قضايا

مفهوم العنف الاجتماعي.. دلالاته وأشكال تجليه (3): ما هي القوة؟

لطالما ارتبط الحديث عن الدولة والسلطة المجسدة الممثلة لها بالإشارة إلى مفهوم (القوة)، مثلما كان – في معظم الأحيان - إن التطرق لهذا الأخير يستحضر تلقائيا"فكرة الدولة / السلطة، وما تنطوي عليه من قدرات مادية وسلطات مؤسسية واكراهات نفسية وخيارات زجرية. فالقوة – كما أشار منظر العلم السياسي الايطالي (ماكيافللي) – (هي دعامة أي نجاح سياسي)(1). بحيث يتداعى إلى ذهن المرء تصور إن الدولة بلا قوة هي مؤسسة بلا معنى وكيان بلا ضرورة، كما إن القوة بغير وجود دولة فاعلة تضبط تفلت مكوناتها، وتلجم تهور جماعاتها، وتحكم السيطرة على اقليمها، ستستحيل إلى عنف مسعور وفوضى شاملة يكون المجتمع دريئة طعناتها وضحية عواقبها ومستنقع إفرازاتها. ولهذا نجد إن الأستاذ (أدونيس العكرة) قد ميّز ما بين القوة المنضبطة والعنف المنفلت على النحو التالي (إن القوة لا تعني العنف، لأن القوة شيء مادي ينمو طبيعيا"في الجسم أو في الجهاز العضوي.. أما العنف، فهو حالة شذوذ في استعمال القوة تخرج عن المألوف والطبيعي والعادي وعن النظام والقانون... فالقوة وسيلة للعنف ولكن العكس ليس صحيحا".. فالقوة تقع في المجال الفيزيولوجي أما العنف فيقع في الميدان السلوكي أو السيكولوجي بمعنى ما)(2).

وفي السياق ذاته، فقد سعى الباحث العراقي (علاء هاشم مناف) للنأي بنفسه عن الوقوع في مطب المماثلة بين مفهوم (القوة) ومفهوم (العنف) كما لم يميّز البعض ذلك في معظم الأحيان، ولذلك نجده يؤكد على إن (القوة Force تعني القدرة، والشدة، والطاقة، وضدها العنف، تطلق كلمة القوة على القوة الجسمية، والقوة الفكرية، والقوة الغريزية، وهي تعبير مجازي عن الضرورة التي لا تستطيع الإرادة مقاومتها إلاّ بفرز قوة مضاعفة، أي قوة إرادة تقابلها بالقدرة مثل القول، استولى على ذلك الشيء بالقوة أو حصل على ذلك الشيء بالقوة، أو الخضوع بالقوة، والقوة وفق هذه المعاني تقابل منطق الحق، لكنها ليست الحق بذاته إنما هي وسيلة لإحقاق الحق)(3).

وعلى هذا الأساس نفهم لماذا كانت السلطات السياسية – وخاصة تلك الموصومة بالاستبداد - حريصة أشد الحرص على إضفاء صفة (الشرعية) الوطنية و(المشروعية) الدستورية على مقومات (القوة) التي بحوزتها، مقابل تحاشيها - قدر الإمكان – استخدام عبارة (العنف) ذات الدلالات السيميائية المستكره والمستهجنة من قبل المجتمع. للحدّ الذي لا تتوانى معه من الإيحاء بأن (القوة) المشروعة هي حليف طبيعي (للدولة) الوطنية، وذلك لإزالة الانطباعات السلبية التي يمكن أن تستحيل بنظر المراقب إلى مجرد سلوك طغياني أهوج يتسم (بالقسوة) ويصطبغ (بالعنف). ولهذا فقد اعتبر فيلسوف العقد الاجتماعي (جان جاك روسو) إن (القوة ليست قانونا"، إن القانون أخلاقي والقوة طبيعية، ولا تملك القوة إلاّ أن تخلق علاقات استعباد، أما القانون فهو الكفيل بخلق علاقات قائمة على المساواة بين البشر)(4).

ولأن سلطة الدولة اعتبرت ضمن تراث الأدب الاشتراكي – الثوري بمثابة المؤسسة البرجوازية الأكثر توحشا"، من خلال اعتمادها على (القوة) العارية لقمع الطبقات البروليتارية المطالبة بحقوقها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فقد عمد أحد أقطاب ذلك التراث الفرنسي (جورج سوريل) إلى التمييز ما بين معاني ودلالات (القوة) و(العنف)، عازيا"الأولى إلى الطبقة البرجوازية وهي في طور التحكم بالسلطة، وناسبا"الثاني إلى الطبقة العمالية وهي في طور الدفاع عن حقوقها والمنافحة عن مكتسباتها. وعليه فقد أوجب في كتابه (تأملات حول العنف) ضرورة التمييز بين كل من القوة والعنف على أساس (أن القوة برجوازية، أما العنف فهو ثوري، ويقصد بذلك إن البرجوازية تستند إلى مبدأ السلطة والحقوق المكتسبة وواجب الطاعة المفروضة على الجماهير. ولهذا فالبرجوازي ليس عنيفا"؛ انه يقنع بالقوة القائمة، علما"أن الشعب هو ضحية هذه القوة نفسها، فهو بذلك ضعيف، ويحلم شأنه شأن كافة الضعفاء بتحطيم هذه القوة، الأمر الذي يفضي به إلى العنف الخالص، أي العنف الصريح الذي يحطم القوة ويظهر الحق)(5).

***

ثامر عباس

..............................

الهوامش

1. وليم ماكورد وآخرين، مترابطات العدوان العائلية لدى الأطفال الذكور الأسوياء، مصدر سابق، ص54. هذا وقد جاء في معجم مصطلحات التحليل النفسي، إن العدوانية هي (تلك النزعة أو مجمل النزعات التي تتجسد في تصرفات حقيقية أو هوامية، وترمي إلى إلحاق الأذى بالآخر، تدميره، وإكراهه وإذلاله.. الخ. وقد يتخذ العدوان كيفيات أخرى غير الفعل الحركي العنيف والمدمر، إذ ليس هناك من تصرف، سواء كان سلبيا"(كرفض العون مثلا") أو ايجابيا"، رمزيا"(كالسخرية مثلا") أو ممارس فعليا"، لا يمكنه أن ينشط بمثابة سلوك عدواني). مصدر سابق، ص528.

2. توماس بلاس (محرر) العنف والإنسان : أربع دراسات حول العنف والعدوان، ترجمة الدكتور عبد الهادي عبد الرحمن، (بيروت، دار الطليعة، 1990)، ص18 وص19. من جانبه فقد فرّق الفيلسوف الأمريكي (ر. ب وولف) في دراسته (حول العنف) بين مفهومي (القوة) و(العنف) معتبرا"إن (هذا الأخير استعمالا"غير مشروع للقوة في سبيل الوصول إلى غايات ما... ولكن لا يدخل الاستخدام المسموح به للقوة ضمن مفهوم العنف). راجع ف. دينيسوف، نظريات العنف في الصراع الإيديولوجي، مصدر سابق، ص123.

3. علاء هاشم مناف، نظرية القوة : النظرية الابيستمولوجية للقوة، (بيروت، التنوير للطباعة والنشر، 2011)، ص9. ومن اللافت إن العالمة السياسية الألمانية (حنة أرندت) اعتبرت إن (السلطة والقدرة والقوة والتسلط والعنف : كلها ليست سوى كلمات تشير إلى الوسائل التي يحكم بها الإنسان الإنسان، لقد اعتبرت مترادفات لأن لها نفس الوظيفة). للمزيد راجع كتابها، في العنف، ترجمة إبراهيم العريس، الفكر الغربي المعاصر، (بيروت، دار الساقي، 1992)، ص38.

4. الدكتور إبراهيم الحيدري، سوسيولوجيا العنف والإرهاب، مصدر سابق، ص294. لقد عبر العالم السياسي الأمريكي (صموئيل هنتنعتون) عن هذه الفكرة بالقول (القوة هي القدرة لدى شخص أو مجموعة على تغيير سلوك آخر أو مجموعة). راجع مؤلفه، صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي، ترجمة الدكتور مالك عبيد أو شهيوة والدكتور محمود محمد خلف، (ليبيا، الدار الجماهيرية، 1999)، ص171.

5. عبد الوهاب الكيالي، موسوعة السياسة، الجزء الرابع، نقلا"عن محمد بهاوي، العنف والعدالة، نصوص فلسفية مختارة ومترجمة، مصدر سابق، ص20. ولتأكيد وجهة النظر هذه فقد كتب (سوريل) يقول (نستخدم المفهومين القوة والعنف أحيانا"عندما نتكلم عن أفعال السلطة، وأحيانا" عندما نتكلم عن أفعال الثورة. ومن الواضح إن الحالتين كلتيهما تنشأ عنهما مفاعيل مختلفة. اعتقد أنه يكون من الأفضل أن نتبنى لغة لا ينشأ عنها مطلق غموض، فنستخدم كلمة عنف لنصف أفعال الثورة وحسب. وبناء عليه علينا أن نقول إن هدف القوة هو أن تفرض نظاما"اجتماعيا"معينا"حيث تحكم الأقلية). راجع الدكتور ملحم قربان، قضايا الفكر السياسي - (القوة)، (بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات / مجد، 1983)، ص131.

 

في المثقف اليوم