ألا وهو السلوك وإلا فسنكون لا محالة أمام حوار الطرشان، لأنه تم بتبادل التهم وتراشق بالتعصب، فعلى الإنسان أن يكون عميق التفكير قبل ان يهاجم الآخر ثاقب النظر وعقلاني التحليل، عادل في معالجة القضايا وتحليلها والفصل فيها، فالقاضي العادل بسمع لكلا الطرفين لا لطرف دون الآخر.

***

علجية عيش

 

 

في المثقف اليوم