قضايا

المولدي فرّوج: نتهم الطفل بالبراءة

تختلف الآراء حول طبيعة الكتابة للطفل حسب المجتمعات والطّبقات الفكريّة كما تختلف شركات الصناعة الثقافية فيما تقدّمه الى الأطفال من أفلام وصور متحرّكة ومن قصص. ويضع علماء الاجتماع والمنظّرون للكتابة للّطفل شروطا ينبغي أن تتوفّر في النّصوص متعللين بما يسمّى خطأ براءة الأطفال فهل الطفل بريء حتّى نحترم فيه براءته؟

في اعتقادنا أنه لا يصح الحديث عن البراءة عند الأطفال بكل بساطة ودون تحديد مفهومها. فالبراءة تعني التّخلّص من العيب أو من المرض أو من الخطأٍ وهي كذلك الخلوّ من الشيء. ونحن نتسرع في الحكم عندما نقول إن هذا الطفل بريء في حين أنّه لم يرتكب أي جرم نبرّئه منه. كل ما في الأمر أنه تصرّف بذكاء أو بالفطرة أو كان صادقا في كلامه أو كان نزيها في موقفه. نحن نحاكم الأطفال ونقيّم أفعالهم من وجهة نظرنا نحن، وجهة نظر ذات المرجعية الأخلاقية او الدينية او الموروثة أو العلمية. وبناء على أحكامنا المسبقة نجد أنفسنا نحاول أن نبني الطّفل الذي نريد ليكون متناسقا مع عقليتنا ومتناسبا مع ذواتنا وممتثلا لعاداتنا وتقاليدنا فننظّر ونؤسس ونكتب ونسطّر وننفّذ برامجنا ونسيّج حياة الطفل ونمارس عليه نفوذا يحدّ من حرّيته ويحاصره حتى يحصره في مساحة أضيق من خياله فنجعل منه كائنا يخاف من الفعل قبل أن يقوم به.

الطفل يعضّ ويصرخ ويضرب بالفطرة للتعبير عن الإحساس بالظّلم، وقد يكون هذا العنف الذي يمارسه الطفل نتيجة ضغط او شعور بالقمع او بالاحتقار. كل الأعمال العنيفة التي يمارسها الطفل على غيره لم يتعلّمها لا من العائلة ولا من المحيط فلا أحد أمره بأن يعضّ الآخر ولا من لقّنه فنون الضرب باليد أو بالسّاق (كلّ الأطفال يتعلّمون باكرا الرّكل لأنّه سهل). فهل نساهم من حيث لا تدري بأوامرنا ونواهينا في زرع ردّة الفعل العنيفة في الطّفل.

ألسنا أحد أسباب هذا النزوع الى العنف عندما نفرض عليه آراءنا وكتاباتنا التنظيرية؟ ألم نسع الى تحديد مساحة لحركة الطفل وتفكيره أصغر مما كان يتخيّل؟

نحاول جاهدين أن ننجز كتابة للطفل معينة ونضع لها عنوانا كبيرا: كيف تكون الكتابة للطّفل؟ ونجازي النصوص التي نعتبرها صالحة لتربية أطفالنا على سلوك حضاري نعتقد أنه الأفضل في بناء شخصية الطفل وصقل مواهبه ونسعى الى تلقينه اساليب الحياة من التفكير الى الممارسة ونلزمه باحترام القواعد التي نراها أساسية.  ونسطّر له طريقا ونسيج له مساحة للتحرّك ونسقط عليه الأوامر والنواهي. ونشرع في اختيار الالفاظ فنفصل الجميلة منها عن البذيئة والسلسة عن العنيفة ونقصر في الجمل أكثر ما يمكن ليستطيع الطفل حفظها ونؤلّف الخرافات ونطبعها في كتب ونزينها بالصور ونضع غلافا جذّابا لكل كتاب. ولنفرض أنّ كل هذا النظري صحيح وذو جدوى، ماذا إذن على مستوى الواقع؟

تحيّلوا أنّنا مرّرنا التوصيات والتوجيهات والبرامج لحاسوب أو روبوت وأمرناه بالتنفيذ بحرية على طريقة الذكاء الاصطناعي. أعتقد أنّه سيرفض ما كلّفناه به وستكون نتائج العمل الحر كالاتي. قد يستمع الطفل الينا وتشدّ انتباهه الخرافات التي نقلناها له بالعنعنة دون تفكير ودون تحريف فلم نجتهد يوما فنغيّرها لتتماشى مع أطفال القرن الحالي ومداركهم العقلية. وقد يستنجد الحاسوب، كما نفعل، بالغول ليكف الأطفال عن ضجيجهم ويناموا خائفين فنخلو نحن الى صمتنا.  قد يلتجئ الروبوت الى فتح التلفاز على أفلام من الصور المتحركة عمادها العنف والقتل والانتقام والجريمة والعقاب والبطل والضحية ولا من يحاسب الطفل عن طول الوقت الذي يمضيه امام الشاشة.

نحن نعاني ازدواجية في التعامل مع الطفل فنعيب عليه تشبثه بالحاسوب ونخاف عليه من الإدمان وننسى فضائل الحاسوب والعابه التي تنمّي ذكاء الطّفل وتعلمه الصّبر وتزرع فيه الرّغبة في الانتصار وتعلّمه العزيمة وتقبّل الهزيمة بروح رياضية بل نسعى الى رقمنة المدارس الابتدائية والاعتماد على المعلوماتية في التعليم. ولعلّ كثيرا منّا ما زال يذكر حبّنا للقصص المصوّرة التي لا تخلو من المغامرة والخداع والبطش والقتال. نذكر مثلا قصص kiwi و black le roc قبل أن تظهر قصص أخرى من النوع البوليسي وهي قصص تعتمد على الخيال والتحليل الدقيق الذي يستعمله المفتّش للوصول الى تفكيك الجريمة. هذه القصص تشدّ الطفل وترغّبه في القراءة فلماذا يراد من الكتّاب (وأخصّ بالذكر كتاب نصوص المسابقات) استبدلناها بقصص مضبوطة ومقيّدة ومحبوسة بشروط الجوائز.

لماذا نفرض على الطّفل أن يقرأ الكتب اللّطيفة التي نعدّها له ونترك له حرّية الإبحار في الشبكة العنكبوتية حيث يستقطبه تجّار التطبيقات واللّعب وتجار الدّين أيضا؟

الطّفل يولد حرّا بالفطرة محبّا للحرّية لا يريد أن يفعل ما يملى عليه لأنّه ببساطة لا يستطيع أن يقدّر أهمّية ما نوصيه به فهو، يطمح أن يصبح رجل أمن أو مفتّشا لينتصر للمظلومين ويعاقب المجرمين فنراه يفرح كلما انتصر بطل الحقّ على المجرم الشّرير.

الدفاع عن الحق كما الدفاع عن النفس أو عن الممتلكات غريزي وحبّ التّملّك أيضا. الطّفل يشعر الاخرين بأن أبويه ملك له لا ينبغي لأحد المساس بهما ويعبّر عن الدفاع عن هذا الملك بالعنف اوّلا ثمّ بالصراخ ثانيا عندما يشعر بأنه غلب على أمره.

الطّفل أكثر ذكاء ممّا نتصوّر وما علينا الا تنمية الذكاء بالحرية وبتوضيح الأمور حتّى تلك التي نعتبرها عنيفة. من الأفضل ـن نُعْلمه بأن الشّرّ موجود ويمكن مقاربته ولا بإخفاء الجريمة وتحريم النصوص أو تجريمها عندما تتناول العنف والجريمة بتعلة أن هذا من شأن الكبار.

نحن نتهم الطفل بالبراءة فنكتب له ما نريد ولا ما يريد.

***

المولدي فرّوج

في المثقف اليوم