قضايا

عبد القهار الحَجّاري: حلكة الدرب تحتاج كل الأنوار

من يحمل شمعة في درب حالك، لا محالة يأنس ويسعد إن وجد من يحمل شمعة أخرى إلى جانبه، فحلكة الدرب تحتاج كل الأنوار، من يحمل مشروع التنوير، لا يشعر بمنافسة أحد، بل يتعاظم لديه العزم ووتتقوى همته أكثر لنشر رسالته النبيلة كلما آنس قبسا من نور هنا أو هناك، وبخلاف ذلك يضيق صدر صغير النفس، ويحس بالخطر من الآخرين سطحيُ الفكر قصيرُ الرؤية وعديمُ الرؤيا، يَغرَق في أناه "المبدعة" المتضخمة من تعوزه رسالة الجمال، ولا يثق بما يكفي في مكانته وملكاته، فهذا صنف من المبدعين لا يرى فيما يبدع سوى نوازع نرجسية لا تتجاوز الذات المبدعة، هذا سقفه، فلا يطمح لطرق باب التاريخ بمشروع إبداعي أصيل من شأنه أن ينفذ إلى البنى الذهنية ويتغلغل في أعماق التفكير السائد ويساهم في تغييرها، فامتلاك مثل هذا المشروع الإبداعي ليس بالأمر الهين ولا المتاح لأي كان، ولذلك تجده يشعر بالتهديد عندما يقابل طرحا متماسكا ورؤيا جمالية، فيضيق به المجال ويعتقد أنه لا يسع أحدا غيره، فينكر الإبداع على الآخرين، وينخرط في حرب دونكيشوطية لا يجني منها شيئا سوى بضعة "مكاسب" صغيرة، يتقرب ويتزلف للسلطة إن كانت رمزية ثقافية اجتماعية أو سياسية أو مدنية... ليبقى في الهامش، وهو يعتقد أنه اخترق الآفاق ونطح السماء.

الفن ما لم يحمل نبله في رسالته الجمالية وفي سلوك الفنان، يبقى حبيس سقف الذات، صحيح أن الذات الفردية المبدعة الحرة هي صانعة الخلق ورافعة الإبداع، إلا أن لرسالة الجمال أفقا شاسع الرحابة، يرفع الفن والفنان إلى ذرى سامية راقية، تتجاوز أنانية الذات ونرجسيتها وتضخمها وأوهامها المثقفية العاجية نحو أمداء تنويرية لا حدود لها.

نحن في أمس الحاجة إلى هذا الوعي، من أجل الخروج من دوامة الضغائن والأحقاد الصغيرة والدسائس والمكائد من حيث نحن فنانين، موسيقيين شعراء مسرحيين سنيمائيين وتشكيليين وكتابا ... إذ لا يليق بمقامنا ورسالتنا النبيلة في الحياة مثل هذا الانحسار في جَزر النرجسية، تلك الرسالة التي لن تتحقق بالحلقية الضيقة والصراعات، وعندما نضع في أولوياتنا تنوير الدروب المظلمة، عبر نشر قيم الجمال والخير، نتغلب على فردانيتنا المقيتة، ونُسخر فرديتنا البناءة في الخلق ورفع ذائقة المجتمع وسلوكه نحو الأجمل، حب البيئة الطبيعية والكف عن تدميرها، وحب البيئة الاجتماعية والعمل على تعزيز جمالها وتشذيبها من شوائب القبح والشر...

بينما يكون هم الفنان الحامل لرسالة جمالية واضحة المعالم في ناظريه تنوير الناس ونشر قيمه النبيلة وذائقته الرفيعة، ومساعدة الآخرين على تعلم كيفية استشعار جمال الفن وكيف ينظرون إلى البيئة والعالم، يكون هم المبدع النرجسي إثبات ذاته بأية وسيلة كانت، حتى وإن اقتضى الأمر إخساء أنوار قناديل الآخرين، وبينما يترك حامل المشعل أعماله تتحدث عن مشروعه الإبداعي، وتشيع أنواره إلى أبعد مدى، ينشغل المبدع النرجسي بنفسه ويبحث في تكوين هالة حوله سرعان ما سيلفظها الزمن.

الفن الأصيل الراسخ يتغلغل في الوجدان الجمعي، يحمل في أتونه بذور توالد خلاياه اللامتناهي، فيستمر في الحياة، ويصمد في الزمن، وقد يدخل التاريخ من بابه الواسع عندما يسهم في تحقيق التراكمات الكمية والتحولات النوعية للذائقة الجمالية ولفاعلية التفكير الفردي والجماعي، فيشارك من ثم في وضع أسس الرقي البشري والابتعاد عن الهمجية المتلبسة بلبوس الحداثة أو التقليد أو بهما معا في ثنائيات ضدية فصامية.

الفن رسالة جمالية، والرسول يسخر ذاته لأداء رسالته وتبليغها على أحسن وجه، والرسالة هدف نبيل يرتكز على الطاقات الخلاقة للشاعر والفنان عامة وينطلق من وجدانه وذاته ثم يتجاوز فردانيته ويربأ بنفسه عن السقوط في مطبات الأنانية من أجل نشر الجمال وقيمه.

فإذا لم يكن الشعر بلسما شافيا للذات أولا من ضعف النفس ومركباتها وإسقاطاتها ونزقها السلبي الضار، إذا لم يجد الفن امتدادات جميلة في سلوك الشاعر الفنان، فما فائدة الشعر وما جدوى الفن؟

***

عبد القهار الحَجّاري

في المثقف اليوم